البذار وسط الصخور

 لما تمت الأيام . .

. في خريف سنة 29 - إذا تقيدنا بالتوقيت الأرجح - غادر يسوع الجليل ، ولن يعود إليه . ومذ ذاك كان لا بدّ أن يتخذ اليهودية ميداناً يُسجّل فيه خلاصة عمله ، تلك اليهودية الشديدة المعروفة بولائها الدهري ، وحمايتها لإيمان أجدادها ؛ وهل كَان من المعقول أن ينجز نبيّ مصيره من غير أن يتمّ إلى أورشليم ويموت فيها؟ (لوقا13 : 23)

. وذاك هو السبب الأعمق – ولا شك – في تحوّل المسيح عن الجليل إلى اليهودية . فمنذ أن أقام داود عاصمته –حوالي ألف سنة قبل المسيح – في تلك البقعة المرموقة، عند ملتقى الطرق ، وفي قلب المشارف ، وأكرمها بالتابوت ، رمز العهد الذي قطعه الله مع شعبه ؛ ومنذ أن شيّد فيها سليمان فوق هضبة " المورياّ " ، أفخم الهياكل ، لمجد الله ثم لإعلان سطوته الذاتية ، كانت أورشليم لم تزل هي " العاصمة " ؛ ولم تكن العاصمة السياسية فحسب ، بل القلب الذي ينطلق منه دم إسرائيل النابض . لقد كانت أورشليم لليهود ما هي اليوم باريس لفرنسا . وما هي روما للكاثوليك : المدينة المقسة التي كان أصغر يهوديّ من اليهود المنتشرين في العالم يحمل في قلبه حبهّا الخالد . " على أنهار بابل ! . . ": لحن حزين أنشده شعب الموعد في الأيام السود التي قضاها في أرض السبي. . . " إن نسيتكُ ، يا أورشليم ، فلتنسني يميني . ليلتصق لساني بحنكي ، إن لم أذكرْك ! إنْ لم أعلِ أورشليم على ذـروة فرحي ! " (مز 136 : 5 - 6) . لا، لم يكن يسوع ليجهل أن رسالته لن تستوفي معناها إلاّ إذا شخص إلى مشارف صهيون ، وأفرغ فيها على صيغة العهد القديم معنىً جديداً

. أمّا الدواعي الأخرى التي دعت يسوع إلى مغادرة بلده فهي لاحقة . هل كان من بين تلك الدواعي خوفه من الدـسائس الخفية التي بات يدبرّها له الفقهاء والفريسيون ؟ . . ولكن هل كان كيدهم أقلّ شرّاً فيَ هذه البلاد، حيث باتوا، في الواقع ، أصحاب الأمر والنهي ؟ . . أم لعلّ فشله في تقويم قلوب الجليليـين قد أفضى به إلى اليأس والقنوط ؟ ولكن هل كان من السذاجة وقلة الدراية بالنفوس ، بحيث بات يتوقعّ منها اصطلاحاً سريعاً؟. . وعلى كل ، فإنّ ما آل إلى نصف فشل في الشمال لم يكن ليؤول إلى نجاح أعظم في الجنوب .. . أم هو ذاك الاقتراح الهجين الختاّل الذي تقدّ م به " إخوته " وذووه ، بقولهم : " تحوّل من ههنا، وأمضِ إلى اليهودية، لكي يرى تلاميذك أيضاً الأعمال التي تعمل ! إذ ما من أحد يعمل في الخفية، وهو يسعى ليكون من ذوي الشهرة . فبما أنك تعمل هذه الأشياء، أظهر ذاتك للعالم ! " (يوحنا 7 : 1 – 6) ! ولكنهم إنما كاشفوه بذلك " لأنهم لم يكونوا يؤمنون به " . وعلى كلّ ، فلم تكن تلك الدوافع الحقيرة لتستفزّه كثيراً . وأمّا السبب الجوهري ، فإًننا نقع عليه في هذه الآيات من الانجيل : فقد أجاب يسوع أنسباءه المستعجلين ، بقوله : " إن وقتي لم يحن بعد ! " (يوحنا 7 : 6) ؛ وبالإمكان أيضاً أن نقرأ، في مستهلّ النصوص التي روى فيها البشير لوقا أحداث الحقبة " اليهودية " ، هذه الكلمات الحاسمة : " وإذ كان زمن ارتفاعه من هذا العالم قد اقترب ، صمّم أن ينطلق إلى أورشليم " ( لوقا 9 : 51 ) . زمن ارتفاعه ! . . منذ تلك الفترة، أخذت الفكرة القربانية تسود كل شيء ! فجميع ما قاله يسوع ، حتى ذاك ، وما كان مزمعاً أن يقوله ، بأساليب جديدة، وكل ما صنعه ، وما كان مزمعاً أن يصنعه ، كل ذلك أخذ يستضيء ، منذ تلك اللحظة، بأضواءٍ فاجعة

! هناك رموز واضحة تربط ما بين الأحداث الأليمة التي انتهت بها حياة المسيح ، والأرض التي جرت فيها تلك الأحداث . فبلاد اليهودية تختلف اختلافا عظيماً عن الجليل السعيد . فهي صخرية مضرّسة تكثر فوق رقعتها البقاع الكلسيّة القاحلة، فتبدو من القسوة بحيث يستغرب المرء أن يقع ، في وسط مشارفها المتوعّدة، على ذكريات أرقّ أحداث عرفها التاريخ ، وعلى معالم حنان الله . . . وتنتظم هضابها وجبالها، انتظًاماً مهلهلاً ، قي ثلاث سلاسل متوازية، مضرسة في جميع جنباتها، قد حفرت فيها السيول شعاباً موحشة، وانتصبت ذؤاباتها عارية تقرضها عوامل الائتكال . وتمتد الأَرض تحت زرقة سماء قاسية، تلهث عطشا، وتأبى، في معظمها، كل زراعة . وأمّا الأمطار الشتوية فعنيفة، وعوض أن تروي قشرة الأرض الرقيقة، تعمل فيها حفراً وتخديداً . في آذار، ينبت ، على حفافي الطرق ، بصورة عفوية، خُصَلٌ من السوسن البنفسجي ، ومن تلك الشقائق الأرجوانية الكبيرة التي يطلق عليها الانجيل اسم " زنابق الحقل " ، وهي ، من بين الزهر ، نموذج من نماذج البراعة اللاهبة . ومع أيار ، كل شئ يصير إلى جفاف واصفرار ؛ ويبقى البروق وحده ، ما بين الحصباء التي تضاهيه ، منتصباً بأوراقه الشاحبة وعناقيده البلقاء . ويخيم الحزن ، ولا يبقى من الألوان فوق رقعة الأرض ، سوى البنفسجيّ والمغري ، يتقاسمان المشهد في رونق يستهوي النظر؛ بيد أن تلك الروعة نفسها يكسوها شيء من الحزن اليائس . ومن مسافة إلى أخرى ، تقوم حول الآبار قرئً بيضاء، تحمل من الأسماء ما يزهو بأمجاد السلف ، وتبرز بخضرتها الطريةّ، وتينها وجُمّيزها . وأصلح ما هنالك من تلال يحمل فوق سفوحه الغربيّة كروما من الزيتون الفضّي . وفي أعلى بقعة من تلك الأرض ، تنتصب أورشليم بسوار جدرانها، وحراب أبراجها، وعظمة أحجامها : أورشليم ، المدينة الصهباء الذهبيّة المغشّاة بجنزار الدهور، " الصخرة والقلعة "، -على حدّ تعبير المزامير- حيثما يترقب المؤمنَ ربه

. كان المسيح قد ذكر ، في مثل الزارع ، ذاك البذار الذي ينبت ما بين الصخور، ويبلى قبل نضوجه . ولقد كانت اليهودية من تلك الأتربة التي لا تصلح للإنبات ؛ فكان لا بدّ ، والحالة هذه ، من أن يعمد المسيح إلى غير البذار الذي ألقاه في أرض الجليل ، وأن يسكب الدم ، بدل الماء، لريّ تلك التربة القاحلة ! . . .

. هنا تتوقف الروايتان المتوازيتان اللتان اتخذناهما ، حتى الآن ، إماماً رئيسياً : أعني روايي متى ومرقس . ولا بدّ من اعتماد الإنجيلين الآخرين لالتماس حاجتنا من الوثائق . لماذا أغفل الإنجيلياّن الأوّلان تدوين أحداثٍ بات لها النصيب الأوفر في تعليل الفاجعة الأخيرة ؟ ذاك ما نجهله . وأمّا يوحنا، فلا شك أنه قد اطلع على وقائع هذه الفترة اطلاعاً مباشراً، فسردها سرداً مسهبة، غايةً في الدقة والطبعيةّ . وأمّا لوقا فقد جاء وصفه للأشخاص والمشاهد أكثر إبهاماً، وأقلّ واقعيةّ ممّا عهدناه في الحقبة الجليلية ؛ وكأني به قد استولت عليه فكرة المأساة المتحفزة، واستغرقه ترقّب الوحي الأخير ! وقد كتب هذان الإنجيليان مستقلين أحدهما عن الآخر، استقلاً تامّاً، قد لا يسهل معه التوفيق بينهما. فإذا أخذنا بالتوقيت الوارد في إنجيل يوحنا، ترتب أن يكون المسيح قد شخص إلى أورشليم ، لعيد المظالّ ، في تشرين الأول ، ثم نراه فيها ثانية، بمناسبة حفلات عيد التدشين ، في كانون الأو ل . ثم نتبعه ، بعد ذلك ، خطوة خطوة، في تنقلاته من عبر الأردن ، إلى بيت عنيا، إلى أفرائيم ، وهكذا حتى طلائع نيسان ، حيث عاد إلى أورشليم للاحتفال بالفصح الذي انقضى فيه مصيره . فهل ينبغي أن نحصر الأحداث المرويةّ في إنجيل لوقا، ما بين تشرين الأوّل وكانون الأول ؟ أم إنّ رحلات يسوع إلى أورشليم ، كما وردت في الانجيل الثالث ، هي نفس تلك التنقّلات المثبتة في الانجيل الرابع ؟ قضية قد أثارت تساؤلاً وجدلاً كثيراَ . وإنما يبدو من العبث أن نبحث في هذه النزاعات والافتراضات التي لا تجدي عن جوهر الأمور جَداء . فالحقبة " اليهودية " تبدو، في جملة أحداثها، متماسكة في وحدة صامدة، نرى المسيح ، خلالها، شبيهاً بذاته ، يلقي في الجموع بذار تعليمه ، ولعله ، في تلك الأشهر الستّة، قد جاد بأروع أقواله ، وأبلغ أمثاله وقعاً في القلوب. ولكن ألا يبدو أن المسيح قد أصبح ، في اليهودية، أكثر جلالاً منه في الجليل ؟ ربما! فهو، مثلاً، قد عدل عن مثل " تكثير الخبز " و " تكثير الصيد " من المعجزات الناطقة بحلمه وبساطته .َ وكأنما الإله ، فيه ، قد أخذ يبرز شيئاً فشيئاً. ولعلّه لأمرِ راح يعلن للجموع ، المرة تلو المرّة، بلهجة حازمة : " أنا نور العالم ! ".َ وأما عطفه ، فقد لبث فوق الحدود، كا لبثت قدرته فوق اخترامات المنون . وراح كلامه يسقط بذاراً مهدوراَ على جلمود ذاك الشعب المضعضع ، حيث بات نفُوذُ الفريسيين المتشبثين بشعائرهم أعمق أثراً منه في الجليل . أجل ، لقد انتصرت له بعض النفوس ؛ بيد أن المناوئين أيضاً راحوا يحزمون عليه حبائلهم ! . . إن مأساة هذه الحقبة قد نشأت من التعارض القائم بين ذاك الوجه السماويّ الجليل ، وذاك المعترك من الأحقاد والمحاسد والجبانات الخبيثة التي نقع عليها في كل منعطف من منعطفات النص الإنجيلي . ولسوف يظفر العدوّ أخيراً - أو يتوهم الظفر- بذاك الذي ما رضي يومأ أن يسخرّ قدرته لاستنقاذ حياته . . . وتتفجرّ الكارثة، وتتم الذبيحة ، ويمتدّ فوق الأكمة الجرداء ، الجاثمة عند أبواب المدينة، ظلّ الصليب

عيد المظال

. كان عيد المظال من أبهى الأعياد المذكورة في التقويم اليهودي . فهو، في نظر يوسيفوس " العيد الأعظم والأقدس "؛ فإذا قيل " العيد " فهم أنه عيد المظالّ . وكان يستقطر إلى أورشليم ، في الخامس عشر من تشري ( تشرين الأوّل ) ، جموعاً غفيرة، وإن لم تكن لتضاهي احتشادات الفصح . فالسنة الزراعية تكون ، إذ ذاك ، قد انتهت ، والغلال قد خُزِنت ، وقطاف ، العنب قد أُنْجز، والسنة المدنية قد استهلّت في الأوّل من تشرين ، جَارية، في ذلك ، مجرى نظام الدورة الزراعية . ويكون الناس ، خمسة أيام قبل العيد، قد احتفلوا ، في جوّ من الحزن والصوم ، بعيد التكفير ( " يوم كبـوّر " ) وأطلقوا في الصحراء التيس الرمزي ، مثقلاًً بأوزار الشعب الإسرائيلي . فإذا أقبل عيد المظال ، أقبلت معه النشوة والأفراح ؛ وكيف لا وهو ذكرى مُقام العبرانيين في الصحراء، بعد إذ أعتق موسى العظيم شعبه من نير الفراعنة، وأخرجه من مصر، وأعدّ ه لأمجاده المقبلة، ومصيره الخارق

. وكانت المدينة، مدة ثمانية أيام ، تزدان بأحلى زينتها ؛ فكان على كل إسرائيلي – بأمرِ صريح من سفر الاويين ( اصحاح 23 ) ، واستذكاراً للمتاهات الطويلة، وقادشَ ، والمواقف في الصحراء- أن يغادر منزله مدة أسبوع كامل ، ويسكن في خيام أو خصاص . فكانت أسطحة البيوت والساحات العامة، وجوارُ الهيكل ، والهضابَ القريبة، وكل البقعة تحفل بتلك البيوت الخفيفة، وتزدان بأغصان متعانقة، من الصنوبر والزيتون والآس والنخيل . هذا ولم يكن أصحاب الرزق ، من الناس ، ليكرهوا المقام بقرب غلالهم ودنانهم ، وحجبَ اللصوص عن قضاء أوطارهم . وأمّا الحُجّاج القادمون من أطراف البلاد، فكانوا يصادفون في تلك المخيّمات الطريفة، عند فترة الاعتدال المناخي ، لهوَةً مستحبة بعد حقبة الأشغال المضنية

. وكانوا طبعاً، من طرف النهار إلى طرفه الآخر، أي من الساعة التاسعة حتى الثالثة والنصف -لأن النهار الطقسي يبدأ عند ذبيحة المساء – يسفكون دماء الأضاحي في الفناء المقدس ، فتتصاعد ، من مذبح المحرقات ، روائح الشحوم المشوية ، وتسطع في جوار الهيكل كريهةً ولكن مرضية – في نظرهم – عند الله . وكانوا يشتركون في الحفلات ، وفي أيديهم أغصان من الشجر ، بحسب فرائض الشرع : " خذوا لكم ثمر أشجار نضيرة ، وسعف نخل ، وأغصان أشجار أثيثة ، وصفصافاً نهرياً ، وافرحوا أمام الرب إلهكم " ( لاويين 23 ) . فكان يصادف في الشوارع حجاج ، وفي يمناهم صحبة من أغصان اللبخ الخضراء ، وفي الأخرى ثمرة من ثمار الأترنج ، ( وهما من النباتات التي عثر على رسومها في الدياميس اليهودية ) . وكان يعتقد أن مقدار الإيمان بمقدار ضخامة اللبخة أو مقدار الأترنجة . وكانت لبخة بعض الفريسيين من الضخامة بحيث كانوا يضطرون إلى إسنادها إلى مناكبهم . وكان الناس يلوحون بتلك الأغصان المباركة ، أثناء الحفلات ، في الاتجاهات الأربعة ، ويصدحون بالأناشيد القديمة والتافات الطقسية : " هليل ! .. هليل ! .. هللويا .. المجد لله ! .. "

. فإذا أقبل هذا العيد اقترح على يسوع " إخوتهُ " - وربما بعضٌ من تلاميذه - أن يصعد إلى أورشليم . فرفض ، بادىء ذي بدء ، وأرسلهم وحدهبم أمامه ؛ ولقد أبى، ولا شك ، دخول المدينة في شبه احتفال شعبـي ، لئلا يؤول ذلك إلى تأويل رسالته بما يمالىء أحلام الماسويةّ اليهودية . بيد أن المسيح ، قبل انقضاء الأسبوع المقدّس ، شخص إلى المدينة شخوصاً مستتراَ، وبدأ فيها كرازته

! في وسط ذاك الحشد المتهلل ، حتى النشوة، بذكريات أمجاده الدينية، استهـل المسيح رسالته للحاضرة المقدسة . وكان ، كسائر الحجّاج ، يرقد تحت المظلّة التقليدية، وقد رفعوها له ، بمعزل عن المدينة، عند جبل الزيتون . وكان يحضر الحفلات الليلية المقامة بمناسبة العيد . وربما اشترك في حفلة الماء، وهي حفلة رائعة التنظيم . يذهب فيها رجال إسرائيل ، في موكب طويل مهيب ، يتقدّمهم الحبر الأعظم ، وسدنة الهيكل ، في حلُل بهيةّ، إلى بركة سلوام ، لاستقاء الماء المعدّة للسكيب المقدّس . وكان ينعم برؤية الهيكل ، في غمرة أضوائه ، والشمعدانيـن الشاهقين ، -وعلوهما خمسون ذراعاً- الشاخصين إلى السماء بلهبتهما القطرانية، وألوف المشاعل ، بين أيدي الجماهير، تحلوَلك لها ليالي البدر . وكان يسمع ، قبل انبثاق النهار، صداح الأبواق الفضيةّ ، ينفح فيهـا ، أربعاً، اثنان من الكهنة العازفين : فالنفير الأول عند صياح الديك ، والثاني ، فوق درج الهيكل ، عند المرقاة العاشرة ، والثالث عند مدخل باحة النساء، وأمّا النفير الرابع فكان النافخ يمشي به حى عتبة المُصلىّ. ولم يكن أحد ليستغرق استغراق يسوع فى صلاة الضحى : " كما كان أباؤنا قديماً يتجهون وجهـة الشرق ، إذكانوا يعبدون الشمس عند شروقها، نحن الآن نتتَجه إليك أيها السيدّ، لأننا إنما نحن لك ، اللّهم ! ". لقدكانت كل تلك الشعائر تنطوي ، ولا شك ، على رموز ؛ فسكب الماء كان ، في نظرجميع اليهود، أكثر من مجرّد إجراء سحريّ لاستمطار السماء على الأراضي العطشى ؛ والسبعون ثوراً التي كان العيد يقتضي تقريبها فوق المذابح ، كانت ترمز إلى دخول السبعين أمةّ وثنية في طاعة إسرائيل .. . بيد أن المسيح كان لا بدّ أن يتناول تلك الرموز، ويستنبط منها دروساً جديدة

