هـــــــــدف للمخالفـــــــــة

مصيـــر الإله - الإنســـان

. في هذه المرحلة التي صرنا أليها ، أي في الأيام الأخيرة من آذار سنة 3. ، كان يسوع قد استوفي جوهر التعاليم التي جاء ليرسيها في العالم . و لم يبق آلا أن يحقق الحدث الذي كان لا بد أن يفرغ علي تلك الدعوة معناها الحاسم ، و يقدم ذاته لله الحي ضحية طوعيه . و لسوف تختلف الأيام الأخيرة من حياته اختلافاً بيناً عن السنتين اللتين قضاهما في غمرة من الإشراق و ما تستتبعه رسالة الإشعاع من أفرح و مكابدات لا تخلو من تعزية…. أسبوع حاسم سوف يستفحل فيه و عيد البغض يوماً بعد يوم , و تبرز فيه ملامح ( المسيا) بروازاً ، في ذاك الضياء الحالك ، حيث تسطع الحقيقة لكل إنسان ، علي ضوء العذاب و الموت

. فبين حياه المسيح و شخصيته و رسالة ، من جهة ، و مأساة الجلجثة التي يستدرجنا إليها الإنجيل منذ الآن ، من جهة أخري ، قد رسخت علاقات ليست من قبيل الصدفة في شئ … إنه من النادر أن يكون موت إنسان محض حدث ، و مجرد صدفة . و أن لا يتصل بحياته اتصالاً سرياً ، و أن لا يفرغ أضواء علي معناها و اتجاهها . و لقد وقع شاعر علي هذه الكلمات الرائعة ، في دعاء إليه تعالي " رباه! أعط كل إنسان حتفه الخاص ، ذاك الحتف الأكبر الذي يحمله كل في ذاته ! " . ولقد حمل المسيح " موته " ، وفي ذاته ،- أكثر من أي إنسان آخر - تعليلاً ووعداً ، و ذلك ليس فقط ،منذ مولده ( علي حد ما جاء في نبوءة سمعان الشيخ ) ، بل في مطاوي أبدية العلم الإلهي ، و منذ اللحظة التي انجر فيها آدم و حواء إلي المعصية . فالأحداث التي سوف تتعاقب . منذ الآن ، نراها في تسلسلها المنطقي ، جارية علي صعيدين : أما علي صعيد الوقائع ، فهي نتيجة المواقف التي وقفها المسيح ، علي وجه الدنيا . و أما علي صعيد ما فوق الطبيعة ، فهي إنجاز و تحقيق لمقاصد الله

. لقد جاء في نبوءة سمعان الشيخ ، عن المسيح و تعليمه ، وأنهما سيكونان " هدفاً للخلاف ! " . و يسوغ الاعتقاد ، نوعاً ما ، أن المقاومة العنيفة التي تصدي بها الناس لتعليم يسوع ، تعلل تعليلاً كافياً المأساه التي سوف ينكب بها . بيد أن هذه الأسباب ، في نظر المؤمن ، و في نظر المسيح نفسه - و كان واقفاً علي مصيره - لم تكن سوي أسباب ثانية ، و الناس سوي وسائط … ففي اللحظة التي استجابت فيها مريم التي من بيت عنيا ، لذاك الدافع الإنذاري ، و أفاضت علي أقدام المسيح نارديناً نفيساً ، ممزوجاً بعبراتها ، كانت قد دُبرت المؤامرة التي انتهت به العذاب . و لا شك أن الكهنة و الكتبة كانوا يتوهمون أن لهم أسباباً وجيهة يبررون بها تنكيلهم برجل هب يُعنت آذانهم بأقوال مستهجنة ….. و لكنهم ما دروا أن بغضاءهم باتت وسيلة مطوعة لتمهيد الحدث كان لا بد أن يتحقق به نصر ذاك الذي كانوا يتربصون به

الإنجيــــــل و الوثنيـــــــة

. لقد كان المسيح " هدفاً للخلاف " . بيد أن سبب ذاك الخلاف ، إنما هو - آخر الأمر - التعليم الذي نادي به ، و الموقف الذي اتخذه ، و الفكرة التي عرضها عن ذاته . " فإن من ليس معه - في هذه - فهو عليه ! " . و لكن ما هو "الجديد " الذي تميزت به الدعوة الإنجيلية ، بالنظر إلي العالم الذي وجهت إليه ؟ … تختلف المسألة تماماً باختلاف نظرتنا إلي تفاعل تلك الدعوة مع الوثنية أو مع اليهودية . و علي كل فسوف يظهر تباين الموقفين ظهوراً باهراً ، بعد موت المسيح ، في الحقبة التي انتشرت فيها العقيدة المسيحية في جميع أرجاء الإمبراطورية . فبينما نري اليهود - في سوادهم الأعظم - يمعنون في التصدي لها ، نري الوثنيين - أو الأمم - يدخلون في طاعة المسيح أفواجاً . و لسوف يكون " تنصير " الوثني أيسر من تنصير اليهودي ، و ذلك ما أدركه الرسول بولس في إحدى بوادهه العبقرية

