محاكمة يسوع |
|
للذهاب ، في أقصر طريق ، من العلية إلى جبل الزيتون ، كان لا بد من اجتياز الجسر العظيم الممتد فوق التيروبيون والمفضي إلى الهيكل ، واقتطاع الباحة, والخروج من الباب الذهبي. بيد أنه كان محظوراً إلا على |
|
. الكهنة والرقباء, دخول الحرم ليلاً. فكان على يسوع وتلاميذه أن ينحدروا في أحياء المدينة' وينثنوا عند الركن الجنوبي الشرقي من الأسوار. وربما سلكوا الطريق المدرج الذي كشف عنه الآباء الانتقاليون في أرضهم، وهو مسلك سهل، مبسط الدرجات، تصعد وتنزل فيه الدرجات، تصعد وتنزل فيه الدواب من غير ما ناء. وكان "قدرون" يسيل في قعر الوادي الضيق بمياهه العكرة التي استحقت له لقب "الأسود" أو "القذر". ولا تسيل فيه المياه أكثر من أربعة أو خمسة أسابيع في الربيع، بيد أنها، في تلك الفترة القصيرة تهدر وتصطفق فيه بعنف. ثم يأتي الصيف، ويحول تلك الساقية إلى مسيل يابس تتخلله الصخور |
|
الموضع الذي أوى إليه المسيح في تلك الليلة الأخيرة، يطلق عليه القديسان متى ومرقس اسم "جسثماني"، أي المعصرة. وهو ملك غرس زيتوناً وأقيمت فيه واحدة من تلك المعاصر البدائية التي لا تزال كثيرة في فلسطين، والتي كان يقصدها مزارعو الجوار بقطافهم … |
|
. وأما اليوم فهو بستان مسلوف التربة، تحوطه حواش من زهور، ويقوم فيه ثمانية جذوع ضخمة، شبه مجوفة، تكاد لا تعتمد إلا على قشرتها، ويتفرع منها أغصان عجاف تنضج عليها حبيبات قليلة. وليس ثمة أي حظ في أن تكون تلك البقايا النبيلة – علي ما يزعم لها – قد آوت المسيح، في عهد شبابها. فالزيتونة تعمر – ولا شك – طويلاً، ومنها في كورفو وميتيلانة ما ينيف علي ألف سنة، علي ما يظن. بيد أن أشجار جبل الزيتون قد انقرضت، ولا ريب، جميعها، في تلك المنطقة التي التحمت فيها أعنف المعارك، عهد الحصار الذي ضربه تيطس علي أورشليم … هناك، علي بعد عشرين متراً من البستان، معبد جوفي، تزين جدرانه رسوم زجاجية مشبوهة الفن، وتسطع فيه رائحة المئات من الشموع وأضوائها المترجرجة: ولكن لم يبقي اليوم من يعتقد أنه هو الموضع الذي "نازع" فيه يسوع، وانطلقت منه سلسلة الأحداث الفاجعة التي تم بها استشهاده. فالرهبان الفرنسيسكان قد كشفوا، ضمن حدود البستان، آثار كنيسة ملكية، بنيت في الجيل الرابع، تذكاراً لتلك الساعة العصيبة |
|
. وقال يسوع لتلاميذه، إذ أفضوا إلي البستان: "امكثوا أنتم ههنا ريثما أمضي إلي هناك، وأصلي. وأنتم صلوا أيضاً لئلا تدخلوا في تجربة"، ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي، يعقوب ويوحنا، وطفق يرتاع ويكتئب. وقال لهم: "إن نفسي حزينة حتى الموت. فأقيموا ههنا واسهروا معي". ثم انفصلوا عنهم نحو رمية حجر، وخر على ركبتيه، وسقط بوجهه على الأرض، وجعل يصلي قائلاً: "يا أبتاه! إن أمكن، - وكل شئ ممكن لديك! – فأجز عني هذه الكأس! ولكن لا تكن مشيئتي، بل مشيئتك أنت!" |
|
. ساعة غريبة، شديدة الوقع، اجتمع الإنجيليون الثلاثة على تدوينها (متى 26 : 36 – 46، مرقص 14 : 32 – 42، لوقا 22 : 4. – 46). وكانت الليلة – ولا شك – باردة في ذاك الركن المظلم … وقد انتصبت جدران الهيكل من وراء "قدرون" مزرقة تحت ضوء القمر، متوجة بإكليل من العمدان والأروقة، وامتزج هدير السيل بهدأة الصمت، لا تخرقه – بين الفينة والفينة – سوي أصوات العسس الروماني، فوق أبراج الأنطونيا. لقد كان، ما بين تلاميذه، أشد وحدة منه في عزلة جبل الأربعين. فإذا به، في تلك الساعة التي تربص بها مصيره، يكابد اصطراع طبيعته، في أزمة هاصرة لم يبل مثلها في حياته |
|
! وأما تلاميذه فكانوا – يا للبشر! – قد استسلموا للنعاس. وإذ رجع إليهم، قال لهم: "هكذا، لم تقدروا لأن تسهروا معي ساعة واحدة؟! إن الروح نشيط، أما الجسد فضعيف … "، ثم عاد إلى عزلته، وكرر دعاءه الواثق : "يا أبتاه! إن كان لا يمكن أن تجوز عني هذه الكأس إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك"، ولما بلغ منه الجهد، لج في الصلاة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة علي الأرض، وظهر له، إذ ذاك، ملاك من السماء يشدده |
|
. عرق الدم هذا، لم يأت على ذكره سوي الطبيب لوقا. وهو دليل ساطع علي ما عاناه المسيح، في تلك الساعة العصيبة، من جراء بشريته. وقد لوحظت هذه الظاهرة الفيزيولوجية، أحياناً، في أحوال التأثر الشديد حيث تعبر الطبيعة عن مساورتها الدفينة، بتلك الأعراض الغريبة، ومن قبيل ذلك أيضاً ما يطرأ علي الإنسان المتأثر من مشيب فوري. والواقع أن أول ما يقع في قلبنا، في هذا المشهد، إنما هو بشرية يسوع. فذاك الإنسان الذي أحدق به الموت، والذي بات يستروح الكارثة مع نفحات الليل، ويوجسه في هدير السيل، لم يقو علي أن يحصن جسده من الاضطراب والثورة. لقد حُتم عليه الموت، وهو في الثلاثين من عمره! … إنه ليس في جميع الإنجيل، حتى ولا في مشهد التجربة، ما ينفذ إلى مثل ذاك القاع من الحقيقة النفسية: فذاك القلب المرتعش، وتلك الإرادة التي بلغت بها شدة الهلع إلى التماس معجزة تنافي جميع رسالته، نحن أدرى بهما! .. فلو صح أن يسوع نسجُ خيال، وأن سيرته لم تكن سوى حصيلة اجتهاد قصصي، فهل من المعقول أن يكون القصاصون قد استنبطوا له حادثة يظهر فيها بمثل هذا الضعف والتهافت؟ .. إن الشهداء الذين تهللوا طرباً في غمرة أعذبتهم، لا يلقنوننا إلا قليلاً – أو أكثر مما نطيق ! – لأن النعمة التي حفزتهم قد استوت فوق حدود المعتاد! "وأما المسيح فقد أقام الدليل، بمثله، على أن الله لا يؤثم مخاوف الطبيعة، وأنه يجوز للمسيحي- مهما سمت فضيلته – أن يكتفي بالسيطرة على تلك المخاوف، من غير أن يطمع باستئصالها" (الأب لوبروتون) |