. لم يبقَ قدوم يسوع إلى أورشليم ، حدثأ مطوياً. فشفاء المخلعّ عند البركة ذات الخمسة الأروقة، قبل بضعة أشهر، لم يكن بعد قد غرب عن ذهن الناس . هذا ولم يكن الجليل بعيداً جداً، فانطلقت منه ، ولا شك ، أصداء مآثره ، يحملها الحجّاج الاقليميوّن الوافدون إلى صهيون للعيد . وقد أثبت البشير يوحنا، في إنجيله ، بكثير من الدقة، الأحداث التي بعثها ظهور يسوع فوراً، في العاصمة : " كان اليهود يطلبونه في العـيد، ويقولون : " أين هو؟ ". وكان في الجموع كثير من المهامسة في شأنه . فمنهم من كان يقول : " إنه صالح ! "، ومنهم من يقول : " كلاّ ؟ ولكنه يضلّ الجمع ! " (يوحنا 7 : 11 -12 ) . ولا ريب أن حزب الفريسسيين كان قد بدأ، كما في الجليل ، يستعيد سلسلة شكاويه : فيسوع لا يصوم ، ولا ُيحكم فرائض الوضوء، ويخالط الوثنيين والعشاّرين والزواني ، ويلحق بشريعة السبت تعدّيات لا تطاق ! . . ومع ذلك فما إن شرع يسوع في الكلام حتى ساد الجمهورَ اليهوديّ ماكان قد ساد أهل الجليل من إعجاب : " وكان اليهود يتعجبّون قائلين : " كيف هذا الرجل يعرف الكتب ولم يتعلّم ؟ " (يوحنا 15:7)

. وكان الناس يتوافدون لسماعه ، وهو يتكلّم تحت أروقة الهيكل : " إن تعليمي ليس مني ، بل ممنّ أرسلني . إن شاء أحد أن يعمل مشيئته ، يعرف هل هذا التعليم هو منه ، أم أنا أتكلّم من عند نفسي . . . " (يوحنا 7 :16 – 17). ذاك ما كان قد صرّح به ، من قبل ، في كلامه عن " خبز الحياة " : فإنه لا إيمان بالله إلاّ عن طريق المسيح ، ولا يفقه كلام الله إلا، الذي استودع يسوعَ ذاته . . . وهكذا اتخذ يسوعُ كلّ حدث من أحداث العيد وسيلة للتعبير عن فكرته ، وكلّ جزئية من جزئياّته موضوع رمز : فذاك الماء الذي اغترفه الحبر الأعظم من بركة سلوام ، بمغرفة ذهبية، وراح يسكبه في طست فضي فوق مذبح المحرقات ، قد أوحى اليه بفكرة مياه أخرى، تلك " المياه الحيةّ " التي ذكرها، يوماً، للسامريةّ، والتي جاء في إرميا لومُ الشعب الكافر الذي انصرف عنها ( ارميا 2 : 13 ) . وإذا بالمسيح يرفع صوته قائلاً : " إن عطش أحد، فليأت إليّ ويشرب ! من آمن بي ، فستجري من جوفه ، كما قال الكتاب ، أنهار ماء حيّ " (يوحنا 7 : 37 – 38 ) . ثم تلك اللهبة المتفجّـرة في جوف الليل ، فوق قمة الشماعد الليترجية، أفليست هي التي أوحت إليه بذاك التشبيه الشهير : " أنا نور العالم : من تبعني فلا يمشي في الظلام ، بل يكون له نور الحياة ! " (يوحنا 8 : 12 )

. وكان الجمع ، كلّما استرسل المسيح في كلامه ، يمعن في التجادل : " وإذ سمع بعض الجمع هذا الكلام ، قالوا : " لا جرم أن هذا هو النبيّ " ؛ وقال آخرون : " بل هو المسيح ! " ؛ وقال غيرهم : " أمن الجليل يأتي المسيح ؟ . . أفلم يقل الكتاب : إنه من نسل داود، ومن بيت لحم ، بلدة داود، يأتي المسيح ؟ ، فنشب في الجمع انشقاق بسببه " (يوحنا 7 : 4. - 43) . ومع ذلك ، " فقد آمن به كثيرون من الجمع ؛ وكانوا يقولون : " متى جاء المسيح ، فهل تراه يعمل آياتٍ أكثر من هذا؟" (يوحنا 7 : 31) مذ ذاك أخذ رؤساء الكهنة يتناذرونه موجسين منه خيفة ؛ وراحوا يحيكون له ، قبل انقضاء اليوم الثالث من بدء كرازته في أورشليم ، مكيدة الأحقاد والضغائن . ولكأننا نراهم - من خلال تلك الصفحات النابضة، من إنجيل يوحنا - أولئك الزعماء الدينيين ، وقد بثوّا في الجمع عيونهم يترصدون يسوع ويمدّونهم بخبر أقواله وفعاله ، وهبّوا يـحُدّون له ما يسُمىّ " إضبارة " في لغة جميع شُرَط العالم . بيد أنهم تورّعوا، بادىء الأمر، من الركون إلى القوة . ولعلهّم ارتدعوا برادع المهابة أو الإشفاق من مصادمة الرأي العام ؛ ولا ريب أيضاً أنهم أحجموا، بوازعٍ من ضميرهم : فلقد كان من بين الفريسين ، ولا شك ، نفوس قويمة

. إلاّ أنهم ما عتّموا أن لمسوا، في مثل ذاك التلكّـوء، مضرّة . فلقد طفق الناس يتحادثون ، في شوارع المدينة، قائلين : " إنه يتكلّم في الجهر، ولا يقولون له شيئاً . ألعلّ الرؤساء قد أيقنوا أنه المسيح ؟ " (يوحنا 7 : 26 ) . فارتأوا أن يوقعوا به . وأنفذوا إليه شُرطا ليختلطوا بجمهور المستمعين ، ويلقوا القبض ، في أوّل سانحة، على ذاك المسيح المزعوم . ولكنهم رجعوا صفر اليدين . فقالوا لهم : " لمَ لمْ تأتوا به ؟ "، فأجاب الشُـرط : ما تكلّم إنسان قط مثل هذا الإنسان ! .. " (يوحنا 7 : 46) . إذن فقد أخذ حُرّاس الهيكل أيضأ يستقيدون لسطوة ذاك الجليلي ! . .

.. هكذا منذ اللحظة التي وطىء فيها المسيح أرض اليهودية، أخذت تتضافر العناصر التي كان لا بدّ أن تفضي إلى الفاجعة . وذاك الذي وُصف بأنه " هدف للخلاف " ، راح يبذر القلق منذ اللحظة الأولى . ولسوفََ يستحيل ذاك القلق ، بعد ستة أشهر، إلى حقد قتّال ، ومصرع مضرجّ بالدم .

المرأة الزانية

. هل كان عيد المظالّ نهُزةً لقضاء بعض المآرب المشبوهة، يحمل ، ولاشك ، عليها، انصراف الناس - مدة ثمانية أيام - إلى ذاك النمط الغريب من العيش الخليّ ؟ إن الأسفار والرحلات تستدرج – كما لا يخفى – إلى مثل تلك الصلات العابرة التي لاُ يحسب فيها لناموس الأخلاق كبير حساب. ويدعو إلَى الأخذ بهذا الافتراض أن الانجيل الرابع قد دوّن خبر المرأة الزانية فوراً بعد أحداث هذا الأسبوع . إنها من أشهر وأروع أحداث سيرة المسيح ؟ فإنه ليس هناك دليل أروع على محبة المسيح ورقة شعوره ، كما وعلى سداد رأيه ووقوفه على طبائع الإنسان

.. " وجاءه الكتبة والفريسيوّن بامرأة بوغتت في زنى، وأقاموها في الوسط ، وقالوا له : " يا معلم ، إن هذه المرأة قد أخذت في فعل الزنى ؛ وقد سنّ لنا موسى ، فيَ الناموس ، أن ترُجم أمثال هذه المرِأة . فأنت ماذا تقول ؟ " (يوحنا 8 : 3- 5 ) . لا بدّ أن الحادثة قد جرت عند باب نيكاتور، أجمل أبواب الهيكل . وكان اليهود - على ما جاء في التلمود- يقتادون إليه العواهر، " من رقابهنّ " . ومن الواضح أن إنزال حكم الموت بالزواني كان من مستتبعات الوصيّة السادسة . ولئن ثبت أن سفر اللاويين كان يقضي على جميع الزواني بعقوبة القتل (لاويين 2. : 1. )، فالرجم كان محصوراً في عقاب الخوائن . من الأبكار المخطوبة ( تثنية 22 : 22 - 24 ) ؛ لا بدّ إذن من الاعتقاد أن عادة العقاب بالرجم كانت قد عُمّمت ، في عهد المسيح ، على الأزواج الزواني أيضاً .

. لقد كانت إذن تترقب الردى تحت وابل من الحجارة، تلك المسكينة التي تحلّق الناس من حولها شرذمةً نابحة، والتي باتت تنتظر ، في أقصى ما يكون الهلع ، ريثما يبُتِّ في أمرها . .. " قالوا هذا ليجرّبوه ، حتى يجدوا ما يشكونه به " (يوحنا 8 : 6 ) . سؤال ، ولاشك ، كيّاد ! وأنىّ للمسيح أن يجانب الوقوع في تناقض سافر إما مع الشريعة الموسوية، وإمآ مع الشعور الشعبي ، وكان ، ولا شك ، في مثل تلك المواسم ، ميّالا إلى التسامح، ولربما، أخيراً، مع الأحكام الرومانية، وكانت قد أوقفت على اليهود استعمال حقهم في الإعدام . " أماّ يسوع ، فأكبّ يخطّ بإصبعه على الأرض . ولمّا استمروا يسألونه ، انتصب وقال لهم : " من هو فيكم بلا خطيئة، فليبدأ ويرمها بحجر " ؛ ثم أكبّ أيضاً يخطّ على الأرض . فلمّا سمعوا، طفقوا يخرجون واحداً فواحدأ، ابتداءً من الشيوخ . وبقي هو وحده ، والمرأة قائمة في الوسط . فانتصب يسوع ، وقال لها : " يا امرأة، أين هم ؟ ألم يحكم عليك أحد؟ " ؛ قالت : " لا أحد، يا سيّدي ! " ، فقال يسوع : " ولا أنا أحكم عليك ! إذهبي ، ولا تعودي إلى الخطيئة من بعد ! " (يوحنا 8 : 7- 11 ) . عبث كل تعليق على بساطة هذا المشهد . فإنه من العسر أن نتصور قصّة أقرب إلى القناعة والطبعيّة . " فالحجر الأول " هو الحجر الذي كان للمدُّعي أن يقذف به غريمه ، بعد استصدار الحكم عليه . ثم إننا نتمثلّ يسوع ، وقد انعطف إلى الأرض ، وكأنه لا يحفل بما يجري حوله ، إلى أن قذفهم قذفا ناعماً بتلك العبارة الهائلة ؛ ونتمثل أولئك المرائين ، وقد جاؤوا يبطنون رغبتهم الثاثرة في التمتع بتعذيب امرأة، ولهم من ضمائرهم وشريعتهم ظهير، وإذا بهم ينكصون ، وقد شعروا أنهم بوُغتوا في نذالتهم ، واخترقت سرائرهم . . . أجل كل شيء واقعيّ حقيقي ، في هذه الأسطر العشرة، حتى تلك الملاحظة الهازئة، حيث جاء : " ابتداء من الشيوخ ! "

. من العبث أن نتساءل ماذا خطّ يسوع على التراب ؟ أهي رموز مبهمة، أم رسوم شاردة ( أكبر الظن أن مثل هذا التشاغل برسم خطوط مبهمة هو عند الشرقيين ، علامة تفكير وتأمل وبحث عن حل مشكلة ) ، أم أسماء المتهّمين ، أم خطاياهم ، على حدّ ما ارتأى القديس إيرونيمُس ، استناداً إلى آية من إرميا النبي : " يا رب ، إن جميع الذين ينصرفون عنك ، يكُتبون في التراب " ( إرميا 17 : 13 ) ، أم هي أرقام طلسميّة، كما توهّم أصحاب التفسير الباطن. مهما يكن من أمر، فليس ذلك بجوهري . إنما الجوهر في ذاك الصمت الرحيم الذي حلّ بغتةً حول المرأة المدهوشة، في إثر الكلمة التي نطق بها يسوع ؛ وهو في تلك النظرة العطوف التي حوّ لها المعلّم عنها إلى الأرض ، لئلاّ ترتبك المرأة خجلاء ؛ وهو أخيراً في ذاك الدرس العظيم الذي ينبغي لكل قضاة الأرض أن ينصتوا أبدأ إليه ، ويتأمّلوا فيه

أمثال يسوع في المحبة

. هكذا، سحابة تلك الفترة التي قضاها يسوع في اليهودية، سوف يتتالى الحوار طويلاً بين الحقد والحب ، " بين الشقاء والرأفة "، كما جاء عند الاباء الأقدمين . ولسوف تبرز، فوق ذاك القاع الدائم من السعايات العدائية، والمآرب السفّاحة، صدوُر تلك الأمثال الرائعة التي راح يعُلن فيها المسيح - أكثر من ذي قبل - رحابة حبهّ للبشرية . إنه لم يكن ليجهل نوايا خصومه ؛ لا بل كثيراً ما كان يسقط أقنعتهم ، ويفضح قلوبهم ، وينذر اليهود بالمغبّات الهائلة التي سوف يؤولَ إليها تعاميهم المجرم المتعمّد . ولكن ليس جهلنا للناس هو الذي يحبّبهم إلينا، بل أن نسبر أغوار سفالتهم ، ونكتشف ، من وراء ذاك البؤس ، التبرة الفريدة المطويةّ في خضمّ أوحالهم

. " الحق الحق أقول لكم : إن من لا يدـخل من الباب ، إلى حظيرة الخراف ، بل يتسور من موضع آخر، فإنه سارق ولصّ . وأما الذي يدخل من الباب ،فهو راعي الخراف . له يفتح البوّاب ، والخراف تسمع صوته ، فيدعو خرافه الخاصّة بأسمائها ويخرجها . ومتى أخرج جميع خرافه ، يسير أمامها، والخراف تتبعه ، لأنها تعرف صوته . أمّا الغريب فلا تتبعه ، بل تهرب منه ، لأنها لا تعرف صوت الغرباء" (يوحنا 1. : ا-5 )

: لقدكان من اليسير اكتناه هذا الكلام . فالأنبياء كثيراً ما استعانوا بمثل هذا التشبيه . وقد قال إرميا في الله : " إنه يحفظ إسرائيل كما يحفظ الراعي قطيعه " (إرميا 31 : 1. ) . وتوعّد حزقيال بالويل أولئك الرعاة الأردياء الذبن يأكلوٍ ن لبن النعاج ، ويلبسون صوفها ، " ثم لا يـعنون بأمرها ، بل يذرونها مشتّة من غير راع ، ومأكلاً لوحوش الصحراء " (حزقيال 34 : ا –5 ). وعمد أشعياء وزكًرياّ إلى مثل هذه التشابيه أيضاً ؛ ومع ذلك فالظاهر أن كلام يسوع لم تتبينّ لهم مراميه كلّ البيان ، فأردف مفصحاً

. " أنا باب الخراف . جميع الذين أتوا قبلي سرّاق ولصوص . ولكنّ الخراف لم تسمع لهم . أنا الباب . إن دخل بي أحد يكون في مأمن ، ويدخل ويخرج ويجد مرعى . السارق لا يأتي إلاّ ليسرق ويذبح ويهلك . أمّا أنا فقد أتيت لتكون لهم الحياة وتكون لهم بوفرة . أنا الراعي الصالح . الراعي الصالح يبذل حياته عن الخراف . أمّا الأجير الذي ليس براع ، وليست الخراف له ، فإذا رأى الذئب مقبلاً يترك الخراف ويهرب ، فيخطفها الذئب ويبدّدها . أنا الراعي الصالح . أعرف خراقي ، وهي تعرفني ، كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب . وأبذل حياتي عن خرافي . ولي أيضاً خراف أخرى، ليست من هذه الحظيرة . فهذه أيضاً ينبغي أن أجيء بها وستسمع صوتي ، فيكون قطيع واحد، وراعٍ واحد" (يوحنا 1. : 7-16)

لقد لوحظ مراراً ما يتميزّ به وصف هذا المثل من دقة جغرافية تبرز من خلالها، مع عناصر البيئة الفلسطينية، عوائد الرعاة كما لا تزال جاريهة حتى اليوم . فمواشي القريةُ يحجر عليها، ليلاً ، في زراثب من حجر مرصوف بلا ملاط ، ويقوم على حراستها أحد الرعاة، أو ابن صاحب الرزق إذا كان اَلحلال لأحد الملاّ كين الأثرياء. وعند الصباح يأتي الرعاة، ويلتمس كلّ قطيعهَ ، وبضربة من لسانه يطلق صوتا خاصاً يعهده خراف القطيع . والواقع أن الراعي يضطر، أحيانا، إلى المجازفة بحياته في سبيل الدفاع عن أغنامه : أو لم يبَطش داود بدبّ وأسد ذوداً عن قطيعه ؟ ( 1 صموئيل 17 : 3- 37 ) . وحتى اليوم ، يعثر على ذئاب وضباع وبنات أوى في مفازات اليهودية وشرقيّ الأردن . إن لهذا المثل ، من دقيق المرامي ، ما يتخطىّ حيّز الرمر . فالعبارة الصغيرة التي وردت ثلاثاً في النصّ ، لن يتضح معناها إلاّ بعد فترة من الزمن : " أبذل حياتي عن خرافي !. ." . ولئن كانت صورة " الراعي الصالح " مما يرتاح إليه اليوم المسيحيوّن قاطبة، فلقد تميزّ بحبُها أولئك الذين كانوا " خرافاً أخرى "، من غير حظيرة إسرائيل ، أعني بهم الأمَم الوثنيّة القديمة . . . إننا نجد، في الآيات الأخيرة من هذا المثل ، ما يوحي بالشمول الذي تميزّت به دعوة المسيح . ولقد عثُر مراراً، فوق جدران الدياميس ، على صورة " الراعي " الإلهي ؛ كما عثر على نقش رمسي فيه ابتهال إلى الله من أجل راحل " أعيد إلى الحظيرة على منكبي الراعي الصالح " ؛ ولا تزال الإنسانية، حتى اليوم ، تنصت - في أعماق قلبها الممزق - إلى وَعدِ منَْ وَعَدَ ها بأن يعيدها جميعهاَ قطيعاً واحداً ضمن حظيرة واحدة ! . .

. ما كان موقف اليهود من تلك الموهبة ؟ " لقد نشب أيضاً، بسبب هذه الأقوال ، شقاق بين اليهود . فكان كثيرون منهم يقولون : " إن به شيطاناً، وإنه يهذي ، فما بالكم تستمعون له ؟ " وآخرون يقولون : " هذه الأقوال ليست أقوال من به شيطان ! " (يوحنا 1. : 19 -21). ولكنّ هؤلاء أيضاً الذين باتوا يبغضونه ويصُمـوّن الآذان عن سماعه ، لم يكن يسوع ليكرههم ! ولم يكن له من جواب سوى الحب يواجه به سموم الضغينة . وقد عاد بصيغة جديدة، إلى ما صرّح به في مستهلّ رسالته العلنية : " الحق أقول لكم : " إن كل شيء يغفر لبني البشر، الخطايا والتجاديف ، مهما تمادوا في التجديف . وأمّا من جدّف على الروح القدس ، فلن يغفر له إلى الأبد، لأنه مجرم بخطيئة أبدية ! " (مرقس 3 : 28 ؛ متى 12 : 31 ؛ لوقا 12 : 1.). فليس إذن من معصية - مهما خَبُثت - إلاّ ويستطيع الحب أن يفتديها بقدرته اللامتناهية، ما خلا تلك التي تتنكّـر للحب ، ولا تقُرّ بإثمها ، وتأبى الصفح . .