. فالإنجيل قد بشر بإله هو خالق الكائنات ، و المبدأ الأول، و الكلمة ، و عقل الكون ، والنظام الكامل ، و الخير الصراح ، في الوقت نفسه ، كائن جدير بالحب ، لأنه أحب الناس ، وأجمع علي خلاصهم . و هكذا ، بات بإمكان الإنسان أن يكتشف اتجاه مصيره !… " لقد كانت النفس الوثنية مفتقرة إلي ذاك النور و تلك القوة التي وفقت إلي العثور عليها في الإنجيل . و لكنها كانت عاجزة عن الإفصاح عن ذاك الافتقار ! " . و من ثم ، فقد كان الإنجيل استجابة دعاء و شفاء قلق ! أجل ، لقد وجد من بين الوثنين من لم يفقهوا فحوى الدعوة التي نادي المسيح بها ، ( منهم ، مثلاً ، بيلاطس البنطي ، و قد استغلقت عليه المسيحية استغلاقاً محكماً !) و لكن بعضهم الآخر ( و منهم قائد المائة ، في كفر ناحوم ) ، قد أصدى لها إصداءً فورياً .علي كل فقد ندر فيهم من أنعم النظر في العقيدة المسيحية ثم جاهرها بالعداء - كما فعل يوليانس الجاحد ، و قد صرح قائلاً :" طالعت ، و فهمت ، و أبيت ! " - فقد كان تصدي الوثنية للمسيحية علي صعيد السياسة أكثر منه علي صعيد العقيدة أو الأخلاق . و لأن هذه المقاومة لم تكن ، في التصميم ، سوي ضرب من الجهل ، فقد انهارت الوثنية انهياراً سريعاً أمام هذا الإنجيل

الإنجـيـــــل و اليهوديــة : الأواصــر الظاهــرة

. و أما مع إسرائيل ، فقد جرت الأمور مجري أخر . فنحن لا نكره كرهاً صميماً آلا من تربطنا بهم أواصر المعرفة أو غيرها من الروابط الإنسانية . فالخصومات البيتية هي التي تولد " عقد الأفاعي " ، و لا يعرف ما هو البغض ، مثل أهل المذهب الواحد في منازعاتهم اللاهوتية

. و لنعمد إلي يهودي ، من مستمعي المسيح ، نسبر شعوره ، و موقفه من تعليم المسيح … إن هذا الرجل الذي يتكلم الآرامية ، مثله ، و يجيد تفسير الشريعة المقدسة ، في نصها العبراني ، لا بد أن يؤانس فيه واحد من بني قومه . و لم يكن ليستغرب أسلوبه الخطابي ، و لا نهجه الشعري ، و لا تلك الألوان المعقدة من الإيقاع و الجناس و التكرار ، فهي من الأنماط التي تلقن في المدارس ، و التي عمد إليها جميع الكتاب الملهمين ، و حتى في يونانية الأناجيل ، يظهر طابع الأدب السامي ظهوراً ساطعاً . فعندما يعمد يسوع ، مثلاً في " عظة الجبل "، إلي الموازنة بين تطويبات الفقراء و المساكين ، و لعنات الأغنياء و المشبعين ( لوقا6) ، لا بد لكل يهودي مثقف أن يستذكر نصوصاً كثيرة من أشباه تلك المقارنات . أو لم يرد علي لسان نوح ، في سفر التكوين : " ملعون كنعان ! عبداً يكون لعبيد أخوته! و تبارك الرب إله سام ، و ليكن كنعان عبداً له ، ليرحب الله ليافث " ( تكوين 25:9-26 )

ثم ألم يعلن ارميا قائلاً : " ملعون الرجل الذي يتوكل علي البشر ، و يجعل اللحم ذراعاً له ، و قلبه ينصرف عن الرب ! مبارك الرجل الذي يتوكل علي الرب ، و يكون الرب معتمدة ! " ( ارميا 17 :5-6)

