الأيـــــــــام الأخيــــــــــــــرة

الأسبوع المقدس

. لا تعرف الكنسية ، في جميع مراحل " الدورة الليتورجية " و ما يتخللها من أبهة ورموز ، أسبوعا أبهى رونقاً و أحفل مغزى من الأسبوع الذي تقييم فيه ذكري الأيام الأخيرة التي قضاها يسوع المسيح علي الأرض ." الأسبوع المقدس " !… ليس من مسيحي علي وجه البسيطة إلا وتثير فيه هاتان اللفظتان ذكري أعياد متعارضة ، يتناوب فيها البهجة والأسى، و يتعاقب النشيد الصادح و الصمت الكئيب . و تسمي فيها الكاتدرائيات و الكنائس و المعابد الراعوية البسيطة ، مسرحاً تتجدد عليه المأساة كل سنة

. ويبتدئ الأسبوع المقدس في غمرة غضيضة من السعف وأغصان الزيتون . و ما إن تغيض ألحان التسبيح و النشيد حتى يخيم عليه خشوع الصلوات المسائية حيث قراءة " النبوءات " الطويلة و ترتيل " المزامير " المتناوبة يذكران بالمأساة المتحفزة و المواعيد الدهرية التي سوف تكون المأساة خاتمة تحقيقها . و يأتي الخميس العظيم المقدس - يوم الافخارستيا - فيعترض درب الجلجثة بدفقة من نور ، بيد أ، " القربانة" المخبوءة ما بين الأزهار و الشموع ، إنما هي تجسد تلك الأضحية التي بات الشعب يعبدها جاثياً علي ركبتيه . ثم يدهمنا الظلام ، بأجراسه الخرساء ، ووطء أقدام الجماهير الحزينة ، السائرة علي " دروب الصليب " . و حتى المعابد ، بتماثلها المحجوبة ، و مذابحها الخالية ، تبدو ، اذ ذاك كأنها تشاطر العالم حزنه و أساه و تظل إلى أن ينفجر أخيراً ، في صحوة النهار المعجز ، هتاف الأمل و الحبور : " المسيح قام "

فذاك التناوب ما بين الظلال و الأضواء أو قل : ذاك التساوق الآني ما ببن البهجة و الآسي إنما هما انعكاس الشعور الذي يتركه في النفس ، الوقوف علي أخريات حياة المسيح ، كما جاء تدوينها في الأناجيل الأربعة فهناك في مؤخرة الأحداث ، و في ظلام الدسيسة و البغضاء ، أخذت تنعقد انعقاداً نهائياً المؤامرة التي وهمت أنها سوف تقضي عليه . و قد عرف المسيح ذلك ، فلم تراوده فكرة التملص - بالهروب - من أولئك الذين راحوا ، باغتياله ، يعدون له نصراً مبيناً ….. لقد اقتربت الساعة - ساعة الظلمة !… - و أوشك السر القاني أن يحقق للناس فداءاهم ، فلم تفارقه سكينته المهودة ، يل نراه - حتى في تلك اللحظات الحاسمة - يجود بأروع كلام وأجود نطق . بيد أن الإنسان فيه قد ارتعش أحياناً، و انتفض فيه الشباب و الجسد ، لما بات يترقبه من موت شاءه الله فيه !! أسبوع تميز بظاهرتين من ظاهرات المجد : الاستقبال الشعبي ، و وضع سر " الافخارستيا " و لكنه أيضاً هو الأسبوع الذي انطلقت فيه الكلمة الحاسمة :" أ، لم تمت حبه الحنطة !……" أجل ، هو أسبوع النزاع و التخلي و الصليب !……

. و ترك يسوع التستر ، فكان يقيم تارة في عنيا ، و تارة في جبل الزيتون - و كان قربهما من أورشليم يسهل عليه تنقلاته إلي المدينة ذهاباً و إياباً .. ولقد كان اليهود الشاخصون من الأردن إلي أورشليم في قوافلهم يعتقدون - و لا شيك - أنهم مقبلون علي عيد مثل سائر الأعياد و لن يكون صلب أحد المتمردين ، عند جدران المدينة ، بالحدث المفاجئ بيد أن ذاك التواقع بين ذكري نجاه الشعب المختار و استشهاد المسيح ، لم يكن مجرد صدفه و محض اتفاق ، و ذلك أمر لاشك فيه : ففي ألامس كان المسيح قد لاذ بإفرائيم تحامياً من شر أعدائه ، وها هو اليوم يدفع بنفسه إلى أيديهم . ليس آذن من ريب في أن احدث هذا الأسبوع قد صدرت عن نيه صريحة بينة

. و هذا التوافق بين عيد اليهود و مصرع المسيح يخلف للتاريخ معلماً نفسياً و مستنداً من أوثق المستندات الإخبارية لسيرة المسيح ، فلقد أجمع جييون الأربعة علي أن يسوع قد فارق الحياة نهار الجمعة ( متي 37 : 62 ،مرقص 15 :42 ، لوقا 23 : 54 ، يوحنا 19 : 31 ) . فإذا عولنا علي مؤديات الإنجيل الرابع - و هو يمتاز بدقة معلوماته التاريخية - توثق لنا أن موت المسيح قد وقع في ذات النهار الذي وجب فيه تناول الفصح ( يوحنا 18 : 28 ) أي في 14 نسيان ، بموجب التقويم اليهودي و نعلم من جهة أخري أن وقوع الفصح نهار الجمعة لم يتحقق ، في عهد المسيح آلا في 11 نسيان سنة 27 ، 7 نسيان سنة 3. ،و 4 نسيان سنة 33 . فإذا قارنا هذا بما ثبت لنا من المعلومات المتعلقة بتاريخ ميلاده و مدة الرسالة العلنية ، انتفي الافتراض الأول و الثالث و بقي الثاني ( أي 7 نسيان سنة 3. ){ إذا تقيدنا بأن النهار عند اليهود ، كان يحسب ابتداء من الغروب حتى غروب الناهر التالي ، استقام لنا هذا التوقيت } " الأسبوع العظيم " فبيدأ إذن النهار الأحد به " غوتي " حيث قال : إني أوثر الظلم علي البلبلة "! و إنما يبقي أن نعرف هل الظلم ، و إ،، مفرداُ و استثنائياً ، لا يقذف في كيان المجتمع بأسره جرثومة فناء تعرضه لافدح المكاره؟ منذ آلفي سنة ، و يزال السؤال معلقاً، و إنما من يسوع إلى اليوم ، قد أمست طويلة جداً لائحة الذين احترمتهم البشرية بحجة المصلحة العامة !

بيد أن قضية المسيح لم تكن لتنحصر ضمن ذاك الحيز الضامر ، و قد لفت يوحنا النظر إلى ذلك لفتاً حازماً ، مثبتاً ان قياقا بكلامه ذاك إنما كان صوتاً نبوياً . و قد ذهب فيلون - و هو من معاصري تلك الحقبة - إلى، النبوة هي من امتيازات رئيس الكهنة ، يعطاها مع الافود المقدس . و جاء في تاريخ إفلافيس يوسيفس أنه قد اتفق ليوحنا هرقان أن تنبأ أحياناً . فقيافا أيضاً ، و من غير علم منه ، قد أنبا بحدث هو أجل من أن يكون مجرد اعتقال أحد المشاغبين . فقد كان لا بد من أن يموت المسيح عن الأمة ،" و ليس عن الآمة فقط ، بل ليجمع أيضا في الوحدة ، أبناء الله المتفرقين " ( يوحنا 11 : 51 - 52 ) . و من ثم فما كان أولئك السياسيون المتيقظون سوي آلات بين يدي القدير !

! و قد التأمت هذه المجالس أكثر من مرة . و نحن نتصور فيها مدي الارتباك ، و لا بدع فالقضية تقتضي حيطة و عناية : فهل ينبغي اعتقال ذاك المضل في وسط الجماهير ؟ و إذا نجم عن ذلك شجار و سفك دماء ، فما يكون موقف رومة ؟ لا بد إذن بادئ الأمر ، من الاحتيال عليه و هدم نفوذة ، إذ ذاك ينفسح المجال للتمثيل به . و قد جاء في التلمود ، عن رابي عقيبة ، قوله :" أوقعوا بالعلماء المضلين في مواسم الحج الكبرى !" فذاك أوقع في النفوس ! أجل لم يكن من الحيلة بد ، بادئ ذي بدء ، و قد تدبروا الأمر مرارا و بحثوا أيضاً - بطريق العرض - في ضرورة التخلص من لعازر - و قد أمسى وجوده دليلاً حياً علي قدرة يسوع الخارقة - و الإجهاز عليه ، هذه المرة ، إجهازا مبرماً . ( يوحنا 12 : 1. - 11 ) . و انهم لفي تساؤل و تلمس و نقاش ، إذ ظهر المشاغب ، ثانية ، في أورشليم ، بجرأة لا تصدق ، هازئاً بالكتبة و العلماء و الشيوخ و الكهنة و السنهدربن برمته

الموكب الفخيـم

لا بد ، منذ الآن من أن نتأثر المسيح ، يوماً بعد يوم لا بل ساعة فساعة في سعيه شطر القرار الأخير … هو الاحد ، 2 نيسان إننا نتمثل تلك الصبيحة من صبائح الربيع في اليهودية ، و ذاك الشفوف الأثيري الذي تنجلي من خلاله الآفاق البعيدة ، و ذاك الهواء العليل ، الحافل بأريج الأعشاب ، و السائل مع تغريد القبرة في نغماتها .المتكررة بلا انقطاع ، و كل ما هنالك مما يبعث في النفس شبه إحساس بجوار نعمة الله . و كان جمع غفير قد غدا باكراً ، علي طريق بيت عنيا ، لسماع يسوع . و لم يكن من لسان آلا و بات يلهج بخير معجزاته ، و الأعميين الذين أفاء إليهما البصر في أريحا ، و خصوصاً بلغازر الذي أعاده إلى ذيه ، بعد أن كان قد انتن في القبر ! .

. و كان يسوع هو أيضا في الطريق شاخصاً إلى أورشليم … و ينهد الطريق مصعداً في المنحدر الشرقي من جبل الزيتون ، فيخلف القمة يساراً ، و يفضي - بعد لف و انعطاف - إلى مشرف يطل منه النظر علي المدينة إطلاله رائعة …. و تألف موكب من ذاك الخليط من الفضول و الإعجاب . و كانت هناك ، قبيل الشعب ، قرية صغيرة ، تدعي بيت فاجي ( أي بيت التين ) ، قد تناثرت علي حفافي الطريق . اذ ذاك أقدم يسوع علي عمل لم يفقه الجمهور توا ًخطورته ، بيد أن الإنجيلين كلهم قد أشاروا إليه .( متي 21 ، مرقص 11 ، لوقا 19 : 29 ، يوحنا 12 : 14 ) . قال المسيح لاثنين من تلاميذه :" امضا إلى القرية التي أمامكما ، فتجدا ، في الحال ، أتاناً مربوطة ،و جحشاً معها ، لم يعله أحد بعد . فحلاهما و اتياني بهما . و إن قال لكما أحد شيئاً ، فقولا : " الرب يحتاج إليهما ، و سيردهما سريعاً "

. دابة ؟… ألعله ، عن تعب ، أمر بها ؟ و لكن المسيح - علي ما يبدو من خلاله الانجيل كله - كان صبوراً علي التعب ، جلوداً في السير ! ام إنه ركوبة ، مثل هذه ، لم يكن لها ، من الأبهة ، نصيب كبير !.. ومهما قيل من أن الحمار الشرقي قوي جميل ، لا يخلوا من الكرامة و اللياقة حتى بذوي المناصب ، كما يتبين ذلك من سفر القضاة (1. :4، 12 :14 ) ، و من سيرة أبشالوم الذي لاقي آجاكس بأنه " رائع كالحمار "- فأنه يبقي ثابتاً ، مع ذلك أن خيالاً رومانياً ، علي حصان أصيل ، كان ربما نظر بشيء من الشفقة إلى ذاك الزعيم الشعبي الوافد علي أغراض أعمق . فالجحش - في تاريخ العهد القديم - هو رمز السلام و الحياة الوادعة ، المتواضعة ، بينما الفرس رمز الحرب و الأبهة و الغزو . و قد أخذ الأنبياء - مراراً - علي الملوك ، تمسكهم الشديد بالخيانة ! فالمسيح ملك - و لا ريب ! - و لكنه ملك مسالم !… و أما الإشارة إلي أن الجحش " لم يعله أحد بعد" . فهي دليل علي " قدسية " ذاك الاختيار فقد كان يعتقد القدامى أن كل حيوان أ, متاع استعمل لأغراض دنيوية ، لا يعود صالحاً للوظائف المقدسة . ( عدد 19 :2 ،21 : 3 ، صموئيل 6 : 7) . و هناك خصوصاً آية ،في نبوءة زخريا ، جاء فيها : " هوذا ملك يأتيك صديقاً مخلصاً وديعاً راكباً علي أتان و جحش ابن أتان "( 9:9) . فالمسيح قد توخي أذن ، من اختياره لتلك الدابة الوضيعة ، أن يوتي الناس آية ماسوية . فالنصر الذي بات علي الأبواب ، أنما هو نصر ذاك الملك الموعود في كتب الأنبياء ، و كان لا بد أن يعلن علي وجه الملأ في اليوم الذي أخذ ينعقد فيه كل شي!