. ليس إذن من خطيئة إلاّ ولها عند الله رحمة ! وأعقب يسوع على كلامه في الراعي الصالح ، بمثل آخر نجده في روايتي لوقا ومتى ( لوقا15 : 4 – 7 ؛ متى 18 : 12 ) : مثل النعجة الضالة التي انفصلت عن القطيع ، فذهب الراعي في إثرها . لقد جاء فيَ حزقيال أن الراعي الصالح هكذا يسعى وراء الشاردة (حزقيال 34 : 16 ) . ولكننا نراه يكتفي " بتطلب المفقودة " وإعادتها إلى الحظيرة، والعناية بالمكسورة والضعيفة . وأمّا يسوع فيضيف إلى ذلك وصفة يتجلىّ فيه الحبّ الصُراح : " فالراعي الصالح يحمل الخروف على منكبيه فرحاً، ويعود إلى بيته ، ويدعو الأصدقاء والجيران ، ويقول لهم : " إفرحوا معي ، فقد وجدت خروفي الضال ! "

. ويواصل يسوع كلامه ، قائلاً : " أية امرأة يكون لها عشرة دراهم ، فأضاعت منها درهماً، لا توقد سراجاً، وتكنس البيت ، وتطلبه باهتمام ، حتى تجده . وإذا ما وجدته تدعو الصديقات والجارات ، وتقول لهن : " افرحن معي ، فإني قد وجدت الدرهم الذي أضعت " . فأقول لكم : " إنه هكذا يكون الفرح ، عند ملائكة الله ، بخاطئ يتوب " ( لوقا15 : 8- 1. )

. ربما لا نعثـر في سائر الانجيل ، على ما يضاهي المثل الذي يعقب فوراً مثل " الدرهم الضائع "، في التنويه برحمة الله الواسعة . وقد تفرّد البشير لوقا بذكره ، فكان في وصفه ، أكثر منه في أي موضع آخر، "كاتب الرحمة " . وقد صوّر رامبراندت ، في لوحة رائعة، عودة الابن الشاطر، وقد بدا في أسماله محطوماً ، منسحقاً ، وأبوه يفتح له ذراعيه في حفاوة عظيمة . أيّ مسيحي ، في ساعاته الحالكة، لم يتشبّث بكلمات هذا النص ، ملتمساً فيها تعزية أبدية؟. .. إننا نتحرّج من تدوين تلك الأسطر التي باتت في ذهن كل إنسان . (لوقا15 : 11 -32) . فذاك الابن المتطاول الذي هجر البيت الأبوي ، بعد أن تقاضى نصيبه من الميراث ، وشخص إلى بلاد نائية يبذّر فيها على المراغات ثروته ، من ذا لا يتوسّمه في ذاته ؟ . . ولكن لا بدّ أن تأتي ساعات التخليّ والعسر . وفي البأساء ألا نتَقَـوِّتُ بالخرّوب الذي تتخاطفه الخنازير؟ إننا نعلم كلنا ما هو الحنين إلى البيت المفقود، بيت الهدوء والسلام . وطوبى لمن يجرُؤ وينطلق إلى أبيه ، ويجثو أمامه قائلاً : " لقد خطئت ! " . فيتقدم ربّ البيت إلى غلمانه قائلاً : " هلموّا سريعأ بأفخر حلُّة، وألبسوه ، وضعوا في يده خاتمأ، وفي رجليه حذاء . وأتوا بالعجل المسمن واذبحوه . ولنأكل ونفرح . لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش ، وكان ضالاّ فوُجد. . . "

. لا نسري هل استطاع قط لسان بشريّ أن يـضُمن مثل هذا النزر من الكلام ، تلك الدنيا من الحبّ والحكمة. فكل شيء قمةٌ في أوصاف ذاك المشهد، ولاسيما تلك " الرأفة " التي تحزّ في القلب حزاَ. إننا نرَ قّ لمأساة ذاك المبُعْد، ولكننا نرِقّ أيضاً، على حدّ سواء، لفرح ذاك الوَالد الشيخ " الذي أبصر ابنه من بعُد، فتحركت أحشاؤه ، وبادر إليه ، وألقى بنفسه على عنقه ، وقبلّه طويلاً . . . " . هل من حاجة إلى أن نضيف من التفاصيل ما يفرغ على القصة بعض قرائنها التاريخية ؟ فلقد كان الشرع اليهودي يقضي بتوزيع الميراث ، بعد وفاة الأب ، على جميع بنيه ، وإيثار البكر بحصّة مزدوجة، على أن يعول أمهّ وأخواته العوانس. لم يكن للبنين إذن ، قبل موت والدهم ، أيّ حق في الميراث . ولذلك فقد تخطىّ الابن الأصغر حقوقه ، إذ طالب بحصتّه قبل الأوان . وأما انهباط الشاطر إلى مستوى رعاة الخنازير، فقد كان من شأنه أن يترك في المستمع اليهودي أثراً عميقاً، لما تقتضيه تلك الصنعة من اتصال بحيوان نجس . وقد جاء في التلمود : " ملعون كل من عني بتربية الخنزير ! " ؛ وجاء أيضاً : " إذا ألجئ إسرائيل يومأ إلى التقوّت بالخرنوب ، فما عونه إلاّ التوبة ! " . وفي ذلك إشارة إلى أن يسوع ، في هذا المثل - شأنه غالباً - قد ركّز قَصَصَه الرمزي على أسّ من الأدب الحكميّ المتوارث

. بيد أن القصة لم تتوقّـف عند هذا الحدّ من وعد الله برحمته العجيبة، بل أفضت إلى مشهد آخر، وفقرة جديدة توجّه بها المسيح خصوصاً إلى فئة التقاة الدينين ، الذين لم يهجروا البيت الأبوي ، ولم يبدّدوا ثروتهم ؛ وهم ، بسبب ذلك ، راضون عن ذواتهم كل الرضى . " وكان ابنه الأكبر في الحقل ؛ فلما رجع واقترب من البيت ، سمع أصوات الغناء والرقص . . . ". ماذا كان انطباعه إذ علم أن العجل المسمن إنما نحر احتفاءً بأخيه الماجن ؟ نتمثل ذلك إذا تخيلّنا سيدة شريفة حيال عاهرة تاثبة هبّ الناس يحتفون بها ويتمادون في تكريمها . . . لقد كان ، ولا شك ، فتىً طيبّا، ذاك البكر ! وإذ كان يتوقع من ميراث أبيه حصة مضاعفة، كان لا بدّ أن يتصرّف بحيث لا تسُقطَ عنه حقوقهُ ، فيجدّ في عمله ، ويأخذَ بجميع ألوان التجلةّ والخضوع . أماّ سخطهُ ، فيلوح من خلال السطور. فهو يغُفل لفظة " أبي " . واماّ عن أخيه فيقول : " ابنك هذا الذي أكل مالك مع البغايا !" . لقد كان بر الوالد، إذن ، أن يبنل جميع ألوان التلطف في سببل إقناعه . هذا ولا يؤكد الإنجيل أن البكر قد استسلم بسهولة

. الحقيقة أن رحمة المسيح لا تكتفي بحطم المقاييس الخلقية التليدة. بل هي تبهر الوجدان الإنساني ، بما تفرض عليه من جهد جاهد . إن من الناس من يتسخّطون هذا المثل ، ويتظاهرون بالتحفّظ مماّ فيه من استدراج إلى المنُكر، ويأسفون ، على كل حال ، أن يلمسوا فيه انتقاضاً مستهجناً لذاك القانون الاجتماعي الراسخ ، القاضي للفضيلة ثواباً وعلى الرذيلة عقابا . . . ولربما رضوا أن يصفح لوالد عن ابنه ، لو أنه أخَذَ الأثيم بشئ من التأنيب الشديد !!

. كذلك الأمر في مثَلَ " عمّال الحادية عشرة ". فلكم يبدو غريبا، بل .مستهجنا في نظر الذي يدأبون في عملهم ، سحابة النهار، ويعتقدون ، أنهم إنما استحقوا أجرتهم . فهل من المنطق أن يتقاض عماّل الأخيرة مثل . أجرة الذين باتوا منذ الصباح يكدحون . هكذا فطُر قلب الإنسان ! فهو لا يرضى فقط بالقسمة التى يظن أنه استحقها، بل يكره أن يأخذ مثلَ نصيبه أولئك الذين يظنهم غير أهل له ، فاك هو القانون الذي أنجز عليه الميسيح: قانون "الدفع والقبض" . هذا وليس إلاّ أن يتفحص المرء ضميره ، فيجد من نفسه سبب لإلتماس الرحمة ، هو أيضاً ، ويعد ذاته سعيداً بأن لا ينزل به العقاب ( متى 2. : 1 – 17 )

استفحال المعارضة

. " الآخرون يكونون أولين ، والأولون آخرين ! " ( متى 2. : 16 ) . هذه العبارة التي ختم بها يسوع كلامه في " عمال الحادية عشرة " ، لم يكن ليمتعض من سماعها أكثر اليهود المتزمتين . فلقد كانوا يراعون ، بأشد تدقيق ، جميع مراسيم الشريعة ، ويثقون من كونهم ورثة العهود المقطوعة بين الله وإسرائيل ، ويأبون كل الإباء أن يدخل غيرهم من الشعوب في الملكوت الذي يثيب فيه الله أنصاره . وكان لا بد أن تنثلم انثلاماً دامياً ، لمثل تلك الأقوال ، عزتهم القومية – وكانت هي ركيزة إيمانهم – كما كان لابد أن يغتاظوا ، في قرارة معتقدهم ، لما كانوا يشاهدونه في تصرفات يسوع وأتباعه من استخفاف بالمراسيم " الجليلة " التي كان الرابيون قد زينوا بها متون الشريعة الموسوية

. ويبدو أن قضية السبت قد باتت هي المحك ، في اليهودية كما في الجليل . وكان اليهود في أورشليم يعمدون إلى تطبيق نواهي الراحة السبتية ، تطبيقاً حرفياً ، ويتزيدون فيها ، ويبزون ، في ذلك ، إخوانهم في الأقاليم الشمالية ، حيث كان الفريسيون ، على ما يبدو ، أقل عدداً . ولئن كان من الغلواء أن نقول على اليهود إنهم كانوا يحكمون في المرء من طريقة مراعاته لشريعة السبت لا غير ، فإنه من الثابت ، على كل حال ، أنهم كانوا يدينون المخلين بها

. " ففيما يسوع مجتازاً ( يوماً ) رأى رجلاً أعمى منذ مولده " . وكان ذلك ، ولا ريب ، في جوار الهيكل ، حيث كان يتكفف المتكففون ، على حد ما جاء في أعمال الرسل ( 3 : 2 ) . ولا ريب أيضاً أنه كان يطلق في السماء توسلاته . فتحنن عليه يسوع ، " وتفل في الأرض ، وصنع من تفلته طيناً ، وطلى بالطين عيني الأعمى ، وقال له : " امض واغتسل في بركة سلوام ( أي المرسل ) . فمضى واغتسل ، ورجع وهو يبصر بجلاء " ( يوحنا 9 : 1 – 7 ) . كان يعتقد القدامى أن للريق ، ولاسيما ريق الصباح خواص علاجية موصوفة في أحوال الرمد ؛ وقد ذهب إلى إلى ذلك بلينس وسويتون . وكان يسوع ، قبل ذلك ، قد وضع أيضاً من ريقه على عيني أحد العميان في بيت صيدا . وأما العلاج بالطين فنقع على وصفته في قصيدة طبية من الجيل الثالث بعد المسيح ، منسوبة إلى سيرينس سمونيكس . وأما مياه سلوام فكانوا يتبركون بها ، من يوم ورد ثناؤها في سفر أشعياء ( 8 : 6 ) . وكان كل اليهود على علم بأن مياه البركة الحسناء كانت تفد إليها في النفق الذي حفر في الصخر ، في عهد الملك حزقيا ، والذي أطلق عليه اسم " سلوام " أي المرسل ، وسمي النفق كذلك لأنه " يرسل المياه في البركة " … ولكن هل كان اليهود يعتقدون قدرتها الأعجوبية ، كما يعتقدون ذلك لمياه بيت حسدا ؟ لقد ورد في نص إسلامي من الأجيال الوسطى أن كل من يحج إلى أورشليم ، يجب أن يستحم في ماء سلوام " فهي ترد من الفردوس " . وتشاهد اليوم آثار الكنيسة التي شيدتها الملكة إفذوكسيا ، بقرب البركة …

بيد أن الذي أجراه المسيح كان أكثر من علاج طبيعي . وإننا لنتبين بجلاء في النص الإنجيلي ، الهدف الرمزي من استعمال الجناس ما بين لفظتي " المرسل " و " والمرسَل " . وهكذا فقد استخدم يسوع ، لإجراء المعجزة ، نفس المياه التي كان يعترف منها الكهنة لفرائضهم الطقسية ، وافرغ بذلك – مرة أخرى – معنى جديداً على شعائر قديمة …

. ورجع الأعمى، في تلك الأثناء، إلى المدينة مستبشراً . وإذا بلبال عظيم ." أليس هذا هو الذي كان يجلس ويستعطي ؟ "؛ فكان بعضهم يقول : " إنه هو ! "، وآخرون يقـولون : " لا! ولكنه يشبهه " . وأما هو فكان يقول : " أنا هو ! " ؛ فهبوّا يستنطقونه في شأن المعجزة : كيف صارت ، ومن صنعها ؟ " وكان اليـوم سبتاً " ؛ وتلك هي العقُدة ! وأقبل الفريسيوّن ، هم أيضاً، يستجوبون الرجل . ولعلهّم بالجهد أعفوه من تهمة الاستشفاء نهار السبت ! وعلى كل فالذي جبل الطين بتفلته ، في ذاك النهار المقدّس - ويا للمعثرة !- لا يمكن أن يأتي من الله . فأجابهم الاعمى : بل إنه نبي ! " . فاستدعوا أبويه وأوشكوا أن يلصقوا التهمة بهما، فتملّصا .. . ألا فليقرّ الرجلُ إذن أن الذي أبرأه لا يمكن أن يكون إلاّ خاطئاً . فأجاب : " أيكون خاطئاً ! . . لست أعلم ! إنما أعلم فقط أني كنت أعمى، والآن أبصر ! ". وكاد الفريسيوّن يتميزّون من شدة الغيظ ، ولا سيما بعد إذ قذفهم الرجل ، هازئاً، بهذه الملاحظة المسننّة : " لم تلحـوّن علي السؤال ؟ ألعلكم تريدون أنتم أيضاً أن تصيروا له تلاميذ؟ " . وأمّا يسوع فما حاول أن يتسترّ عن كونه صاحب المعجزة، بل انتهى إلى التصريح بهذه الكلمات السرّيةّ التي عَرفتْ أين تتوجّه : " لقد أتيت إلى هذا العالم لكي يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون ! " . فقال له الفريسيوّن : " أوَ نكون نحن أيضاً عمياناً ؟ " ؛ فأجاب يسوع : " لو كنتم عمياناً، لما كان عليكم خطيئة! ولكن بما أنكم تقولون : "إنا نبصر! " "فخطيئتكم ثابتة ! " (يوحنا 9 : 13 - 41 )

. ذاك المثل الذي انطلق من حيزّ الحدث المعين ، إلى رحاب درس عظيم ، يجلو - بأقوى بيان - الصراع المتحفزّ، وما كان يتفجـرّ في صدور الًفريسيين من اضطراب وغيظ . ويشبه حادثة الأعمى، ما يرويه البشير لوقا، في شأن المرأة الحدباء ." فقد كان يسوع يعلم في أحد المجامع ، يوم السبت . وكان هناك امرأة بها روح سقم ، منذ ثماني عشرة سنة . وكانت منحنية لا تستطبع البتة أن تنتصب .فلما أبصرها يسوع ، دعاها وقال لها : " يا امرأة، إنك مُطلْقة من .دائك ". ثم وضع يديه عليها، فاستقامت في الحال ، وجعلت تمجّد الله . بيد أن رئيس المجمع اغتاظ لأن يسوع ابرأ في السبت ، وقال للجمع : " إن لكم ستة أيام للعمل ، ففيها تأتون وتستشفون ، لا في يوم السبت ! ". قال هذا بأعلى صوته ، وكأنه لا يوجّه الكلام إلى يسوع . فأجابه الرب وقال : " يا مراؤون ! أليس كل واحد منكم يحلّ في السبت ثوره أو حماره من المذود، وينطلق به فيسقيه . . . وهذه المرأة، ابنة ابراهيم ، التي ربطها الشيطان ، منذ ثماني عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تطلق من هذا الرباط يوم السبت ؟ " (لوقا 13 : 1. – 17 )

! هي نفس أسباب النزاع ، ونفس الصراع القائم بين الآخذين بالحرف ، والآخذين بالروح . وليس هناك بينهم أي مجال للتفاهم . ولا غرو، فهم قاطنو عالمين متبابنن

. بيد أن تلك المنازعات اللاهوتية لم تكن لتثير في المستمعن من السخط ما أثاره موقف يسوع تجاه تعصب ذاك الشعب ، وانطوائه العنصري. لقد ارتكب ، ولا شك ، عصياناً بخروجه على شريعة السبت ، وعصياناً أفدح ، بما كان يدّعيه من الاستعلاء على الناموس . ولكنه كان يجرح نفس إسرائيل ، في صميمها، جرحاً أبلغ ، كل مرّة كان يؤكد أن المسيح لن يكون وقفاً على الشعب المختار، وأن الابن الشاطر ينعم بما ينعم به أخوه الفاضل من حق على عطف الآب ،وأن هناك نعاجة أخرى سوف تاوي إلى الحظيرة

سوف نرى ، فيما بعد، إلى أي حدّ ، وبأيّ معنىً ، كان الشعب الاسرائيلي قد انفتح لفكرة الشمول الديني . وأمّا في عهد المسيح ، فما كانت تلك المذاهب الانفتاحية لتصادف كبير رواج في نظر أمّة مذلّلة، خاضعة، على مضض ، لسلطة المُشركين . لقد كانً المشركون ، عند رجل الشارع ، في حكم الأبناء الشاطرين ، لا يليق بهم إلاّ التقوّت بقوت الخنازير . هذا، ولم يكن ، في نظره ، من حظيرة ترعاها عين الله ، سوى الأرض المقدّسة، ومن قطيع سوى الأسباط الاثني عشر. وقـد نفذ يسوع إلى نفسيةّ، ذاك الشعب ، فهبّ يتصدى، - صراحة أو تلميحا- لنزعته الاحتكارية .