. لقد كان كلام المسيح حافلاً بالشواهد الكتابة ، حتى لنشعر انه قد تخرج ، منذ الطفولة ، شأن جميع صبيان إسرائيل ، في ألفة الكتاب المقدس .و قد كان من عمق التطلع منه بحيث التحمت المحفوظات الكتابية بذهنه ، و جرت علي لسانه جرياً عفوياً ، للتعبير عن فكرته . فهو يستخدمها للدفاع و الحجاج ، فيسوقها لتبرير قوله إنه ابن الله ، أو لتبرئه تلاميذه ، يوم اقتطفوا سنبلاً في السبت . ففي مناسبات كثيرة كان يشفع في كلامه إلى النصوص المقدسة ، عملاً بسنن الخطابة عند اليهود

! و أما الحقائق الدينية الكبرى ، التي انطوت عليها الديانة اليهودية ، فما وقف المسيح يوماً منها موقف التنكر أو الامتهان . بل بالعكس ! فقد كان ، في كلامه ، يناول بالإعجاب و الإجلال الشريعة المقدسة ، و تلك التوراة التي كان يشغف بها اليهود شغف المرء بخليله ، و التي كانوا يقولون فيها : أنها " بكر الله " ، و إن الكون بأسره يخضع لها ، و إن الله نفسه يلتزم أحكامها لأنها من نطق الحكمة الأزلية … و كان يسوع يفسرها في المجامع ، شأن كل يهودي دين : " لا تظنوا آني جئت لانقض الناموس و الأنبياء . أني ما جئت لانقض بل لأكمل . الحق أقول لكم : إنه إلي أن تزول السماء و الأرض ، لا يزول من الناموس ياء و لا نقطة حرف ، حتى يتم الكل . أذن ، كل من يتعدى واحدة من هذه الوصايا - حتى من أصغرها - و يعلم الناس إن يفعلوا هكذا ، فأنه يدعي الأصغر في ملكوت السماوات . و أما من يعمل بها و يعلم ، فهذا يدعي عظيماً في ملكوت السماوات " ( متي 5 : 17-19 ) . مثل تلك الأقوال ما كان أشهاها إلي قلب كل واحد من بني إسرائيل

. و لم يكتف المسيح بالتنويه بسمو الشريعة ، بل كان يتبع معظم أحكامها الأساسية . فكما فعل ذووه ، يوم ختنوه ، ثمانية أيام بعد ميلاده ، و قدموه للهيكل ،" و افتدوه " ، كما كان يفتدي كل بكر في إسرائيل ، كذلك نراه - هو أيضاً - يوم الهيكل للصلاة ، و يندمج في جماهير الحجاج ، و يحتفل بالفصح حباً وورعاً . قد روى أكليمنضس الأسكندري حديثاً عن المسيح ، جاء فيه : " إذا لم تصوموا صيام الناس ، فلن تدخلوا ملكوت الله ، و إذا لم تتقيدوا بالسبت فلن تشاهدوا الأب !" ، بل هو يخضع للشريعة حتى في تفاصيل حياته المسلكية ، فيجهز - مثلاً - أطراف ردائه ، بالأهداب المقررة ، كما تثبت ذلك حادثة المرأة النازفة الدم

. ثم ألم تكن الوصية التي أعلنها المسيح " أولي الوصايا كلها " ، هي تلك التي نصبها الشعب الإسرائيلي ، فوق جبهة تاريخه : " أحب الرب فوق كل شئ ! "؟ و الإله الذي بينه يسوع في تعاليمه إنما هو – في معظم صفاته الجوهرية – ذاك الذي عبده شعب إسرائيل منذ إبراهيم : الإله ، الأحد ، الذي اتخذ له السماء عرشاً و الأرض موطئاً لقدميه ، هو الملك ، الديان ، القدوس ، المثال الأسمى . فلقد جاء قي الكتاب : " كونوا قديسين ، كما أنى أنا قدوس ! " ( لاويين 11 : 44 ،19 : 2 ، 2. :26 ، 21 :6 ) و قد أصدى المسيح لذلك ، بقوله " كونوا كاملين ، كما أن أباكم السماوي هو كامل ! " ( متي 5 : 48 " و لئن فاق المسيح قدامي إسرائيل في التنويه بالأبوة الإلهية ، و أدخل علي العلاقات القائمة بين الله و الإنسان ، مزيداً من المودة و الثقة الوادعة فاليهود ما كانوا ليجهلوا تلك المشاعر