.. نصر ، و لا شك ، زهيد ، و بعيد كل البعد عما ألفه الرومان في احتفالاتهم من مشهد الظافر فوق عربته ، و الجيوش بجحافلها الجرارة ، و الأسري موثقين في مؤخرة الموكب . و أما موكب المسيح فقد توفق فرا إنجيليو إلى اكتناه بساطته و عظمته الوادعة … فقي شبه انطلاقه عفوية انتظم الناس حوله ، من معجبين و فضوليين ، موكباً شعبياً ." و فرش جماعات من الشعب ارديتهم في الطريق . و كان الجموع الذين قدامه و الذين وراءه يهتفون قائلين :" هوشعنا لابن داود ، مبارك آلاتي باسم الرب ! هوشعنا في الأعالي !" ..تلك الأعشاب الوضيعة ، أعشاب اليهودية الخضراء المشحمة ، في نيسان ، والحافلة بالأريج ، أغصان الزيتونة ، شجرة السلم ، سعف النخل الذي لابد منه للاحتفال بأعياد النصر احتفالاً لائقاً…… كل تلك الأعشاب ، تري فيها الكنيسة رمزاً إلي الحسنات التي ينبغي أن نستقبل بها المسيح ، و نطرحها عند أقدامه … و أما عادة فرش الثياب تحت أقدام من يرغب في إكرامهم ، فهي عريقه في الشرق ، تلمع إليها غير واحدة من قصص " ألف ليلة و ليلة " …..و قد روي سفير إنكليزي في دمشق ، منذ مئة سنة ،أنه كان مجتاز ببيت لحم ، لحم فجاء لملاقاته مئات أقدام فرسه ، و هم يتوسلون إليه أن يتشفع لهم إلى الوالي المصري . و كانوا قد أثاروا حفيظته بفتنة قاموا بها

. و كان للفريسيين عيون في كل مكان ، فدهموهم بالنبأ المثير …. لقد كانوا علي يقين من أن المسيح سوف يقصد إلي أورشليم للفصح ، و لكنهم كانوا يرجون أن يلتزم ، كما في حجاته السابقة ، حدود التفطن ، و اذا به يفد علي المدينة وفود الظافرين ، منتحلاً ، جهاراً ، انه المسيح رب المجد ….فقالوا له ، ساخطين : " يا معلم ! زجر تلاميذك !" فأجابهم يسوع : " أقول لكم : إن سكت هؤلاء ، صرخت الحجارة !" ( لوقا 19 : 39-4. )

. عند قمة الجبل ، و في الموضع الذي ينفرج فيه الشعب و تفضي منه الطريق إلي المنحدر الغربي فتهبط فيه هبوطاً سريعاً ، توقف يسوع . و كانت المدينة أمام عينيه ، منبسطة , رائعة ملكية ! و ليس أصلح من منحدرات جبل الزيتون للإشراف عليها ، و لكأنها ، في قاعدتها من الغرب إلي الشرق ، تستسلم للنظر استسلاماً ، فإذا بها - من وراء و هدة قدرون - كتلة صفيقة ، مضر سه. و لم تكن آنذاك مثل ما نعهدها اليوم ، فهي الآن ،في وسط أسوارها المفرضة ، الملونة بألوان البرفير و البنفسج / مدينة من مدن القرون الوسطي ، وضعت يد التاريخ فوقها قبة كاملة التكوير ، ذات زرقة فاتنة ، تذكاراً للخليفة عمر ، و غرست ، ما بين ركامات بيوتها الصهباء ، مسلات المآذن الإسلامية . و أما عهد المسيح ، فقد كان لها - و لا شك - منظر أروع . لقد كانت ، مثلها اليوم ، مدينة الحجر ، لا تدين آلا لناموس الصخر و المعدن . و كأنها - علي حد ما وصفها شاتوبريات - مجموعة مبهمة من الضرائح ، قذفت بها يد الحدثان في جوف الصحاري .. و لكن ما كان أروعها - يوم ذاك - تلك العاصمة الدهرية التي كان هيرودس الطاغية قد خلع عليها ، من بذخه ، حلة قشيبة ّ.. كانت بيضاء حجارة الركائز التي قامت فوقها الجدران العملاقة ، و كان بيضاء يسيل علي جبهنة الهيكل الذي بدا . في تلك اللحظة ، قائماً نصب عيني المسيح . و قد احتل المقدس ، من ذاك المشهد ، نقطته المركزية . بكتلته الضخمة و ساحاته و أسواره و أبراجه المنتظمة في شبيه تصاعد رمزي . و قامت " الانطونيا " علي يمينه - و هي ثكنة الحامية الرومانية - ببنائها المربع المهيب . و تناثر ، هنا و هناك ما شادة الأحبار و الولاة من صروح باذبخة . و انتصب " حصن داود " في البعد خفيراً علي الأبواب التي كانت تفضي إلي البحر ، و كان هيرودس قد أعاد بناءه - إلي جانب قصره - فوق أسس تلك السطوح العاية ، حيث كان الملك الشاعر - في سالف الزمان - ينشد مزاميره ، أمام رب الازل . وكان لذاك الحصن برج منيع يبلغ طوله خمسين متراً و سوف يتحصن فيه - أربعين سنة بعد المسيح - آخر حماة إسرائيل في مجابتهم لجيوش تيطس

. و جاش في صدر المسيح ، لدي هذا المشهد المترامي إزاء عينه ، و من جري ما أنطبع في نفسه الآهلة بالروح من صور النوازل المتربصة ، إيجاس مربع . كل ذدرياته كانت ههنا ، ماثلة أمام ناظرية . ذكريات أمته و شعبه . لقد ملك آباءه في هذا الموضع المقدس . و هم اليوم راقدون في قعر هذه الوهدة المنفرجة إلي شماله ، ما بين ركامات الضرائح البيضاء ، و حراب السرو القائمة . و هذا الهيكل الذي بات وحده ، في الدنيا ، معبداً للإله الحقيقي ، لقد كان أدري الناس بمراميه السامية . فعلام تحتم أن يؤول ذلك كله إلي مأزق فاجع ؟… و لم سمح الله ، في عنايته ، أن يكون ذاك العناد و ذاك التعامي ؟ ….. وإذا به يجهش بالبكاء ! " أوه ! يا أورشليم ، لو علمت ، أ،ت أيضا ، في هذا اليوم ، رسالة السلام ! و لكن قد خفي ذلك عن ناظريك ! فستأتي عليك أيام يحيق بك فيها أعداؤك بالمتارس ، و يحاصرونك ، و يضيقون عليك من كل جهة ، و يمحقونك أنت و بينك الذين ف6يك ، و لا يتركون فيك حجراً علي حجر ، أنك لم تعرفي يوم افتقادك " ( لوقا 19 : 41 - 44 ) كلمات غريبة ، محفوقة بالسر ! و لم يأت المسيح ، فوراً علي تفسيرها

.. لا بد أنه ولج المدينة من " الباب الذهبي " ( و قد ضرب الصليبيون عليه جداراً ، وبنوا فيه معبداً ) ، و كان يفتح ، يوم الشعانين ، فيدخل منه البطريرك راكباً جحشاً و سائراً في موكب مهيب وسط هتافات الجمهور ، و فوق بساط من الثياب و الأغصان . و كان " الباب الذهبي " أقرب الأبواب إلي الهيكل : فشخص إليه . و اذا به أمام ذات المشهد الذي كان قد أثار حفيظته ، قبل سنتسن . فإذ إن التجارة و العبادة كثيراً ما يتفاهمان و يتواطآن ، فالأروقة كانت قد تحولت إلي مصاريف ، و الباحات إلي أسواق ، و القاعات المقدسة إلي حوانيت . و كان ينبعث من ذاك الحرم جلبة حادة : صياح الناس و ثغاء البهائم في اختلاط هجين . فاجتاح يسوع من الغضب مثل ما اجتاحه سالفاً ، و هب يضرب يميناً و شمالاً ، و يرغم الناس علي إخلاء الطريق أمامه …. كلا ! لن يبقي دخوله أورشليم حدثاً مطوياً!! و لقد يسر ليسوع أن يعمد إلي مثل هذه السطوة ، ذاك الموكب الذي سار به حتي الهيكل . و قد تضخم عدد الماوكبين ، لحظة بعد لحظة ، منذ خروجهم من بيت فاجي : و لم يكونوا كلهم من ذوي العقيدة و الولاء ، فالفضول ، في مثل هذه المجاهرات ، نصيب وافر ! و لكن الحمية كانت عظيمة . و كان الأطفال يهتفون له بأصواتهم الصافية . ( متي 21 : 15 - 16 ) فأخذ الفريسيون ، من الحزب المعارض ، يزدادون قلقاً و اضطراباً، و يقولون بعضهم لبعض : " ترون أنكم لا تستفيدون شيئاً ! … فها هوذا العالم في إثره !" ( يوحنا 12 : 19 ) أجل ! حتى بعض الوثنيين من الأمم - ربما من أولئك " المتقين " الدخلاء علي دين التوحيد - أقبلوا علي فيليس و اندراوس يلتمسون منهما مواجهة يسوع { جاء في التقاليد الأسطورية الوثنيين كانوا رسل الأبحر ملك الرها ، و قد أوفدهم الي يسوع ، يستضيفه في ولايته الصغيرة ، و يقال إن يسوع شكر له التفاتته ، و أهداه رسمياً له أعجوبياً . لماذا التمسوا تلك المواجهة ربما لأن يسوع كان ، حينذاك - في " ساحة المؤمنين " و كان يحكم بالموت علي كل أغلف " وثني غير مختوم " يقدم عي الولوج في ذاك الركن المحظور من الهيكل }( يوحنا 12 : 2. - 26 ) . لقد كان يسوع رجل الساعة ! …

. بيد أنه في غمرة ذاك المجد الذي برز فيه للملأ ، وسط أورشليم ، و في تلك الفترة التي كان فيها اسمه علي شفة ، يردده جميع الشعب المحتشد للعيد ، لم يكن ليذهل لحظة عن المصير المتربص به ، و الخاتمة التي شاءها ….و لما جاءه التلميذان يكلمانه في مواجهة أولئك اليونانيين الذين أبدوا ، في طلبه و التعرف به ، رغبة ودية أجابها قائلاً : " لقد حانت الساعة التي يمجد فيها ابن البشر " و لربما وقف علي ما كان يلج ، في نفوس أتباعه من ترقب النصر الدنيوي ، فعاد مرة أخرى إلي إيضاح فكرته و الكشف عن حقيقة ذاك المجد و شروطه الراهنة .أجل " لقد حانت الساعة التي يمجد فيها ابن البشر !"و لكن ….. " الحق الحق أقول لكم : إن حبة الحنطة التي تقع في الأرض . إن لم تمت ، فإنها تبقي وحدها . و أما إن ماتت ، فهي تأتي بثمر كثير ……

" من أحب نفسه ، فأنه يملكها ، و من أبغض نفسه، في هذا العالم فأنه يحفظها للحياة الأبدية " ( يوحنا 12: 24-25 )

في تلك الساعة التي بدا فيها أصحاب الموكب ، من يهود و وثنيين الثمن الذي يقتضيه بعث تلك البشرية الجديدة … لقد انتصب سر الفداء ، حيال ذهنه ، مخضوباً بالدماء . و لم يكن أتباعه ليفهموا بعد ، ما هو المجد الذي وعدهم و ما كانوا ليفهموا ما معني ذاك الرهان العلوي ، حيث " الكاسب دري … و اذ كان انساناً ، و انساناً صميماً فقد غشي نفسه اضطراب الأليم اضطراب الإنسان حيال ذاك الآتي القريب المروع . و لقد غشيه مثل ذلك وقت التجربة في وحشة " جبل الأربعين " يوم جابه الخصم ! و لسوف بغشاه أكثر من ذلك أيضا ، مساء الخميس في بستان جتسماني ، ساعة الأزمة الكبرى . و قد كشف لنا القديس يوحنا ، في بضعة أسطر ، عن ذاك الصراع العنيف : " الآن نفسي قد اضطربت ، ماذا أقول؟ ….يا أبتاه أنقذني من هذه الساعة ! و لكن لأجل هذه الساعة قد جئت " ( يوحنا 12 : 27 ) اذ ذاك سمع دوي أشبه بهزيم الرعد في عواصف الربيع . و واصل يسوع قائلاً ، في انطلاقه خضوع كامل : " أيها الأب ، مجد اسمك !" فكان من الله . في عليائه ، جواب !

. هكذا انطوي في جو القلق البهيم ، ذاك النهار أطل علي الدنيا في إشراقه من النصر الأغر . و قد سمع الجمهور ذاك الدوي الذي هبط عليه من الغيب ، فذهب البعض إلي أنه صوت ملاك : فقال يسوع " ليس من اجلي كان هذا الصوت ، بل من أجلكم !….. لقد حمت ساعة الحساب ! ألان رئيس هذا العالم يلقي خارجاً ، و أنا متي رفعت عن الأرض رفعت إلي الجميع !" . لقد خفي عن اليهود ما انطوي عليه استعمال هذا الجناس من إنذار رهيب . أو لم يرد في النصوص المقدسة أن المسيح يثبت إلي الأبد ؟ فكيف ينبئ اذن بموته ؟ فما معني قوله :" ينبغي أن يرفع !" و من هو ابن البشر هذا ؟ … .( يوحنا 12 : 29-35 ) لقد تبعوا النبي . منذ الصباح ، وها بعضهم قد اخذوا - من الإعياء - ينسحبون شيئاً فشيئاً . و جاء الظلام - و قد غابت الشمس نحو الساعة الخامسة و النصف ، منحدرة في المغرب القاني ، وراء أبراج " فزائيل " و مريمنه " و " هيبيكس " " و كان هيرودس قد رفهعها تخليداً لذكري ثلاثة أحبهم !) و ظل يسوع في إحدى باحات الهيكل ، و قد تضاءل الناس من حوله . و لا بدع فالحياه لا بد أن تعود إلي مجراها و المهام اليومية أن تنال نصيبها و هناك فوق جرود موآب البنفسجية ، أخذت تتسحب أواخر أضواء النهار . كان سمعان الشيخ - يوم قدم يسوع للهيكل طفلاً صغيراً - قد أنبأ " بالنور المنجلي !" ( لوقا 2 : 29 -32 ) و قال يسوع في نصح أخير : " إن النور معكم بعد إلي حين ، فسيروا مادام معكم ، لئلاً بغشاكم الظلام ، لان من يمشي في الظلام لا يدرى أين يذهب ! فما دام النور معكم فأمنوا بالنور ، لتكونوا أبناء النور { أبناء النور تعبير مألوف في كتابات الاسينيين } ( يوحنا 12 : 35-36 )

. أخذ المؤمنون يخلون الهيكل شيئاً فشيئاً . و رجع الكهنة لإقامة ذبائح التقديم ، و ها هم - حفاة - يعرجون في مراقي الحرم ، و حب مع الليل ، نسيم بارد … ما كانت هواجسهم ، يا تري أولئك الاثنا عشر الذين باتوا حول المسيح ؟ لا ! لن يكون اليوم موعد الثورة و استنهاض الشعب ، و إلجاء قيافا إلي أن يمسح ملكاً هذا المسيح الغريب الأطوار !… ثم ما لبثوا أن انحدروا ، في إثره ، إلي الباب الذهبي و ذهبوا في طريق بيت عنيا

الإثنــــــيــــــن

. في الغد عاد يسوع إلي المدينة ، " و كان كل يوم يعلم في الهيكل و كان روساء الكهنة و الكتبة و وجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه . بيد أنهم لم يجدوا إلي ذلك سبيلاً لآن الشعب كله كانوا يستمعون إليه في شغف " ( لوقا 19 : 47-48 )

و كان يسود المدينة في مثل تلك المواسم ، هرج عظيم . فقوافل الحجيج كانت تشخص إلي هيكل الله ، من جميع المنافذ ، و الضيوف يزحمون في المنازل و الخيام تنبعث من الأرض ، وسط الكروم و الزيتون ، في الحدائق المجاورة ، و فوق الهضاب و الروابي . و كان التررخس هيردوس أنتيباس قد وافي المدينة من الجليل و الوالي الروماني ، بنطيس ببلاطس ، قد وصل من قيصرية . و كان قد اعتاد المقام في أورشليم في موسم الفصح ،تدعيماً للحامية الرومانية المرابطة في " الانطونيا " و تحفظاً من تلك الجماهير اليهودية ، السريعة إلي الفتنة و الشعب . و كانت آمراته قد رافقته إلي أورشليم بدافع الفضول . و كانت دروب العاصمة الضيقة و لا سيما الأحياء المطفية بالهيكل ، تغص بالجماهير ، مصطفقة مزدحمة ، ساطعة الروائح ، ينبعث منها - مع جلبه الناس ،و ثغاء الحملان - " نشيد المراقي " موقعا علي نغم " ظبية الصبح "