|
. بيد أن هذا المشهد العصيب لا ينطوي فقط على مجرد إقرار بليغ بالوهن البشري، فذاك الجسد المُعنى، إنما هو جسد إله. وتلك الإرادة الهالعة قد عرفت، مع ذاك، إلى أن تصبو. وقد كتبت القديسة تريزيا الكبرى تصف الأحوال التي يرجع فيها الصوفيون، أحياناً، بمثل ذاك الانسلاخ الأليم: "قد تحرم النفس تعزية السماء، حيث لم تستقر بعد، وتعزية الأرض، من حيث قد أفلتت". فلفظة "النزاع" التي عمد إليها القديس لوقا، لا تشير فقط إلى سكرات الموت، بل إلى فكرة الصراع العنيف، والمأساة العصيبة، والتجابه القائم بين قدرة الله وضعف الإنسان، بين أقدس نفس وجدت على الأرض وقوات الظلام تسول لها الاستسلام والانهزام |
|
! إن ما يؤخذ من هذا المشهد، في مؤداه الصحيح الصميم، ليس هو دليل ضعف وخور، بل برهان عزم ورضى. فالمسيح، في غمرة ضائقته، وترقب مصرعه، لم يحجم عن أن يكرر لله، في شبه تمتمة رائعة، قوله: "يا أبت! لا كمشيئتي، بل كمشيئتك!" هو اتحاد الآب والابن في أجلى مظاهره! وحدة في الإرادة، ووحدة في التصميم! لقد هب كلسيس، في الجيل الثاني، يناهض المسيحية، هازئاً بذاك الإله الغريب، الذي أخلد إلى الأنين والنواح عوض أن يسحق أعداءه بمعجزة تتجلى فيها قدرته! هي الشهادة بأنه لم يفقه من المسيحية شروى نقير! فإن ما خبره المسيح – على ما جاء في الكتاب – من هلع وارتياع اجتاحا كيانه كالغثيان، إنما هو انعكاس ما يلم بالخاطئ من مساورات، يعلمها عن اختبار. "فهو الذي لم يعرف الخطيئة، قد جعله الله خطيئة من أجلنا" (2 كورنثوس 5 : 21)، وقد علق أحد اللاهوتيين على ذلك بقوله : "إن الخطيئة لم تسر من الناس إلى المسيح ، ممثل الطبيعة البشرية ؛ فلقد شاءت العناية الإلهية أن يتم الفداء على أساس مبدأ التضامن ، وأن يكون يسوع المسيح إنساناً ليفتدي الناس ، ويخضع للناموس ليفتدي الذين هم تحت الناموس ، ويصير عضواً في أسرة خاطئة ، ليخلص الخطاة ، ويتلبس الجسد لكي يكسر شوكة الجسد في عقر داره … " . فجسثيماني إنما هي تحقيق ما جاء له المسيح من تنفيذ مقصد الخلاص ؛ هي وزر الإنسان فوق كاهل الإله المتأنس ، في اللحظة التي أزمع فيها أن يفتديه بموته ؛ بل هي برجاء الإنسانية برمتها يورثها المسيح عظمة ويوليها اتجاها |
|
.. وسمعت ، في تلك الأثناء ، أصوات مبهمة : همهما وقعقعة سلاح ولاحت ، في البعد ، إلتماعات سُرج حمراء . فنهض يسوع ، وارتد إلى تلاميذه ، فوجدهم أيضاً نياماً . فقال لهم : " ناموا الآن واستريحوا . لقد قضى الأمر ، وأتت الساعة ! هو ذا ابن البشر يسلم إلى أيدي الخطاة ! " . أسخرية جارحة ، كما توهم بعض المفسرين المتشائمين بالبشرية ؟ كلا ! بل رأفة عظيمة ! فلقد كان عليه ، منذ تلك اللحظة – وقد صرع الخوف والموت والخطيئة – أن يضلع وحده بعبء فدائهم جميعاً ! |
|
لم يكن يهوذا ليجهل الموضع الذي كان لابد ليسوع أن يقضي فيه الليل : وكان التلاميذ قد ألفوا التردد إليه مع معلمهم . وربما تجسس خطواتهم ، من منعطف إلى منعطف ، وهم في طريقهم من العلية إلى جسثماني . فلما توثق له الأمر ، انثنى على المدينة ، يُعلم فيها الكهنة والشيوخ ، ويستعجلهم في قضاء أوطارهم ؛ فلقد كان من صالحهم أن يعتقل ، في ذاك الموضع المنعزل ، من جهة ؛ وكان لابد ، من جهة أخرى ، أن تنجز المؤامرة قبل أن تؤذن الأبواق بحلول الفصح . وذهب ، مع يهوذا ، جمع كثير من جند وخدم ، بمصابيح ومشاعل ، وسيوف وعُصي … |
|
. " وكان مسلمه قد أعطاهم علامة ، قائلاً : " الذي أقبله هو فامسكوه ، وقودوه في احتياط " . ودنا يهوذا إلى يسوع وقبله قائلاً : " سلام ! يا معلم " ؛ فصاح به يسوع : " لماذا أتيت ؟ … أبقبلة تُسلم ابن البشر ؟ " . ثم أردف قائلاً وفي كلامه من بعد المرامي ما ربما تخطى إدراك يهوذا نفسه : " هي الآن ساعتكم ! وهذا سلطان الظلمة ! " ( متى 26 : 5. ؛ لوقا 22 : 48 – 53 ) |
|
.. ويعترضنا سؤال : على من تقع مسؤولية القبض على يسوع ؟ سؤال يهيمن على جميع مراحل هذه المحاكمة القضائية ، حتى الخاتمة . فأي من السلطتين الشرعيتين – الرومانية أم اليهودية ؟ - قد تدخلت في القضية ، بموجب حكم التاريخ ؟ أم لعلهما توطأتا كلتاهما عليها ؟ … لقد ورد ، في الأناجيل المؤتلفة ، أن الذين تولوا مهمة القبض عليه كانوا " جمعاً " ( في رواية متى ومرقس ) ، بل " جمعاً كبيراً " ( في رواية متى ) ؛ ونجد في اثنين منهما ( متى ومرقس ) إشارة واضحة إلى أن " رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ " هم الذين أوفدوا الجماعة للقبض عليه ؛ وذهب لوقا إلى أن " رؤساء الكهنة والشيوخ " كانوا هم أنفسهم في الجمع ، مع قادة حرس الهيكل . وأما ( يوحنا 18 : 3 ) فيضيف أن جنوداً رومانيين كانوا أيضاً في الحملة ، ويتحدث عن فرقة رومانية ، تحت قائد رفيع المقام ، في ذلك ما يدعو إلى العجب ! أفيسخر " قائد " لمؤازرة السلطات اليهودية في اعتقال شخص واحد من المشاغبين ؟! |
|