. فعندـما يروي لنا البشير لوقا – مثلا- شفاء العشرة البرُص ، عن يد المسيح ، إذ كان ، ذات يوم ، شاخصا من الجليل إلى أورشليم ، وأن السامريّ وحده، من بينهم ، رجع يشكر للمسيح جميله ، فالغاية من ذلك بينة ! فهو إذ يقارن بين موقف ذاك الغريب " الكافر "، وموقف التسعة الآخرين الذين نالوا الشفاء مثله ، يعرف إلى من يهدف ! (لوقا 17 : 11 – 19 ) . كذلك الأمر في مثل " السامريّ الصالح " ؛ فهو ينطوي ، في آن واحد، على عرسٍ في المحبة، وعلى حُكم صريح ! فقد سأل يسوعَ واحدٌ من علماه الناموس ، قائلا: " يا معلم ، ماذا عليّ أن أعمل لأرث الحياة الأبدية ؟ ، فقال له : " ماذا كُتب في الناموس ؟ ماذا تقرأ فيه ؟ " ؛ فأجاب : " أحبب الربّ إلهك ، بكل قلبك ، و كل نفسك ، وكل قدرتك ، وكل ذهنك ، وقريبك كنفسك ! ". فقيه ، لا بأس به ! فقد جمع بين الوصيةّ الأولى الجوهرية، والوصيةّ المدرجة في سفر اللاويين ( 19 : 18 ) والقاضية بمحبة القريب . بيد أن كاتب الناموس أردف مستفهماً : " ومن قريبي؟ " . فأجاب يسوع بمثَلٍ ، صوّر فيه ، بأسطر وجيزة، واحدة من تلك المآسي التي كثيراَ ما كانت تروّع الطريق بين أورشليم وأريحا . وكانت تلك الطريق – وهي قصيرة لا تعدو35 كيلومراً- تنحدر انحدارا سريعاً جدّ اَ (من علوّ ألف متر وأكثـر ، وسط صحراء موحشة، وهضاب جافية، وصخور مبلبلة ، يجتازها عرق جيولوجي من المنجنيز القاني ، فيزيدها هولاً ورهبة . وكان الناس ، إلى أمد قريب ، يهابون التورّط فيها، وقد باتت معقلاً لبنات آوى وأبناء الليل ! واتفق أن رجلاً دُوهم قي تلك المهلكة، وترُك مرَيضّاً على حاشية الطريق ، محشرِجاً، بين حيّ وميت . ولم يكن المارة ليستسيغوا كثيراً التريثّ في تلك الاماكن . فمرّ كاهن ثم لاوي ، فما أنجداه . " ثم إن سامريّاً، في سفـرَ، مرّ به ، فتحننّ عليه . فدنا إليه ، وضمد جروحه ، وصبّ عليها زيتاً وخمراً ، ثم حمله على دابته الخاصة، وأتي به الفندق ، واعتنى به " . ولم يكتف بذلك ، بل أنفق عليه من ماله ، ما يضمن له العناية من بعد انصرافه . .

. في منتصف الطربق ، بين أورشليم وأريحا، عند منعطفٍ ما بين الفجاج ، يقوم اليوم " خان " قديم متهدّم ، كان قد اتخذ حصناً، في عهد البيزنطيين والصليبيين ، ولا يزال يرُف ، حتى اليوم ، بفندق السامري الصالح . وأمّا مداواة الجروح بمزيج من الخمر والزيت ، في علاج تقليدي شائع جداَ، ولا يزال مستعملاً قي الشرق ، حتى أيامنا . وأماّ مغزى القصة فقد استخلصه المسيح بكلمة وجيزة : " أي هؤلاء الثلاثة كان قريباً للجريح ؟ " . سؤال لا مناص منه : هو السامريّ ، ذاك " الكافر " ! . . فتصوّر أي حكم هذا ! بمقدار ما نشعر أن المسيح ، في الجليل ، قد تحاشى، جهده ، عن إثارة البلبال ، واستعجال الصراع ، نشعر أن كلامه قد بات في اليهوديةّ – بالعكس – صارماً . فهو يتحدى سامعيه ، أحياناً، بأقوال هي باللطمات أشبه : " سوف تموتون في خطاياكم ! . . أنتم من أسفل وأنا من فوق ! " (يوحنا 8 : 21 –25 ) . وما زالت تشتد، مع الأيام ، قسوة أحكامه ، إلى أن كان ذاك اليوم الرهيب الذي أعْلنَهَم فيه بخراب أورشليم ، تلك النبوءة الكبرى التي كان لا بد للتاريخ أن يحققها – أيما تحقيق ! – على يد الرومان وشفارهم . وكأني بيسوع ، في جميع تصرفاته هذه ، قد أيقن حتميّة الصراع المتحقز فعدل عن كل وسيلة لمجانبته . ولم تكن هناك حتمية وحسب بل ضرورة موجبة : فلقد بدت تلك المعارضة المستفحلة كأنها، بين يديَ العناية الإلهية، آلةً لتنفيذ مقصد علوي قد خفي عن أصحاب تلك المعارضة : ألا وهو، بالذات ، مقصد الفداء ! . .

.. وقد باتت تلك المقاومة، بعد قليل من الزمن ، تنتهز كل فرصة مؤاتية للمجاهرة بذاتها . فعندما وقع عيد التـجديد، في كانون الأوّل ، وعاد الناس ثانية إلى المدينة، راحوا يتـحلقون حول يسوع ، ويطرحون عليه الأسثلة . ولم يكن يسوع ليعمد إلى التهرّب ، لا بل كان يندمج في تلك العادات التي باتُ يجلّها، ويفقه معناها أكثر من كل إنسان آخر ؟ وقد أكّد يوماَ " أن الخلاص يأتي من اليهود " . فلا بأس إذن آن يحتفل الشعب بذكرى تطهير الهيكل ، عن يد يهوذا المكّـابي ، بعد هزيمة اليونانيين ، وينصرف إلى إضاءة المنازل . .. ولكن علام يأبى الرضى بنتائج تلك التقاليد التي مازال مقيماً على ولائها ؟ .

. وراحوا يـلجئون يسوع - أعن هزء أم استطلاع أم اختتال ؟- إلى التَصريح نهائياً بهويتّه الماسويةّ . فأجاب : " لقد قلته لكم ، ولا تصدقون . والأعمال التي أعملها باسم أبي ، هي تشهد لي . غير أنكم لا تصدّ قون لأنكم لستم من خرافي " (يوحنا 1. : 21- 3.) . فقذفوه ، ولا شك ، مرّة أخرى، بتلك التهمة القديمة التي قُذف به في الجليل : أنّ به شيطاناً، وأنّ قدرته مستمدّ ة من إبليس . فبعل زبول - ذاك الإله الكنعاني الذي أمسى شيطاناً في جحيم اليهود - هو الذي يعمل بواسطة يسوع ! فأجابهم ، هادئا : " ليس بي شيطان ! " (يوحنا 8 : 49 ) . وقد حدث يوما، إذ كان يعلّم في الهيكل ، أنّ قوماً من الحاضرين أخذوا حجارة وهموّا برجمه . وأما أتباعه فقد فكّـر اليهود أن يجروا في حقهم قراراً شرعياً يقضي بتنحيتهم عن المجمع : وتلك التنحية (أو الحرم الاكبر) هي عقاب شديد لا يستتبع فقط حجب المذنب عن دخول المجمع ، والاشتراك في الصلاة الجماعية، بل حجز أمواله وإعلان نجاسته

ومع ذلك لم يكن كل اليهود عند هذا الحدّ من التكالب على إهلاك يسوع . ففضلاً عن أولئك الذين استجابوا لندائه ، وأولئك الاصدقاء الذين سوف يخلصون له الوفاء والتضحية ، كان في حزب الفريسيين ذاته نفوس صادقة اتضحت لها براءة النبي . منهم أولئك الذين كانوا قد قصدوه ، وهو بعد في الجليل ، وأعلموه أن هيرودس أنتيباس الوالي يلتمس اغتياله . ( لوقا 13 : 31) . ومنهم أيضاً نيقـودمس ، ذاك الذي جاء يسوع ليلاً ، لدى مروره الأول بأورشليم ، قبل سنة . وإذ كان عضواَ في المجمع ، وكانوا ذات يوم يتباحثون في قضية يسوع - ساعة رجع الشرط من غير ان يَلقوا القبض عليه – تجرّأ وقال : " هل تحكم شريعتنا على إنسان من غير أن تسمع منه أولاً، وتحيط علماً بما فعل ؟ " . فاستنزل عليه ذاك الدفاع تهكّـمات المتعصبين من زملائه : " ألعلك أنت أيضاَ من الجليل ؟ ! " (يوحنا 7 : 5.- 52). بيد أن جرأته هذه قد حسبت له - ولا شك ، - في يوم الدين .

. وأمّا المسيح فكان يوالي السير في وسط تلك المكائد التي لم يكن ليغفل أمرها . ولم يكن عنف الناس ليزُيله عن التوصية بالرحمة، وعن تعهّد أولئك الذين ما فتئوا يتنكرّون له ، بالإحسان والعجائب . وحسب اللّه الحيّ أن يستجيب لندائه صوت واحد، حتى يؤانس في تلك الاستجابة ثوابَ بذله . ففي أخريات أيامه ، عندما شخص إلى أورشليم ليلقى فيها مصيره ، حانت له أيضاً فرصة لإجراء إحدى المعجزات

كان ذلك عند أبواب أريحا الجديدة ، تلك المدينة المغرية التي أهداها أنطونيسُ مصَيفاً للملكة كليوباترة، والتي وسّعها هيرودس وزينّها . ولربما كانت قائمة في جوار الينابيع الرقراقة التي تشاهد فيها حتى اليوم . وكان هناك أعمى ، مع رفيق له ، وقد سما كلاهما إلى المسيح العابر، بذاك الوجه المظلم الذي نتوسّم ملامح ضراعته الحارّة قي إحدى لوحات " بوسّان "

. الشهيرة . وصاح أحدهما قاثلاً : " يا يسوع ابن داود ارحمي ! "؛ وازداد صياحأ : " يا ابن داود ارحمي ! " . ولم يقوَ أحد على ردعه . وكان اسمه برتيماوس ، على ما جاء في إنجيل مرقس . ولا بدّ أن هذا الانجيلي قد تعرف به ما بين جماعة المؤمنن الأولين . فسأله يسوع : " ماذا تريد أن أصنع لك ؟ " ، قال : " أن أبصر، يا سيدي ! "، فقال له يسوع : " أبصر! إن إيمانك قد خلّصك ! " . فإذا بالأعمى يطرح رداءه ويثب آتياً إلى يسوع ! إيمانك قد خلّصك ! هكذا أبصر النورَ رجال كانوا من أشد الناس عمىً ، بل هكذا نبت ، في صحاري اليهودية، بذار سوف يكون له ثمن عظيم ( لوقا 18 :35 ؛ متى 2. : 29 ؛ مرقس 1.: 6 4)

أصدقاء وأتباع

. نحن نرى إذن ، في الإنجيل ، بإزاء ذاك السيل من الأحقاد المطويه ، موكبأ من الصداقات والأمانات ، يرافق سعي المسيح. فالمسيح لم يكن وحيداَ على دروب اليهودية ؛ بل نحن نوجس ، من حوله ، لفّاً من الأنصار التابعين ، ومن أولئك الذين سوف يحتفون بدخوله الظافر، يوم الشعانين ، ومن الذين سوف تهيب بهم البطولة إلى مرافقته على طريق الجلجلة ويوم يطلع فجر القيامة

. في طليعة هذه الكوكبة الصحابية، برزت امرأتان : مرتا ومريم ، أختا لعازر الذي أنهضه يسوع من القبر . إن الإنجيل الثالث الذي أورد ذكرهما، بما عُهد فيه من تحفّظ رفيق ، قد أغفل اسم الموضع الذي أضافتا فيه المعلّم (لوقا 1. : 38-42) . بيد أننا نقع أيضاً على ذكر الشقيقتين المخلصتين في الرواية التي أدرجها البشير يوحنا عن إنهاض لعازر . وقد جاء فيها أن القرية تدعى بيت عنيا . وكانت بيت عنيا، لذلك العهد ، قرية مزدهرة وسط أشجار الزيتون والتين . وكانت طريق القوافل الصاعدة من أريحا تمر تحت أسوارها . ومع أنها لم تكن ، من أور!شليم ، إلاّ على بعد ساعة من المسير، فقد كانت تبدو، بموقعها وراء جبل الزيتون ، وفي محيطها الوادع ، نائبةً جدأً عن العاصمة وعن بهارجها الصاخبة . وأما اليوم فلم يبق منها سوى قرية فقيرة جاثمة بين حقول الشعير، وفي وسط أقواسها المتداعية وحنيّاثها المبقورة . فإذا قصدتها سائحاً لج في إثرك أدلاّء يرشدونك إلى خربة هناك ، ما بين الخرائب ، هي - على ما يزعمون - بيت مرتا ومريم . ويبدو أن المسيح قد أقام ، في ذاك المنزل الصديق ، فترة تشرين الأوّل والثاني وكانون الأوّل من سنة 28 . ولا بدّ أن المسيح قد استنسب موقع البيت ، بالقرب من أورشليم ، يقصدها أنىّ شاء من غير أن يبيت فيها، وفي شبه عزلة تقيه شرّ الكائدين . ولا بدّ من الثناء على شجاعة تلك الأسرة التي لم تكن التوعّدات لتصرفها عن إيواء المسيح ضيفاً وصديقاً

. فالمشهد الإنجيليّ الفتّان الذي رسمه فرمير دي دلفت ، في لوحة شهيرة، وأفرغ على أشخاصه الثلاثة مسحة من الجلال والبساطة الوضّاءة، يمكن أن يحتلّ محله ، في خلال تلك الأسابيع القاسية التي تدهم اليهودية، في أذيال الصيف . فالأمطار تهطل فيها بعنف ، لقد قيل : " رعد تشرين أشبه بصوت البوق " . فالسكّـان الذين ألفوا حرّ الهواجر في المشارف ، يبادرون إلى مضارمهم لقد أصابهم القر باكراً .وتنحدر المواشي صوب " غور " الأردن ؛ وأمّا في الصحوات ، فيصبح الفضاء من الروعة والشفوف ، بحيث تنجلي الآفاق الزرق في أصغر دقائقها ؛ فإلى الجنوب جبال موآب ؛ وإلى الشمال الشرقي ، من خلال ثلمة التلال ، جبال الجيرازيين

. في ذاك البيت الأليف كان يسوع يوماً، وقد علقت كلّ من ألشقيقتين تبذل له من أصلح ما عندها . فمرتا –وهي الكبرى- هبّت تتم لتجهيز الغرفة، وإحضار الحليب والعسل والتمر، وطهي السمك . وأمّا الصغرى، مريم ، - وما أدق ماوفّق إليه البشير لوقا من إبراز وجه التباين بين المزاجين ! – فقد جلست عند أقدام المعلّم تصغي إليه ، من مجامع قلبها . فساء ربةَّ البيت – وهي في غمرة بذلها- ما بدا لها، من أختها، كسلاً وتهاوناً . فقالت ليسوع : " يا سيدي ، أما تبالي أن أختي قد تركتني أخدم وحدي ! فقل لها إذن لتساعدني ! " . كم من الناس ينهمكون هكذا في شؤون الأرض ، ويذَرون الله يتكلّم ! . . فأجاب يسوع : " مرثا، مرثا ! إنك مهتمة ومضطربة في أمور كثيرة . وإنما الحاجة إلى قليل ، بل إلى واحد ! فمريم قد اختارت النصيب الأصلح، ولن ينزع منها ! " (لوقا 1. : 38-42 ) . أفيكون هذا الكلام –كما قيل من بعد- تنويهاً بحياة التأمل وما فيها من تعارض وحياة العمل ؟ وإن " الحاجة الضرورية الوحيدة "، إنما هي ملكوت اللهً والخلاص ؛ ولا نصادفهما إلاّ عند المساء . وكل ما في العالم من اضطراب ، مهما كان ضرورياً، بل مقدّساً، لا يعادل عبادة صامتة ! .

. هناك حادثة أخرى تروي لنا نشوء إحدى تلك الصداقات التي كان المسيح يملك سرّ اجتذابها، بنظرة واحدة، وبكلمة واحدة . وقد جرى ذلك في أريحا أيضاً، في أواخر اذار سنة 3.، بضعة أيام ، ولا ريب ، قبل مطلع أسبوع الآلام . وكان يسوع قد جاء المدينة، مع تلاميذه . منحدراً من بلاد " بيرية "، حيث كان قد بشّر الشعوب التي لم تكن بعد قد وقفت على أمره . وكان عائداً إلى أورشليم ، حيث كان قد أنهض لعازر منذ أمد غير بعيد . وكان شاخصاً إليها ما بين تلك الجموع المختلطة التي جاءت تقصد المدينة المقدّسة للفصح . وذاع الخبر أنه بين الحجّاج ، فاندفع الناس لمشاهدته ومداناته . وكان هناك إنسان قد أجمع على ذلك أكثر من سواه . فهل تسرّب إلى أعماق نفسه ، مِن أقوال يسوع ، ذاك القدرُ الزهيد الذي كان قد نمى إليه ؟ . . ولكنّ قصر قامته حال دون مرامه ، فذهب به الجمع . .. واذا بفكرة حَضَرتهْ : ففي الساحات ، وعلى حفافي الطرق ، ينبت الجمّيز، وهو شجر ضخم جميل ، تطفو جذوره فوق سطح الأرض ، في شكل أقواس تستند إلى الجذع ، وتسهّل أمرَ التسلق عليه . وثبة، وإذا به بين الأغصان ! فرآه يسوع ، واكتنه معنى ذاك الجهد الذي بذله الرجل ، لا لشيء إلاّ لينظر إليه . وقال له : " إنزل سريعاً، يا زكّا، فاليوم لا بدّ لي من أن أقيم في بيتك ! " . شرف نادر مدهش ! لقد كان زكّا عشاراً، أي واحداً ، ولا ريب ، من أولئك الجباة الذين كانوا يضربون الإتاوة على العطور والأطياب ؛ بل كان أحد زعماء أولئك المكّـاسين الذين اعتادوا ولوج الثروة من باب الوظيفة . وليس من يجهل ما كان رأي اليهود في العشّارين ! . . ومع هذا فقد نزل المسيح في بيت أحدهم ، وأكل على مائدته ، ولم يرعوِ بل راح يطيل المكوث عنده ، ضارباً لمن حواليه مثلاً غاية في الطرافة، وهو مثل الوزنات أو الأمناء ؛ وقد أثنى فيه على حسن استعمال الخيرات التي يعهد بها الله إلينا، والتي لا بدّ ، يومأ، من أن نؤدّي عنها حساباً . ولفت انتباه السامعين ، مرة أخرى، إلى أن ملكوت الله لن يأثي بالصورة التي يتوقعون . .

. مشهد حافل بالحياة والأنس والود ! ولقد وُفّق يسوع ، بما تعهّد به ذاك العشّارَ من دلائل الاحترام ، أن يكتسب قلبه ويقوده إلى الله . فقال له زكا : " يا سيدي ! هاءنذا أعطي المساكين نصف أموالي . وإن كنت قد ظلمت أحدآ في شيء ، فإفي أرد أربعة أضعاف ! " . يا للاتضاع ! إنه يحكم على نفسه بما يقضي به الشرع على السارق ! فقال يسوع : " اليوم قد حصل الخلاص لهذا البيت ! ". ثم خلص إلى نفـس النتيجة التي انتهى إليها في شأن متى، ذاك العشّار الآخر : " أن ابن البشر لم يأت ليدعو الصديقين بل الخطأة، وأنه إنما جاء ليطلب ما قد هلك ، ويخلّصه " (لوقا 19 : 1- 28 ؛ متى 25 : 14-3.)