. إن تعاقب أحداث هذه الأيام ، يبدو في الإنجيل علي جانب من الوضوح ، و لا سيما في إنجيل مرقص ، و مع إننا لا ندري لماذا حشد معظم الأحداث في نهار الثلاثاء . فليس من العسير أن نتتبع سياق الوقائع ، في خطوطها الأساسية . فيسوع قد غادر ، باكراً مبيت ليلته - و لعله منزل أحد أصدقائه " بيت لعاذر؟ أو سمعان الأبرص ؟ " أو لعله أيضا بستان جتسماني ، حيث سنراه ، عشية الخميس - و أوفي الهيكل حيث كان المؤمنون قد أخلدوا إلي الصلاة ….. ثم أنشأ تعليمه ، ما كان يطرح عليه من أسئلة ، و ما كان يجري حوله من أحداث

فقي صبيحة الاثنين ، إذ كان بعد في الطريق ، جرت حادثة ، من تلك الحوادث ، علي جانب من الغربة ، و قد دونها متي و مرقص ، بشيء من الاختلاف . فقد رأي شجرة تين ، علي الطريق ، فدنا إليها " و كان قد جاع " لعله يصيب فيها ثمراً ، فلم يجد آلا ورقا فقط ، فقال لها :" لا تكن فيك ثمرة إلي الأبد ‍ لا يأكلن أحد ثمرة منك إلي الأبد ‍ " ( متي 21 : 18 - 19 ، مرقص 11 : 12 - 15 ) …….غريبة هذه اللعنة ‍ و لكم سال ، في تفسيرها ، من مداد ‍… فهل يعقل أن يحمل التين في الربيع ؟ لقد تجادلوا في ذلك : فقد ورد في التلمود أن بعضهم أكلوا التين ثاني عيد الفصح ، و منهم من أكلوا في آذار …. و مهما يكن من أمر فإن مرقص قد حسم المعضلة بقوله " إنه لم يكن أوان التين { علي افتراض أن هذه الكلمات ليست من زيادات ناسخ منطقي ‍‍‍‍‍‍‍‍‌‍) . فما الحكمة اذن من تلك اللعنة التي تحققت في الحال ؟ فالتينة قد يبست من ساعتها " بحسب رواية متي " - أو في الليلة التالية " بحسب رواية مرقص ، و قد ذكر أن التلاميذ ألفوها يابسة غداة الغد " . إننا بإزراء نموذج فريد " أقلة في الأناجيل القانونية " مما يمكن أن نسنيه " معجزة اقتصاصية " { و أما في الأناجيل المنحولة فنقع علي مثلها } و الغريب أنها تضم شجرة ، بل شجرة محترمة ، لم يكن من واجبها أن تحمل أكلاً في ذاك الربيع الباكر … إن في ذلك لعبرة لم يلبث المسيح أن استخلصها . فقد سأله التلاميذ ، مستغربين " كيف يبست التينة علي الفور ؟ " ، فأجابهم :" الحق أقول لكم ، إن كان لكم إيماناً و لا تترددون ، لا تفعلون ما فعلت بالتينة فقط ، بل إن قلتم أيضاً لهذا الجبل : قم من ههنا و اهبط في البحر ، فإنه يكون ذلك . و كل ما تسألونه في الصلاة تنالونه " ( متي 21 : 21 ، مرقص 11 : 23 ) .

. بيد أن هناك أيضاً تفسيراً نبوياً يمكن الأخذ به . فحادثة التينة هي - علي ما يبدو - من جملة تلك المآني الرمزية - الطريقة أحياناً - التي كان يعمد إليها الملهمون العظام ، للإنذار بالكوارث . من ذلك ما صنعه ارميا ، يوم ابتاع جرة من عند الخزاف ، و راح ضارباً بها الأرض ، علي مشهد من الملأ ( ارميا 19 )، و ما صنعه حزقيال ، يوم أمر الموسى علي رأسه و لحيته ( حزقيال 5 ) . فالتينة الملعونة هي ، و لا شك - في نظر الإنجيليين - إسرائيل ، تلك الشجرة المورقة طقوساً و شعائر العارية من ثمار الحب الراهن ، و لسوف يشير إليه المسيح ، في هذا النهار عينه ، إشارة جلية ، بأمثال ثلاثة

. " كان لرجل ابنان . فدنا إلي الأول و قال له : " يا بني ، أذهب اليوم و اعمل في الكرم " ، فأجاب و قال : " لا أريد ‍ ثم ندم و ذهب ‍‍" و دنا إلي الأخر ، و قال له القول نفسه . فأجاب و قال :" هاءنذا أذهب ، يا سيدي " ، و لم يذهب . فأي الاثنين فعل إرادة الأب ؟" . لقد علق بوسوية علي هذا النص ، فاستخلص منه درساً نفسياً سديداً قال : " إن أصحاب الكباثر هم ، في الغالب ، أدني إلي التوبة من أصحاب التأدب الهزيل العقيم ‍‍‍" و المسيح أدري بما يكمن ، حتى قي قلب المسيحي الأفضل ، من توان و ثورة و لكنه يؤثر ألف مرة الخاطئ التائب ، علي المنافق المتظاهر بالطاعة ، و نفسه تضج بالعصيان . ألا فاسمع ، بل إسرائيل :" إن العشارين و الزواني يسبقونكم إلي ملكوت الله ‍" ( متي 21 : 28 - 32 )

. و يبدو أن تصلب إسرائيل قد أمسي ، عند المسيح ، شغله الشاغر . فهو الذي أشجاه ، أمس ، حتى البكاء ‍‍ و هو الذي ما زال يساوره ، بلا انقطاع و يقذف في قلبه ذاك العذاب الفسيح الذي يتمرس به كل حب خائب . و قد رجع ، في غصون ذاك النهار ، إلي استعمال مثل الكرامة : فهل كان بالإمكان أن يخطئوا فيهم مراميه ، أولئك اليهود المتضلعون من الكتاب ؟………" كرم الله هو آل إسرائيل .." ، علي حد ما جاء في نص معروف من نبوءة أشعيا ، كرم كان يتوقع منه خمر شهي ، فما جاء إلا بالحصرم …. ثم أولئك الكرامون الذين سلمهم رب الكرم أجود ما في رزقة ، و معصرته و برجه ، فلما انتهي أوان القطاف ، أبو أن يدفعوا الغلال ، بل هبوا يعنفون موفدي سيدهم ، إلي أن أوقعوا آخر الأمر ، بوريثه و ابنه الحبيب ، فأولئك الكرامون ، من ذا ، من بين الحضور ، لم يعرفهم ؟ لقد كان التلميح من الشفوف ، بحيث انبعث من الجمع أصول تقول :" معاذ الله " احتجاجاً علي ما جاء في خلاصة كلامه ، من أن رب الكلام سوف يزيل أولئك القتلة ، و يدفع الكرم إلي آخرين . فأبي يسوع إلا أن يفصح عن فكرته " فحدق إليهم - و ما كان أروع ذاك الوجه الرهيب - و صاح مستشهداً بالمزمور ( 118 : 22 ) : " و أما قرأتم قط في الكتب : إن الحجر الذي رذله البناوون . هو صار رأساً للزاوية ؟ …. أقول لكم :" إن ملكوت الله ينزع منكم و يدفع إلي أمة تستثمره " ( متي 21 : 23 - 33-46 ، مرقص 12 :1 -12 ، لوقا 2.: 9-19 )

. و لكأن المسيح ، منذ تلك اللحظة ، قد صمم ألا يعمد من بعد إلي التأني فأنشأ يتحدى الرأي العام تحدياً متعمداً ، و يحمل مواطنيه علي مواجهه مسئولياتهم مواجهة كاملة ….. بوسعهم ، و لا شك ،أن برفضوا دعوة الله إلي الاشتراك في مأدبة العرس ، و أن يؤثروا الانصراف إلي أشغالهم و مهاسهم و أن يقدم بعضهم علي اغتيال موفدي الملك أجل ، و إنما يجب ألا يستقربوا بعد ذلك ، أن يدعي غيرهم إلي احتلال محلهم إلي موائد العرس ، وأن يبحث عن شعوب الأرض قاطبة ، و حيثما اتفق من الدروب ، فيؤخذوا في تلك الشباك الرحيبة . التي سوف تقذفها في الكون بشارة الإنجيل ( متي 22:1-14 )

. لم يكن ذاك التعليم ليهودي في الفراغ ، بل كان يبعث في الجماهير المتراصة في باحات الهيكل تموجات عنيفة . و كان المجلس الأعلى ما زال عند قاره بإهلاك يسوع ، لا بل أمسي أحرص علي تنفيذه من أي يوم مضي . بيد أنه كان يهيب إلقاء القبض عليه ، و هو في وسط أتباعه و المعجبين به ، فأخلد إلي الحيلة ، و أنقذ إليه وفداً يقول له :" بأي سلطان تفعل هذا ؟ و من خولك هذا السلطان لتفعله ؟" أجل ما هذه الفضيحة التي أقدم عليها في الهيكل ، و من صرفه في قلب موائد البدالين ، ومجاثم الحمام و في شتم الأمة الإسرائيلية جهاراً ؟……. سؤال ختال ! .. فإن قال إنه فعل ذلك بصفته ألهاً ، و بتفويض من الله ، فقد وقع في تهمة التجديف ، و إن نكل و تهرب ، فتلك ضربة نجلاء في جانب سطوته .. و لكن المسيح ، و إن لم يألف الهبوط إلي أساليب المماحكة الربينية ، فقد كان يعمد إليها أحياناً ، لا بل كان يفرغ عليها شيئاً من دعابة أهل الريف . فقال لهم : " أحياناً لي إليكم سؤالاً واحداً . أجبيوني عنه فأقول لكم : بأي سلطان أفعل هذا . معمودية يوحنا ، من السماء أم من الناس ؟ أجبيوني !" . فجعلوا يفكرون في أنفسهم قائلين : " إن قلنا من السماء ، قال : فلم إذن لم تؤمنوا به ، و إن قلنا من الناس ، رجمنا الشعب كلهم لأنهم يعدون يوحنا نبياً "، فأجابوا يسوع و قالوا :" لا نعلم ! " ، فقال لهم هو أيضاُ " " و لا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا " ( متي 21 : 23-27 ، مرقص 11 : 27-33 ، لوقا 2. :1-8 ) . من البديهي أن خصوم يسوع ، في إثر تلك المصاولات ، كانوا بزدادون إصراراً علي قتله . و لقد هموا ، بعد سماعهم مثل الكرامين القتلة ، أن يلقوا القبض عليه ، و قد أدركوا حتى الإدراك أنه أنما عناهم به ، و لكنهم خافوا من الجمع ( لوقا 2. :19 )

الثـــــــــلاثـــــــاء

. جرب الأمور في اليوم التالي - بادي الآمر - مجراها اليوم السابق فقد احتشدت الجموع ، ثانية ، حول يسوع ، لنصت إلي كلامه . و إذ كان جالساً باحة النساء ، قبالة الخزانة التي يلقي فيها الأغنياء تقادمهم علانية ، " و كان عدد تلك الخزانات ثلاث عشرة ، لكل منها غرض معين " ، و أشار بإصبعه إلي امرأة ، دلت ثيابها علي ترملها ، و أفصحت عن إملاقها ، دنت إلي الخزانة بتودة و أتضاع ، و ألقت فيها فلسين . فقال : " في الحقيقة أقول لكم : إن كان هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من الجميع . لان هؤلاء جميعاً ألقوا تقادم فضالتهم ، و أما هذه فمما هي بحاجة إليه : إنها ألقت كل معيشتها !" ( مرقص 12 : 41 ، لوقا 21 : 1-4 ) . هناك رسم من أقدم الرسوم الفنية المسيحية ، و هو فسيفساء من الجبل السادس ، في إحدى كنائس رافينا ، يمثل مشهد الأرملة . و الحقيقة أن ليس هناك شئ يعبر بمثل هذا الاقتضاب، و يمثل هذا الكمال ، عن روح المسيح !

ثم أقبل الخصوم ثانية بمكايدهم و أحابيلهم . فقد كانوا له ، أبداً ، بالمرصاد ، ينفذون إليه وفوداً من أهل الوشاية و التحدي . و لقد تواطأ علي ذاك المشاغب جميع أرباب السلطة و الجاه ، و عقدوا عليه جبهة موحدة . فالفريسيون يكرهون الصدوقيين ، و لكنهم تهادنوا علي يسوع ليوقعوا به . و الفريسيون مع الصدوقيين يبغضون الهيرودسيين لأنهم يسرفون ولائهم لرومة و لعملائها و لا الربع . و لكن مرحبا بكل حليف لهم في ذاك الصراع ، و الغاية تبرر الوسيلة !

. و الهيرودسون هؤلاء هم الذين افتتحوا الهجوم . فدنوا إليه ، و العسل يقطر من شفاههم ، و قالوا :" يا معلم ، نحن نعلم أنك بالصواب تتكلم و تعلم و لا تحابي الوجوه ، بل تعلم بالحق طريق الله . قل لنا : أيجوز لنا أن ندفع الجزية لقيصر أم لا " . ماهرة هذه الأحبولة أيضاُ !……فإما التسليم بجزية المستعمر البغيض و التعرض لسخط الشعب ، و أما النصيحة بالرفض و التعرض للوشاية و عند الرومانيين . فكيفما وقع الاختيار ، فهو - لا محالة - خاسر ! و لكن المسيح أجابهم ، فكان جوابه ثاقباً ، لاذعاً : " أروني نقد الجزية !.." . العملة التي كانوا يسكونها ، عهد ذاك في فلسطين ، لم تكن لتتعدى القطع النحاسي الصغير ، و أما العملة الذهبية و الفضية ، فكانوا يستوردونها من روما ، و كانت نادرة ، بعض الشيء ، و لذلك وجب أن يرسل في طلب أحدها . و كان علي الدينار الفضي رسم الإمبراطور ، أي - علي الأرجح - رسم طيباريس " طيباريس كلوديس نيرون ، أوغسطس قيصر " . فقال لهم يسوع :" لمن هذه الصورة ؟ و هذه الكتابة ؟" فقالوا . " لقيصر !" فقال : " ردوا ما لقيصر لقيصر و ما لله لله !" ( متي 22 : 15-22 ، مرقص 12 : 13-17 ، لوقا 2. : 2.-26 ). و لقد توسع القديس بولي في عرض هذه النظرية ( رومة 13:1-7 ) ، ونحا نحوه - من بعده - جمهرة من اللاهوتيين ، توسموا فيها مع الرسول دليلاً علي شرعية السلطان الزمنية . بيد أن العبرة التي تبرز منها بجلاء أعظم ، إنما هي العود ، مرة أخري ،إلي إثبات المبدأ القائل بأن المهمة الحقيقة ، في حياه الإنسان ، هي التماس معرفة الله ، و اقتناء ملكوت السماء

. لم يسع الهيرودسيين ، بعد تلك الضربة ، إلا أن يلزموا الصمت ، معجبين ببراعة يسوع . فناب عنهم الصدوقيون في مواصلة الهجوم . و الصدوقييون من ذوي العناية بالفلسفة و اللاهوت ، و كانت لهم ، في إسرائيل ، مكانة مرموقة . و كان هؤلاء " الرشدون " يزعمون التمسك بالشريعة الموسوية ، علي ألا يضاف إليها شئ أخر