و لكن هل كان التعليم الأخلاقي الذي نادى به المسيح يُريب المستمع اليهودي أو يصدمه ؟ كلا ، بل كان تعليمه التهذيبي ، مثل تعليمه اللاهوتي ، منسجماً مع روح الكتاب . فالكتب عن الفرائض الشكلية ، و العمل علي جعل السلوك أكثر نشوباً في الباطن ، أعمق حياتاً و خلوصاً ، أفما كان ذلك كله مما امتدحه الأنبياء و نادوا به ؟ " أإذا حنى ( الإنسان ) رأسه كالبردي ، و أفترش المسح و الرماد ، تسمي ذلك صوماً و يوماً مرضياً للرب ؟ أليس هذا هو الصوم الذي آثرته : حل قيود النفاق ، و فك ربط النير ، و إطلاق المضغوطين أحرارا ، و كسر كل نير ؟….. أليس هو أن تكسر للجائع خبزك ، و أن تدخل البائسين المطرودين بيتك ، إذا رأيت العريان ،أن تكسوه ، و أن لا تتوارى عن لحمك ( أي أخيك ) ؟ ( أشعياء 58 : 6-7) " مزقوا قلوبكم ، لا ثيابكم ، و توبوا إلي الرب " ( يوئيل 2 : 13 )

و حتى شريعة الحب – و هي لب الدعوة الإنجيلية – آلم يكن لها ، في إسرائيل ، جذور ؟ … فذاك النص الذي آتينا علي ذكره ، من نبوءة أشعياء ، أليس هو دعوة إلي التزام أرق العواطف ؟ … لقد قامت محاولات كثيرة لإبراز نواحي التعارض بين الإنجيل و الدين اليهودي ، فاستشهد أصحابها بما انطوت عليه الشريعة القديمة من قسوة في تطبيق سنة " المبادلة " (" العين بالعين ، و السن بالسن ") و احتجوا بالوحشية المطمئنة التي عمد إليها الشعب المصطفي للإجهاز علي جميع الذين اعترضوا عليه السبيل ! ….و إنما فاتهم أن هناك نزعة فكرية أخري ، كانت قد تسربت إلي التقاليد الإسرائيلية في غضون تطوراتها التاريخية الطويلة . فهناك من الرابيين من قاموا علي سنة " المبادلة " ، و بينوا المظالم الفادحة التي إليها إذا حملت ، - في تطبيقها - علي معناها الحرفي . و أما القول : " أحبب قريبك كنفسك " ، فهو يرقي إلي عهد موسى ( لاويين 19 : 17-18 ) . و قد صرح المسيح ، مرتين ، بأن هذه الوصية ، لا تقل شأناً عن الوصية الأولى القاضية بمحبة الله . هذا و إن القاعدة الذهبية التي ترتكز عليها كل مسلكية إنسانية - كما وردت في إنجيلي لوقا و متي : " كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم ، فافعلوه أنتم بهم " ( لوقا 6 : 31 ، 31 ، متي 7 : 12 ) .- إنما هي تعبير ، في صيغة إيجابية عما جاء بوجه سلبي ، في وصية رابي هليل : " ما تكرهه ، فإياك أن تلحقه بالآخرين ! " … أجل ، إن هناك بوناً شاسعاً بين روح الوصية السلبية ، و شريعة المسيح الإيجابية ( و في هذا الفرق ، بتجلي سمو الترقية التي بعثها المسيح في التعليم الأخلاقي ) بيد أن العبارتين تنبعان ، مع ذلك ، من معين واحد !…

. و إذا تحرينا هذه الموازنة بين الدعوة الإنجيلية و الدين اليهودي ، في القضايا الأخرى ، أوفينا إلي ذات النتيجة . ففكرة " الملكوت " - مثلاً - تنبع ، و ريب ، من المصادر العبرانية الأولى . و فكرة الصراع القائم بين النور و الظلمة هي من أروع ما انتهت إليه التعاليم الأسينية . وأما القول بأن الله يؤثر بمحبته الفقراء و المتواضعين ، فما ذلك مما غاب عن الكتاب … فالذي يلفت النظر ، في الصلة القائمة بين المسيحية و اليهودية ، ليس هو التعارض بل الانتساب فإسرائيل قد قام حق القيام بالمهمة التي أسندتها إليه العناية الإلهية . و هي أن ، يمهد السبيل لنزول الوحي الأخير . و تلك هي عظمته الفريدة ، و رمز المجد الذي تبلج فوق جبينه . فلقد وفق ذاك الشعب الصغير أن يناهز خطوة بعد خطوة ، و في غصون ألفي سنة من التاريخ ، المفاهيم السامية التي كان علي الإنجيل أن ينادي بها المناداة الحاسمة . و أروع من ذلك ، أنه نصب ، في كيانه تلك الصورة السنية ، صورة المسيح الفادي . فمع أنه أساء فهم الماسوية ، و توهمها ضرباً من ضروب السيطرة الدنيوية ، فلقد كان له الشرف يتمثل الفكرة و تبنيها . أجل إنه قد أبي ، في اللحظة الحاسمة ، أن يتوسم في يسوع ، الصورة الحية التي تجمعت فيها أماله … و لكن ذلك لا يلغي أنه هو الذي نفح العالم بذاك الأمل