. هكذا كان لغير الحقد، في تلك الحقبة مجال . وأما لفظة " اليهود " التي شاع استعمالها للإشارة إلى أعداء المسيح ، فلا بدّ من تمحيصها . والحق أن البشير يوحنا هو الذي عمّم استعمالها لتأدية ذاك المعنى . ولكننا نعلم اليوم أن الانجيل الرابع دُوّن في حقبة أيقن الميسحيوّن فيها أنهم قد انفصلوا نهائياً عن الجماعة اليهودية، وفي زمن اصطدمت فيه البشارة المسيحيةّ مراراً بالمجمع اليهودي . وأما إذا اعتمدنا الأناجيل المؤتلفة، فنحن لا نشعر بأن المسيح قد صادف في اليهودية عداوة شاملة، كليةّ . فلقد أحبوّا يسوع حباً صادقاً، أولئك الرجال والنساء الذين كانوا يواكبونه على دروب اليهودية، وأولثك الأمهات اللواتي كن يهم يأتينه بأطفالهن ليضع يديه عليهم ، وتلك المرأة المجهولة التي رفعت يومأ من الجموع صوتا، وقالت : " طوبى للبطن الذي حملك !" . فأن يكون هؤلاء قد تخلّفوا عن نصرته ، وجزعوا من مساندته ، فذلك في جبلّة الإنسان ، ولا يدعو إلى الاستغراب . بيد أنهم هم النواة التي نبتت منها كنيسة أورشليم ، تلك الجماعة المقدامة التي عرفت كيف تحفظ للمصلوب ؛ في قلب العاصمة اليهودية، ذكراً خالداً ، والتي وهبت الكنيسة شهيدها الأوّل : اسطفانوس

. ولقد كانوا كُـثـرْاَ، أولثك الأصدقاء والأنصار- وقد بلغ عددهم ، من بعد قيامة المسيح ، دفعة واحدة، خمس مئة تلميذ- وقد اختار يسوع من بينهم ، ومنذ مطلع مَقامه في اليهودية، أشباه رسل من الدرجة الثانية، وأوفدهم يحملون الكلمة إلى عدد كبير من المناطق ، كما كان قد أوفد من قبلُ ، تلاميذه الاثني عشر . ونعرف ، من الانجيل الثالث خصوصا ( لوقا 9 : 57-62 ؛ متى 13: 19-22)، كيف كان ينتخب معاونيه ، وما كان يفرضه عليهم . فقد جاءه يوماً أحد الكتبة- وفي ذلك ما يدلّ على تسرّب نفوذه حتى إلى الأوساط المتوفّرة على درس الشريعة- وسأله قائلاً : " أتبعك حيث تمضي ! ". القصد طيّب ! ولكن أيدري هذا الرجل لأي أمر يتصدّ ى ؟ " إن للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكاراَ، وأما ابن البشر، فليس له موضع يسند إليه رأسه ! " . ولا يذكر الانجيليون هل كان ذاك التعريض سبباً في نكوص ذاك المتطوّع . . . وطلب إليه واحد من تلاميذه مهلة، قبل أن يهمّ بالرسالة، ليذهب ويدفن أباه. فقال له يسوع : " دع الموتى يدفنون موتاهم ، وأما أنت فامض وبشّر بملكوت الله " ا. إنه لا يمكن أن تكون العواطف البشرية شيئاَ في نظر من عقـد العزم على اتّباع المسيح . " إن رسول المسيح لا يمكنه - على حد ما جاء في حديث طريف سوف يتذكره أوغسطينوس يوماً - أن يهجر الحيّ لكي يحكي عن الأموات خرافات ! " . .. وقال له آخر : " أتبعك ، يا سيدي ، لكن ائذن لي أن أودعّ أهل بيتي ! " ؛ فقال له يسوع : " من وضع يده على المحراث ونظر إلى الوراء، فليس بأهل لملكوت الله "

شريعة قاسية، واختيار حازم ! وقد قال يسوع يوما : " إن كان أحد يأتي إليّ ، ولا يبغض أباه وأمّه وامرأته وبنيه وإخوته وأخواته ، بل نفسه أيضاً ، فلا يستطيع أن يكون لي تلميذا ". (لوقا 14 : 26-27) . فلا بدّ إذن من التخليّ عن كل شئ ، حتى عن المودّ ات المشروعة ! إن شريعة الحب التي جهر بها المسيح ، فيها وجه رهيب ؛ وليس شيء أبعد عن الحقيقة، من أن نفرغ عليها لا أدري أي صبغة من أصباغ التفاهة . . . فالمرسل الشارد في مطاوي الأدغال الموحشة، باذلاً من ذاته في سبيل بعض المئات من السود ، يعرف ما هو الثمن الذي يقتضيه حبّ الله ؟ كما يعرف ذلك أيضاً كل راهب وراهبة، وكلّهم قد استؤصلوا من تربة المودّ ات البشرية، وراحوا يواصلون في خلوة الدير ، ما يفوق الطبيعة من أعمال الفداء . . . أجل ، لقد عمد المسيح . إلى التشدّ د في انتقاء أعوانه والقيّمين على رسالته .

. هكذا تمّ انتخاب طائفةٍ من التلاميذ، أوسع نطاقاً من نواة الاثني عشر رسولاً : وبدأت تنتظم بهم هيـئة الإدارة الكنسية العتيدة . وقد اختلُف في عددهم : فاعتمد البعض رقم السبعين ؛ وهو العدد المتداول في العرف اليهودي ، عدد الشيوخ الذين انتخبهم موسى له أعواناً (سفر العدد 11 ) ، وعدد أعضاء السنهدرين . وذهب البعض الآخر – ومنهم لاجرانج – إلى أنهم اثنان وسبعون ، وذلك بالاستناد إلى أقدم المخطوطات . وقد أرسلهم يسوع لأن الحصاد بات كثيراً، وكان لا بدّ من مضاعفة عدد العاملين . وتقدم إليهم بمثل التعليمات التي كان قد وجهها إلى الرسل من قبل . بيد أنه لم يفوض إليهم السلطة على إنهاض الموتى ، ولم يحرم عليهم الذهاب إلى " الأمم " والسامريين ( لوقا 1. : 1 – 12 )

. من هم أولئك الاثنان والسبعون ؟ لم ترد أسماؤهم في الإنجيل . ولا شك أن البشير لوقا: الذي أقام في قيصرية مع بولس مدة طويلة، قد عرف بعضاً منهم ؛ بيد أنه لم يدوّن أسماءهم . وأما اكليمنضسى الإسكندري فقد بلغـه أن الذي قال له السيّد : " دع الموتى يدفنون موتاهم . . . " إنما هو الشماس فيلبس. وهو الذي سوف يقوم بتبشير السامرة والشارون ؛ وكان له ، في أوائل الكنيسة، أربع بنات يتبّـأن . وقد ذكر يوسابيوس ، من بين السبعين ، برنابا معاون بولس ، وسوسثينس الذي اشترك مع بولس في مكاتبة الكورنثيين ، ومتياّ الذي انتُخب خلفاَ ليهوذا. وربما كان منهم أيضاً كليوبا، أحد تلميذي عمواس . . . ولا بدّ أنهم أصابوا نجاحاً في رسالتهم بدليل أنهم عادوا فرحين - على ما جاء في انجيل لوقا- وهم يقولون : " إن الشياطين أنفسها تخضع لنا ! " ؛ فأجابهم يسوع ، ليغضّ من خيلائهم : " لا تفرحوا بأن الأرواح تخضع ، لكم ، بل افرحوا بأن أسماءكم مكتوبة في السماوات " (لوقا 1. : 17 - 2.)

. لقدكانت إذن هذه الفترة " اليهودية "، مرحلة تقدّ م جديد من مراحل بذر العالم ببذار الكلمة الإلهية، وبناءكنيسة المستقبل

مضامين الوحي في اليهودية

. ولكن هل كانت مرحلةً جديدة في ميدان التعليم والتعريف بفكرة المسيح ؟ نعم ولا . فإنه ليس من جدل في أننا كلّما دنونا من خاتمة حياته الأرضية، تبينّ لنا، بصورة أوضح ، أنه آخذ في الإفصاح من فحوى رسالته والكشف عن مؤديات سرّه ، وإعداد أتباعه لاكتناه ذاك السرّ يومُ يختم عليه بخاتم التضحية . وأما جوهر تعليمه فما تطوّر ، وما تبدّلت عناصره . ولقد لاحظنا، من قبل ، أن فكرة المسيح – بعكس ما تجري عليه فكرة سائر الناس – لم تخضع، لذاك التبدّ ل الاعتضائي الذي ينتج ، عند كل واحد منا، من مواصلة تفكيره ، وتجويد أساليبه ، ومن ذاك الاعتمال الذي يلتزم به كل إنسان يعنى بمقتضيات النشاط الذهني . فلقد ظهرت فكرة المسيح كاملة التكوين ، منذ مستهلّ الرسالة العلنية، ولبثت كتلة متماسكة بوسعنا أن نتبينّ عناصرها الرائعة في " خطبة الجبل "، أو في كلام المسيح عن " خبز الحياة "

. فالمضامين التعليمية الكبرى التي انطوت عليها فكرة المسيح قد لبثت هي هي في الحقبة اليهودية وفي مرحلة الرسالة في الجليل . فهي ما انفكت تستضيء بفكرة المحبة، بدليل ما جهر به المسيح ، في مثل " السامريّ الصالح "، من درس خالد. فهو يدعو مستمعيه إلى التبصّر في صنيع ذاك العابر الشفوق ، ويلجئهم إلى التساؤل : " لو كنت في وضع ذاك الجريح فممّن أودّ أن تأثي نصرتي ، وإلى من أتوجّه بشكري ؟ " . ولسوف يفقهون ، من ثم ، من هو – في نظركل واحد منا- ذاك " القريب "، الذي نستنجد به والذي علينا أيضا أن ننجده

. ولكن المحبة والتوضع خدنان . وذاك هو الدرس الذي قذف به أولئك الذين ادّعوا على المرأة الزانية . وكيف نستطيع أن نقسو على الآخرين ، عندما نسبر أغوار الهوان الذيَ نعيش فيه ، ونستعرض الأسباب الوجيهة التي تقضي علينا بالعقاب . فمعرفة ما نحن عليه من ضعف ، والتنكّـب عن الصور الزائفة التي نخدع الناس بها، ربما كان ذلك هو أرسخ المبادئ الخلقية . فالمسيح ما انفك يأخذ على الفريسيين رئاءهم : أولثك الفريسيين " المزيفّين " – كما كان يقول الشعب – " الذين يوهمون الناس أنهم صدّيقون .. . ولكن الرفيع عند الناس ، رجس عند الله " (لوقا 16 : 15 ) . ألا تبصّروا في ذاك الفرّيسيّ الذي انتصب في الهيكل ، وراح يصلي في نفسه هكذا : " اللهم إني أشكر لك أني لست كسائر الناس الخطئة الظلمة الفاسقين ، ولا مثل هذا العشّار، الذي لمحته في إحدى زوايا الهيكل . فإني أصوم مرتبن في الأسبوع ، وأؤدي العشر عن جميع ما أقتني .. . "؛ ما أشد افتخاره بحسن سلوكه ، بل بالتزيدّ على الشريعة ؟ وكانت تفرض الصوم يوماً واحداَ في السنة، والعشر على المحصولات الزراعية فقط ! " وأمّا العشار، فأقام بعيداً، ولم يجرؤ أن يرفع ناظريه إلى السماء، بل كان يقرع صدره قائلاً : " اللهم ! اغفر لي أنا الخاطئ! ". . . أنيس العشّار أقرب من الفرّيسي إلى قلب الله ؟ أجل ! " لأن كل من يرفع نفسه يوضع ، ومن وضع نفسه يرفع ! ". (لوقا 18 : 9-14 )

. لا بدّ إذن من التخلي عن الذات بالتواضع ، وبذل النفس للآخرين بالمحبة . وإنما هناك - إلى جانب التواضع والمحبة- ثالثة الأثاقي الني يرتكز عليها التعليم الإنجيلي : ألا وهي التجرد عن حطام الدنيا . كان المسيح قد قال في " خطبة الجبل " : " لا يستطيع أحد أن يعبد ربـيّن ! الله والمال " . وهو يعود إلى هذا التعليم ، في اليهودية، مراراً . ففي توجيهاته إلى الاثنين والسبعين ، يوعز إليهم بالتجرد التام ؛ ويعلـق بقول رهيب ، -. بمحضر تلاميذه - على حادثة ذاك الشاب الغني الذي حالت ثروته الضخمة بينه وبين طريق الخلاص : " إنه أيسر على الجمل أن يدخل في ثقب الإبرة، من أن يدخل غنيّ ملكوت الله ! ". ويكرر نفس الدرس أيضاَ في بعض أمثال كانت تترك في نفوس مستمعيه آثراً عميقاً . من ذلك مثَل الغني الذي كان يلبس الأرجوان والخز ويتنعم كل يوم بأفخر الماكل ، وفي يوم الدينونة - إذ كانت هوّة الجحيم تتحفزّ لابتلاعه - رفع طرفه إلى السماء، فشاهد في أحضان إبراهيم فقيرأ كان يشاهده - وهو بعد على الأرض - مطروحأ عند بابه ، مضروباً بالقروح ، وهو لا يلتفت إليه ( لوقا 16 : 19 - 3.) . ومنها أيضاً ذاك المثل الآخر، المحفوف بالسرّ، والذي لا يزال المفسّرون يجادلون في أوجهُ تأويله الحرفي : وهو مثلُ القيّم الخائن الذي هبّ يصطنع له أصدقاء، متكرّمأ عليهم بأموال سيده ! . . . ومفادُه أنّ من واجب " ابناء النور " - أي أتباع المسيح - أن يتصدقوا بثروة الدنيا الفانية، وكنوزها " الأثيمة " في سبيل الآخرة، وخيراتها المقيُمة

فالمحبة والتواضع والتجرد، تلك هي خلاصة التعليم الإنجيلي . وفيما سوى ذلك فما على المؤمن إلاّ الاعتصام بحبل الله . وكما كان المسيح قد استشهد، في الجليل ، بالطيور والأزهار ، نسمعه ، في اليهودية، يضمن لأتباعه عناية الله بهم : " أليس خمسة عصافر تبُاع بفلسين ؟ ومع هذا فلا ينسى واحد منها أمام الله ! فلا تخافوا، فأنتم أفضل من عصافيركثيرة (لوقا 12 : 6-7).

فلا يسوغ القـول إذن بأن التعليم الذي أذاعه المسيح في الجليل ، قد خضع ، في اليهودية، لسنُةّ التطوّر أو النشوء أو التحوّل خصوصاً . وكل ما هنالك أن المسيح قد ألجئ أحيانأ، إلى الإفصاح عن فكرته ، وتطبيق مبادئه على بعض الأحوال المعينّة . وقد اتفق له ذلك ، مثلاً ، يوم استوضحه الفريسيوّن رأيه في قضية الزواج والطلاق : " هل يحلّ للرجل أن يسُرّح امرأته لكل علّة ؟ " . لقد جهلوا، ولا شك ، أن المسيح ، كان قد تسلّف الجواب على معضلتهم ، في " خطبة الجبل " ! . . . أمّا نص الشريعة الموسويةّ، فقد جاء فيه : " إذا اتخذ رجل امرأة وصار لها بعلاً ، ثم لم تحظَ عنده ، لعيب أنكره عليها، فليكتب لها كتاب طلاق ، ويدفعه إلى يدها، ويصرفها من بيته " (تثنية 24 : 1 ) . فالمرأة المصروفة على هذا النحو كان لها – مبدثياً- حق التزوج ثانية . ولكنها، في معظم الأحوال ، كانت ترجع إلى بيت أهلها . بيد ان المذاهب الربينيةّ كانت على خلاف عظيم في شان الدواعي القاضية بالطلاق . . فالمتشدّ دون – وعلى رأسهم رابي شمعي – كانوا يطالبون بأسباب خطيرة جداً، وفي مقدمتها الخيانة الزوجية . وأما المتساهلون –وعليهم رابي هليّل – فكانوا يرخّصون للزوج في أن يقَدُْر بنفسه خطورة تلك الأسباب . وكانوا يحسبون من دواعى الطلاق الكافية أن تبرز المرأة بلا حجاب ، أو أن يخرج في وجهها ثؤُْتُل ، (وإن بغير شعر)، أو أن تشيط بسببها القدر أو يـنطب المرقُ ! . . . وذهب رابي عقيبة، في عهد لاحق ، إلى أن الشريعة ترخص لزوج في صرف امرأته كل مرة يجد أنها لم تعد تروقه اْو أنه عثر على أصلح منها ! ففي عهد المسيح لم يكد يكون في مِلةّ إسرائيل من يحرّم الطلاق إلا الأسينييـن . (وكانوا هم أنفسم ينصرفون عن الزواج ) . وقد جاء قي أحد نصوصهم : لا يزني كل من يتزوّج امرأتين كلتاهما في قيد الحياة ؛ " ذكراَ وأنثى كوّنهما " : ذاك هو مبدأ الخلق !