. و أما مذهبهم في الإنسان ، و الحياة الأخرى ، فكانوا يقتصرون فيه علي ما أقرته البشرية قبل ألفي سنة ، و يضعون موضع الشبهة جميع ما الحق بالعقيدة من توسيع و تطوير . و قد جاء في سفر أعمال الرسل أنهم كانوا ينكرون الملائكة و الأرواح و قيامة الأموات . و كان هذا المعتقد الأخير يبدو لهم سخيفاً ، مع أنه كان مرتكزاً علي شهادة أيوب و أشعيا و دانيال … لقد كان عليهم آذن أن يضعوا يسوع موضع السخرية .و كان الشرع ، عند اليهود ، يقضي علي شقيق الزوج بأن يتزوج امرأة أخيه إذا توفي عن غير عقب ، " و يقيم نسلاً لأخيه " . فإذا مات سبعة أخوة . بعد أن تعاقبوا كلهم علي الوفاء لامرأة كبيرهم بالفريضة الشرعية ، فامرأة من من السبعة تكون في القيامة ؟ مشكلة كانت - علي سخفها - تقض مضاجع الفقهاء في إسرائيل ! و قد ورد في التلمود خير يهودي مات له أثنا عشر شقيقاً . و إّ ترتب عليه أن يفي لأرامل أخوته بما يقضي به الشرع ، قرر أن يدخل بكل منهن شهراً ، فاجتمع له - بعد ثلاثة أعوام - ستة و ثلاثون ولداً !….. لقد كان في طريقه معالجتهم لهذا المعتقد العظيم { أي الاعتقاد بقيامة الأموات } - و هو من اوجه ما جاد به الوحي في إسرائيل - كثير من الإسفاف ، بل من البذاءة ! و مع ذلك فلم يبخل عليهم يسوع بالجواب ، بل أنشأ يبين لهم - في إيضاح جديد - أن الأجساد ، من بعد القيامة سوف يخلع عليها من صفات المجد ، ما يصفي جوهرها من علائق المادة ، و شوائب الضعف . " و لسوف يتناول القديس بولس هذه الفكرة و يتوسع فيها بأروع تعبير } ، ثم استشهد يسوع بكلام موسي ، مثبتاً لهم أنها سوف تأتي ساعة يجلد فيها الناس كلهم أمام وجه الخالدين ! ( متي 22: 23-33، مرقص 12 : 18-27 ، لوقا2.: 27 - 4. )

أفحم الصدوقيون ، فناوبهم الفريسيون علي جبهة الحجاج . و الواقع أن الفريسيون ما كانوا ليأسفوا علي ما ألحقه يسوع بالصدوقيين خصومهم ، من خسف ، بل لقد صفق له بعضهم ، وإن تكن قد استبهمت عليهم قضية حشر الأجساد … و لكن كان لابد من محاولة التمكن من يسوع في عقر داره . فابتدروه بسؤال كان قد طرحه عليه - من قبل - رجل

. أولئك السكان الذين هم أمته . و الذين لن يجد إلي إقناعهم سبيلاً . و أذا بالنبوة المخيفة تنطلق من شفتيه ، ثانية : " أورشليم ! أورشليم ! يا قاتلة الأنبياء . و راجمة المرسلين إليها ! كم مرة شئت أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ، و لم تريدوا . فهوذا بيتكم يترك لكم خراباً !… فإني أقول لكم :" إنكم لن تروني من الآن ، حتي تقولوا : مبارك الآتي باسم الرب ! " ( متي 23 : 37-38 ، لوقا 13 : 34-35 )

سر تصلب إسرائيل ، نقع عليه مرة أخري ! فتلك الآية الأخيرة سوف يعلق عليها القديس بولس تعليقاً رائعاً في الفصل الحادي عشر من رسالته إلي الرومانيين . أ<ل ! لقد " تصاب " إسرائيل ، علي حد ما هو مكتوب : "أعطاهم الله روح سبات ، عيوناً لكي لا يبصروا ، و أذاناً لكي لا يسمعوا …" بيد أن " عثرة "إسرائيل ، قد أفضت إلي تحقيق أغراض العناية الربانية . فهي ، إذ سببت مصرع المسيح ، قد أتمت للناس خلاصهم . " فالتصلب إنما حصل لجانب من إسرائيل ، إلي أن يدخل مجموع الأمم " في طاعة الأيمان " . فلا بد إذن من أن يأتي يوم يرتد فيه إسرائيل ، علي وقع الأناشيد ! فإن كان إنتباذهم مصالحة للعالم ، فماذا يكون قبولهم الإ حياة للأموات ؟… " فإن الله قد أغلق علي الجميع في المعصية لكي يرحم الجميع !… فيا لعمق غني الله و حكمته و علمه !" ( رومة : 11 )

. بيد أن يسوع لم يكن ليشهد في تلك اللحظة ، رؤيا الشعب الإسرائيلي مصالحاً في المجد ، في الحقب الأخيرة ، بل رؤيا الكوارث الرهيبة ، المفصلة ، المحدقة به في الزمان الحاضر !… مال النهار ، فخرج يسوع من الهيكل مع تلاميذه ، و جازت الفرقة الصغيرة باب المدينة ، ذاهبة في محاذاة دعائم الحرم ، تلك الضخمة التي رفعها هيردوس إفساحاً لرقعة البناء و اذا نظرت اليوم إلي تلك الجدران من جهة وادي قدرون ، إي من الملحظ الذي كان فيه يسوع في تلك اللحظة ، وقعت في نفسك موقعاً عميقاً من القدرة و الجلال : حجارة عملاقة ، متناشبة علي غير نظام ، نطل من شقوقها أعشاب صلبة و شجيرات . و تشرد منها - في زرقة السماء الشديدة - بيض الحمائم المعششة في تحاربيها …..فقال له واحد من تلاميذه :" يا معلم ! تطلع ! يا للحجارة و يا للأبنية ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!" . و أثني آخرون علي قواعد الهيكل و نفائسه . فأجابهم يسوع : " أتشاهدون هذه الأبنية العظيمة ؟ ألا ترون هذا كله ؟…..الحق أقول لكم : " إنها ستأتي أيام لا يترك فيها ، مما ترون ، حجر علي حجر إلا ينقض ‍! " ( متي 24:1-2 ، مرقص 13 : 1-2 ، لوقا 21 : 5-6)

. و أستغرب التلاميذ إلحاح المعلم في الإنذار بتلك النوزال ، فطفقوا يستوضحون أمرها . وكانوا قد وصلوا إلي منكب الجبل . و أمسوا بمعزل عن الناس أفليس تلك الأمور المدهشة هي علامة منتهي الدهر ، و مجئ ابن البشر في مجده . و متي يكون ذلك كله ؟…." أجل ، سوف تكون هناك آيات بينات للذين يدركون ! و لسوف يظهر مسحاء دجالون ، يركبون الأمة مراكب التهلكة ، و سوف تكون زلازل ، و عجائب في السماء ، و في الناس أوبئة و مجاعات : و أما هم أتباعه ، فلسوف تكون لهم آية أيضاً : أنهم سوف يضطهدون ، و يسلمون إلي المحافل ، و يجلدون بالسياط ، و لا بد لهم من أ، يشهدوا للمسيح بعذابهم و بتاريخ جهادهم بيد ا، المسيح سوف يفرغ علي شفاههم حكمة لن تقوي مناصبوهم علي مقاومتها : لأنهم لن يكونوا هم المتكلمين ، بل الروح القدس " : ( متي 24 : 3.-4 ، مرقص 13: 3-13 ، لوقا 21 : 7-19 ) . و متي أخذ ينشر الإنجيل في الأرض فليعلموا عندئذ أن خراب أورشليم قد اقترب ، فيحيط بها الجنود . و يفتحونها عنوة ، و ينقضونها ، و يرفعون في عقر مقدسها الصم ، ،" تلك الرجاسة القاضية " التي أنبأ بها دانيال النبي ! يا لها من ساعات رهيبة ! " فالذين في اليهودية ، فليهربوا عندئذ إلي الجبال ، و الذي علي السطح فلا ينزل ، و لا يدخل بيته ليأخذ منه شيئاً ، فأن تلك الأيام انتقام فيها يتم جميع ما هو مكتوب ، و يل للمرضعات و الحوامل !…… و لسوف يحل إذ ذاك من الكوارث ما لم يكن مثله منذ بدء الخليقة ، و لن يكون ، و لسوفيكون ضيق عظيم في هذا البلد ، و سخط علي هذا الشعب ، فيسقطون بحد السيف ، و يسبون إلي جميع الأمم ، و يدوس الكفرة أورشليم إلي أن تتم أزمنة الأمم " ( متي 24 :15-22، مرقص 13 : 14 - 2. ، لوقا 21 : 2. -24 )

أربعين سنة من بعد هذا الكلام ، في مطلع نيسان سنة 7. ، كان الجيش الروماني يحاصر المدينة المقدسة ، بكتائبه الأربع ، و مرتزقته من أهل سورية و نوميدية : ستين ألف مقاتل مجهزين بأجود العتاد ! و كان يقود الجيش تيطس بن فسبسيانس ، و كان قد اعتلي عرش الإمبراطورية ، قبل ستة أشهر ، في إثر انقلاب قامت به الكتائب المصرية : و كان مصراً علي الفوز ، و بحاجة إلي أن يجعل من أكاليل غاره ، دعامة عرشه . وأما إسرائيل ، فكان آخر الولاة الرومانيين قد داسو كرامته ، و ساموه من الذل ألواناً ، فانتفض الشعب المختار انتفاضة توهم ، في خيلاته ، أنها سوف تكون في جانب رومة مثل الطعنة المعجزة التي سددها المكابيون إلي الجيوش اليونانية ، فرح يصلي جيوش الإمبراطورية حرباً ضارية ، و إن غوغائية .

. هل هو الزمان الذي أنبأ به المسيح … لقد كانت " الآيات " قد تحققت ، و ليس فقط تلك الغرائب الفلكية ، و الزلازل الأرضية التي ذكرها افلافيس يوسيفس في تاريخه ، بل الأنبياء الكذبة أيضاً ، و المسحاء الدجالون : و كان قد تفاقم عددهم ، و كثر بينهم الأغنياء و المشعوذون . و لا بدع ، فأنه ليس من مختل إلا و يجري في إثره أتباع !……

أو لم يتفق لأحد المتهوسين المصريين أنه حشد الجماهير يوماً في جبل الزيتون ، و طفق يؤكد لهم أنه يستطيع - بإشارة من بنانه - أن يهدم أسوار المدينة ؟….. و قد ظهر أيضاَ " نبي " أخر ، اسمه يشوع بن حنان - و كان رجلاً أمياً من الريف - وراح ينادي في الشوارع و الساحات ، قائلاً :" أقوال من الرياح الأربع ! أقول علي أورشليم ! أقول علي جميع الشعب !"

إلا أن بعضاً من أولئك القادة كانوا أكثر خطراً : منهم جماعه " الخنجرين " ، و كانوا قد خلفوا " الغيورين " في سياستهم ، و كان علي رأسهم قائد غريب الأطوار ، مقدام جهنمي ، يدعي يوحنا الجشقالي ، و كانوا يعملون علي فرض طغيانهم بشفار الحناجر … و أما المنازعات الضارية، و الأحزاب المتطاحنة ، و الحروب ، الفتن ، فقد خبرتها المدينة خبرة واسعة ! و كان الصدوقيون و الفريسيون و الزيلوتيون - حتى أثناء الحصار - يتناحرون داخل الأسوار . فمنهم من أقاموا في برج داود . و منهم من طوقوا الهيكل و احتلوا أوفيل وبيت حسدا ، و منهم أخيراً من تحصنوا داخل الحرم . و اجتاحت الفضائح كل مكان ، وهب الخنجريون - و هم الذين أعلنوا الفتنة تأييداً لحرمه الله و الشريعة ! - يسبون النساء اليهوديات ، و ينتهكون الأعراض ، و يستبيحون القتل و الاغتيال سبيلاً إلي الانتقام و مطية للكسب و الجشع . و كان تيطس يرابط في جبل سكوبس ، و منه يوجه الزحف علي المدينة بصورة منتظمة . و كان اليهود - بادئ الأمر - علي ثقة من قوتهم : يعدون عشرة آلاف محارب يهودي، وخمسة آلاف أدومي من المرتزقة المغاوير . و كانت المدينة تبدو لقاطنيها حصناً أعز من أن ينال ، و قد أحدق بها ثلاثة أطواق من الأسوار ، و قام علي خفارتها تسعون برجاً . و كان في المدينة . فشلاَ عن ذلك ، أربع مئة منجنيق ، كان اليهود قد ابتزوها - قبل فترة من إحدى الكتائب الرومانية . و تم الوفاق ، نوعاً ما ، داخل المدينة ، فصمدت في وجه الحصار . بيد أن الرومان ، إن لم يحرزوا بقوة سواعدهم إلا انتصارات بطيئة ، فقد صادفوا في الجوع - ذاك الذي تنبأ به المسيح أيضاً ! - حليفاً أشد و بالاً و أسرع فتكاً ! فلقد كانت المدينة تغص بسكانها ، و قد داهمها العدو مداهمة سريعة - و هذا أيضاً أنذر به المسيح ! - فانحجز فيها حجاج الفصح مع عدد كبير من لاجئ الأقاليم . و ضرب عليها تيطس جداراً محصناً - طوله 8 كيلوا مترات - قطع عليها جميع الموارد . فاضطرب الجنود إلي التقوت من سلبهم ، و كل الذين حاولوا الإفلات من ذاك الجحيم ، وقعوا في متارس الأعداء : أما النساء فكان الرومان يبترون أيديهن ، و يردونهن إلي المدينة ، و أما الرجال فكانوا يصلبونهم علي مشهد من مواطنيهم . و قد اندلعت يوماً أمعاء أحد المصلوبين ، تحت وقر النقود الذهبية لتي كان قد خبأها في أحشائه ، فأخذ الرومان ، مذ ذاك يبقرون بطون المساجين عن يد معاونيهم في الجيش من بدو وزنوج ! و اشتدت وطأة الجوع ، فاضطر الأهلون إلي ارتكاب ما لا ينعت من الفظائع . فقد استروح بعض الجنود ، يوماً ، رائحة شواء منبعثة من أحد المنازل ، فولجوه ، فتقدمت إليهم امرأة بطبق من فضة ، و هي تنطلق في ضحكة جنوبية : و إذا فوق الطبق أشلاء طفل !