المسيحيـــة و اليهوديــة : نــواحــي التعارض

. و لكن ما كان ، يا تري ، رأي ذاك المستمع اليهودي الذي أتينا علي ذكره ، في ما كان يدعيه المسيح و أتباعه من أنهم هم الورثة الأصيلون و السدنة الحقيقيون لذاك الوحي المتطور الذي لم يكن إسرائيل في تصميم العناية الإلهية سوي أداته الأولى ؟.. " لقد قيل لكم … و أما أنا فأقول …" فبأي حق يتفوه بمثل هذا الكلام ؟… " جميع الأنبياء و الناموس تنبأوا إلي يوحنا …" أفلعله يبغي ، بذلك أن التاريخ حتى المعمدان ، لم يكن سوي تاريخ الوحي القديم ، و المعرفة الناقصة ؟ .. " إني لم آت لأنقض الناموس ، بل لأكمل الناموس !….." : عبارة لعمري، مستهجنة في أذن كل يهودي ورع !… ذاك الناموس الذي أودعه الله جميع أسراره ، أهو بحاجة إلي الاستبطان و التكميل ؟ كلا ! ليس الناموس هو ذاك " الزق العتيق " الذي لا يطيق استيعاب " الخمر الجديدة " كلا ! ليس الناموس هو ذاك " الثوب الخرق " الذي لا يصمد " للرقعة الجديدة " !…

! لقد كان للدين اليهودي إذن ، في تصديه لمبدأ الوحي المسيحي بالذات ، دواع كثيرة : منها ما هو روحي وجيه ، و منها ما هو بشري مغرق في البشرية : و أي إنسان يرضي بأن يعزف ، بلا ممانعة ، عما آلفه دائماً من أنماط الفكر و الحياة ؟…. و الواقع أن ما اشترطه يسوع علي مواطنيه ، إنما هو " التوبة " في أشد معانيها

و لقد عارض المسيح مذهب الحرفية العقائدية ، بفكرة التدين الروحي لم يأخذ علي الفريسيين " فريسيتهم " فقط ( بمعناها الحالي ) ، و رئاءهم الذي لم يكن سوي نتيجة من نتائج موقفهم الديني ، بل ما هو أخطر من ذلك : تمسكهم بحرفية الناموس و شكلياته . فإن تشبثهم بالفرائض الدقيقة كان . في الواقع ، لوناً من ألوان التيسير و التهوين : فأنه ، و لا بدع أسهل علي المرء أن يحمل العصائب سحابة الناهر و يتورع عن السير أكثر من 5.. متر يوم السبت ، من أن يتعهد القريب في جميع أحوال الحياة ، بحلم لا ينضب ! و كان التحمل في أمور الدين قد أفضي بالفقهاء إلي تزييف المفاهيم الروحية ، بدليل الأمثال التي أتينا علي ذكرها . فالإكثار من الفرائض و الطقوس ، يجر إلي الاعتقاد بأن الحياة الروحية مجرد طاعة شكلية و ينتهي بالناس ، أحياناً ، إلي الوقوع في التبذل و الإسفاف . و من ثم ، فقد هب المسيح يعلنهم أن الدين الصحيح هو غير ما باتوا يتوهمون : " أنكم تؤدون العشر من النعناع و الشبث و الكمون ، و قد أهملتم أثقل ما في الناموس : العدل و الرحمة و الأمانة … أنكم تطهرون خارج الكأس و الصفحة ، وهما من الداخل ، مترعان سلباً و جشعاً " ( متي 23 : 23-26 )