. مهما يكن ، فليس هناك ما يشير إلى صدور " أمر رسمي " – أو " تفويض قانوني " – بالاعتقال . ولا نفهم البتة كيف استطاع رينان أن يكتب : " إن شعوراً عظيماً بالنظام وتدخل قوى الأمن ، قد سيطر على جميع الإجراءات " ! فنحن نشعر – بالعكس – أن المهمة قد نفذت في تسرع مشبوه ، كما تنفذ الدسائس ، وأنها قد خضعت لعوامل الحقد والخوف ، وتواطؤ الدين والساسة تواطؤاً مكتنفاً بالظلام . والدليل على ذلك استخدام الخيانة للإيقاع برجل لم يعمل ، سحابة حياته ، إلا في وضح النهار . ولقد كان ذلك من محرمات الشريعة الموسوية ، وقد تفردت دون غيرها من شرائع العالم ، بحظر الدسيسة والسعاية ، وذلك في قانون صريح من سفر اللاويين : " لا تسع بالنميمة بين شعبك ولا تقف ضد دم صاحبك " ( 19 : 16 ) |
|
" وتقدم يسوع من الجمع ، وقال : " من تطلبون ؟ " .. أجابوه : " يسوع الناصري ! " ؛ فقال لهم : " أنا هو " ، فارتدوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض " ؛ هل كان غرض الإنجيل الرابع – وقد تفرد بذكر هذا الخبر – أن يشير إلى حدوث خارقة ، تجلت فيها ، مرة أخيرة ، قدرة ابن الله القهار ؟ أم أن يصف فقط بغتة أولئك الرجال وقد زعزعتهم ، من المسيح ، جلال سكينته ، ذاك الجلال الذي كف عنه ، يوماً ، أيدي حراس الهيكل ؟ … |
|
. في تلك اللحظة انتضى سمعان سيفه ، وعلق يضرب به ، مقداماً ولكن متهوراً . فقطع أذن أحد خدام رئيس الكهنة . فقال يسوع : " رد سيفك إلى غمده ؛ من يأخذ السيف ، بالسيف يهلك ! " ؛ ثم لمس الرجل وأبرأه . لقد كتب البشير يوحنا إنجيله ، إذ كان قد مضى على هذه الأحداث زمن غير يسير . ومن ثم فقد استطاع أن يصرح بأن الجريح كان يدعى ملخس . وأما الأناجيل المؤتلفة فقد أغفلت ذلك ، لأن العبد – على ما تروى التقاليد – كان ، ولا شك ، قد انتحل المسيحية في إثر تلك المعجزة . فكان من الفطنة ألا تلفت الأنظار ، وهو في قيد الحياة ، إلى ما جرى له يوم ذاك . وقد وردت هذه التسمية مراراً في تاريخ إفلافيوس يوسيفوس ، وكانت شائعة جداً عند العرب الأنباط … لقد كان ، ولا ريب ، واحداً من أولئك البدو أو أولئك الأدوميين الذين كانوا ينتظمون ن بكثرة ، في سلك حرس الهيكل ، كما كانوا يلتحقون أيضاً بالجيش الروماني . " إني مرسلكم مثل خراف بين ذئاب ! " .. تلك كانت وصية المسيح إلى تلاميذه ؛ فلم يكن لهم إذن أي شأن في القتال ! ثم التفت يسوع إلى الفرقة وقال : " كأنى بكم تخرجون على لص بسيوف وعصي ! كل يوم كنت معكم في الهيكل ، ولم تمدوا على يداً ؛ ولكن هي الآن ساعتكم ، وهذا سلطان الظلمة ! .."؛ ولكنهم كانوا قد أوثقوه ، ومضوا به |
|
. ألعل التلاميذ بوغتوا بذاك الاستسلام الهادئ ؟ … أم استحوذ عليهم ذعر مداهم ؟ .. الواقع أنهم انهزموا جميعاً . " وكان يتبعه شاب عليه إزار على عريه ؛ فامسكوه ، فترك الإزار وفر عرياناً … " ؛ لقد تفرد مرقس برواية هذا الخبر ، وقد يكون إحدى ذكرياته الشخصية ؛ وقد ذهب غير واحد إلى هذا الأسطر الثلاثة هي بمثابة توقيع موري ؛ ومن تراه استطاع أن يروي الحادثة إلا صاحبها ؟ وقد افترض أن أرض جسثماني كانت من ممتلكات مريم أم مرقس ، إحدى النساء الفاضلات اللواتي كن يخدمن يسوع . فيكون أن مرقس – ابنها – عند سماعه جلبة الرجال ، خرج من البيت مهرعاً ، وراح يتعقب يسوع عن بُعد … فهل انعقد الإيمان في قلبه ، تلك الساعة ، وأصبح ن إلى الأبد ، من أتباع ذاك المقهور الذي كانوا ذاهبين به إلى النكال والصلب |
|
. في الطريق الدرج ، ثم في الأزقة المنحدرة ، التي كان قد سلكها قبل ساعة ، سيق يسوع إلى قرب نفس الموضع الذي انطلق منه …. أورشليم ، أناء الليل ، مدينة غريبة ، فوق الزمن ، بوسع زائرها ، اليوم ن أن يتخيل – بلا عُسر – الدروب الليلية التي مشى فيها المسيح مع العصابة المحدقة به . ويذهل المرء ، وسط الظلام ، عن جميع تلك الأبنية الضخمة ، النابية والمتنافرة ، التي شيدتها تقوى الأجيال ، من غير أقل اكتراث للتقاليد الهندسية القومية ؛ ولا يعود يرى ، من المدينة ، سوى الجُدر العالية ، والأزقة المدرجة الضيقة ، والأرصفة الزل الملساء ، وتلك الفغر السوداء الكثيفة التي تنفتح فجأة ، عند تلاحم البيوت فوق الشوارع … ثم تلك الأجساد الملفوفة بمعاطفها ، والراقدة ، هنا وهناك ، عند منعطفات الطرق . ذاك هو الإطار الذي شرعت فيه الدرب المؤلمة التي لن تنتهي بالمسيح إلا عند الجلجثة |
|
. إلى أين سيق المسيح ؟ سؤال له شأنه ؛ وقد تفرد البشير يوحنا ن من بين الإنجيليين الأربعة ، بالإجابة عليه إجابة واضحة ، حيث قال : " أوثقوه وقادوه إلى حنان أولاً ، لأنه كان حما قيافا ، الذي كان رئيس كهنة في تلك السنة " . فأن يكون المتهم قد قيد أولاً إلى حنان ، فذلك أمر له مغزاه … فمن كان حنان يا ترى ؟ لقد كان سلف قيافا في رئاسة الكهنوت : تسلم وظيفته من يد كيرينيس الوالي الروماني ، في السنة 7 بعد المسيح ، وظل فيها إلى أن اعتلى طيباريوس عرش روما ، سنة 14 . " فترة معتبرة ! " على حد قول يوسيفوس . وظل نفوذه سائداً في الأوساط الكهنوتية ، حتى بعد إحالته من الوظيفة ، عن يد الرومان . والدليل على ذلك أنه وفق إلى ترقية أولاده الخمسة وصهره قيافا إلى شرف الكهنوت . وكان رجلاً داهية ، " لا يجاريه أحد في مهارة جمع المال " ، على حد شهادة يوسيفوس أيضاً . ومن المحتمل جداً أن تكون تلك الكرامة التي حوط بها ، وذاك النفوذ الذي فوض إليه ، ضرباً من ضروب التمرد المضمر على السلطة الرومانية . لقد كان إذن ، معنوياً – وبلا منازع – زعيم الجماعة اليهودية ؛ وقد رأى رينان هذا الرأي ، إذ تبين فيه " العامل الرئيسي في تلك المأساة الرهيبة …. والباعث الحقيقي على تلك الجريمة القضائية التي باتت على وشك التحقيق " |