. و استمرت ذاك الهول مئة يوم . و اقتحم الرومان الجدار الثالث فالثاني ، و ما استسلمت أورشليم ! وراح الرومان يحتلون الأحياء بيتاً بيتاً حتى خيل إليهم أن ليس هناك من قوة تمكنهم من الإجهاز علي تلك المدينة العصية . و كان أهلها قد أمسوا من الجوع أطيافاً ، و جثثاً مهزولة ، و ظلوا مع ذلك ، يجدون إلي الجلاد سبيلاً . و لما أخذت الأنطونيا ، أصبح الهيكل معقلهم الوحيد ، يردون من ورائه زحف الرمان الشامل . و تردد تيطس في إضرام النار ،" تلك المعجزة الرائعة " - علي حد ما وصفها تاقيطس - أفيكون دمارها عن يده ؟… و كن لما لم يعد له أي حيلة في حطم المقاومة ، أشعل النيران عند أبواب الهيكل ، فالتهب الأرز النفيس ، و سال الذهب و الفضة ، و انهار رواق سليمان ، إذ ذاك اقتحم العصاه ألسنة النيران المندلعة - و علي رأسهم يوحنا الجشقالي - وذوا ، عن طريق جسر التروبيين ،بالمدينة العالية ، و قد باتت مفزعهم الأخير . فتعقبتهم الخيالة النوية عدواً فوق الأزقة المنحدره ، مكتسحين كل شئ في طريقهم ، ما بين دحرجة الجماجم المحصودة ……

. و لما استوسق النصر لتيطس ، هب بتدبر مع أركان جيشه طريقه الحد من الدمار . فولج المقدس ، و تقدم إلي الجند بإطفاء النار . و لكنهم لم يعوا من أو مراه شيئاً ، و قد استفرسهم طول الانتظار ، و ضراوة القتال . فأمعنوا في اليهود قتلاً و سيبياً ، و ذبحوا الكهنة عند باحات الهيكل . و كان الجنود الرمانيون و مرتزقتهم من البدو بحملون المشاعل ، و يذكون الحرائق ، و يعيشون في المدينة دماراً لم يعد له من عائدة سوي أنه كان تنفيذاً لحكم القدر ، و تحقيقاً لأغراض السماء ! و قد قال الروماني المنتصر :" لقد كانت وطأة يد الله علي ذاك الشعب من الوضوح بحيث كان من الكفر أن نعفي عنه !" ….. و انسحب تاركاً إسرائيل الأولون قد لجأوا إلي بلا ، في شرقي الأردن ، و كانوا قد عرفوا - قبل فوات الأوان - أن يتبصروا في طلائع الكارثة ، و كانوا كلما ترامت إليهم الأنباء المخفية ، يتذكرون أقوال المعلم النبوية … قد تحققت جميعها ! " الحق أقول لكم ": " إ، هذا الجيل لن يزول ، ما لم يتم الكل ! السماء و الأرض تزولان . و أما كلامي فلا يزول البتة ! " ( لوقا 21 : 33 )

رؤيا الثلاثاء : الإنباء بالدينونة

تلك الرؤيا التي انبعثت منها ، أما م المسيح ، الساعات الحوالك التي سوف تنزل بإسرائيل قضاء الويل ، ألعلها هي التي أفضت به - عن طريق المقايسة - إلي ذكر دينونة أخري سوف تزان فيها البشرية بموازين الأبد ؟… أو لعل توقع الفاجعة المتربصة به ، قد أهاب به أيضاً إلي تمثل تلك اللحظة التي سوف يعقد له فيها النصر المخلد ؟ من امتيازات النبوة أن تخرج بصاحبها عن حدود الزمن . و لما كانت أفكاره غير منتظمة في سلك الزمن ، فهي تتلاحم عن طريق المقاومة ، و تتلا بس عن طريق المجانسة ، و ذلك ما يخلع حتماً علي أقوال الأنبياء حجاباً من الإبهام . و المخلص نفسه قد خضع لهذا الحال، يوم استسلم ، باختياره للروح النبوي ، فجعل يلبس خراب أورشليم بخراب الكون ، مجرداً من علائق الزمن ، أوصاف الكوارث الكبرى في تجانسها الموضوعي " { للكاتب جوزيف دي مستر ، في الحوار الحادي عشر من " امسيات سانت بترسبورغ "} . و الحق أن ليس من إبهام في أقوال المسيح هذه . بيد أن فكرته قد خضعت - بلامراء - لقانون المجانسة ، أ:ثر مكن تقيدها بقوانين المنطق . و المجانسة إنما هي من أعمق وسائل المعرفة البشرية ، و لكن من أشدها غموضاً . هذا ، و قد أصاب التلاميذ أنفسهم وجه التقارب بين الدينونتين ، فسألوه في شأن " المنتهي " .

" مثلما أن البرق ينبثق من المشرق ، و يلمع حتى المغرب ، كذلك يكون مجيء ابن البشر " فسأله التلاميذ : " يا معلم أبن ذاك ؟" فقال :" حيثما تكون الجثة ، فهناك تجتمع النسور !" جواب غامض ! و لكن لا أدري أي نور سماوي ينبعث منه ، فأذا به من أروع ما جاء في الإنجيل من وحي شعري : فكما يهتدي النسر إلي رزقه ، يهتدي الصديقون إلي مخلصهم . أو - في تفسير أخر - حيثما تكون الخطيئة ، تلك الجثة المتفسخة ، ينقض عدل الله عليها انقضاض الكواسر ……

" و علي الأثر ، بعد ضيق تلك الأيام ، تظلم الشمس ، و القمر يحبس ضوءه ، وتتساقط الكواكب من السماء ، و تتزعزع قوات السماوات ، و يكون كرب للأمم علي الأرض ، حيرة من عجيج البحر و جيشانه ، و تزهق الناس من الخوف في انتظار ما سيأتي علي المسكونة " " و عندئذ تظهر علامة ابن البشر . و عندئذ أيضاً ينوح جميع قبائل الأرض ، و يشاهدون ابن البشر آتياً علي سحاب السماء في كثير من القدرة و المجد . و يرسل ملائكته بالبوق العظيم ، فيجمعون فيجمعونه مختاريه من مهاب الرياح الأربعة ، من أقصي السماوات إلي أقصاها ."

مثل هذه الأقوال كم كان - و لا شك - وقعها في نفوس أولئك الأوفياء الذين كانوا يضعون إليه ! فالصور التي عمد إليها هي نفس الصور التي ألفها اليهود في كتب الأنبياء ، و التي أزهرت في كتب " الرؤى " ، القانونية منها و المنحولة . أو لم يكن أشعيا قد أخبر أن سقوط بابل و جزاء أدوم سوف يسبقهما مثل تلك الطلائع ( أشعيا 13 و 34 ) ؟ أو لم يكن إرميا قد أنبأ يمثل ذك علي أورشليم (5) و حزقيال علي مصر (32) ، و يوئيل خصوصاً ، إذا أخبر عن يوم الرب المشهود ، بمثل أسلوب المسيح (1 : 1-1. ) ؟ و أما بشري مجيء المسيح في مجده ، فقد كان بإمكان كل يهودي أن يتذكر ما جاء عنها في نبوءة دانيال الشهيرة ، حيث قال : " ورأيت في رؤى الليل ، فإذا بمثل ابن البشر آتياً علي سحاب السماء ……" ( دانيال 7 : 13-14 ) . لكم كان إذن خوفهم ؟… فالسؤال الذي كانوا قد طرحوا - و الذي يتبادر إلي لسان كل مؤمن يفكر في تلك اللحظة الرهيبة - ألعلهم ، يا تري ، كرروه : " متي يا رب ؟"

. أو ليس حسبهم تلك " العلامات " التي أتي علي ذكرها ، للتعرف بالزمان المحتوم ؟ أو ليس إذا أخرجت الأشجار أوراقها ، و أخذت تبعث النضج شيئاً فشئياً في ثماوها ، تقرر لهم أن الصيف بات علي الأبواب ؟.. و أما أو يكشف لهم عن اليوم و الساعة ، فذلك مستحيل ، لان الآب وحده يملك سرهما . لقد كان الناس يأكلون و يشربون و يتزوجون ، إلي أ، دهمهم الطوفان ، و كانت سدوم منغمسة في الترف يوم أطبق عليها من السماء نار و كبريت ، كذلك يكون مجيء ابن البشر : مباغتاً و مستغلقاً من جميع الوجوه ! فهاتان المرأتان الجالستان إلي الرحى ، و الآخذتان بمقبضة الجاروشة العيلية ، تتناوبان علي إدارتها تارة ذات اليمين و تارة ذات اليسار ، سوف تؤخذ إحداهما وتترك الأخرى . و هذان القرويان المنصرفان إلي الفلاحة ، جنباً إلي جنب ، سوف يخلص أحدهما ، و يهلك الأخر !… النتيجة أذن واحدة ، حاتمة ّ فقد قال المسيح في كتاب " الرؤيا " :" سوف أتي ماللص !" ( 3 : 3 ) . فلا بد إذن من التيقظ و السهر ، لئلا يأتي السارق و ينقب جدار البيت . و يجب ألا يتمثل المؤمن بالعبد المتهاون ، الذي استغل غياب سيده ، فطفق يأكل ويشرب ، و عندما عاد سيده وجده نائماً . فاسهروا إذن وصلوا في كل حين ، فتحسبوا أهلاً لأن نفلتوا من شر تلك الكوراث

بهذه التوصيات انتهت تلك " الرؤيا " التي اجتمعت الأناجيل المؤتلفة علي تدوينها ( متي 24 : 23-51 ) ، مرقص 13 : 21 - 37 ، لوقا 17 : 22-37 ، 21 : 25-36 ) . بيد أ، القديس متي قد أضاف إليها رواية مثلين ، فالأول - مثل العذارى الحكيمات و العذارى الجاهلات هو شبه تعليق رائع علي ضرورة السهر . و قد اتخذه نفاشو القرون الوسطى ، مراراً موضوعاً زخرفياً : فأذا خمس منهن إلي يسار المسيح ، و خمس إلي يمينه ، يمثلن مشهد الدينونة الأخيرة . فالحكيمات منصرفات إلي تعهد زيت " المشاهدة " و التأمل . بينما الجاهلات شاخصات باكتئاب . إلي سرجهن الصغيرة ، و قد بدت مقلوبة … و قد أخذ المسيح هذه القصة الصغيرة مما كان مرعياً ، عند اليهود ، من ملاقاة العريس - ليلة زفافه - في موكب هزج ، و الدخول به إلي حيث كانت تنتظره العروس ، و إننا لنجد لها - علي بساطتها و قرب متناولها - من قوة الإقناع ، ما نجده في أجود أمثال الإنجيل . و كل منا يعلم يقبنا - إذا أصغي إليها - أن ذاك الهتاف الليلي المباغت الذي يستنهض المتهاونات . إنما هو صوت أملاك - في الأيام الأخيرة - ينادي به البشرية إلي الحساب . ( متي 25 : 1-13 ) .

. و الدينونة هي التي يرمز إليها أيضاً المثل الآخر : مثل الوزنات . فلقد أوتي كل إنسان إمكاناته و طاقاته ، و سوف يحاسب عنها يوماً . فالذي أوتي كثيراً ، يطالب بالكثير ، و ليس فقط بمقتضي العدالة البشرية ! ففي عالم الروح ، كل من أقتني كثيراً يعطي و يزاد ، و أما من اقتضى قليلاً ، فالقليل أيضاً ينزع منه ( متي 25 : 13 - 3. ) هكذا يكون يوم المسيح ! " فمتي جاء ابن البشر بمجده ، و جميع الملائكة معه ، حينئذ يجلس علي عرش مجده عن الداء . و يقيم الخراف عن يمينه ، و الجداء عن يساره . حينئذ يقول الملك للذين عن يمينه :" تعالوا يا مباركي أبي ، رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء العالم ! …" . و يقول للذين عن يساره :" أذهبوا عني ، يا ملاعين ، إلي النار الأبدية التي أعدت لإبليس و ملائكته !…" ( متي 25 : 31 - 46 )

لم تكن هذه أول مرة يخبر فيها المسيح - علي هذا النحو - بالدينونة الأخيرة . فلقد كان أنبأ ، مراراً ، بتوزع البشر إلي فئتين : فئة الأخيار ، و فئة الأشرار ، فئة الذين سوف يثابون بالرؤية السعيدة ، و فئة الذين سوف يصلون ناراً حامية : القيمين الخونة ، و العذارى الجاهلات ، و المدعوين الذين لم يرتدوا ثياب العرس ، و الكرامين القتلة ، و الزوان المفصول عن الحنطة !….. هكذا نقضي النهار علي وقع ذاك الدرس الرهيب - و لعله أشد الدروس هلا! - و لكان وقعه أشد من أن يحتمل " و لتشوه ، من جراء ذلك ، رسم " المعلم الصالح "" ، لولا تلك الكلمات الرقيقة التي ذيل بها القديس متي الفقرات الأخيرة من هذا الفصل . فالمسيح ، في يوم الحساب ، سوف يقول للمباركين : " جعت فأطعمتموني ، عطشت فسقيتموني ، كنت غريباً فآويتموني ، و كنت مريضاً فعدتموني ، و محبوساً فأتيتم إلي !" . حينئذ يجيبه الصديقون قائلين :" يا رب متي رأيناك جائعاً فأطعمناك ، أو عطشان فسقيناك ، ومتي رأيناك غريباً فآويناك ، أو عرياناً فكسوناك ، و متي رأيناك مريضاً أو محبوساً فجئنا إليك ؟ "، فيجيبهم قائلاً:" الحق أقول لكم ، أن كل ما صنعتموه إلي واحد من أخوتي هؤلاء ، إلي واحد من الأصاغر ، فإلي قد صنعتموه! " . فق غمرة قد عني يذلك أن الحب إنما هو جوهر الدعوة المسيحية ، و تعزية القلوب التي تصغي إليها .

يــوم يهــــــوذا

ربما لبث المسيح في بيت عنيا ، نهار الأربعاء و هكذا الاستنتاج قد ذهب إليه استناداً إلي أن الإنجيل لا يورد للمسيح أي تعليم في ذاك النهار ، و إلي أن القديس مرقص و متي قد أثبتا فيه خبر المأدبة عند سمعان الأبرص ، حيث افاضت مريم الطيب علي رأس يسوع . و كان يسوع - في الليلة السابقة - قبل أ ن يغادر أصفياءه ، قد أودعهم كلمة أخيرة :" تعلمون أن الفصح بعد يومين ، و ابن البشر يسلم للصليب " ( متي 26 : 1-2 ) . هو الإنباء الرابع بمصيره !….. أفي ذات اللحظة ؟… أم في غصون الأربعاء ؟…" اجتمع رؤساء الكهنة و شيوخ ا لشعب ، في دار رئيس الكهنة ، المدعو قيافا ، و ائتمروا أن يلقوا القبض علي يسوع - بحلية - و يقتلوه . بيد أنهم كانوا يقولون : لا في العيد ، لئلا يقع بلبال في الشعب " ( متي 26 : 3 - 5 ، مرقص 14 : 1 - 2 لوقا 22 : 1 - 2 ) . لقد كانت سافرة كل السفور أغراض أولئك السياسيين : يريدون التخلص من ذاك المشاغب - أياً كان الثمن ! - و لكن من غير أن يثيروا في الشعب .