. فإذا وقع تعارض بين فريضة مشتركة و مبدأ أعلي من مبادئ الإنسانية و المحبة ، كان علي النص - في نظر المسيح - أن يخضع للمبدأ . و هكذا رأيناه ، مثلا يجري الأشفية و يصنع العجائب يوم السبت . فبات ذلك في نظر الفقهاء و الفريسيين - أو في نظر سوادهم الأعظم - جريمة تكاد لا تغتفر ! و مع ذلك فهو لم يجوز لذاته و لا لأتباعه ، يوماً اختراق حرمه السبت من غير أن يدعو إلى ذلك داعي مصلحة عليا…

إذا أردنا إن نسبر الأغوار القائمة بين الدين الجديد الهادف إلي الاستئثار بداخله النفس ، " و الشكلية " اليهودية حسبنا النظر في بعض " الأمثال الواردة في الأدب الربيني ، مما له بعض الشبه بالقصص الإنجيلي . فقد أثر عن رابي لعازر قوله " من يستر الصدقة فهو أعظم من معلمنا موسى ،" و هو يذكر بقول المسيح :" إذا تصدقت فلا تعرف يمينك ما صنعت شمالك "بيد أن الرابين كانوا يدعمون قولهم هذا بإحدى آيات سفر الأمثال " العطية في الخفاء ، تخمد الغضب " ( أمثال 21 :14) و كانوا يفسرون الآية بقولهم " كهذا يتحاشي المتصدق عن أن يجرح كبرياء المستعطي . و لكن المسيح كان بعيداً جداً ، في مراميه ، عن أن يجرح هذه الاعتبارات : فإذا وجب ستر الصدقة ، فليس ذلك - في نظر المسيح - إشفاقاً علي كبرياء المستجدي ، بل حجباً لكبرياء المتصدق ، و تبجحه الزاهي بميرآته

و في المثل الذي ضربه عن عمال الحادية عشرة أراد المسيح أن يثبت تساوي الآخرين بالأولين ، فاستند فقط إلى ما لله من حق مطلق في استنقاذ كل نفس من الهاوية ، وإثابة الذين أنابوا إليه ، حتى في الساعات الأخيرة وقد قال بولس الرسول :" إن الله يرحم من يرحم ، و يرأف بمن يرأف !" ( رومية 9: 15 ) و نقع في التلمود علي مثل يشبه إلى حد بعيد - في خطوطه الكبرى - مثل الإنجيل هذا … بيد أن رب العمل - في نص التلمود - يرد علي احتجاجات عمال الساعة ، و استنكارهم لما بدا لهم لوناً من الظلم و التعسف ، بقوله :" إن العامل الأخير ، قد أنجز ، في ساعتين أكثر منكم ، سحابة النهار !" فهناك احتكام إلى قدرة الروح القدس و ههنا استمساك بقانونية سخيفة .

لقد كان إذن من المعتذر أن يؤانس اليهود في يسوع ، ذاك المسيح المنتظر و ذاك الرسول الذي باتوا يترقبون وفوده بنفوس عامرة بالأمل و ذلك لأنهم كانوا قد خلعوا علي الفكرة الماسوية من الميزات ما جعلهم يتمثلونها من خلال صورة واحدة : صورة الملك العزيز ، و الزعيم المنصور الذي كان لابد إن يرجع لبنى إسرائيل استقلالهم ، و يمكنهم من أن يثأروا لأنفسهم ثأراً باتوا يترقبونه منذ أمد بعيد … و أما الصورة الأخرى الصحيحة صورة المسيح المتألم و الضحية الوديعة التي كان لا بد أن النصر الراهن بمصيرها القرباني ، فكانوا قد قذفوها في مطاوي النسيان . و لقد كان من الصعب أن يقف غير هذا الموقف ، شعب مذلل مغلوب ، بات لا يحلم إلا بالحرية و الثأر . ومن ذلك يتضح وجه من أبرز وجوه المأساة المتحفزة . فبمقدار ما كان المسيح يتلبس المسكنة و التواضع و الذل ، كان ادعاؤه للماسوية ( أي أنه المسيح ) يظهر بمظهر الافتراء علي تلك الصورة المغرية التي كان مواطنوه، في معظمهم ، قد تبنوها ، و يوم صاح بيلاطس باليهود . قائلاً :" هو ذا الرجل ..!" و ظهر المسيح إلى جانبه ، و قد شوهت جسمه الضربات و غشي وجهه الدم و البصاق . كان يرجو من تلك الجموع ، المصطخبة أن تميل إلى المتهم بشيء من الشفقة و التعطف و لكن الشعب إزداد صياحاً: " أصلبه ! أصلبه !" جواب منكر و لكنه منطقي !…. أفتكون هذه الرذالة الإنسانية هي المسيح !؟ يا للفضيحة !…