|
. أي حديث جرى بينه وبين يسوع ؟ ربما لم يجر بينهما أي حديث . وحسبه أن يكون قد أملى في السر خُطته على أولئك الذين راحوا ينفذونها في العلن . وأما الآن ، وقد أُنجزت من المؤامرة مرحلتها الأولى ، فقد بات مطمئناً إلى خاتمتها … وغننا لنتصور تواجه ذاك الشيخ المتزمت ، المتحجر في الشعور بأهميته ، الآهل . في قرارته ، بجميع الشهوات التي يبذرها الطموح والخوف في قلب الإنسان – وذاك النبي الشاب الذي قذف ، يوماً ، أشباه هذا الرجل ، بأنهم " قبور مكلسة ! " … حدق إليه حنان ، ثم صرفه |
|
! يميل الأثريون والمفسرون إلى الاعتقاد بأن حنان وقيافا كانا يسكنان صرحاً واحداً ، يفصل فيه بين مخادعهما ، باحة خارجية … في تلك الأثناء أودع يسوع ، ولا شك ، أحد السجون ؛ وفي الموضع الذي يعتقد أن القصر كان قائماً عليه ، وخلف معبد يوناني مرصع بالعاج والذهب ، ترى اليوم حجرة صغيرة يُقال إنها السجن الذي قضى فيه المسيح بضع ساعات من الليل . ويزين جدران الغرفة صفائح من خزف أزرق ناعم اللون ، ويهبط فيها ، ولكنها لم تعد توحي إلى الزائر إلا بمقدار ما يخلع عليها من ذكريات ن ويجل فيها ذاك التراث الروحي الخفي الذي زودتها به قرون من العبادات والحرمات |
|
. في المرحلة التالية كان على يسوع أن يمثل أمام قيافا . وكان يوسف قيافا هذا رئيس الكهنة آنذاك ، فكان عليه أن يضطلع بمسؤولية تلك المحكمة الدينية – السياسية التي راحوا يدبرونها على يسوع . وكان قد أسند إليه الحبرية ، في السنة 18 بعد المسيح ، الوالي فاليريس غراتس ، فظل فيها طوال المدة التي حكم فيها بيلاطس ولاية فلسطين ؛ ثم أزاله عن منصبه ، سنة 36 ، فيليتس، موفد الإمبراطور إلى سوريا. فأن يكون قد ثبت، سحابة تلك المدة، في وظيفة وعرة، كان أصحابها – منذ أمد بعيد – يتعاقبون عليها تعاقباً سريعاً، فذلك دليل على ما كان يملك من صفات المرونة والتكيف. وإذا كان لابد من الإفصاح، فقد كان واحداً من أولئك الطامعين السخفاء الذين عرف التاريخ، في جميع الأصقاع والأزمان، أن يطوعهم آلة بين أيدي العظماء. ولا شك أن الخوف كان أكبر حوافز تلك النفس الخسيسة، ذاك "الخوف من المشاكل"، الذي يعرفه الأناس المتبعون. ماذا؟ أيجرؤ مغامر صعلوك علي بلبلة الأوضاع المستقرة، بل ربما على قذف الاضطراب في قلب روما؟ وأما اللاهوت فما كان عليه إلا أن يسلح يد القضاء بحجة تبرر مقتل المشاغب |
|
. في تلك الأثناء كان قد نمى إلى الأحبار والكتبة وشيوخ الشعب نبأا الاعتقال، فهرعوا إلى صرح رؤساء الكهنة، والتأموا حول قيافا في شبه مجلس شوري. وهنا تعترضنا مشكلة توقيتية. فالأناجيل الأربعة تبدو غير مجمعة علي تحديد الزمن الذي مثل فيه يسوع أمام المحكمة. فمتى ومرقس يأتيان علي ذكر اجتماع ليلي، ثم قبل صياح الديك، واجتماع آخر بعد طلوع النهار. ولا يورد الإنجيل الرابع سوى خير مثول واحد أثناء الليل، أمام حنان ثم أمام قيافا، (ولا نجد أي إشارة إلى مثول يسوع أمام المحفل)، وأما القديس لوقا فهو أيضاً لا يثبت إلا محاكمة واحدة، بعد طلوع الفجر. (متى 26 : 57 – 66 ، مرقص 14 : 53 – 64 ، لوقا 22 : 54 – 66، يوحنا 18 : 13 و 19 – 23)، ثمة أسباب ثلاثة تدعو إلى إيثار التوقيت المدون في إنجيل متى ومرقص، أي إلي التسليم بأن المسيح حوكم مرتين: مرة أولى، في الليل، بصورة غير رسمية، ومرة ثانية، عند الفجر، أمام المحفل: فإن مثل الاجتماعات المستعجلة قد باتت مألوفة عندهم، وقد عمدوا إلى مثلها، يوم قرروا القبض على يسوع، ثم أنه من الطبيعي – سيكولوجيا – أن يتعجل أولئك الرجال الذين دبروا المكيدة، في الاجتماع . حتى في أثناء الليل، لمشاهدة ذاك الذي وُفقوا إلى اعتقاله ، ثم أنه لو اقتصر المحفل على المحاكمة الليلية، لكان ذلك خروجاً سافراً على الشرع، ولجر عليهم احتجاج عدد من اليهود، ولا بدع، فشرعة التلمود في ذلك صريحة: "كل محاكمة تهدف إلي حياة إنسان يجب أن تتم في وضح النهار" |
|
بوسعنا إذن أن نستعيد مراحل تلك المكيدة: فالمسيح، بعد خروجه من عند حنان، مثل ليلاً أمام قيافا وجمهور الذين كانوا قد تآمروا على هلاكه، وبعد طلوع الفجر التأم السنهدريم بأجمعه للبت في قضيته، ولكن القرار كان قد اتخذ ليلاً ولم يكن بوسع المحفل الأكبر إلا أن ينحاز إليه مرغماً. وهكذا يكونون قد باغتوا الشعب، وسدوا عليه سبل الاحتجاج، ووضعوا السلطات الرومانية تجاه الأمر الواقع! كل ذلك، لعمري ، منسجم وما عرفناه من أغراض قيافا: ويجب ألا يغيب عن ذهننا ما ألمع إليه القديس يوحنا من أنه هو الذي اختلق الحجة السياسية، وتمنى "أن يموت رجل واحد عن الشعب!". [كل مرة، في غضون هذا الفصل، والفصول التالية، نستشهد بالنصوص التلمودية، ونقارن بينها وبين تصرفات الذين حاكموا يسوع، تقضي علينا النزاهة التاريخية بلفت النظر إلي استدراك تمهيدي. فالتلمود لم يدون إلا جيلين أو ثلاثة بعد وفاة المسيح. فليس إذن من الثابت أن العادات المثبتة فيه كانت نافذة في أيام المسيح. بيد أن كثيراً من الكتاب يعتقدون ذلك، استناداً منهم إلى أن بعض أجزاء التلمود، إنما هي خلاصة التعاليم التي كانت شائعة عند الرابيين، قبل المسيح وفي عصره، وأن تمسك اليهود بتقاليدهم يضمن ثبوت الأعراف وديمومتها، هذا فضلاً عن أن التشريع التلمودي إنما هو امتداد للتشريع الموسوي.] |