و اّا بيهوذا في تلك اللحظة بالذات !…. لقد باتت ملامح شخصيته ، منذ مطلع رسالة يسوع ، مخفية بعض الشيء . و قد عرض به المعلم أحياناً ، في سياق الإنجيل ، و لكن بأسلوب سريع غامض لم ينجل إلا من بعد وقوع الكارثة , فشأنه إذن ، في الظاهر ، و حتي اللحظة التي أزمع فيها الخيانة ، شأن التلاميذ الأحد عشر، و ذلك أ/ر لا ريب فيه . ففي ذاك النهار - الأربعاء - وطن النفس علي اقتراف تلك الجريمة التي سوف تظل ، الدهر ، ملتصقة باسمه التصاق العار ! و كأن الإنجيليين قد أعرضوا عن تدوين أي حدث آخر - لذلك اليوم - لكي تبرز في غمرة نورها الفاجع ، جريرة ذاك الأسخريوطي ، إلي رؤساء لكهنة ، و قال لهم :" ماذا تريدون أن تعطوني ، و أنا أسلمه إليكم ؟" ، فلما سمعوا فرحوا و اتفقوا أن يعطوه ثلاثين من الفضة . و فاوض رؤساء وقواد الحرس علي طريقة تسليمه بمعزل عن الجمع … و أخذ منذئذ ، يطلب فرصة مؤتية " ( متي 26 : 14 - 16 ، مرقص 14 : 1. - 11 ، لوقا 22 : 1 - 6 )

. ما كانت تلك " الثلاثون من الفضة " ؟ لقد جاء في التقاليد أنها ثلاثون ديناراً حتى لقد أصبح " ال ثلاثون ديناراً " - عبر الأجيال - رمزاً إلي الخيانة النكراء . و الواقع أن التعبير فيه شيء من الأبهام و الأشكال ! فهل كانت ثلاثين درهماً ؟ أم ثلاثين مثقالاً يهوديا؟ أم ثلاثين ديناراً رومانياً ؟….. لقد كان مرتب الجندي الروماني لذلك العهد ، 225 ديناراً في السنة ، فإذا عمدنا إلي المقارنة ، كانت قيمة " الثلاثين من الفضة " 9. فرنكاً ذهباً تقريباً : مبلغ له شأن ، و لكنه زهيداً جداً بالنسبة إلي جسامة الجرم . و أما أن يكون المبلغ " ثلاثين مثقالاً يهودياً " فهو من باب المقايسة ، بالثمن المطلوب عن دم العبيد ، فإذا صح ذلك فهو تعريض جارح بيسوع ، بالإمكان أن نستشهد أيضاً بهذا النص الوارد في نبوءة زخريا : " و قلت لكم : أن حسن في عيونكم ، فهاتوا أجرتي ، و آلا فامتنعوا ، فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة " ( زخريا 11 : 12 )

.. و إنما لا بد من الإقرار بأن دوافع تلك الجريمة النكراء لا تزال مستبهمة ! لقد جاء - و لا شك - في إنجيلي يوحنا و لوقا " أن الشيطان - ملاك الشر - يلبس كل خاطئ ، و إن كان أخف وزراً - بما لا يقاس - من يهوذا الخائن ! فذلك ، و لا بد ، وجه من وجوه التعبير ، و قد شاعت عند العرب ، حتى اليوم ، عادة القول : " لقد دخل في الشيطان " ، اعتذاراً و تبرواً . و أما اذا حملنا العبارة علي مفهومها الأصلي الكامل ، و جب أن نعلل لماذا تخلي يسوع للأبالسة عن أحد أتباعه ، و قد طالما كسر شوكتهم ؟…

الواقع أن كل تفسير يعيا في قضية يهوذا الإسخريوطي . فالباعث علي الخيانة ، بحسب ظاهر الإنجيل ، إنما هو الجشع ، و الشيطان الذي لبسه إنما هو " مامون " ، و قد قال يوحنا ، صراحة : " إنه كان سارقاً ، و إذ كان الكيس بيده ، كان يسرق ما يلقي فيه " (يوحنا 1 : 6 ) . أفلم يكن أجدي له - و الحالة هذه - أن يظل علي اختلاس الكيس ، من إن يبيع معلمه بذاك الثمن البخس ؟ هذا ، و لسوف نراه - بعد إذ وقف علي عاقبة خيانته الفظيعة - يقذف الفضة في وجه المحفل ، و يلتمس في الشنق آخر محفوظ ، لم يكن " مامون " قد استولي عليه ! فإذا لم يكن الطمع ، أفتكون الخيبة هي التي دفعت الرجل في سبيله ؟ أن أول إشارة ، في الإنجيل ، إلي خيانته ( يوحنا 6 : 7. ) تساند هذا الافتراض . كان ذلك في غد " معجزة الخبز " . و كان يسوع قد توارى عن الجمع الذي هم بمبايعته ملكاً ، و أخذ في كلامه عن " خبز الحياة " ، يرسي مبادئ عقيدة لم تترك أي مجال للمطامح الدينونية . فقد يكون أن يهوذا ، في تلك اللحظة بالذات - و هو الذي لم يلتحق بيسوع إلا طمعاً بالعرش - قد خذل المسيح في قرارة نفسه ، و لذلك قال المسيح لتلاميذه ، عبارة مبهمة : " أن واحداً منكم هو شيطان ! " . و الواقع أن سيرة المعلم ، في جميع أطوارها اللاحقة ، لم تكن إلا لترسخ الاسخريوطي في يقينه بأنه لم يبق ثمة اي خير يرتجي !… فالسخط و الخنق قد يكونان من الحوافز التي حملته علي التخلص من زعيم قد خاب فيه كل رجاء ……

بيد أن هذا التفسير لا يعلل التلوم و الانتحار . فلو كان الأمر علي ما ذكرنا ، لوجب أن نراه يتطوس زهواً بنجاح مساعيه الماكرة ، و لا يقع في نفسه الخسيسة موقعاً باهظاً ، تعيير أولئك سلموه " الثلاثين قطعة من الفضة " . أجبان إذن ؟ و واحد من أولئك الحقيرين الذين ألفوا - في ساعة الخطر - استجابة جميع المنكرات ، ضناً بحياتهم و مصالحهم ؟! و لكننا لا نفهم جيداً أن يكون المسيح قد اصطفي رجلاً بمثل تلك السخافة ، و أبقاه في بطانته ، مدة سنتين ! ثم إن الذي يظهر من الإنجيل - مهما استبهن فيه المعلومات عن الخائن - هو أن الاسخريوطي كان عنيفاً جهماً أكثر منه ، منه جباناً هزيلاً ، يثبت ذلك - مثلاً احتجاجه علي تفريط مريم بالطيبي النفيس ، ثم - فيما بعد ليلة العشاء السري ، خروجه من الغرفة خروجاً مفاجئاً .

. ربما كان ذلك اصلح تفسير لطوية ذاك الرجل . و لكن إلا يكمن تحت ستار ذاك العنف أقل نكراً ؟… أفلا يكون الحب هو الحافز الصميم ؟ و ليس الحب المشرق ، النزيه ، الذي كان يختلج في قلب بطرس ورفاقه العشرة ، بل ضرب من تلك الميول الجامحة المستأثرة التي تهبط إلي تهبط إلي أقصي الدركات بالقلوب التي يتأكلها الحسد ، الحب الشبيه بالبغض ، و الذي يستطيع أن يستحيل فجأة إليه يلفي نفسه - بعد الكارثة - في غمرة اليأس و الألم الفسيح !………. ألا فلنتوقف عند هذا الحد من محاولات التفسير هذه ! فهي محص تعليلات بشرية ، نفسه ، و لا تنال الجوهر . فإن اعتقال يسوع عن يد زبانية السنهدرين ، و القضاء عليه جوراً ، لا يكونان فقط حدثاً - زهيداً - في تاريخ النبوة اليهودية ، و تاريخ الجبانات السياسية ، بل هما - في نظر المسيحية - الوسيلة التي تحقق بها السر الأعظم ، أي سر الفداء . كان ينبغي للمسيح أن يسلم !… فمن الناحية لم يكن إلا بوسع واحد من أتباعه أن يعين الفرصة التي كان يمكن فيها إنجاز المهمة من غير إثارة للفضيحة . و أما من الناحية النبوية ، فقد كتب : " صاحب سلامي الذي اتكلت عليه و أكل خبزي ، هو الذي يعيرني فأحتمل ، و لا مبغضي هو الذي تجبر علي فأتوراي منه ، بل أنت أيها الرجل ، عديلى و أليفيى و أنيسي " ( مزمور 54 : 13 - 14 ) . كان ينبغي أن تقع علي المسيح كل نذالة الإنسان و كل خساسته ، فتم بذلك تضحيته . و لسوف يقول بطرس صراحة - علي ما جاء في " أعمال الرسل " : " أنه كان يجب أن تتم كلمة الكتاب التي سبق الروح القديس فقالها بفم داود ، عن يهوذا الذي صير نفسه دليلاً للذين قبضوا علي يسوع "( أعمل 1 : 16 ). هذا ، و ليس في الإنجيل كله قول أشد إشكالاً من العبارة التالية - و هي تنطبق كل الانطباق علي يهوذا : " لا بد أن تقع المعاثر حتماً! … و لكن ويل للإنسان الذي تقع المعاثر عن يده ! " ( متي 18-7 )

عشــــــاء الخميـــس

عن نهار الخميس بالذات ، لا يذكر الإنجيل شيئاً . و أكب الظن أن يسوع قد أمضاه ما بين لفيف أصفيائه و أسرته . و كانت العذراء حاضرة ، يوم ذاك ، و سوف تكون ماثلة ، في الغد ، أمام الصليب ، و مع المساء ابتدأت تنطلق الأحداث الحاسمة . و قد رواها الإنجيليون الأربعة ، بكثير من التفصيل ، يكمل أحدهم الآخر . و حتى القديس يوحنا - الذي لا يكرر عادة رواية ما ورد في الإنجيل المؤتلفة - نراه بحاجة إلي الاسترسال في التدقيق و الاستفاضة في التفصيل …. و هكذا بإمكاننا - منذ الآن - أن نتبع سياق الأحداث ، ساعة بعد ساعة ، و أن نتأثر خطي المسيح علي درب الآلام .

. كان الفصح ، في نظر الإسرائيليين ، اعظم أعيادهم علي الإطلاق . فإذا بدا لنا أن نستوعب مراميه و نفهم شعائره ، وجب أن نطالع الفصل 12 من سفر الخروج ، حيث ورد وصف تفاصيله من عهد موسى . و يرجع تاريخ ذلك إلي أيام الجلاء في مصر ، إذ أزمع مع الله - استجابة للنبي - أ، ينزل بالشعب المصري الجائر ، " الضربة العاشرة " ، فيفني ، ليلاً ، جميع أبكار المصريين . و أما العبرانيون ، فقد أوعز إليهم - لئلا تقترض إبكارهم - أن يجعلوا علي عتبات أبوابهم علامة : دم حمل مذبوح ." و أ، يأكلوا لحمه ، في تلك الليلة ،سواء نار بفطير ، مع أعشاب مرة … و أ، تكون .. مشدودة و نعالهم في أرجلهم ، و عصيهم في أيديهم " كمن أزمع السفر ، فيكون لهم ذلك " فصحاً للرب " و تذكاراً " لعبور " الله و فريضة مقررة ، من جيل إلي جيل ، مدي الدهر . و أمرهم الرب أن يمتنعوا عن الخمر مدة سبعة أيام ، فلا يأكلوا إلا الفطير ، و يقفوا لعبادة الرب جميع أيام ذلك الأسبوع

و قد حافظ التقليد اليهودي علي جميع تلك الشعائر حفاظاً شديداً ، و قد كثرت في التلمود تفاصيلها ، فكان لا بد أن يشوي الحمل علي لنار حامية ، من غير أن يكسر له عظم ، و أن ينفذوه قضيباً من زمان ، و قد حدد عدد الكؤوس التي يجب شربها أثناء تلك المأدبة المقدسة ، و قرر أ، تحوي الكأس ثلثها خمراً و ثلثيها ماء ، و عددوا الأعشاب المرة ، و أما المرق الذي كانوا يغمسون فيه تلك الأعشاب فقد باتت له تتبيلة مدققة مفصلة . فهل هذه هي المأدبة لتي اجتمع لها المسيح مع تلاميذه ليلة الخميس المقدس ؟ .

" في اليوم الأول من الفطير ، الذي فيه يذبح ، دنا التلاميذ إلي يسوع ، و قالوا : " أين تريد أن نعد لك فتأكل الفصح ؟ " ( متي 26 : 17-19 ، مرقص 14 : 12 ، لوقا 22 : 7-8 ) . فأرسل يسوع أثنين من تلاميذه - بطرس و يوحنا - و قال لهما : " أذهبا أنتما فأعد لنا الفصح . اقصدا إلي المدينة فيلقاكما رجل يحمل جرة ماء ، فاتبعاه ، و حيث يدخل تقولان لرب البيت : " إن المعلم يقول : " إن زماني قد اقترب ، فعندك أصنع الفصح مع تلاميذي ؟ فأين الردهة التي نأكل فيها الحمل ؟ " ، فيريكما عليه كبيرة مفروشة مهيأة فأعدا لنا هناك " ( متي 26 : 18 - 19 ، مرقص 14 : 13 - 15 ، لوقا 22 : 7-12 ) .لا ريب أن رب البيت كان من أصحاب المسيح أو من أتباعه ، و قد جعل منزله تحت تصرف المعلم . و أما علامة الاهتداء إلي البيت فهي أقل غرابة مما يبدو ، إذا تذكرنا أن الاستقاء ، في بلاد الشرق ، هو من أشغال المرأة ، و أن " رجلاً حامل جرة " يمكن أن يلاحظ .