. أمر يشبه القدر المحتوم . ذاك الذي دفع إسرائيل – أو معظمه – إلى الوقوف من المسيح موقف التصدي . و الدليل هو أن يسوع – الإله المتأنس – قد أدرك ذلك و صرح به تصريحاً ساطعاً في كثير من أقواله : فلقد أعلن أنه " هدف للمخالفة " . و سبب شك ،" و حجر عثار ، و أن " قومه لم يقبلوه " ثم أنه فضلاً عن ذلك و بجرأة مذهلة ، لم يتهيب التثريب علي الراغدين و المرائين و الشكلين من أهل زمانه

. سر مصير إسرائيل !.. فالمواقف التي ألجئ إلي الاعتصام بها ، عبر القرون ، للذود عن الرسالة التي أسندت إليه ، هي التي أملت علي ذاك الشعب أن يجاهر المسيح بذاك العداء الفاجع . و العوامل التي نصبته ، مدة آلفي سنة ، شاهداً للوحي ، هي التي حالت بينه و بين البلوغ إلى قمته ! فلقد كان متعذراً على تلك الآمة - أمة الكتاب - بعد أن عاشت حقباً طويلة في ظل الحرف ، إن تنتحل - علي الفور - ديانة القلب ، و أن ترضي الاعتقاد بأن " الحرف يقتل ، و الروح يحيي!" . و لربما كان أشد تعذراً علي ذاك الشعب الذي اتخذه له من العزة القومية أمضي سلاح ، أن يدخل ، فجأة ، في مذهب التواضع و المحبة الشاملة !.. و لكن ألا يسوغ القول ، ههنا أيضا ، بـأن المهمة المؤسفة التي قام بها الشعب اليهودي ، تدخل في نطاق ما خططته العناية الإلهية ؟.. فإنه ليس من تعليل لذاك السر المستغلق إلا ما استوي علي ذاك الصعيد السامي … فلولا عناد إسرائيل ، لما استوفت رسالة المسيح شوطها الأخير ، و لتعذر تحقق ذاك السر الآخر الناجم عنه : سر الفداء الدامي

أخـــــــــر " هــدف للمخالفـــة

. تلك البواعث الدفينة التي حملت اليهود علي التصدي لرسالته و التنكر لشخصه تنكراً لا يعرف الهوادة ، ومغزى الكارثة التي كان مشرفاً عليها ، كل ذلك كان المسيح واقفاً علي أمره . فمن طالع الإنجيل تبين له ، بوضوح راغم ، أن يسوع كان يتابع هدفاً معلوماً ، بينما كان الناس ، من حوله ، يدبرون علي هلاكه ، يوماً بعد يوم ، و ينقادون لأهوائهم انقيادا سخيفاً . و يتضح لنا ، من ثم ، بصورة أجلي ، لماذا تميز تعليم المسيح بذاك الأسلوب التدريجي ، و لماذا استخدم طرائق الفطنة البشرية لتحيق مرامي الله . فهو قد أبي أن يتجلى ، دفعة واحدة ، في سناء مجده .. وذلك ليس فقط دفعاً لإثارة الخواطر في الأوساط الإدارية ، أو إشفاقا علي المستمعين من الشطط في تأويل مهمته ، بل انتظاراً " للساعة " ، و ترقباً للوقت الذي تستفحل فيه المعارضة لتعليمه و لشخصه ، و تمسي من الشدة و العنف بحيث تفضي حتماً إلى الكارثة الدامية ، و خاتمة المطاف . فلئن انطوت حياه المسيح علي سر ( لا بد من التثنية إلى إن لفظة " السر " هذه لا يمكن فهمها إلا بمعناها التوسعي ، و أنها لا تشير ، و لا بوجه من الوجوه ، إلى إحدى تلك المذاهب الباطنية ، التي أودعها بعض أصحاب الفرق تعاليم إيداعا مقفلا ، و التي زعم بعض الواهمين أنهم وجدوا لها آثاراً في الإنجيل. فالمسيحية ليست من الباطنية في شئ ، و لا هي فرقة من الفرق المنطوية علي ذاتها . و لم يكن لها يوماً أي شبه بالجماعات الأسينية أو الفيثاغورية ، و لا أصحاب تلك المذاهب " السرية " التي راحت تتعبد لإيزيس و سيرابيس و أدونيس في جميع أنحاء الإمبراطورية . و لئن اتفق ليسوع ، أحيانا ، أن يحصر في تلاميذه المقربين بعض عناصر تعليمه ، فلقد أوضح أن ذلك الحصر لم يكن سوي حيطة وقتية :" ما أقول لكم في الظلمة ، ققولوه أنتم في النور ، و ما يسر به إليكم في الآذان نادوا به على السطوح " ( متي 1. :27 ) ) ماسوي ، فما كان ذاك السر لينجلي جلاء كاملاً إلا بموته و قيامته … و يتبين للذهن - في الوقت نفسه - ما نجده في المسيح من توافق تام بين تعليمه و كيانه . فالمسيح لم يكن فقط مجرد إنسان سعي إلي التوفيق بين أعماله و أقواله ، توفيقاً محكماً ، فجاءت حياته كلها شهادة و ارتهاناً ، بل هو ابن الله المجيد الذي قرب ذاته عن الناس كفارة . و مهما استعرضنا من دواعي المعارضة التي انتهت بالمسيح إلى مأساة الجلجثة ، و مهما بدت تلك الدواعي أصيلة ووجيهة ، فنحن لن نذكر شيئاً ، فإن هناك سبباً أعمق ، يفوق مدارك الإنسان : ألا و هو سر الفداء