|
. واستجواب رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وتعليمه. فقال له يسوع: "لقد علمت العالم جهراً. وعلمت دائماً في المجامع وفي الهيكل، حيث يجتمع كل اليهود، وما قلت شيئاً في الخلفية. فلم تسألني؟ سل الذين سمعوا، عما قلت لهم، إنهم يعرفون ما قلت!". جواب فيه من اللباقة بقدر ما فيه من الصحة. وقد تحاشي فيه المسيح عن ذكر تلاميذه، لئلا يغرر بمصريهم، وحصر القضية ضمن نطاقها الخاص، متيقناً أن كل استجواب، في تلك المحاكمة المغرضة، لم يكن سوي لون من ألوان التهزؤ. "فلما قال يسوع هذا، لطمه واحد من الشرط، وقال : "أهكذا تجيب رئيس الكهنة؟" (يوحنا 18 : 19 – 24). لو لم يكن واضحاً أن خصوم المسيح كانوا مصممين علي الاستهتار بالقانون، لكنا أشرنا إلي أن تلك اللطمة كانت خروجاً سافراً علي الشرع: وقد أثبت التلمود العقوبات التي يتعرض لها كل قاض يضرب متهماً أو يأمر بضربه |
|
. ولكنه بات جلياً أنهم وطنوا النفس على ألا يلتزموا من الإجراءات الشرعية إلا ما كان لهم فيه مأرب علي يسوع. وكان من أحكام الشرع، في قضايا الإعدام، استجواب لا أقل من شاهدين، جرياً علي ما جاء في تثنية: " يقول شاهدين أو ثلاثة شهود يقتل من يقتل، ولا يقتل بقول شاهد واحد" (18 : 6، 19 : 15 ، عدد 35 : 3.). ولم يكن أيسر عليهم من استحضار الشهود! ولسوف نقع علي هذا المزيج من التحرج والتعسف في جميع مراحل هذه المأساة القضائية، فاستمعوا إلي شهود كثيرين ، " بيد أنهم لم يتفقوا في شهاداتهم . وفي آخر الأمر ، تقدم شاهدا زورٍ وقالا : " لقد سمعناه يقول " : " سوف أنقض هذا الهيكل الذي اصطنعته أيدي الناس ، وفي ثلاثة أيام أبني آخر غيره ، لم تصنعه أيدي الناس . وعلى هذا الأمر أيضاً لم تتفق شهاداتهم " . لقد كانت الشريعة اليهودية تُعني عناية كبيرة بصحة التفاصيل الواردة في الشهادات القضائية . وقد ثبت بعض التباين بين الشهادة المدونة في نص مرقس : " سوف أنقض … " والشهادة المبينة في نص متى : " بوسعي أن أنقض … " ؛ والواقع أن المسيح كان قد استعمل أسلوب الافتراض : " انقضوا هذا الهيكل وأنا أقيمه في ثلاثة أيام ! " ( يوحنا 11 : 19 ) ولم تكن تلك الكلمات قد أثارت – آنذاك – أي استغراب في الجمع … |
|
حينئذ سأله رئيس الكهنة قائلاً : " أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا : هل أنت المسيح المبارك ؟ " . حيال هذا الإحراج القانوني ، الصادر ، باسم الله ، عن سلطة شرعية ، أبى المسيح أن ينكل عن الجواب ؛ فقال – وكان في قوله قضاء الموت : " أنت قلت ! وأيضاً أقول لكم : منذ الآن تبصرون ابن البشر جالساً عن يمين القدرة ، وآتياً على سحاب السماء ! " . عندئذ شق رئيس الكهنة ثيابه ، وقال : " لقد جدف ! فما حاجتنا بعد إلى شهود ؟ ها إنكم قد سمعتم تجديفه . فماذا ترون ؟ فأجابوا كلهم : " إنه يستوجب الموت ! .." |
|
.. مشهد بارع ، أصاب هدفه ! .. فلقد عرف ذاك الكاهن الداهية كيف يسيطر على الأذهان ! ولكن هل في أقوال المسيح – إذا أنعمنا فيها النظر – ما يستوجب حكم الموت ؟ أجل ! لقد شق رئيس الكهنة قميصه " مقدار شبر " ( أي 8 سنتيمترات تقريباً ) ، على ما كانت تقضي به عادة اليهود إذا سمعوا تجديفاً ! .. ولكن هل كان ثمة تجديف بالمعنى الحصري القانوني؟ التجديف هو قذف اسم الجلالة بالإهانة . ولكن لكي تحسب على المجدف جريمته كان يجب أن ينطق بذات اللفظة المقدسة التي أنزلت على موسى ( أي يهوى ) ، وليس باسم آخر من الأسماء الحسنى التي كانت شائعة آنذاك ، كالعرش والمبارك والقدرة … ولا حتى المرخمة ( يه ) ؛ ولسوف يأتي في التلمود تفصيل هذا كله . والحال أن المسيح إنما استعمل لفظة " القدرة " . فجمع ، بذلك ، بين الجهر بحقيقة بنوته الإلهية ، والتحاشي عن جريمة التجديف ز ولو استعمل اللفظة المقدسة . ولو استعمل اللفظة المقدسة المحظورة – وهذا مما يتعذر أخذه من لغة الإنجيل اليونانية – لوجب على جميع الحاضرين – وليس على رئيس الكهنة وحده – أن يشقوا ثيابهم . فنحن إذن – بلا مراء – حيال بادرة تعمدها قيافا للتأثير في الحاضرين . وعلى كل ، فقد كان لابد لثبوت جريمة التجديف ، من تحقق طائفة من القرائن نجد وصفها في التلمود : إقامة شاهدين وراء حجاب ، ووضع المتهم في وضح النور ، واستجوابه استجواباً دقيقاً ، بحيث يعمد إلى استعمال اللفظة المحظورة ، واستدراجه ، أخيراً ، إلى التراجع عن جريمته ، قبل أن تسجل عليه نهائياً ! .. فهذا كله لا نجد له أثراً في ذاك الاستجواب الملفق ! |
|