. و صار التلميذان إلي المدينة " من الباب المجاور لبركة سلوام ، علي الأرجح " فوقعا علي الرجل . فتعقباه ، و تم كل شيء كما أراده المسيح . " علية كبيرة "؟…. لا شك أنه حرص علي أن يفرغ شيئاً من المهابة علي تلك المأدبة الأخيرة التي بات يعلم معناها ، فنحن لا نري أنه اقتضى مثل ذلك في مواسم الفصح السابقة . إننا نجد - حتى اليوم = في البيوت الشرقية ، و في الدور الأول ، عادة ردهة فسيحة ، يتدلى من سقفها - غالباً - مصباح مربع ، و هي محفوظة للضيوف الطارقين - و لاسيما إذا كان لا بد أن يطول بهم المقام - يجدون فيها متكآت و طنافس ، و ينزلون فيها منزل الرحب و السعة

. و لكن أين كانت تلك العلية التي أعدها التلميذان للعشاء الأخير ؟……. أن الموضع الذي أقامت فيه " أولي الكنائس و أمها " - علي حد تعبير المؤرخ غليوم الصوري - هو اليوم ، قاعة فسيحة ، عند الزاوية الجنوبية من الأسوار ، بنيت في الجبل الرابع عشر ، فوق آثار معبد قديم من الجبل الثالث و قد استقرت حنيتها الغوطية علي أعمدة ضخمة من البرفير ، تعلوها تيجان غليظة ، مزينة بنقوش من العناقيد و السنابل …… مع هبوط الليل ، أي - يوم ذاك - في الساعة الخامسة و النصف ، ابتدأ الفصح فاتكأ المدعون حول المائدة { يؤخذ من التلمود أن اليهود قد أسقطوا السنة الموسوية ا لقاضية بتناول الفصح وقوفاً ، فكانوا يأكلونه متكئين ، رمزاً إلي الحرية التي أحرزوها من بعد خروجهم من مصر } ، و سبحوا الله ، أولاً ، شاكرين له الخمر و النهار ،ثم شرعوا في العشاء الفضي الصحيح . و نجد في التلمود وصف التفاصيل التي كانت مرعية . حوالي سنة 15. بعد المسيح ، و لا شك أنها لم تكن لتختلف كثيراً عنها المسيح . فكانوا ، أولاً ، يغمسون الفطير في صنف من المرق الأحمر ، ثم يتناولون الكاسين الأوليين ، يتخللها بعض قطرات ماء مالح ، تذكاراً لدموعهم في مصر ، ثم كانوا يرتلون المزمور 113 " في خروج إسرائيل من مصر " ، و انكفاء البحر الأحمر ، بأمر العلي ، و بعد ذلك كانوا يأكلون الحمل مع " الأعشاب المرة " ، من سعتر و غار و حبق و سائر تلك الأفاوية الحريفة التي لا يزال الشرقيون يكثرون منها مع لحم الخروف . ثم كانوا يشربون الكأس الثالثة - و تدعي " كأس البركة " " لأنهم كانوا يصحبونها ترنيمة شكر " ، فكأس الرابعة ز ثم كانوا ينطلقون بنشيد " هليل "، و هو مديح يتألف من أربعة مزامير ( 114 - 117 ) : " لا لنا يا رب ، لا لنا ! لكن لاسمك أعط المجد ، لأجل رحمتك و حقك : … إن إلهنا في السماء ، كل ما شاء صنع ، أما أوثانهم ففضة و ذهب ،صنع أيدي البشر … سحبوا الرب يا جميع الأمم ، و امدحوه يا جميع الشعوب ، لأن رحمته قد عظمت علينا ، و صدق الرب يدوم إلي الأبد !…. " ألم يكن في لفقرات الأخيرة من المزمور 117 ، آية ماسوية ، لا بد أن الرسل قد أنشدوها بصوت أشد انطلاقاً : " مبارك الآتي باسم الرب ! " ؟

لقد كان الفصيح عيداً بهيجاً جداً . و قد جاء عنه ، في جاء عنه ، في التلمود : " إنه طيب كالزيتون ، و ينبغي أن بتداعي السقف عند نشيد " هليل " ! وورد" في" أعمال يوحنا " - و هو كتاب غنوصي منحول من الجبل الثاني - أن الرسل تحلقوا حول المسيح ، و هبوا يرقصون علي وقع ألحان المزامير ، و يسبحون مجد الله !.. بيد أن الفرح ، في قلب المسيح ، كان يخامره حزن دفين ، " لقد اشتهيت جداً أن آكل هذا الفصح معكم ، قبل أن أتألم . فإني أقول لكم : " إني لن آكله بعد إلي أن يتم بكماله ، في ملكوت الله " ( لوقا 22 : 14 - 16 ) . وشاء المسيح أن يجعل ذاك العشاء ، لأتباعه ، درساً أخيراً ، فاستهلة بعمل حافل بالعبر

. " نهض عن العشاء ، و خلع ثيابه ، و أخذ منديلاً و ائتزر به . ثم صب ماء في مغسل ، و طفق يغسل أرجل التلاميذ ، و يمسحها بالمنديل الذي كان مؤتزراً به . و جاء إلي سمعان بطرس ، فقال له سمعان :" أنت ، يا رب ، تغسل رجلي ؟" : أجاب يسوع ، و قال له : " إن ما أفعل لا تفهمه الآن ، و لكنك ستفهمه فيما بعد ! " ، فقال له بطرس : " لا لن تغسل رجلي أبداً ! " ، أجابه يسوع : إن لم أغسلك فليس لك نصيب معي " ، فقال له سمعان بطرس : " يا رب ! لا رجلي فقط ، بل يدي و رأسي أيضاً ! " ( يوحنا 13 : 8-9 ) . بأي جلاء يبرز زعيم الرسل - من خلال هذه الصفحة - بمزاحه الشديد الصلب ، ينعشه إيمان عظيم ! و واصل يسوع كلامه ، قائلاً : " أتفهمون ما صنعت بكم ؟ أنتم تدعمونني معلماً ، و رباً ، و حسناً تقولون ، لأني كذلك . فإذا كنت أنا الرب و المعلم ، قد غسلت أرجلكم ، وجب عليكم ، أنتـم أيضاً ، أن يغسل بعضكم أرجل بعض " ( يوحنا 13 : 12 - 16 ) . درس في التواضع ! و إنها لحظة من أسمي لحظات الليترجية ، في أسبوع الآلام ، إذ ينعطف الأسقف إلي أقدم اثني عشر فقيراً يمثلون الرسل ، و البابا نفسه ، في ذاك ليوم عينه ، يقوم بنفس المهمة ، أسوه بالرب و المعلم !

تلك الأمثولة ، هل أدرك الرسل مغزاها ؟ و هل توفق يسوع ، بذاك ا لصنيع المذهل ، إلي تحطيم دروع الكبرياء و الحسد و كل تلك المعاقل التي تحصنت من ورائها الطيبة ؟… كان قد نشب بينهم - منذ لحظة - نزاع في من هو الأعظم بينهم ، و في من ترجع إليهم المتكآت الأولي بقرب المعلم . فاضطرب يسوع إلي استعادة الكلام ، إرجاعاً للنظام : " إن ملوك الأمم يسودوهم ، أما في ما بينكم ، فلا يكن الأمر كذلك . بل فليكن الأكبر فيكم كالأصغر . و المتقدم كالذي يخدم … أنتم قد ثبتم معي في محنتي ، و أنا أعد لكم الملكوت كما أعده لي أبي ، كني تأكلوا و تشربوا معي ، علي مائدتي ، في ملكوتى ، و تجلسوا علي عروش لتدينوا أسباط إسرائيل الأثني عشر " ( لوقا 22 : 24 -29 ، متي 2. : 25 ، مرقص 1. : 42 ) . ألا فليهتموا لملكوت السماوات و ليس لإحراز " مراكز " علي الأرض ! .

. و كانوا قد أشعلوا السرج الخزفية الصغيرة فوق ذؤابات الشماعد : ففي الخارج كان الليل قد أرخي سدوله …

ليـــل يهـــــــوذا

. ما كان رأي يهوذا في جميع تلك الأحداث ؟ لقد كان ثمة ، مع الآخرين ، و لم يكن أحد قد أطلع علي مسعاه . و لا شك أن بعض الأقوال كانت قد أثارت كوامن حقده - و ما كان إلا ليحكم فهم مراميها " الآخرون يكونون أولين " ، فباتت تتأكله الرغبة في استعجال الخاتمة … وكان المسيح قد ألمع مرتين إلي خيانته ، و لكن بأسلوب لم يدركه سواه : المرة الأولي ، عند غسل الأرجل ، إذ قال لتلاميذه : " أنتم أنقياء ، و لكن لا جميعكم ! " ، و المرة الأخري ، بعد لحظات ، إذ أعلنهم ثانية بتحقق قول الكتاب : " إن الذي يأكل خبزي ، قد رفع علي عقبه !" ( يوحنا 13 : 1.-18 ) ثم صرح المسيح بشكواه ، وقت الطعام ، قائلاً : " الحق الحق أقول لكم : إن واحداً منكم سيسلمني ! " . فاستولي علي الرسل حزن شديد ، و شرع كل واحد يقول له : " العلي أنا ، يا رب ؟" ، لم يجب المسيح ، بل تابع كلامه ، في شيه إنذار أخير : " إن ابن البشر ماض كما هو مكتوب عنه ، و لكن ويل لذاك لرجل الذي يسلم ابن البشر ! " ، فقد كان خيراً لذلك الرجل أن لا يولد !" ، و سأله يهوذا - أما متحديا و إما مستخفاً : " العلي أنا ، رابي ؟ "، أجاب يسوع - فكان جوابه إيماءة ، و كلمة موشوشة ، لم يدركها إلا ذاك الذي توجهت إليه : " أنت قلت ! " ، عبارة مألوفة ، متداولة جداً في لغة اليهود ، و قد أجاب بها موسى فرعون ، ملك مصر ( خروج 1. : 29 )

. في ردهة الطعام - و كانت تجز علي طريقة الموائد الرومانية كما يمكن مشاهدتها في بومبيه - كان الآكلون يتوزعون علي ثلاثة متكآت محيطة بالمائدة من جوانبها الثلاثة . و أما الجهة الرابعة فكانت تترك برحاً لاستقدام الطعام . و كان وسط المائدة ، من لجهة المحاذية للفراغ ، هو محل الشرف ، و المحل لتالي من جهة اليمين كان يدعي " حضن رب البيت " { كان الآكلون ، يتكئون ، متمدين حول المائدة علي سواعدهم اليسرى ، و لمتكي أما غيره كانوا يقولون عنه متكي في حضنه .} ، و كان متكئاً فيه ، آنذاك ، يوحنا الرسول " الذي كان يسوع يحبه " . و كان بطرس ، و لا بد ، إلي اليسار . و أما يهوذا ، فقد اتخذ - علي الأرجح - محلاً في طرف أحد المتكأين الآخرين ، بصفته قيماً ، عليه أن يتمكن من الخروج من غير أن يزعج المتكئين . و طفق لتلاميذ ينظرون بعضهم إلي بعض و هم في اضطرب متصاعد . فأومأ بطرس إلي يوحنا ، قائلاً : سله ، عمن يتكلم ؟ " . فاستند يوحنا إلي صدر يسوع ، و قال له : " رب ، من هو ؟ " ، فأجابه يسوع : " الذي أعطيه اللقمة التي أغمسها " ، و غمس اللقمة و ناولها يهوذا بن سمعان الاسخريوطي " ( يوحنا 13 : 23 - 26 ) و أما في رواية متي ، فيسوع يومئ إلي الخائن بأسلوب آخر : " إن الذي غمس يده في الصحفة ، هو يسلمني ! " ( متي 26 : 23 ) . قد ورد في نص من مخطوطات البحر الميت : " إذا اجتمعوا للطعام ، و حضرت المائدة المشتركة ، و مزج الخمر ، فلا يمدن أحد يده إلي اللقمة الأولي و لا إلي الخمر ، قبل الكاهن " . و مثل هذه العادات لا تزال مرعية ، ؛تي اليوم ، في بعض البلاد الشرقية . فوضع اليد ، مع رجل لآخر ، في الصحفة ، لا يجوز ، مثلاً ، عند عرب سورية و الأردن ، إلا لأغراض شعائرية معلومة . و يتعوذ المرء إذا ود لقمة و استبقه إليها رجل آخر

هل توخي المسيح ، من عمله هذا ، أن يأتي بمحاولة أخيرة لانتشال يهوذا من هذه جحيمة ؟ هناك ساعات تكون فيها النفس من شدة العنف و الحقد بحيث لا تجد في مثل ذاك لتودد طريقاً إلي لنور ، بل سبيلاً إلي الإمعان في مهاوي الظلمة … " و بعد اللقمة ، دخل فيه الشيطان !" …. كل هذا المشهد ، لم يكن - و لاشك - قد أدركه إلا يوحنا و صاحب الأمر ، فأضاف يسوع ، قائلاً : " ما أنت فاعله ، فافعله عاجلاً ! " ، فلم يفهم أحد من المتكئين لم قال له ذلك . و خطر لبعضهم - إذ كان الكيس بيده - أن يسوع إنما أوعز إليه بأن يبتاع بعض حوائج العيد ، أو بأن يتصدق بما كانت تقضي به الشريعة الفصحية . " فلما تناول يهوذا اللقمة ، خرج لساعته ، و كان ليل !…."

.. " كان ليل ! …" . فالبدر لم يكن بعد قد أطل ، و تلط ملاحظة بليغة من شاهد عيان رأي الباب ينفتح علي الظلمة ، و الخائن يسعى إلي هلاكه في غياهب الليل ! بيد أن تلك الملاحظة - و هي خليفة بكاتب عظيم - ألا تبعث في النفس صورة أخرى ؟ صورة ليل أشد كثافة ، قد ارتمي فيه 1اك الرجل المتصلب في عناده ، يجرفه قدر هائل ، و تسيره خطيئة عمياء !…

هــذا جســـدي !…..

وإذ كان العشاء عند نهايته ، قام يسوع بمأثرة ، و نطق بكلمات أفرغت علي الذبيحة الفصحية القديمة معني جديداً ، و سوف تستوفي بها مأساة الغد مراميها . و إليك أحداث هذا المشهد القصير / في نظامها كما ورد وصفها - مع تباين طفيف - في الأناجيل المؤتلفة ، و كما أيدها و علق عليها القديس بولس ، في رسالته إلي الكورنثيين ( لوقا 22 : 19 - 2. ، مرقص 14 : 22 - 24 ، متي 26 : 26 - 28 ) : " أخذ يسوع خبزاً و شكر و بارك و كسر و أعطي تلاميذه قائلاً : " خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يبذل لأجلكم " . ثم أخذ الكأس و شكر و برك ، و أعطي تلاميذه قائلاً : أشربوا من هذا كلكم . هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي المهراق من أجلكم ، و من أجل كثيرين ، لمغفرة الخطايا . اصنعوا هذا لذكري !" .

حيال هذه الأسطر التي تنطوي علي آخر وصية ليسوع قبل موته ، هل يستطيع المؤمن إلا أن يلوذ بالصمت و العبادة ؟ ز أيا كان تفسيرها ، أبمعني " الحضور " الحقيقي - كما تعتقد الكنسية لكاثوليكية و الأرثوذكسية - أم بمعني الحضور الرمزي و التذكاري - كما يذهب معظم كنائس " الإصلاح " - فهي ، بلا منازع ، أعلي شاهق في حياة المسيح ، و الذروة التي أفضت فيها الشهادة إلي التضحية الطوعية ، و تلخص فيها سر ذاك الذي لم يكن فقط معلماً فذاً ، بل الضحية المقربة لأجل خلاص الناس .

لم تكن ثمة فقط بركة طعام عادية ، كما كان شائعاً عند اليهود و قد جاء في فرائض الاسينيين : " إذا أحضروا الخبز للأكل و الخمر للشرب ، فليبسط الكاهن يده - قبل سائر القوم - و ليبارك باكورة الخبز و الخمر " و أما الصلة الجوهرية التي أقامها المسيح بين الخبز و جسده ، و بين الخمر و دمه ، فمن البين أنه لم يكن ليعهدها واحد من معاصريه . فكلمات المسيح - في معناها الحصري - تفيد أن المؤمن ، مهما قل استحقاقه ، إنما يأخذ جسد المسيح و دمه ، كل مرة يأكل من ذاك الخبز و ذاك الخمر : فالتحول الجوهري أمر مستقل عن مؤهلات من يترك في تلك الوليمة المقدسة . و لو " تناول " يهوذا " و هكذا غير وارد " ، لأخذ جسد الرب ودمه هذا و ليس من المردود أن تكون فكرة " الولائم لمقدسة " هذه ، مما يرتبط بتراث إنساني عريق جداً . بيد أن " التناول " المسيحي ، ليس له إي صلة بتلك الإجراءات السحرية التي تكفل لأتباعها الخلاص ، بمجرد أزد أرداهم ما يتوهمونه " عنصرا" إلهياً { في ذلك إشارة إلي ما كان شائعاً ، عند بعض الشعوب البدائية ، و في بعض المذاهب الأوفية و الديونيسية ، من عادة " الولائم المقدسة " الرامزة إلي اتحاد الإنسان بالألوهية . ( المترجم )} …… فاتحاد المؤمن باله ، في " التناول المسيحي " لا يتم بالأكل المادي فحسب ، بل بالنية و النقاوة و المحبة ، حقيقة الأكل ثانية - و لا ريب - بيد أن واقعة المادي الصفيق يذوب اتحاد بالله . هل كان بإمكان التلاميذ ، إّ سمعوا المعلم يقول لهم : " هذا هو جسدي ! " ، إلا يتذكروا تلك الكلمات البعيدة التي كانوا قد وجدوها " صعبة " ، آنذاك ، يوم قال لهم : أنا خبز الحياة ! … إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلي الأبد ، فالخبز الذي سأعطيه أنا ، هو جسدي لأجل حياة العالم ! … " . و لكن كم كانت بارزة ، في تلك الخطبة ، مراميها الروحية و أغراضها المعنوية ! و لكم نحيت عنها كل نزعة إلي أخذها بالتأويل السحري ! فانه لا يشترك في " خبز الحياة " إلا الذي " سمع صوت الأب ، ورضي بتعليمه ، و آمن بيسوع !…" . فتلك الدعوة إلي الضرورة التجدد الباطن لمن ينبغي الاتحاد بالله ، لم يكن التلاميذ ليذهبوا عنها ، في هذه اللحظة التي عاد فيها المسيح - بأسلوب أكثر هيبة و تشديداً - إلي تكرار ما كان قد نطق به سالفاً من أقوال غريبة : " إن جسدي مأكل حق ، و دمي مشرب حق ! فمن يأكل جسدي و يشرب دمي ، يثبت في ، و أنا فيه " .