. جاؤوا إذن يستدرجون يسوع إلى أن يتخذ موقفاً من ذاك الجدال القائم ، وأن يضع نفسه ، من ثمّ ، في تناقض إماّ مع الشريعة، وإما مع التقاليد المرعية . ولم يتهرّب يسوع من الجواب ، بل انتهزها فرصة مواتية للتوسع في تعليمه حول قضية خطيرة .فأجاب ، في سمو رائع ، أن القضية ليست بقضية تشريعية محضة : فالله الذي أبدع الرجل والمرأة، إنما أرادهما جسداً واحداً:َ " فما جمعه الله ، فلا يفرّقه إنسان ! " . قالوا : " وماذا عن الوصيةّ الموسوية؟" ؛ فأجابهم : " إنه لقساوة قلوبكم أذن لكم موسى أن تطلقوا نساءكم ". فلا بدّ إذن أن يرتقي الدين الجديد بشريعة الزواج، كما ارتقى بقانون " العين بالعين والسن والسن " . " فمن صرف امرأته ، وتزوجّ أخرى فقد زنى " . وإذ أفضى إليه الثلاميذ، على حدة، بأن هذا القرار يبدو لهم على جانب فريد من الوعورة، أجابهم : " إن من الناس من يصونون أنفسهم من أجل ملـكوت السمـاوات . فمن استطاع أن يفهم فليفهم " (متى 19 : 3-12 ؛ مرقس 1. : 2-12 ؛ لوقا 16 : 18). . . وحسبنا أن نعيد تلاوة تلك الآية من " موعظة الجبل "، حيث صرح المسيح " أن نظرة واحدة يشتهي بها الإنسان إمرأة غيره ، يصبح بها زانياَ "، حتى نتحقق أنه إنما أرجع معضلة العلاقات الجنسية إلى صعيدها الحقيقي : صعيد الطهارة القلبية (متى5: 27-28) (1)

. ليس إذن في تعاليم الحقبة " اليهودية "، قضية إلاّ ونجد لها معالم في مؤدّيات الحقبة السابقة . ومع ذلك فإن الإحساس الذي نوجسه ، عند مطالعة النصوص التي يروي فيها لوقا ويوحنا أحداث هذه الفترة، هو غير الإحساس الذي تبعثه الفصول السابقة . ولعلّ ذلك ممّا يمتّ ، بوجه مبهم ، إلى ذلك المناخ العام ، وتلك النية المقدّرة في جميع أحدأث هذه الفترة . فنحن نشعر أنها قد حُمّت ساعة القدر، وأنها أخذت تشتد، في السرّ، وطأة الترقب ، فى انتظار خاتمة باتت تتأهب في كل لحظة . فالمسيح الذي كان قد اعتصم ، حتى ذاك ، بشيًء من التحفظ في إعلان سرّه الأعظم ، مفضياً به جزئياً أمام نخبة من أتباعه ، نراه ، في الحقبة اليهودية، يسُقِـطُ الستُرُ الواحد تلو الاخر، ويُـعدّ المؤمنين لرؤية الأضواء الأخيرة

. كان المسيح قد صرّح بهوّيته أمام الجماهير التي التفت من حوله ، في غضون عيد المظالّ . ولقد ساء - ولا ريب - ذلك في عيون بعض المستمعين ! " ألعلّه المسيح ، هذا الناصريّ ابن النجّار ؟ ! . . . "؛ فأجابهم ، بذاك التهكم الناعم الذي كان يعتمده مراراً : " أجل، أنتم تعرفونني ، وتعلمون من أين أنا . مع أن الذي أرسلني لا تعرفونه أنتم ، أما أنا فأعرفه ، لأني من لدنه ، وهو الذي أرسلني " ( يوحنا 8 : 28 - 29 ) . فبدا لهم ذاك الجواب لوناً من التجديف . . . بعد فترة، قال لهم أيضأ : " أنا نور العالم ! من تبعني فلا يمشي في الظلام ، بل يكون له نور الحياة " (يوحنا 8 : 12 )

. ولم يكن معنى هذه العبارة ليخفى على أحد. " فالنور " هو من التعابير التي كان يرمز بها الكتاب إلى المسيح . فقد جاء في أشعيا ! " قومي اسثنيري ، يا أورشليم ، فإن نورك قد وافى، ومجد الرب قد أشرق عليك " (أشعيا 6. : 1 ). وكان ذاك الملهم العظيم قد أورد، بصورة أجلى، كلام اللّه إلى عبده : " إني قد جعلتك نوراً للأمم " (أشعيا 49 : 6) . وقد استعاد سمعان الشيخ نفس العبارة، في لحظة من مثل ذاك الإلهام النبوي ، يوم حمل الطفل بين نراعيه

. وسوف ينتهز المسيح مناسبات كثيرة، فيما بعد، للكشف عن هويته . فعندما رجع الاثنان والسبعون ، وقد أخذتهم النشوة بما أكرمهم به المعلّم من قدرة مذهلة، " تهلل يسوع في الروح القدس " ؛ - الروح القدس ! وكأن الأقانيم الئلاثة قد اشتركت في ذاك الوحي ! – وقال : " لقد دفع إليّ كل شئ ! فليس أحد يعلمَ من الابن إلاّ الآب ، ولا من الآب إلاّ الابن ، ومن يريد الابن أن يكشف له ذلك " (لوقا 1. : 21-22). تصريح خطير، أساسي ! ولا بدع فهو يعَزل عن معرفة الله المباشرة كل الكائنات المخلوقة، ويعلن بين يسوع والله وحدة تامّة في الجوهر، وتبادلَ معرفة لا يشاركهما ، فيها أحد. فالمسيح ، بهذه العبارات الوجيزة، لم يسقط الحجب فقط عن واقع ماسويته ، بل عن سرّ لاهوته أيضاً

! كان المسيح قد أبى، في الجليل ، أن يصنع للشعب آية اشترطوها عليه ، ولم يكن لهم فيها من عائدة سوى إرضاء الفضول . (مرقس 8 : 11- 13 ؛ متى 16 : 1 – 4) . وأما في اليهودية فقد راح يجهر في الناس أن الآية الراهنة إنما هي ذاته ، ووجوده في الأزض ؛ وأنّ هي إلا لاحقة من لواحق ذاك الحدث المذهل السامي ، وهو أن الله قد أوفد ابنه إلى الأرض مسيحاً وفادياً . ومن ثمّ فلا بدّ لهذا الجيل الذي أُكرم برؤية ابن الله عائشاً، فيما بينهم ، عيشة الناس ، من أن يخضع في يوم الدين ، لقضاء خاصّ . كيف لا، وقد تنكّـر لآية المسيح . . . وإذا به يسثعيد، ههنا، صورة كان قد عرضها على أهل الجليل : فكما خرج يونان من جوف الحوت ، بعد ثلاثة أيام ، لا بدّ للمسيح أيضاً أن يفلت يوماً من قبضة وحش اخر، ومن ابتلاغ آخر (لوقأ 11 : 29-31 ؛ متى 12 : 38-42) . ولكنّ هذه الاية أيضا سوف يتنكـرّ لما أهل هذا الجيـل

. إننا نلمس في يسوع – طوال مقامه في اليهودية- شبه لجاجة قدسيةّ . فذاك اليقين بأنه مخلص العالم ، إلامَ تمادي الناس في إبائه ؟ وشعلة الحب التي رفع في العللم سراجها، أما آن لها أن تضطرم ؟ . . " لقد جثت لألقي على الأرض ناراً، وكم أودّ لو تكون قد اضطرمت ! " ( لوقا 12 : 49 ) . وقد جاء في حديث مأثور : " من كان في قربي فهو في قرب النار، ومن نأى عني فقد نأي عن الملكوت ". ويجب ألا يغيب عن ذهننا أن تلك التصريحات ، وتلك النداءات الممعنة في الإلحاح ، كان يسوع يطلقها وسط أمة شانئة في سوادها، تترصد كل كلمة من كلماته ، فتستغلها في سبيل سعايات رًهيبة . وليس من مشهد - قبل أن تحلّ الكارثة الأخيرة- أشدّ وقعأ في النفس ، من ذاك الذي نرى فيه المسيح ، في عيد التطهير، يجابه خصومه ، ويدافع ، معآ، عن جوهر تعليمه ؛ وذلك برباطة جأش وإقدامٍ يدعوان كلاهما إلى العجب . وقد ثار ثائر الشعب ، والتمس حجارة ليرجم ذاك الذي ادّعى الألوهية . فقال لهم : " أو ليس مكتوباً في ناموسكم : " أنا قلت إنكم الهة ؟ " . أجل ، إن كل إنسان يحمل ، في ذاته ، صورة العلي ، على حدّ ما يمكن أن يؤُخذ من المزمور 81، بل حتى من الفصول الأولى من سفر التكوين ( 1 : 26 ) . ولكن هل كان قصد المسيح أن ينوّه فقط بما يتفرّد به الإنسان ، دون مخلوقات الأرض ، من شرف منُيف ؟ كلا ! بل توخى أبعد من ذلك . فإن كان الناموس يدعوكم آلهة، فذاك " الذي قدّسه الآب ، وأرسله إلى العالم "، لا يجدّف إذا قال عن نفسه إنه ابن الله .. . ولكنّ يسوع ، بذلك ، قذف . القلق والحيرة في نفوس مستمعيه ، وزعزع تصلبّهم ! . . كلاّ ! ليس هو بذاك المسيح الذي يتوهمون : ويجب ألاّ يحسبه هؤلاء المتهوّسون واحدأ من المشاغبين السياسيين ! . . . أجل ، إنه يدري أن الموت يترقبه . وإنما لا بدّ أن يكون لتضحيته معناها الصميم وأن يشهد بها للحقيقة السماوية . ومن ثمّ فقد راح يوالي التصريح بأن الاب فيه وأنه هو في الآب . وأنه ابن الله ! " إن كنتم لا تريدون أن تصدقوني فصدقوا هذه الأعمال " (يوحنا 1. : 31-38) . ولكن ألم يكن قد جاهر بذلك من قبل ؟ . . . بيد أنّ من الناس من لهم آذان لكي لا يسمعوا، وعيون لكي لا يبصروا! . .

. فالذي تجلىّ إذن من تصرّفات المسيح ، وازداد وضوحاً مع توالي الأيام ، إنما هو - مع تلك الرغبة المضطرمة في فداء العالم - وقوفه المحزون على تصلب الناس ! . . ومذ ذاك أخذ يضغط على تلك الأمّة، ويتّضح يوماً بعد يوم ، وعيدٌ بما يجرّه مثلُ ذاك العناد من عقاب وقضاء هاثل . ونرى ذلك الانذار، في الانجيل ، يتكرّرفصلاْ بعد فصل . حذار! . . سوف يرجع السيدّ بعد رحلة طويلة ! .. " فطوبى لأولئك العبيد الذين ، إذا ما وافى سيدهم ، وجدهم ساهرين ! " (لوقا 12 : 37) . " كونوا مستعدّين لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ابن البشر " (لوقا 12 : 4.) . ألا تنبهّوا ! واعرفوا علامات الأزمنة ! إنكم تتأوّلون وجوه الأرض والسماء، وتتنبأون بالصحو والمطر، استناداً إلى ألوان الشفق ، واتجاه الرياح ، أفما وعَيتْم أنّ ما أنتم فيه أخطرُ بكثير من تقلّبات المطر والصحو؟! .. " هذا الزمان كيف لا تفهمونه ؟ " (لوقا 12 : 56) . لقد حان لكم أن تلتمسوا رضى الربّ كما يسعى الغريم إلى استرضاء خصمه ، قبل أن يتنافذ وإياه إلى القاضي (لوقا 12 : 57 - 59 ) . لقد بلغـكم نبأ أولئك الجليلين الذين مزج بيلاطس دماءهم بدم ذبائحهم ؛ وخبر أولئك الذين سقط عليهم البرج بقرب سلوام وقتلهم ؛ أفتظنون أنكم أقلّ إثماً من الذين نكبوا بمثل ذلك ؟ ( لوقا 13 : 1 - 5 ) . ها قد مضى على التينه ثلاث سنوات ولم تعط أكلها . فقد آن الأوان لأن تجتثّ من أصلها ! (لوقا 13 : 6-9)

. ولكن هل حصر المسيح كلامه في أهل زمانه ؟ إن التصلب أبداً يعمل في قلوب البشر . وما من إنسان إلاّ ويحمل في ذاته إنذاراَ بالقضاء الذي لا بدّ يومأ أن يفضع أخطاءه ، ويبتّ ، آخر الأمر، في مصيره الأبدي . " إن ملكـوت الله فيما بينكم ! "… لا! لن ينال اليهود ما حلموا به من أمجاد ترابية (لوقا 17 : 2.- 21 ) ؛ بيد أن كل إنسان يعرف يقينا، هل استقرًّ الملكوت في قرارة قلبه ، وهل حلّ سلام الله في داخله . ولسوف يأتي يوم لن يكون فيه ابن البشر ذاك الوديع الحليم الذي جعل من محبته الواسعة نداءً للعالم إلى الحب . ففي يوم الدين سوف يقوم سلطان الرعب الداهم . ولن يكون فيه للناس ملاذ بالفرار، لأن مضارب سيف الله سوف تهوي عليهم بلا تمييز. . . (لوقا 17: 22-37؛ متى 24 : 24- 27 ؛ 37- 41) . وقد عاد يسوع مرة أخرى- في غضون الأسبوع الأول - وبأسلوب أشدّ مهابة، إلى الإنباء بملكه الأخير ، ورجعته المجيدة من السماء، على مناكب السحاب ، وإحلال العقاب بالمنافقين . . . وهكذا انكشف ذاك السرّ الأخير ، فبدأت تلوح من خلال ملامح " الراعي الصالح " ، تلك الصورة الرهيبة التي رسمها ميكال آنج ، على جدار السكستين : صورة " ابن البشر "، في يوم الدين

أبانا الذي في السماوات …

كان يسوع يصليّ يوماً ؛ في أحد المواضع . فلمّا فرغ ، من تلاميذه : " يا ربّ علمنا أن نصليّ . . . ".قال له واحد

. لو ألجئنا يوماَ أن . لا نحفظ من الانجيل سوى صفحة واحدة، أفلا يكون مطلع الفصل الحادي عشر من إنجيل لوقا هو تلك الصفحة التي يجب أن نحرص عليها أ . . . فإلى ذاك السؤال الذي ربما بدا على جانب من السذاجة، أجاب يسوع ، فكان جوابه كلمات انطلقت من ذات شفتيه ، فجاءت خلاصة من جوهر تعليمه ، وصلاةً هي أروع وأكمل مأ تلفظت به شفاه بشر : الصلاة الربانيّة ، الصلاة، التي نرفعها كل يومً في الليترجية ، صلاة أفراحنا وأحزاننا

. أمن الممكن أن يكون يسوع قد أغفل ، حتى تلك اللحظة، أن يعلّم الناسَ الصلاة ؛ لعمري ، إنّ في سؤال ذاك التلميذ، - بعد جميع توجيهات المسيح وأوامره ومشوراته – ما يدعو إلى الاستغراب . أفلعلّ السائل كان تلميذاً بسيطاً وأحد حديثي العهد في جماعة المؤمنين ؟ أم لعلّ الطلب جاء تعبيراً عن رغبة شائعة في اقتناء نصّ معيـنّ ، يسْتنِد إليه - في توجيه أشواقهم الروحية- كثيرٌ من الذين يرتبكون في إطلاق العنان لنجواهم القلبية ؟ . . أماّ نصّ الصلاة الربانيةّ، فنجده مرتين في الانجيل . فالبشير متى قد أثبته في تضاعيف "خطبة الجبل " (متى 6 : 9-13)، بينما أدرجه البشير لوقا قي أحداث الحقبة اليهودية، وفي أعقاب زيارة المسيح لمريم ومرثا (لوقا 11 : 2-4) ؛ ومن المتعذّر أن نتحقق هل دوّن الإنجيليان نفس الكلمات في قرائن مختلفة، أم هل كرّر المسيح – وهذا أيضا محتمل – نفسَ الصلاة مرّتين . . . فالبشير متىّ قد حشد – على ما يبدو- في " خطبة الجبل "، تعاليم لم يلقها المسيح كلهّا في نفس القرائن . ونلاحظ ، من جهة أخرى، أن البشير لوقا كان من شدة العناية بلفت النظر إلى صلوات المسيح ، (3 : 21 ؛ 5 :16 ؛ 6 : 12 ؛ 9 : 18 ؛ 9 : 29 ؛ 11: 1؛ 22 : 32 ؛ 22: 41 ؛ 23 : 34 - 36)، بحيث يمكن الركون إلى مؤدياّته التوقيتية بثقة أكثر

. وعلى كلٍ ، فإن بين النصّين بعض الفوارق في المبنى . وقد تبنّت الكنيسة رواية متى في اعتماد النصّ الرسمي ، لأن إنجيل لوقا، في روايته ، قد أغفل الطلبة الثالثة : " لتكن مشيئتك ، كما في السماء كذلك على الأرض "، والشطر الثاثي من الطلبة السادسة : " بل نجّنا من الشرير " . ويرى الإخصائيون في اللغات الساميةّ أن نص الانجيل الثالث ( لوقا ) هو أقل قرباً إلى الأصل ، من نصّ الانجيل الأول . هذا، وإن تكوين الصلاة من دعاء افتتاحي ، وثلاث طلبات مزدوجة، يفضي إلى الرقم السباعي ، وفي ذلكً ما ينسجم وقواعد العروض عند الساميين

. " أبانا الذي في السماوات . ليتقدّس اسمك ، ليأت ملكوتك ؛ لتكن مشيثتك ، كما في السماء كذلك على الأرض . خبزنا كفافنا أعطنا اليوم ؛ واثرك لنا ما علينا ، كما نترك نحنُ أيضاً لمن لنا عليه ؛ ولا تدخلنا في تجربة ؛ بل نجّنا من الشرّير "

. نود لو نهتدي إلى الموضع الذي صـعدت فيه إلى الله ، لأوّل مرة، تلك الصلاة الرائعة . هناك تقليد قديم ، من الجيل الرابع ، قد بعث على تشييد كنيسة " الإليونا " ، عند منحدر جبل الزيتون ، تنهيداً لذكرى " الصلاة الربانّيةّ " و" حديث المنتهى " الذي ألقاه يسوع في الأسبوع الأخير من حياته الأرضية . وقد جدد الصليبيوّن بناءها . وهي اليـوم – بعد أن هدمت ثانية – لا تزال قيد التصميم . وقد أورد السائح الإيطالي نيقولو دابوُد ْجيبونسي ، سنة1345 ، أنه شاهد أيضاً في جبل الزيتون ، لوحة نقشت فيها الصلاة الربانية ، تذكاراً للموضع الذي قيلت فيه . وإنما هناك منَْ تسًاءل : ألا يجب البحث عن ذاك الموضع، في قرية أفرائيم ، حيث قضى المسيح ؛ الشهر الأخير منِ حياته ؟ ( يوحنا 11 : 54 ) . فإذا صح ذالك ، اكتسبت الصلاة الربانية .معنى فريداً، وأصبحت شبه ميـثاق روحي ، ووصاة أخيرة ! . . . إفراثيم -وتدعى " الطيبة " في أيامنا - قرية مستحبّة قائمة فوق مشرف شرقي من أعلى مشارف اليهودية، بين الكروم وحدائق المشمس . ويقع النظر منها على مشهد رائع من هـضاب عارية قد فلحتها الأخاديد والفجاج ، وفـجوة وادي الأردن ، والبحر الميت عند أقدام الجبال الموآبية . فإذا كان من شأن الافاق الفسيحة ، والشعور الحسي بالأغوار، أن تبعث في الروح لا أدري أي شبة باللانهاية الإلهية، فأي محيط أحق من هذا المحيط بتلك العبارات البسيطةً التي يتصل فيها الإنسان بخالقه ؟ .

" أبانا الذي في السماوات " : أنت ، يا من ليس فقط سيدأً، ولا ملكاً ولا " يهوى " ، ذاك الإله المرعب المقتس، ولا" إلوهيم ، رب الجنود " ؛ أنت ، يا من نجرؤ على تسميته باسم ألحنان والثقة، مهما نأى سرّ مجده وتعالى ؛

. أنصت ، أوّلا، إلى هذه الأمانيّ الثلاث التي نوجهها إليك : فإننا نعالم يقيناً أن كل عبادة هي لك ، وأن ألإقرار بضعفنا لا بدّ أن يمهد السبيل لسؤلنا . فنحن نوجه إليك الثناء قبل كل كلام

. " ليأت ملكـوتك ! " لأنه عادل ، ولأنه ملك الأب ، ولأنه ، من ثم ، أرحم مـن مَلك الناس ؛ أو - بعبارة أخرى ، كان يؤثرها القديس غوريغوريس النيصي ، لأنها تعرب عن جوهر الكون إذا خـضع لله - " ليحلّ الروح القدس علينا، فنعيش أنقياء ! "

. " لتكـن مشيئتك" لكي نكتشف في السرّاء والضرّاء ، وفي جميع صروف الحياة، مقاصدك الخفية ونرضى ؛ بقلب مغتبط ، بما تجود به يداك ، وعرف أن في نتذوّق حبّك ، حتى وإن كان لا بدّ أن نرشفه، -كالمسيح في بستان الزيتون من شفاه الكؤوس المرّة

. " كما في السماء، كذلك على الأرض " - قد قرّر المجمع الريدانتيني ، في كتاب " التعليم المسيحي "، أن تسُند هذه الكلمات إلى الطلبتين السابقتين ، فتعُرب عن رغبتنا في أن يستقر ملك الله . وتتم مشئته ، ليس فقط في الدهر المستقبل وفي عالم ما فوق الطبيعة، بل في الزمان الحاضر أيضاً، وفي الواقع الأرضي ، فيتحقق مجد الله ، منذ اليوم

ثم إليك ، من بعد ذلك ، هذه الطلبات الثلاث التي تعنينا ، نحن البشر أبناءك ؛ فلقد كوّنتنا من جسدٍ وروح خالدة، وكلاهما بحاجة إليك .

. " خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم " ، ذاك الخبز الذي يأتينا من القمحة النابتة، ثم ذاك الذي قيل عنه " إنه خبز الحياة "، لأن الذين يقتاتون به لن يجوعوا أبدا

. " واغفر لنا خطايانا "، أو " واترك لنا ما علينا " . (ولكلا العبارتين نفس الهدف ) . وإذا اتفق لنا أن نؤثر العبارة الثانية الواردة في انجيل متى ، فلأنها تذكرنا بأن المال إنما هو أنكى ما يشدنا إلى الأرض ، ويتصلّب به القلب . بيد أننا نعلم يقيناً أنك لن تصفح إلاّ بمقدار ما نصفح عن الآخرين ، وبمقدار ما نترُك للاخرين سوف تترْك لنا في يوم الدين

. " لا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشر "، أو - كما ألمع إليه الآباءُ القديسون : " لا تسمح أن نواجه تجربة تفوق قوانا " . وقد أشار بولس إلى ذلك ، باسمك اللهمّ : " إنه بوسع كل إنسان أن يقاوم الشرّ المحدق بنا، ويجالد " الشرّير" الذي يتربصّ بنا . . . وإنما في هذا الصراع الذي عليه تتوقّف المصائر، أنجد ، أيها الآب ، ضعفنا، وارحمنا "

. تلك هي الصلاة التي بات يردّدها الملايين من المسيحيين ، منذ حوالي ألفي سنة . وهي على جانب رائع من البساطة، وعلى تباين كبير والصلوات الطويلة المعقدّة التي ألِف الفريسيوّن تردادها . وهي - على اقتضابها - تتوجّه توّا إلى الجوهر، وتضمّ ، في طلباتها الست ، منهاجاً روحياً يصادف فيه الإنسان كل حاجته . ولا بدع ، فهي حافلة بالمعاني ، وجميع ألفاظها سديدة، وصياغتها مكتنزة لا يمكن تبديل أي عنصر من عناصرها إلا وتتشوّه معنىً وإيقاعاً. وهي إنسانية لأن الإنسان يكتشف فيها ذاته كاملة : وليس فقط الروح التي تفرغ إلى الله بالثناء والتعظيم ، بل أيضاً ذاك الجسد الفاني الذي يحيا ويجوع . وهي أخوية ، لأنها صلاة الشركة والتضامن ، يستطيع كل فرد أن يستوعب معانيها، وكل جماعة أن تتحد في تلاوتها ؛ فهي صلاة الوحدة المسيحية، التي نفَت " الأنا "، واستأثرت بالـ " نحن " !. . وقد جاء في كتاب " الديداكي " ، أي كتاب " تعليم الرسل " – وهو سفْر قديم جداً يرقى إلى حوالى سنة 15. – أن المسيحين الأوّلين كانوا يتلونها ثلاث مرّات كل يوم . وأمّا اليوم فالكنيسة تعمد إلى تلاوتها ، سرّاً أو جهراً، في جميع صلواتها الليترجـية . فإذا انضمت إليها تلك الصلاة الأخرى، التي استوحتها القرون الوسطى من تحية جبرائيل للعنراء، باتت أجمل وأبسط وأكمل ما يستطيع المسيحيّ أن يعرب به عن إيمانه . " ولن يستطيع إنسان - على حدّ قول بيغي - أن يمحو من شفاهنا الكليلة آثار " أبانا " أو " السلام "

ولقد وعد المسيح أصفياءه ، يوما، عند شاطىء بحر الجليل ، ومرّة أخرى، في اليهودية، أنّ كل صلاة تستجاب ، إذا صدرت عن قلب صادق وإيمان ثابت . " إسألوا فتعطوا ؛ أطلبوا فتجدوا، إقرعوا فيفتح لكم ." (متى 7 : 7) . فهل تستطيع الصلاة – إذا أردناها فعّالة لا تنبو عن الهدف – أن تلجأ إلى عبارة أروع من هذه الطلبات السبع التي يتجلىّ، من خلال بساطتها القانعة، أجمل ما ينطوي عليه قلب الإنسان ؟

"… لعازر ؛ هلم خارجاً " ( يوحنا 11 : 43 )

. !نقضت الحقبة اليهودية، وبانقضائها أشرفت حياة يسوع على النهاية . وكان قد ذهب إلى " بيرية " –لا شك ، في مطلع كانون الثاني سنة 3.- تلك البقعة التي انطلق فيها صوت المعمدان ، من قبل سنتين ، مؤذناً بالبشرى . ونستطيع أن نستخلص من مؤدّيات الأناجيل الأربعة (يوحنا 1. : 4. – 42 ؛ مرقس 1. : 1 ؛ متى 19 : 1-2 ؛ لوقا 13 : 31-33)، ان المسيح بعد ان أقام في بيت عنيا ، أو في ضواحي العاصمة ، يمم شطر البقاع المنخفضة، وربمّا توجّه أيضاً إلى نجاد شرقيّ الأردن ، وطوّف في أنحائها زهاء اثني عشر شهراً، ثم ارتدّ إلى أور!شليم عن طريق أريحا . ولم تكن تلك التنقّلات - هنا كما فيَ الجليل - لتقطع عليه نشاطه. ومن المحتمل أن يكون المسيح قد أعلن في " بيرية " وصيته الشهيرة : " أدخلوا من الباب الضيق ! "، وضرب للناس مثل " المدعوين " الذين تخلّفوا عن العشاء، فلبثوا في الظلمة الخارجيةّ " حيث البكاء وصريف الأسنان ! " . . لقد كان عائداَ إذن إلى أورشليم ، يدعوه - ولا شك - داعي الفصح ، وإنما يحفزه أيضاً واجب أخفى وألزم ، إذ " لا يليق أن يهلك نبيّ خارج أورشليم " ( لوقا 13 : 33 )

. وكان في بيت عنيا - قرية مريم ومرثا- مريض اسمه لعازر ، وهو أخوهما . فأوفدت الأختان إلَى يسوع ، تقولان : " يا رب ، إن الذي تحبه مريض ! ": نداء رقيق ، واستنجاد موُرّى ! لقد كانتا تعرفان يسوع حق المعرفة، وتعلمان أن كلمة واحدة رصينة أوقع في قلبه من جميع التوسلات البكّـاءة . . . فهل كان المسيح قد توغّل في وادي الأردن ، أو في منطقة النجاد الشرقية ؟. . أم هل أخطر المريض فجأة من بعد أن قفل الرسول ؟ . . الواقع أن المسيح لبث أيضاً يومين قبل أن يجمـع على المسير، فمات لعازر في أثنائهما . ولكن يسوع كان واثقاً مـن قدرَته ، وكان له في موت صديقه شأن : " هذا المرض ليس للموت ، بل لمجد الله ! "

. فلمّا وقف التلاميذ على قرار معلمهم بالرجوع إلى اليهودية، بل بالشخوص إلى بيت عنيا ، في ضواحي أورشليم ، استغربوا قائلين : " رابي ! منذ حين كان اليهود يطلبون رجمك ، وتعود إلى هناك ؟ " ( لقد كانت إذن من مستلزمات الفطنة تلك الرحلة إلى " بيرية "). فهدّأ المسيح من رُوعِهم : لَمْ توُلّ بعد ساعات النهار، والليل لم يدهم الأرض . فما بالهم خائفين وهم سائرون بعد في وضَح النور ؟ ولكنّ ذلك لم يكن ليبدّد تماماً مخاوف أولئك الضعفاء. وواصل يسوع كلامه : " إنّ لعازر صديقنا قد رقد، إلاّ أثي أنطلق لأوقظه ! " . ففكـرّ التلاميذ قائلين : " ليس من بأس على المريض على المريض أن ينام " ، ومعنى كلامهم أن ليس من حاجة إلى أن تزعج نفسك بالذهاب إليه . وقد جاء في بعض الأقوال المأثورة في فلسطين : " من نام فقد تعافى ! " . فكان لا بدّ إذن من مصارحتهم بالنبأ : " لعازر قد مات . وأنا من أجلكم أفرح بأني لم أكن هناك ، لكي تؤمنوا بما ستعاينون " . ثم قال ، حازماً : " هلصّوا بنا إليه ! " . فلما رآه توما -الملقّب بالتوأم - مزمعاً الرحيل ، قال للتلاميذ الآخرين : " فلنمض نحن أيضاً لنموت معه ! "

... توما ! . . لله درّه ! عبارته الوجيزة الجريئة حافلة بالحـب والسخاء إن لم تكن حافلة بالإيمان . أجل ، إنه ذاك الذي سوف يطالب بلمس جراح المسيح، لكي يؤمن بقيامته . بيد أننا نُـكْـبرُ له أنه تزعّم الصحابة في ظرف لم يكن ليخلو من المحاذير . وتلك هي المرّةَ الوحيدة، نراه فيها ينتحل الزعامة . فلقد اعتاد بطرس ألاّ يترك لآخر حقّ الإدلاء بالكلام الفصل. فهل كان غائباً، يوم ذاك ؟ أم هل تخلف عن الرحلة إلى " بيرية " ؟ .. لقد افترض ذلك ، واستدل عليه بما وقع في الأناجيل المؤتلفة من إغفال حدث بمثل هذه الخطورة . فالبشير يوحنا قد تفرد بتدوينه مسهباً في الفصل الحادي عشر من إنجيله . فإذا عرفنا أن الكرازة الأولى قد استندت استناداً وثيقاً إلى ذكريات بطرس ، تبين لنا أن إغفال متى و مرقس و لوقا لتلك المعجزة ، ربما كان سببه غياب بطرس ( 2 ) ….

. لما وصل يسوع إلى بيت عنيا ، كان لعازر قد أودع القبر منذ أربعة أيام وإذا كان بيت عنيا لا تبعد عن أورشليم أكثر من خمس عشرة غلوة ، فقد أقبل كثير من اليهود على مرثا ومريم يؤدون لهما فروض التعازي . فلما سمعت مرثا بقدوم يسوع ، هبت لإستقباله ؛ وبقيت مريم جالسة في البيت . فقالت مرثا ليسوع : " يا سيدي ، لو كنت ههنا لما مات أخي . لكني أعلم أنك الآن أيضاً ، مهما سألت الله ، فالله يعطيك " . فقال لها يسوع : " سيقوم أخوك ! " ؛ فقالت له مرثا : " أنا أعلم أنه سوف يقوم وقت القيامة ، في اليوم الأخير ! " قال هلا يسوع : " أنا اليقيامة والحياة ! من آمن بي ، وإن مات ، فسيحيا . أتؤمنين بهذا ؟ " قالت : " نعم ، يا سيدي ! أنا مؤمنة أنك أنت المسيح ابن الله ، الآتي إلى العالم ! "

. قالت ، ومضت تدعو أختها، وأسرّت إليها قاثلة : " المعلّم ههنا، وهو يدعوك ! ". فلمّا سمعت نهضت مسرعة، وجاءت إليه . فلقا انتهت إلى حيث كان يسوع ، خرت على قدميه ، وقالت له : " يا سيدي ، لو كنت ههنا لما مات أخي " . فلما رآها يسوع تبكي ، ارتعش في روحه ، واضطرب ، ثم قال : " أين وضعتموه ؟ " ؛ قالوا له : " يا سيدّ، هلمّ وانظر ! ". فبكى يسوع ، فجعل اليهود يقولون : " أنظروا كم كان يحبهّ ! ". قال بعضهم : " ألم يكن في وسعه ، هو الذي فتح عيني الأعمى، أن يجعل هذا أيضا لا يموت ؟ "

. فارتعش يسوع أيضاً فُي نفسه ، وجاء القبر – وكان مغارة- وقد وضع عليه حجر. فقال يسوع : " إرفعوا الحـجر ! ". فقالت له مرتا، أخت الميت : " لقد أنتن ، يا سيدّي ، فإن له أربعة أيام ! " . قال لها يسوع : " أما قلت لك أنكِ إن امنت ، ترين مجد الله ! " . فرفعوا الحجر . فرفع يسوع عينيه إلىَ ما فوق ، وقال : " يا أبت ! أشكر لك أنك سمعت لي ! لقد كنت أنا عالماً بأنك تسمع لي على الدوام . وإنما تكلّمت هكذا، من أجل الجمع المحيط بي ، حتى يؤمنوا أنك أنت أرسلتني " . قال هذا وصرخ بصوت جهير : " لعازر، هلم خارجا! "، فخرج الميت ، ويداه ورجلاه مربوطات بلفائف ، ووجهه مغثطّىً بمنديل . فقال لهم يسوع : " حلوّه ، وأطلقوا سبيله ! " (يوحنا 11 : 17-44)

. إن وصف هذا المشهد ، في إنجيل يوحنا، له من الحقيقة والدقة والقوّة ما هو خليق بالإعجاب . وبإمكان كل روائي أن يلاحظ أن أوصاف الشقيقتين - مرتا ومريم - في إنجيل يوحنا، شديدة الشبه بالملامح النفسية التي أثبتها لهما البشير لوقا، في إنجيله . فالواحدة أجرأ في التعبير عن رأيها ؛ مؤمنة، ولا ريب ؛ ولكنها من رهط النساء القوياّت اللواتي لا يكرهن المجابهة أحياناً . وأما الأخرى فوديعة، واعية، غارقة في الثقة والخضوع .. . هذا وقد أغفل البشير لوقا أعجوبة " ألإحياء " هذه ؛ كما أغفل البشير يوحنا مقام المسيح في بيت عنيا ؛ وفي ذلك دليل واضح على صحة الشهادتين في تطابقهما، وعلى أننا بإزاء أحداث راهنة، وأشخاص حيةّ. . . وليس وصف نفسية المسيح بأقلّ دقة ؛ وقد رأيناه يـضطرب اضطراب البشر، لموت صديقه ، ويذرف الدموع ، ( وتلك هي ، إلى جانب العبرة الي انهمرت من مقلتيه ، يوم تبّأ بسوء منقلب أورشليم (لوقا 19 : 41)، الدموع الوحيدة التي يذكرها الإنجيل ) ؛ ويرتعش تلك الارتعاشة السريةّ، قبل أن يأتى بالمعجزة، وكأنّ حضور الإله فيه قد أرهب الجسد ! . . وثمة أيضاً تفاصيل واقعية أخرى لم تَخْفَ عن الإنجيلي ، من مثل الملاحظة التي أفصحت عنها مرثا، المرأة العملية : " لقد أنتن ! . . "

. وأمّا من الناجة الأثرية فليس ثمة كبير غناء . ففي قرية " العازرية "، التي تحتل اليوم موقع بيت عنيا ، وتحفظ ، ضمن اسمها بالذات ، ذكرى الأعجوبه ، يوجد قبر، يقال - على غير مستند وثيق - إنه القبر الذي خرج منه لعازر مستجيبأ لنداء المسيح . وعلى كل فمثل تلك القبور متوفّرة جداً في فلسطين . وهي بعيدة كل البعد عن تلك النواويس القديمة التي كثيراً ما عمد الرسّامون إلى إثباتها، في تصوير ذاك المشهد . فالقبور، في فلسطين ، كانت تحفَر في الصخر، غرفة صغيرة تتقدمها غالبا حجرة تمهيدية، ويغلق عليها بحجر عظيم كان يدحرج على بابها . وكانوا يودعونها الجثُث ، من غير نعش ، ملفوفة بلفائف ، ومضـمّخة بشتىّ العطور والأطياب . فنحن نتصوّر ما كانت قد أصبحت رائحة الجثة بعد أربعة أيام ! . . مشهد من أشهر المشاهد الانجيلية . ويبدو أن معجزة " الإحياء " هذه قد تركـت في المخيلّة المسيحيه وقعاً أشدّ أثرا من سائر " الإحياءات " الأخرى التي صنعها المسيح في الجليل ، وربما كان السبب ، في ذلك ، ما تميزت به رواية المعجزة، في انجيل يوحنا، من روعة فنيّة، وملاحظات ذات بال . وهذه الحادثة، في موقعها من سياق الإنجيل الرابع ، قد بات لها شأن أوّل . وليس فقط لأن وقائعها هي التي حملت اليهود –على ما جاء في الانجيل – على اتخاذ القرار الحاسم بالقضاء على يسوع (وذلك ما كان قد توقّعه توما، على ما يبدو)، - وكأنّ المسيح قد تعمدّ تحقيق تلك المعجزة، عند أبواب المدينة، وبمحضر من شهود كثيرين لكي يِقع ما كان لا بدّ واقعا ! – بل لأنّ تلك الأحداَث قد اكتسَبت أيضاً معنىَ يفوق الطبيعة . فالكلمات التي صرّح بها يسوع بقوله : " أنا القيامة والحياة ! " ، - وذلك بضعة أيام قبل الأسبوع الفاجع الذي استشهد فيه – إنما قد حفلت بأبلغ دلالاتها . فموت لعازر لم يكن سوى " عبور "، وحدث لم يقطع عليه مجرى الحياة . فالذين امنوا قد وعدوا النورَ حتى من وراء مَغَاليق الظلام . وإحياء لعازر إنما هو – في ان واحد – أبلغ دليل على ألوهية المسيح ، وإيذان بتلك المعجزة الأخرى وذاك النصر المبين الذي سوف يحرز به الغلبة على الموت

إعلانان بالآلام

. بعد قضاء تلك الفترة الوجيزة في بيت عنيا، ترك المسيح لعازر وشقيقتيه ولما أصابوه من بهجة اللقاء ، وشخص صوب الشمال ، إلى إفرايم – وهي تعرف اليوم بالطيبة – على بعد 4. كيلو متراً . وربما كان في نيته ألا يظهر في أورشليم إلا في غضون الأسبوع الفصحي . وربما شاء أيضاً أن يودع تلاميذه – في عزلة تلك المشارف الجرداء المهيبة – آخر تعاليمه ( وربما الصلاة الربانية ) ؛ ولا ريب أنه لم يسلك الطريق السوية التي تمر بأورشليم أو ضواحيها المجاورة – وكانت ، ولاشك ، مرصودة – بل أخلد إلى الطريق العابرة بأريحا وغور الأردن . وعاد يسوع من أفرائيم ، بعد أن أقام فيها فترة وجيزة ، ومعه تلاميذه " يتبعونه خائفين " ، وقد اشتد استغرابهم مما كان مقدماً عليه . فإذ كانوا في بعض تلك الطريق السهلية تطل عليهم سلسلة من الهضاب الوعرة ، أنشأ يسوع يحادثهم ز وكانت أورشليم إلى يمينهم تترقبهم ، محجوبة عن ابصارهم ، ماثلة في ذهنهم ، في قمة ذاك المدرج الذي ينحدر فيه النجد حتى وهدة النهر فالبحر الميت : " ها نحن صاعدون إلى أورشليم ، وابن البشر سيسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة ، فيحكمون عليه بالموت ، ويدفعونه إلى الأمم ليسخروا به ، ويجلدوه ويصلبوه ، وفي اليوم الثالث يقوم " ( مرقس 1. : 32 – 34 ؛ متى 2. : 17 – 19 ؛ لوقا 18 : 31 – 34 ) … لم تكن هذه أول مرة ينطق فيها بمثل تلك الأقوال : فلقد أفصح عن ذلك ، مرتين ، في الجليل : مرة بعد اعتراف بطرس بألوهية المسيح ، إذ ذاك " شرع المسيح يبين لتلاميذه أنه ينبغي لابن البشر أن يتألم كثيراً ، وأن ينتبذه الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ، وأن يقتل ويقوم في اليوم الثالث … " ( لوقا 9 : 22 ؛ ومرقس 8 : 31 – 33 ؛ متى 16 : 21 – 23 ) ؛ ومرة أخرى ، فوراً بعد التجلي . فلئلا يشتط التلاميذ في تأويل ذاك المشهد الرائع ، عاد يسوع إلى تكرار ذاك النبأ المشؤوم الغامض : " إن ابن البشر يسلم إلى أيدي الناس ، فيقتلونه ، ومتى قتل ، ينهض بعد ثلاثة أيام " ( مرقس 9 : 3. ؛ لوقا 9 : 44 ؛ 17 : 25 ) . واما هذه النبوءة الثالثة ، فقد جاءت اكثر وضوحاً وتفصيلا من السابقتين ؛ ومع ذلك، فقد بقيت - مثلهما-مستغلقة حتى على أولئك الذين كاشفهم بها . " أما هم فلم يفهموا من ذلك شيئاً. بل كان لهم كلاماً مستغلقاً ، واقوالاً لا يدركونها " (لوقا 18 : 34) . . . إن الناس أبدآ يستصعبون فهم ما لا يرضيهم ، فهل كان باستطاعتهم أن يرضوا بأن يدَْهم حياتهَم مثلُ تلك الكارثة والطبيعة من حولهم تبسط كنف روعتها، وسنابلُ الحنطة والشعير تخضرّ اخضراراً رقيقاَ فوق السهل ، وأنوار البهجة تتألق ليلاً ، فوق المشارف ، احتفاء بإهلالة القـمر في نيسان ، والشقائق مع السواسن والزنابق البرّية تكسو حفافي الطريق ، والمعلّم ههنا، بقربهم ، في ريعان الحياة، أقدر من كل نبيّ ، بل وأشد صولة من الموت ؟ !