ثم هل التجديف أن يجاهر أمرؤ بنفسه مسيحاً ؟ وهل جدف نيقودموس السنهدريني ، إذ آمن بماسوية يسوع ؟ يبدو أن قيافا قد أنكر على يسوع – مبدئياً – حق انتحال الماسوية ؛ ولكن ذلك لا يقيم عليه حجة قانونية كافية . وأما الذي أعقبه المتهم من ذكر أمجاد المسيح عند رجعته ، فما هو سوى لاحقة منطقية لتصريحه الأول ؛ فلقد طبق على ذاته ، ما جاء في نبوءة دانيال ( 8 : 13 – 14 ) . تهمة التجديف لا تستند إذن إلى شئ . وأما الحجة الأخيرة التي أخلد إليها قيافا أن يسوع قد شهد على نفسه ، فهي اشد إمعاناً في التعسف والجور من جميع الحجج الأخرى . فقد كان الشرع يعتبر شهادة المتهم على نفسه حجة لاغية ساقطة ، إلا إذا دعمتها شهادات أخرى . وكان غرض الشرع ، من ذلك ، ألا يجد القانطون ومرضى العقول ، في اتهام ذواتهم ن سبيلاً شرعياً إلى الانتحار . وقصارى القول أن جميع التحفظات التي كان يحتاط بها القانون اليهودي ( وكان أرحم القوانين آنذاك ) ، للذود عن حقوق المتهم ، بدت ، في تلك المهزلة القضائية ، حرفاً ساقطاً . فالغاية قد بررت فيها الوسيلة . وأجهزة القانون قلما اكترثت للعدالة … |
|
. إبان المحاكمة كان بعض التلاميذ قد استعادوا صوابهم ، بعد فترة من الهلع . وكانوا قد عرفوا إلى أين ذهب به ، فجاءوا يجولون حول صرح الأحبار . وكانت العادة ، في الشرق ، أن تحفل باحات القصور بالبطالين والقصاد والخدم . ولما كانت أورشليم على علو 8.. متر ، فقد كان برد لياليها قارصاً حتى في نيسان . وكان بعض الحشم والعبيد قد أضرموا ناراً وسط الساحة ، وطفقوا ، حول المنقل ، يعلقون على أخبار الساعة . وكان أحد التلاميذ (يوحنا ، ولا شك ؛ لأنه تفرد بذكر هذا الإيضاح في إنجيله ) ، معروفاً عند رئيس الكهنة ، فتمكن بلا عسر ، من الانضمام إلى الجمع ؛ وتأثره بطرس ، واقبل – هو أيضاً – يصطلي مع المصطلين |
|
. وجاءت بغتة إحدى إماء الكاهن الأعظم – جارية من تلك الجواري اللواتي كن يُستخدمن ، عند اليهود ، في البوابة. فلما أبصرت بطرس ، دنت إليه وأخذت تتفرس في وجهه ؛ ثم قالت : " هذا أيضاً كان مع الناصري " ! ثم أردفت ، بعد أن تصفحت ملامحه : " أنت كنت مع يسوع الجليلي " ! وترقبت الجماعة كلها جواب بطرس ؛ فأنكر قائلاً : " يا امرأة ! إني لا أعرفه ، ولا أدري ما تقولين ! " |
|
! ثم تنحى وخرج من الدار إلى الدهليز ، فصادفته جارية أخرى ، فصاحت بالخدم القائمين هناك : " هذا ولا شك ، واحد من أصحاب يسوع الناصري ! " . في تلك اللحظة ، صاح الديك . ولكن الذعر كان قد تملك مشاعره ، وهصر أحشاءه ، فلم يأبه لصياحه . ورجع إلى قرب النار ، وكأنما عن تحد ، وأنكر ثانية ن أنه من أتباعه : " كلا ! إني لا أعرف الرجل ! " ؛ ودعم قوله بقسم |
|
. ومضت ساعة ، بدا فيها أن الأمر قد انطوى ، فأقبل يخوض معهم في الحديث ؛ وكان لأهل الريف الجليلي لهجة خاصة كانوا يميزونهم بها ، في أورشليم . فور اندفاعهم في الكلام ؛ وكان لهم رطانة مشهورة ، وحبسه عن بعض أحرف الهجاء . فقال الحاضرون : " في الحقيقة أنت أيضاً منهم ! فإن لهجتك تدل عليك . ودنا إليه واحد من غلمان رئيس الكهنة – وكان نسيباً للذي قطع بطرس أذنه – فأوضح التهمة ، قائلاً : " أو ما رأيتك معه في البستان ؟ " . فلما ألفى التلميذ نفسه مطارداً من كل الجهات ، قذف بنفسه في وهدة الكذب ، وعلق يكدس الأيمان ، والاحتجاجات ، ويدعم الكذب بأغلظ اللعنات ويردد قائلاً : " إني لا أعرف هذا الرجل ، ولا أدري ما تقولون ! " |
|
.. ومع ذلك ، فلم بطرس بالرجل الرعديد ، وقد برهن عن مروءته ، ساعة القبض على معلمه . وإنما هناك نفوس تراها متنمرة إذ يدهمها الخطر ، واهية إذ يزدلف إليها . وسوف يثبت الرسول بولس ، في رسالته إلى الغلاطيين ، حادثة جرت لبطرس في إنطاكية ، نراه فيها مستسلماً لمثل ذاك الاضطراب النفسي ، " منسلاً ومتنحياً خوفاً من ذوي الختان " – على حد قول بولس – في عبارته الشديدة . لقد كانت جريرة بطرس أقرب إلى الحياء البشري منها إلى الجبانة . وأعلق بذاك الوجل الذي إنما هو سجية من سجايانا المألوفة . وإنما بات لها الفضل – تلك الخطيئة – في الدلالة على صحة هذا الموضع من الإنجيل ، دلالة حاسمة ؛ فأي مزور استطاع أن يختلقها ؟ وكيف كان بإمكان مرقس أن يتبناها – وهو الذي زودنا عن الحادثة بأوسع التفاصيل – لو لم تكن قد وصلت إليه من مصدر موثوق ، بل من بطرس نفسه ، على ما يرجح ؟ |
|
. " في تلك اللحظة ، صاح الديك ثانية " . لقد كان نحو الساعة الثانية والنصف أو الثالثة ، بشهادة الذين راقبوا صياح الديك ، في اليهودية ، في أوائل نيسان . فهل أيقظ ذاك الصداح الليلي ضمير التلميذ ؟ .. في ذات اللحظة ظهر يسوع في الباحة ، خارجاً من قاعة الشورى ، مطوقاً بالحرس . وليس من فائدة في القول بأنه سمع ، من التلميذ ، إنكاراته الأخيرة : إن سر القلوب أبداً مشرع لذاك الذي كان قد اخترق نثنائيل بنظرة واحدة !تلك النظرة عينها نفذت إلى قلب بطرس ، فثابت إلى ذهنه نبوءة المسيح : " قبل أن يصيح الديك مرتين … " ، واجتاح نفسه ذاك الاشمئزاز الساخط الذي يرتد به الإنسان على نفسه ، ساعة يسبر فجأة أغوار خسته ! فخرج إلى خارج وانفجر في البكاء |
|
تقوم اليوم ، فوق أنقاض معبد قديم من الجيل الخامس ، كنيسة جديدة ، تُعرف بكنيسة " صياح الديك " ، على مسافة 3.. متر من العلية ، وبعيدة ، - بعض الشئ – عن الموضع التقليدي المنسوب إلى قصر قيافا . وفي ذلك مثار للجدل ؛ كنيسة " صياح الديك ! " ، هي – ولا شك – في الدنيا ، الكنيسة الوحيدة المشيدة تذكاراً لخطيئة – أو لتوبة ! ولو وجب تشييد مثلها ، لحجبت الكنائس وجه العراء … |
|