. حُم القضاء ، و أخذت الأحداث ، مذ ذاك ، تتدافع قاصفة حياة المسيح علي هذه الأرض ، وذاهبة برسالته شطر نهايتها المحتومة . و لكن هل كانت تلك النهاية من قوة البيان والإقناع بحيث تحمل الناس علي تبني الدعوة التي خضبها بنجيعه ؟ ليس ذلك بالآمر البديهي ! فلسوف توجد ، علي توالي الأجيال ، نفوس توأنس في المسيح المعذب صورة الأمل ، و تنفتح للنور بصيرتها من خلال مشهد استشهاده ! بيد أن هناك نفوساً أخرى كثيرة، سوف تجد في ذاك الاستشهاد قمه ما استهجنوا من تعليمه، واستنكروا من مصيره! و لسوف يقول الرسول بولس في صلب الإله المتأنس ، " إنه عثرة لليهود . و جهالة للأمم !" ( 1 كورنثوس 1:23-24 ) . فأما في نظر اليونانيين فقد كانت فكرة إنسان متأله ، من البطل ، بحيث لم يكن بإمكان العقل أن يستسيغها وأن يري فيها سوي حالة من حالات الغرور و الهوس و التعاظم . أما أن يرضى إله بأن يخضع للموت طوعاً ، فكان - في نظرهم - من باب التناقض و المحال . فالألوهية إنما جوهرها الخلود !…

. وأما في نظر اليهود ، فقد كانت فكرة " التجسد " مستهجنة ، تناقض سمو التوحيد وتتلبس بلون من ألوان التجسيمية . لكن فكرة الفداء كانت أدعي إلي الإستغراب والاستهجان . فالذبيحة إنما هي ذبيحة حيوان يسفك دمه علي المذابح ، رضوة و فداء و قد يكون في النادر ذبيحة إنسان - كما وقع ذلك لإسحاق و بنت يفتاح - يتقرب بها إلي " يهوي " صاحب العزة و المهابة . وأما أن يمسي الله ذبيحة تقدم لله ، فذلك انتهاك لمفهوم الألوهية ! وإذا كانت الذبيحة هي " المسيا" بالذات ، فأنها جسارة لا تطاق ، و تهجم علي محرر إسرائيل و ملك المجد ، أن يتصوره الناس يوماً راضياً بأن الموت ميته الأرقاء . و أن يبذل جسده المعذب لخشبة الصليب و العار

ذاك هو الخضوع الذي سوف تفرضه المسيحية علي العالم : خضوع العقل لما يحسبه الناس " جهالة " و " معثرة " . و لما كان لا بد لجميع المقاييس و المفاهيم التي ألفتها الطبيعة من أن تتبدل ، فما كان في نظرها" جهالة " فليصبح " حكمة " ، و ما كان " معثرة " فليصبح موضوع كرامة و محبة . و هكذا سوف يكون الصليب آخر شهادة جاءت بها رسالة المسيح ، وفي الوقت نفسه ، أخر " هدف للمخالفة ……"

أضغط هنا لمشاهدة فيلم حياة المسيح

 فيلم يسوع باللغة العربية