. سوف يقول أحد الرابيين : " إذا كان الله قد منع أن يُضحىّ باسحق ، فكيف رضي بأن تقع الوقيعة على ابنه ، ولم تنقلب الدنيا رأسأً على عقب ؟ ! ". لا بدّ أن الرسل باتوا يـخُلدون إلى مثل هذه الاعتبارات ، يلتمسون فيها ما تسكن إليه قلوبهم ، ويكفيهم مؤونة القلق . ولا شك أنهم ، في تلك اللحظة ، - اْكثر من أي وقت مضى - كانوا يضمرون تلك العقيدة الموروثة، أن ملُكَْ المسيح على العزّة يقوم ، لا على الهوان ، وأنهم ، هم أنصاره ، لا بدّ أن يصيبوا عنده حـظّاًَ جميلاً .

. بل لقد كان في غلاظة مداركهم لا أدري أي مهزلة وجيعة !" حينئذ تقدمت إليه أم ابني زبدى (ربما هي سالومة التي كانت تبذل للمسيحً من مالها) مع ابنيها، وسجدت له تلتمس شيثاً. فقال لها: " ماذا تريدين ؟ "، فقالت : " مر أن يجلس ابناي هذان ، أحدهما عن يمينك ، والاخر عن يسارك في ملكك " (متى 2. : 2.-24 ) . أسلوب ، ولا أبرع للدلالة على أنهم لم يفقهوا البتة شيئاً، ولا" أن الآخرين هم الأولون " ، ولا أن الذين يرومون أعلى المناصب في الملكوت ، لا بدّ من أن يلتـزموا التواضع ، ويصبحوا " خداماً " للاخرين !. . . ومع ذلك فلم يكن يسوع ليسخط أو ليمتعض من ذاك العمى السافر ! إله المحبة حليم ، ولا حدود لأناته ، ومهما تعامت بصائر الناس ، فإن لها، في حلمه ، أملاً باكتشاف النور والصفح . . . لم يسخط ، بل اكتفى بإعادة ما كان قد صرّح به من قبل " أن ابن البشر لم يأتِ ليُخدَم بل ليخدُم ، ويبذل نفسه عن الكثيرين " (مرقس 1. : 45 ؛ متى 2. : 25 - 28 ) . هي صورة المسيح المعذّب ، المسيح الذي تنبأ به أشعيا ودانيال وبعض المزامير، يـعارضُ بها تلك الصورة الأخرى الراسخة في أذهانهم ، صورة المجد الزائف إَ أجل ، فالمسيح هو الفادي والضحيّة " الكفاّرة " . ولسوف يعود، بعد أياّم ، إلى الإفصاح عن تلك الحقيقة، بأسلوب أكمل ؛ ليلة العشاء السرّي : " هذا هو جسدي المكسور . . . ودمي المهراق لأجلكم . . . ". بيد أنهم ، حتى في تلك الساعة ، لم يدركوا . .

.. إلاّ أن هناك نفسآَ سوف تنجلي لها تلك الأمور الغامضة . ولن يكون ذلك عن اعتمال عقلي ، بل عن بادهة من تلك البواده التي تستلهم فيها العبقريةُ الأنثويةُ وحيَ الشعور، وتنطلق فيها لغة القلب . ولسوف تؤيدّ بصنيعها، نبؤة المعلّم ، وتثبت أنها، هي ، قد وعت وأدركت .

. كَان المسيح قد فصل عن أريحا - بعد أن أعاد فيها البصر إلى الأعميين ، وتناول الطعام في بيت زكّـا العشّار – وصار إلى بيت عنيا، في إحدى الطريقين الشاخصين إلى أورشليم . وإذا برجل جاء يستضيفه في بيته . وكان اسمه سمعان ، الملقب بالأبرص ؛ واحد ، ولا ريب من الذين أبرأهم يسوع ؛ قد أوضح الانجيل الرابع أن تلك المأدبة قد جرت " ستة أيام قبل الفصح " . وإذ وفع الفصح، في تلك السنة، نهار الجمعة، فقد نزل يسوع في بيت سمعان - على ما يظهر- نهار السبت الواقع في الأول من نيسان سنة 3. ... ولم يكن السبت ليزيل الناس عن الرغّد في الطعام ، ولا سيما عند العشاء ؛ لا بل كان السبت مدعاة إلى ذلك

. وكانت مرتا – أثناء الطعام – تخدم كعادتها، باذلةً نشيطة، دائبة . (ونراها، هنا، كما عرفناها في المشهدينِ السابقين ) ؛ وكانت ، ولا شك ، ترتدي قميصاً من كتّان ناعم ، موشى بالذهب ، وقد عقصت جدائل شعرها . وأمّا المدعوون ، فما كانوا جلوسآَ، كما توهمهم كثير من الرسامين ، بشيء من التناقض التاريخي ؛ بل متكئين على فرش، على عادة ذاك العصر . وكان لعازر الذي أقامه يسوع بين الحضور . فدخلت امرأة وبيدها قارورة طيب . وكانت المرأة مريم الشقية الأخرى ، مريم الخاشعة المضطرمة التي يفرغ عليها الانجيل ، في هذه المناسبة الثالثة، لمـحة أخيرة، تزيد رسمها دقّة ووضوحاَ . وكان في القارورة طيب " من الناردين الخالص ، الكثر الثمن " . فكسرت القارورة، وأفاضتها " على رأسه " ( في رواية متى ومرقس ) ، أو " على قدميه " (في رواية يوحنـا) ،" ومسحتهما بشعرها . فعبق البيت برائحة الطيب " . . . وعلا، في الحـضور ، صوت يقول : " لمَ هذا الإتلاف ؟، لقد كان بالإمكان أن يباع هذا الطيب بكثير، ويعطى للفقراء" .وكان الصوت صوت يهوذا الاسخريوطي ، ذاك الذي كان بيده كيس المسيح والاثني عشر ؛ وكان يسرق ما يلقى فيه ، على حدّ ما جاء في انجيل يوحنا. ولا شك أن لهـجة العاذل لم تكن على جانبِ من اللطف ، وأنّ بـعض التلاميذ قد أنحوا معه عليها باللائمة . فقال لهم يسوع - وقد بدت على المرأة سيماء الاضطراب - :" لم تعنّـونها ؟ دعوها! إنها لقد أحسنت في ما صنعت إليّ . فالفقراء عندكم في كل حين ، وفي وسعكم أن تحسنوا إليهم متى شئتم . وأما أنا فلست عندكم في كل حين ! إنها فعلت ما كان في إمكانها . وقد طيبّت جسدي ، من قبل ، للدفن . الحق أقول لكم : " إنه حيثما كرز بالانجيل ، في العالم كله - يخبر أيضاً بما فعلت ، تذكاراَ لها " (يوحنا 12 : 1-1.؛ متى 26 : 6- 13 ؛ مرقس 14 : 3 - 9)

. لقد كانت العادة شائعة يوم ذاك في كل الشرق - كما في روما - أن تفُاضَ أطياب على من يراد إكرامهم من الضيوف . وأما القارورة التي كانت في يد مريم ، فقد عثر على كثير من أشباهها في مصر كما في سوريا، وفي اليونان كما في بومبيه .لها عنق طويل عمدت مريم إلى كسره تيسيراً لإفاضة الطيب الذكي . وقد ذهب بلينس - وهو من علماء الطبيعة- إلى أن البـصرَ (أو المرو ) هو أصلح ما تخزن فيه الأطياب ، وأحفظ لعَرفها من سَائر الأوعيَة . . . ويؤخذ الناردين من عشبة صغيرة شائعة يعَمدون إلى سحق مقادير وافرة من جذورها، لاستخلاص بعض القطرات اليسيرة . وكان الناردين أنفس الأطياب السائلة وأكثرها شيوعاً . ومن الإشارة الواردة في إنجيـلي مرقس ويوحنا إلى " خالص الناردين " ، نستنتج أنهم كانوا يصطنعون منه أيضاً أصنافاً بخسَة

. وأمّا الناحيته النفسية فحسبنا دلالة على دقة أدائهـا ما نجده من وصف شخصية الاسخريوطي . فهو قد فضِح نفسه بتلك الملاحظة الخسيسة التي أبى المسيح إلاّ أن يتصدّى لها تصدياَ حازماَ . وقد جاء في إنجيلي متى ومرقس أنه خرج حالاً، من بعد تلك الحادثة ، يتفاوض مع أعداء المعلّم ، ويدبّر على هلاكه ، أجل ، نحن نستجلي ملامحه كاملة، وحتى ما خفي من سرّ عزيمته السوداء . . . ولكن ألم يكن هناك غيرُ ما نسبه إليه البشير يوحنا من دوافع الجشع والخسة ؟. . سوف نحاول ، فيما بعد ، أن نتفهّم أمر ذاك الخائن ! .. أو لم يكن المسيح ، من قبل سنة، وفور رجوعه من تراخونيتيذس ، قد صرّح لتلاميذه قائلاً : " إن أحدكم شيطان ! " . فذاك الذي سوف نراه ، في الأياّم المقبلة ينجز مهمته الشيطانية، إنما هو نفس الرجل الذي برزت لنا أوصافه من خلال مشهد التضميخ في بيت عنيا ؛ وهكذا فقد أميط اللثام عن بعض سريرته

. تبقى معضلة شهيرة ؛ ومن المرجح أنها لن تصادف حلاّ . فمريم أخت لعازر . التي دهنت يسوع بالطيب ، في غضون مأدبة عند رجل اسمه سمعان ، هل هي نفس تلك الخاطئة المجهولة التي رأيناها، في الجليل ، تقوم بذات الصنـيع فى غضون مأدبة عند رجل اخر اسمه سمعان ؟ هل رواية التطييب الأول التي انفرد لوقا بتسجيلهـا، هي نسخة عن الرواية الثانية التي أجمع على ذكرها الانجيليون الثلاثة الآخرون ؟ . . لقد أخذ بعض الآباء الأقدمين - ومنهم إكليمنضس الإسكندري - بهذا الرأي . وأما تعليم الكنيسة ، اليوم ، فيميل إلى التمييز بين الحادثتين تمييزاً قاطعاً، إذ من الممكن أن تكون الحادثة قد تكرّرت ، وأن تكون مريم أخت لعازر قد سمعت بخبر الخاطئة الجليليةّ وصنيعها الطيبّ ، فأخذت عنها أسوة . وأماّ إذا صحّ أن كلا الروايتين مرجعهما حادثة واحدة ، فمريم أخت لعازر والخاطئة الجليليةّ هما أيضاً شخص واحد. ولكن ليس ما يشير إلى أن مريم التي من بيت عنيا تلك المرأة التقيةّ ، كان لها مثل ذاك الماضي الحافل بالمعاصي ! .

! هذا وقد ثسوئل أيضاً من جهة أخرى : هل تلك الخاطئة الجليليةّ هي غير مريم المجدَلية التي " خرج منها سبعة شياطيين "، والتي كانت تبذل من مالها، مع بعض النساء الأخر، في سبيل يسوع (لوقا 8 : 3)؟ إن مثل هذا الإقرار بالجميل – ينسجم ونفسية تلك المرأة الشهمة –على ما فرط من حياتها الماجنة – والتي قال فيها المسيح : " إنه يغفر لها كثير، لأنها ، أحبّت كثيراً " (لوقا 8 : 47) . على كلّ ، فقد أنكر يوحنا الذهبيّ الفم أن تكـون مريم ، ذات " الشياطين السبعة "، ومريم أخت مرثا ولعازر، شخصاً واحداً . بينما اعتقد القديس أوغسطينوس أن يوحنا الانجيلي إنما أصدى في إنجيله إلى الحادثة التي رواها البشير لوقإ ، وأن المريميين إنما هما شخص واحد. ولم يكن أوغسطينوس ولا أمبروسيس ليستبعدا أن تنتمي امرأة خليعة إلى أسرة كريمة . هذا وقد لوحظ أن لفظة " مجدلا " – وهي اسم قرية عند البحيرة، تعرف اليوم باسم " مجدل "- قد تلتبس بلفظة آرامية مشبوهة، معناها " المُطيبّة " . . . فمريم المجدلية هذه سوف يكون لها لقاء مع المسيح عند فجر القيامة، وسوف تكون ، هي ، أول من عاين الرمس الخالي ؟ وهي التي سوف تبشّر الرسل ، وتسمع من الملاثكة بشرى الحدث العظيم . فهذه المرأة الي أظهر لما المسيح ذاته ، في مشهد خلاّب ، بكلمة واحدة : " مريم ! "، فالتفتت وأجابـت : " يا معلّم ! " - ألا تذكّرنا ، بطريقة إرغامية بمريم التي من بيت عنيا ، تلك التي رأيناها مشغوفةً بكلام المسيح ، يغمر قلبها حبّ سماوي

! مهما يكن من أمر، فالثابت أن الحادثتين تختلفان ، في الهدف ، اختلافأ بينآَ . فحادثة التطييب ، في الجليل ، غايتها الأساسيةّ إعلان تواضع المرأة الخاطئة، ، وإقامة الموازنة بين حبّها وما بدا من سمعان - ربّ البيت - وسائر " المتزمتين " ، من عجْـب وترفع ! وأمّا حادثة التطييب في بيت عنيا، فقد كانت هي أيضاً عربون إجلال وحبّ رفيع ؛ بيد أنّ قيمتها الجوهرية في دلالتها الرمزية، وإيذانهِا بالأحًداث المتـحفزّة . فلقد أفاضت مريم الطيب " لدفن يسوع " ؛ وهي وحدها نفذت إلى السرّ الذي كان مزمعاً أن يسطع على مشهد من الدنيا . . . أبدافع من ذاك الإيمان عينه ، وتلك البادهة عينها، شخصت إلى القبر، قبلَ الناس ، فوجدته فارغاً ؟ . . لا ندري !. . بيد أننا نجد في بديهتها مايشدَهُ النفس ! . . وإننا لَنوجس في القلب انقباضاَ أليماً إذ نفكر أن ذاك الطيبَ الذي أفاضته على يسوع ، في بيت عنيا،إنما كان إيذاناً بتلك الأطياب الأخرى التي سوف يطيّـب بها بـعد ثمانية أيام - ولكن بطريقة أخرى ! - جسدُ المصلوب


لقد نشـأ عن تعليم المسيح في الزواج مشـادات عنيفة . فإذا قارنا ما بين نصوص الأناجيل المؤتلفة ، أتضح لنا أن مرقس ولوقا يحرمان الطلاق تحريمأ باتاً، فيما يبدو أن متى يرخص فيه في حالة وأحدة : " من سرح امرأته - إلا في حالة الزنى- وتزوج أخرى، فقد زنى " ( 19 : 9 ؛ 5: 32 ) . ولكن الكنيسة الكاثوليكية قد ذهبت ، حتى في تفسـير هذه الآية، إلى أن المسيح قد حرم الطلاق تحريما مطلقاً من كل قيد وشرط . ويدو ذلك أوجه تاْويل ، إذا أنعمنا النظرفي جميع قرالْن النص ولا سيما الاية "يصيران كلاهما جسدأ وأحدأ " . وقد أثبت بولس ذلك ( اكورنثوس 7 : 1. )، وأقر الفصل بين الزوجين ، في بعض الأحوال ، ولكن من غير "طلاق " وزواج جديد. ويكفي ، للتسليم بهذا 

(1)

التأويل ، أن نفهم الآية الإنجيلية على النحو التالي : " من صرف إمرأته ، إلا في حالة الزنى ( وفي هذه الحالة يجوز صرف المرأة ) وتزوج أخرى ( مهما كانت دواعي التسريح ) فقد زنى " . وقد قال القديس أوغسطينوس ملخصاً : " يجوز تسريح المرأة إذا زنت ، ولكن الوثاق الزوجي يبقى . ومن ثم يزني إذا تزوج إمرأة مسرحة ، حتى إذا كان سبب التسريح خطيئة زنى … " .

. ذهب البعض إلى تعليل آخر ، وهو أن أصحاب الأناجيل المؤتلفة – وقد كتبوا بعيد موت المسيح – قد أغفلوا ذكر تلك الحادثة، إشفاقاً على لعزر وشقيقته من سخط اليهود وملاحقاتهم . وأما البشير يوحنا فقد كتب إنجيله بعد فترة أطول بكثير ، وفي عهد ربما كان فيه أولئك الأصدقاء قد لاقوا وجه ربهم ، ولم يبق ، من ثم ، أي داع للتحفظ

 

(2)

 فيلم يسوع باللغة العربية