. عندما انتهت الجلسة الليلية ، اُسلم المتهم إلى أيدي الخدم وحراس الهيكل . ومثل هؤلاء الأقوام ليسوا بحاجة إلى من يحرضهم على التمادي في استعمال صلاحياتهم . والانسياق ، في تعنيف ضحاياهم ، إلى ما تأباه النظم الاجتماعية المقررة . ولكم شهدت السجون مثل تلك المخازي التي تستفحل في عهود الفوضى والاضطراب . من كان ليفرض ، على الحثالة ، حرمة يسوع وكرامته ؟ إن أعضاء السنهدريم أنفسهم ، عند انفضاض محفلهم ، أقدموا على ضرب ذاك الرجل الأعزل ! فلا غرابة أن يستبيح المأمورون ، في تعنيفه ن ما طاب لهم ، وقد تركوا لشأنهم ! فتألبوا عليه يطوقونه ن ويتلهون في تعذيبه تلهياً ضارياً . فبصقوا في وجهه ، وأوسعوه لطماً ؛ وكانوا يسألونه ، هازئين : " تنبأ لنا ، أيها المسيح ، من الذي ضربك ! " . وظل أولئك الأوباش ، بعضاً من الوقت ، يكيلون له الإهانة بلا حساب ، ويقذفونه بأقبح الشتائم ( متى 26 : 67 – 68 ؛ مرقس 14 : 65 ؛ لوقا 22 : 63 – 65 ) |
|
! هكذا تفجر الحقد في أعنف مظاهره وأقبح صوره : فالأحقاد التي باتت ، عند الأحبار ، مبيتة بغلالات القانون ، هبت تخلع قناعها وتسفر عن وجهها ، في الباحة التي اصطخبت فيها أصوات الخدم الثائرين : هو الحقد السياسي ، والحقد الديني ، وحقد الموالي على أولئك الذين يأبون الخضوع للسلطة التي يحملون نيرها ؛ إننا نوجس في بواعث أولئك الرجال أخبث ما يعتلج في قلب الإنسان ! وهكذا بدأت تتحقق النبوءات التي تكلم فيها أيوب عن عن الذين بصقوا في وجهه ( أيوب 3. : 1. ) ، والتي أنبأ فيها أشعياء – باسم المسيح الموعود – أنه بذل ظهره للضاربين وخديه للناتفين ( أشعياء 5. : 6 ) . وقد رضى المسيح – طوعاً – بمذلة ذاك المشهد ؛ ولسوف تتسم ن منذ اللحظة ، جميع مراحل استشهاده ، بذاك الطابع الراهن : فلسوف تجتمع النذالة إلى القسوة ، وإلى المأساة مهزلة بغيضة . وسوف يقول بولس : " لنخرج إلى المسيح ، حاملين عاره ! " ( عبرانيين 13 : 13 ) . فصمت يسوع ، حيال الشاتمين ، إنما هو درس في التواضع |
|
ثم باتوا يترقبون الفجر : أما يسوع ففي أحد السجون ، وأما الأحبار والكهنة ففي جميع جنبات المدينة ، يستدعون أعضاء المحفل الأكبر إلى عقد جلسة طارئة ، وذلك فور ما تحين الساعة القانونية ، قبل أن يشرق الفجر على جبال موآب ، وفي اللحظة التي يتميز فيها " الأبيض عن الأزرق " . دائماً ذاك العجل ! ولسوف يُفرغ على أحداث ذاك النهار ، لا أدري أي تزاحم محموم ؛ إنها السرعة المفروضة في الدسائس ! هذا ، ولم يكن أحد من أولئك اليهود " الدينين " ليذهب عن باله أن الفصح الرسمي سوف يطبق عليهم مع إطباقة الغسق على التلال … |
|
مع ارتعاشة الفجر ، سيق يسوع إلى الهيكل مقر اجتماع السنهدريم …. وكان بعض المؤمنين ، قد بدءوا ينتشرون في باحات الحرم ، مولين وجوههم وجه الشرق ، وقد رفعوا أذرعهم إلى السماء وانطلقت ألسنتهم بنشيد المزمور : " أسمع يا إسرائيل ! …. " |
|
! لقد ذكر متى ومرقس ولوقا ، ثلاثتهم ، انعقاد المحفل الأكبر " عند الصباح ، منذ أن طلع النهار " ( متى 27 : 1 ؛ مرقس 15 : 1 ؛ لوقا 22 : 66 ) ؛ واستعمل مرقس لفظة " السنهدريم " بالذات ، وهي اللفظة الوضعية . فلم نعد بعد بازاء مجلس سري ، بل بازاء الجهاز الرسمي الذي كانت في يده السلطتان السياسية والدينية في إسرائيل ؛ في تلك اللحظة ، افتتحت " محاكمة " يسوع الحقيقية ، في مفهومها الحصري : ولكنها كما كانت غريبة مستهجنة في أساليبها |
|
. كانت المحاكم ، عند اليهود ن تقوم عند أبواب المدن . وأما السنهدريم الأكبر فكان له مقر رسمي في قاعة عند أسوار الهيكل ، جزؤها في المقدس ، والجزء الآخر خارج أرض الحرم . وكان القضاة يلجونها من جهة الهيكل ؛ وأما المتهم فكان يدخل به من الجهة المحاذية . ولم يكن من الضرورة – إلا في الأحوال الاستثنائية الخطيرة – أن يلتئم أعضاء المحفل السبعون معاً ؛ وكان يكفي ، عادة ، حضور ثلاثة وعشرين عضواً . فإذا رغب أحد القضاة في الانسحاب ، كان عليه أولاً أن يحصي زملاءه ، ولا يذهب إلا إذا ظل عدد الباقين ، بعد خروجه ، عند الرقم المفروض . وكان يرأس المحفل اثنان : الزعيم ، والقديم ( أو شيخ المجلس ) . وكان يتحلق الأعضاء حولهما ، يميناً ويساراً ، بحيث يستطيع كل منهم أن يؤخذ رأيه بالنظر . وكان يجلس في طرفي الدائرة كاتبان : أحدهما مكلف بتسجيل أصوات المطالبين بالتبرئة ، والآخر بالعقوبة . وكان ثمة أمين ثالث ، في الوسط ، مكلف بالمراقبة والإشراف |
|
وأما الشكاوى فكانت الأنظمة اليهودية ( كما عند اليونان والرومان ) تقر لكل مواطن الحق في إنفاذها إلى المحكمة ، على أن يطلع رئيس الكهنة ، قبلاً ، على فحواها ، ويأمر بتسجيلها . فإذا كانت ثمة قضية موت أو حياة ، وجب إنذار المدعي ، بهذه العبارة : " لا تنس أنك تحمل دم المتهم ، ودم جميع زراريه ، حتى منتهى العالم ! " . وكان الشهود ( لا أقل من اثنين حتماً ) هم أيضاً ينذرون بمثل هذا الإنذار . فإذا نجم عن شهادتهم حكم بالإعدام ، اضطروا إلى أن يشرعوا – هم أنفسهم – في تنفيذ حكم الموت . فإذا ثبت بهتان شهادتهم ، عوقبوا بمثل العقاب المفروض على ضحيتهم . كل ذلك كان من شأنه أن يدعو إلى التروي والتفكير …. وأما القضاة فكان الشرع يطالب ويكرر المطالبة " بنزاهتهم " . ففي قضايا الإعدام لم يكن ليشترك في التصويت إلا الذين تخطوا سن الأربعين . فإذا اجتمعوا على قرار العقوب ، وجب ألا يقدموا على تنفيذه إلا في اليوم التالي ، وأن يقضوا النهار كله في التعبد والصوم والصلاة ؛ ولم يكن لهم أن يبدلوا رأيهم ، عند إصدار الحكم ، إلا في صالح المتهم ؛ وكانت الأغلبية بصوت واحد تصلح للتبرئة لا للعقوبة … حسبنا ذلك دليلاً ! … فإن جميع هذه التحويطات الدقيقة ، وهذا الترصن ، وهذه المراعاة لقيمة الإنسان في شخص المتهم ، لهي مما يُشرف الشرع اليهودي! … ولكن هل روعي شئ منها في محاكمة يسوع ؟ |