فمن هذه الأعمال و هذه الأقوال ، نشأ سر الإفخارستيا ، علي حد مل أخذت به الكنيسة . " و السر - كما عرف به أحد اللاهوتيين ، في عبارة بارعة - إنما هو ترقيه المحسوس إلي عالم الروح ، والطبيعة إلي عالم النعمة " ، و تؤكد الكنيسة أن جسد المسيح موجود حقيقة تحت أغراض الخبز و الخمر ، و قد استحال جوهرهما إلي جوهر جسد المسيح بصورة معجزة . و ذاك هو خلاصة ما يسمونه ، في لغة اللاهوت ، " التحول الجوهري " . و أما كيف نفسر وجود جسد المسيح تحت أغراض الخبز و الخمر وجوداً راهناً ، و شبيهاً - نوعاً ما - بوجود النفس في الجسد ، و إن لم تكن محلياً ، بالمعني المتعارف ، فذلك شأن من شئون اللاهوت . و يشهد التاريخ أن هذه العقيدة ، كما تفهمها الكنيسة اليوم ، عريقة جداً في المسيحية . فالرسالة الأولي التي كتبها القديس بولس الرسول إلي الكورنثيين ، سنة 57 تومئ إليها كما إلي شكل طقسى مقرر عند الجماعات المسيحية الأولي ، و نقع في الرسالة علي النص يبدو أنه يؤيد تأييداً واضحاً التفسير الذي ثبت عليه التقليد ، في فهم ذاك الطقس الديني بمعناه الواقعي الراهن و بمراميه الروحية معاً : " كلما أكلتم من هذا الخبز ، و شربتهم من هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلي أن يجئ . و من ثم ، فأي إنسان يأكل خبز الرب أو يشرب كأسه بلا استحقاق ، يكون مجرماً إلي جسد الرب و دمه . فليختبر الإنسان إذن نفسه ، عندئذ فقط فليأكل من الخبز و يشرب دينونه لنفسه ، إذ لم يميز جسد الرب " ( 1كورنثس 11 : 26- 29 ) .هذا ،و قد عثر في مدفن لوقينا ، في دياميس القديس كلستس الرومانية ، علي رسم سمكة { السمكة ، عند المسيحيين الأقدمين ، هي من رموز المسيح . فالأحرف التي تتألف منها كلمة IXOYE اليونانية " معناها ( و معناها السمكة ) ،هي مطالع الكلمات التي تعني : يسوع المسيح ابن الله المخلص } تقل سلتي خبز ، و تشاهد بوضوح ، ما بين الأرغفة المدورة ، و من خلال السلة ، زجاجة خمر أحمر . و يرقي هذا الرسم الرامز إلي سر الإفخارستيا ، إلي ما قبل السنة 15. ، علي الأرجح .

هكذا راحت الكنيسة ، جيلاً بعد جيل ، تجدد ما صنعه يسوع في العشاء الأخير ، و تزود المؤمنين بالخبز الذي يتحدون فيه بالإله الحي . و كل كاهن يرفع يده مباركاً الخبز و الخمر ، يخلد ذكري ذاك الذي قال لتلاميذه يوماً - و قد أيقن أن الموت يتربص به : " هذا هو جسدي !…. هذا هو دمي !….."

التعليم الأخير و الصلاة الأخيرة

من هوايات اليهود ، بعد الطعام ، أن يستمروا في الحديث ، و ليس رغبة في الشرب ، كما كان دأب الرومان، بل استمتاعاً بالكلام ، كما هي العادة في الشرق . و أما القديسان متي و مرقص فلم يثبتا لنا شيئاً من ذاك الحديث الأخير ، اعتقاداً - و لا شك - منها أن المسيح إنما أعاد فيه سالف تعليمه ، و كذلك القديس لوقا لم يدون منه سوي جزء يسير ، في بضع آيات . ( لوقا 22 : 31 -38 ) . و أما القديس يوحنا فقد وقف له بضعة فصول ( 13 : 13 - 17 : 26 ) لم يأت في جميع الإنجيل ما يضاهيها بساطة في الأسلوب ، وصدقاً في الأداء ، و تعبيراً عن ذكريات دقيقة و تأثر عميق ، وشهادة عيان …… حديث ودي ، و لقاء أخير بأتباعه الأحد عشر ، وجد له المسيح كلمات غاية في الرقة و الآسي : " يا أولادي الصغار ، أنا معكم بعد زماناً يسيراً ….." . و يتعاقب علي استفهامه توما و فيلبس و يهوذا ، فيجيب إلي أسئلتهم بهدوء ، مع أنهم يقرون له - ألئك المساكين ! - أنهم لم يفقهوا بعد شيئاً من تلك المأساة التي نشبوا فيها . و تأخذ من بطرس نشوة الحمية و الصلف ، فيندفع مؤكدا : " يا رب ، ها أنا مستعد أن أمضي معك إلي السجن و إلي الموت ! " ، فينبئه يسوع ، بعبارة مازجة محزونة معاً : " أأنت تبذل حياتك عني ! الحق الحق أقول لك : إنه لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات !…." . فالمسيح مع حبه للناس حباً جماً ، لم يكن ليغتر بأمرهم ، و يخدع عن حقيقتهم ! .

. و لكم كان الشوط عظيماً بين يسوع و أولئك الرجال المستبدين لإنسانيتهم في أفكارهم ، و أسئلتهم الترابية ، و رغبتهم في الآيات الحسية : " يا رب ، لسنا نعرف إلي أين تذهب ، فكيف نعرف الطريق ؟ " - " يا رب ! أرنا الآب و حسبنا ! " . يسوع محلق في أجواء السمو و الإشراق ، و كأنه قد نشط من عقالات الأرض ، و ثاب إلي الأبدية ، و علق يكشف لهم عن غيوبها ببساطة رائعة

. و أما ما أفضي به إلي أولئك التلاميذ - و ما دروا أنهم معه في الحديث أخير - فهو ، أولاً ، خلاصة ما استودعهم إياه في غصون أكثر من سنتين : التصريح الرسمي برسالة الإلهية : " أنا الطريق والحق و الحياة ! لا أحد يأتي إلي الآب إلا بي . أنا جذع الكرمة ، من يثبت في و أنا فيه فهو يأتي بثمر كثير …. و من لا يثبت في ، يطرح به خارجاً كالغصن فييبس " ، ضرورة أقول لكم كل ما تسألون الآب باسمي يعطيكموه ! " ، ضرورة المحبة خصوصاً ، و ليس فقط ناموس المحبة الشاملة بل تلك المودة الشخصية ، و ذاك الحنان المسيحي الأخوي الذي اشتهر به المسيحيون الأولون ، و كان من لروعة و الرسوخ بحيث أقرت لهم به الوثنية : " أحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا ! " ، تلك هي " الوصية الجديدة 1 "

. بيد أننا نري ، من خلال معرض تلك المبادئ العظمي ، صورة ملحاحة ، و شبه أيذان مخيف! فيكيف أمكن التلاميذ ، و هم ينصتون إلي تلك الأقوال إلا يستحوذ عليهم القلق و يساورهم الخوف ؟ فقد كان المستقبل يتكشف لهم تارة في شبه نصر مبين ، و طوراً في شبه استشهاد مريع : " الآن تمجد ابن البشر ، و تمجد الله فيه … إني ذاهب لا تضطرب قلوبكم !..لا أحدثكم بعد طويلاً لأن رئيس هذا العالم قد وافي … الآن أترك العالم و أمضي إلي الآب …" ، مثل هذا الكلام ، كيف السبيل إلي إغفال مراميه ؟

و أنكي من هذا أن يسوع . و لعله أراد أن يذكي في نفوس مستمعيه هول الكارثة المتحفزة - طفق بنبئهم بالمصير الجديد الذي يترقبهم : اذكروا الكلمة التي قلتها لكم : " العبد ليس أعظم من سيده ! فإن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أيضاً …. و سوف يخرجونكم من المجامع … بل ستأتي ساعة يتوهم فيها كل من يقتلكم أنه يؤدي لله عبادة … " أفليس ثمة أي فسحة للأمل ، و أي فرجة للنور ، في تلك الظلمات الحوالك ؟ بلي ، فإن ضوءاً عظيماً ينبعث من تلك النبوءات المخيفة : " ثقوا ، فقد غلبت العالم ! لن أدعكم يتامى ، إني أتي إليكم ، السلام أستودعكم . سلامي أعطيكم … ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل الحياة عن أصدقائه …." . لقد عاد المسيح مرة أخري ، بتلك الكلمات البسيطة لرائعة ، إلي إزاحة الستار عن جميع ما انطوي عليه سر تلك التضحية الدانية ، من وعود جبارة ، باتت تحلق فوق أولئك الرجال الأحد عشر ، و هم حوله يصغون … لقد وعدهم بالقيامة : " بعد قليل لا تروني ، ثم بعد قليل ترونني …." ، وعدهم بالروح القدس يفهمهم أخيراً جميع ما استغلق عليهم ، و ينير نفوسهم بهدية ، و يكمل ، علي صعيد المعرفة ما شرعوا فيه علي صعيد المحبة : " و أنا أسأل الآب فيعطيكم معزياً آخر ليقيم معكم إلي الأبد .. و سوف يرسل إليكم باسمي ، و يعلمكم كل شيء ، و يذكركم جميع ما قلت لكم ، و يرشدكم إلي الحق ! " ، العقيدة التي سوف يسترسل القديس بولس في تفسيرها ، نجدها كاملة ، في هذه الآيات القليلة التي حشد فيها الرسول الحبي ذكرياته : فليس للإنسان خلاص إلا بموت المسيح . و موت المسيح إنما هو الحدث الذي ترتكز عليه الشريعة الجدية ، و ينطلق منه تاريخ جديد . فإذا ما نفذ في المسيح قضاء الموت ، صرعت الخطيئة ، و تم الخلاص ، و شخص الإنسان إلي ربه ، بيسوع ، و بهدي الروح القديس .

استوفي يسوع حديثه ، و إذا به يتحظي تلاميذه ، ويتوجه ، منذ تلك اللحظة إلي أبيه ، في وثبه من أروع ما في كيانه من طاقات تفوق الإنسان ، و تنطلق من شفتيه تلك " الصلاة الكهنوتية " التي هي - بلا منازع - أجمل فقرة صوفية في الإنجيل ، فهي مناجاة الله الحي للإله المحجوب ، في حوار سواء !

" يا أبتاه ! لقد أتت الساعة . فمجد ابنك لكي يمجدك ابنك ، و يعطي - و قد قلدته السلطان علي كل بشر - الحياة الأبدية لجميع الذين أعطيتهم له … إنهم كانوا لك ، و أنت أعطيتهم لي ، و قد حفظوا كلمتك . و هم يعلمون الآن أن كل ما أعطيته لي هو منك ! … وقد أيقنوا أني منك خرجت ، و آمنوا أنك أنت أرسلن\تني . فلأجلهم أنا أصلي … لست أنا بعد في العالم ، و أما هم فإنهم في العالم .. أيها الآب القدوس ، احفظهم باسمك ليكونوا واحداً مثلما نحن واحد . قدسهم في الحق … و لست لأجلهم فقط أصلي ، بل لآجل الذين يؤمنون بي عن كلامهم ، لكي يكونوا بأجمعهم واحداً … أيها الآب ، إن الذين أعطيتني أنك أحببتني قبل إنشاء لعالم . لقد عرفتهم اسمك ، و سأعرفهم أيضاً ، لتكون فيهم المحبة التي أحببتني و أكون أنا فيهم ….."

تكلم يسوع بهذا ثم أخلد إلي الصمت . و كانت قد أزفت ساعة الرحيل من الغرفة ، و الرجوع إلي جبل الزيتون ، حيث كانوا قد أعدوا لهم مبيتاً و كان يسوع قد أنذرهم ، أثناء الحديث ، بأن ساعة القراع قد دنت ، و أن السيف ، في تلك الأحوال ، أجدى من الثوب . أما هم فقد فاتهم الرمز ، و استمسكوا كعادتهم ، بالمعني الحرفي ، فكاشفوه بأن عندهم سلاحاً ، و أنهم علي أهبة لمقارعة أخطار الظلام : " يا رب ، إن ههنا سيفين !" ، فقال لهم " كفي ! " . و لا بد أن المسيح قد نطق بهذه اللفظة الأخيرة ، و علي شفتيه ابتسامة حلم عظيم ، - علي حد ما جاء في تعليق للقديس كيرلس الاسكندري . هزء سميح علي شفتي رجل استولي فوق الطبيعة و سبر غور الأوهان كلها ، و خرج من معرفة ذاك الواقع الأليم ، لا بالتسخط و التهكم و الموجدة ، بل بضرورة حب أعظم .

. ثم خرج يسوع من العلية .فمن المشرف الذي بنيت عليه ،كان يطل النظر علي جميع أحياء المدينة : فهنا ، بالقرب منهم ، صرح رؤساء الكهنة ، و إلي اليسار قصر هيرودس و قد لاح من خلال الحدائق ، و هنالك ، حيالهم ، من وراء غيابه التيروبيون المائلة ، و من وراء أوفيل و صهيون القابعتين عند أقدام الهيكل ، قلعة الأنطونيا ، و قد بدت كتلة باهظة و رمزاً للمذلة . لقد كان بوسع المسيح أن يضم في نظرة دائرية ، مراحل محاكمته الثلاث !… و أما الجلجلة فكانت وراء أسوار المدينة ، محجوبة عن الأبصار … و كان بدر نيسان قد بدأ ، إذ ذاك ، يطل بأنواره علي المدينة الساجية : البدر الفصحى " المبارك بسبب الخروج من العبودية " …..و هناك فوق ذؤابة برج فازائيل ، كانت نار هاجعة ، بينما ، كان يهجع أيضاً ، في ظلمة مخفر قذر ، يهوذا الاسخريوطي

 فيلم يسوع باللغة العربية