|
. يؤخذ من إنجيلي مرقس ومتى أن مجلس السنهدريم لم يستغرق إلا لحظات ؛ وقد اجتزأ هذان الإنجيليان بقولهما : " إن رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب تآمروا على يسوع لكي يميتوه ! " . وأما رواية البشير لوقا فقد جاءت أكثر تفصيلاً ؛ ولكنها تبعث نفس الشعور بجلسة مستعجلة لم تراع فيها حرمة الإجراءات القانونية |
|
. " ولما كان النهار ، التأم مجلس شيوخ الشعب ، رؤساء الكهنة والكتبة ، وأحضروا يسوع إلى محفلهم ؛ وقالوا له : " إن كنت أنت المسيح ، فقله لنا ! " ؛ فقال لهم : " إن قلت لكم فلا تصدقون ؛ وإن سألتكم فلا تجيبون … ولكن من الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله ! " . فقالوا جميعاً " أفأنت إذن ابن الله ؟ " ، فقال لهم : " أنتم تقولون ، أنا هو ! " ؛ فقالوا : " ما حاجتنا بعد إلى شهود ؟ لقد سمعنا نحن من فمه ! " ( لوقا 22 : 66 – 71 ) |
|
! لم يكن هذا الاستجواب الثاني سوى نسخة ملخصة عن الاستجواب الذي تم أمام قيافا . وإنما أُسقطت عن يسوع تهمة التحريض على الفتنة ، إذ لم يثبت عليه أنه أراد " هدم الهيكل " . وأما تهمة التجديف فقد رُكزت على جواب يسوع إلى السؤال المحُكم الذي وجه إليه ، حيث قال عن نفسه إنه ابن الله ! ؛ وذلك لعمري ، تعبير في غاية الخطورة . فلقد كانت الأحبولة ، شرعاً ، في منتهى البراعة ، إلا في ما أشرنا إليه ، آنفاً ، من أن إقرار المتهم بذنبه لا يسوغ أمام القضاء . ولكن ألم يكن تهجماً على العدالة أنهم عقدوا على هلاكه نية مسبقة لاحت من خلال الأحداث ؟ … ولنفترض ، جدلاً ، أن يسوع قد استأهل الموت ، أفلم يكن من التواطؤ المجرم أن يتخذ القضاة قراراً بموته قبل المحاكمة ؟ وهبهم تقيدوا بجميع الأصول القضائية ، فلقد كان أكثر من الواضح أنهم ما أرادوا إقامة محكمة نزيهة ، بل حبك مكيدة سياسية دينية للإيقاع برجل محرج |
|
. ثمة سؤال آخر : هل كان لليهود ، في أوضاع فلسطين الدستورية ، عهد المسيح ، أن يصدروا حكماً بالإعدام ؟ نجد الجواب على ذلك في التلمود ؛ فقد ورد في باب " السنهدريم " ( 1 ، 1 : 7 ، 2 ) : " أربعين سنة قبل خراب الهيكل رُفعت عن الأمة الإسرائيلية حقوقها في أحكام الموت والحياة " . وقد أبى الرومان أن تبقى المحاكم العليا بين يدي شعب اشتهر بتعصبه ؛ وقد ذهب بعض النقاد إلى أن ما أسقط عن السنهدريم ، إنما هو الحق في تنفيذ حكم الإعدام ، وليس في إصداره . بيد أننا نوجس أن المحفل الأعلى لم يكن منصرفاً حتى في إصدار الحكم ، قبل أن يوافق الوالي عليه موافقة صريحة . والدليل على ذلك أن بيلاطس ، إذ وافاه اليهود في شأن المسيح ، اعتقد أنهم إنما جاءوا يلتمسون تلك الموافقة ؛ ومن ثم فقد تقدم إليهم أن يحكموا في أمره " بحسب ناموسهم " ( يوحنا 18 : 31 ) . لقد كان السنهدريم إذن – منذ سُلخ عنه حق الحكم بالموت – قد أبطل اجتماعاته في " قاعة القضاء " ، إلا في الأحوال الاستثنائية . هذا ونعرف أن إقدام حنانيا ، رئيس الكهنة ، - بعد سنوات – على رجم يعقوب وبعض المسيحيين الآخرين ( وكان قد انتهز غياب الوالي ) ، قد أثار في الشعب موجة من الاحتجاج ، نجد صداها في تاريخ إفلافيوس يوسيفوس … فالمجلس الذي حاكم يسوع كان – من المبدأ – منافياً للشرع |
|
. حتى لو افترضنا أن بيلاطس قد وافق على الحكم ، فليس في ذلك ، حتماً ما يبرر جريمة السنهدريم . فقد افترض رينان ( وبعض الكتاب في أثره ) أن اليهود كانوا يصدرون الحكم ، والوالي كان ينفذه . بيد أن هذا التشارك في السلطة يبدو منافياً لما نعرفه من احتقار الرومان لليهود . أفتكون الدولة الرومانية قد رضيت بالحدور إلى المهمة التنفيذية ، تقوم بها في خدمة " الإكليروس الإسرائيلي " ؟ هذا ولم يكن الشرع الروماني ليفصل قط بين سلطة القضاء وسلطة التنفيذ . فلئن أقدم السنهدريم على التحقيق في قضية يسوع ، في محكمة رسمية جنائية هدفها الإعدام ، حكماً وتنفيذاً ، فقد كان ذلك من قبيل التجاوز والتعدي على امتيازات الوالي . فسلطة المحفل اليهودي كانت محصورة في إحالة الشكوى إلى الحاكم الروماني ، على أن ينظر في أمرها وفي وجوب المصادفة على الحكم المقترح من قبل السنهدريم . ولكن من البديهي أن الوالي لم يكن ليصادق على إعدام رجل في أسباب دينية مبهمة … ومن ثم فقد أغفل اليهود – أمام بيلاطس – شكوى التجديف ، وبدلوها بثلاث تهم أخرى ذات لون سياسي : فهو يحرض على الفتنة ، ويمنع أداء الجزية ، ويدعي الملك ، ولا شك أن تبديل الشكوى هذا هو نوع من الإقرار أيضاً |
|
. لم يلبث قرار السنهدريم بإهلاك يسوع أن انتشر سريعاً في جميع أنحاء المدينة . ونمى الخبر إلى يهوذا ، وقد بات أكثر الناس ترصداً لمجرى القضية . فما كانت أحاسيسه ، هو العميل المسئول عن تلك الدسيسة النكراء ؟ إننا نجد في إنجيل متى ( 27 : 3 – 1. ) ، وفي " أعمال الرسل " ( 1 : 16 – 2. ) لمحة أخيرة عن تلك النفس المدلهمة ، وقد انتفض فيها الضمير انتفاضة أخيرة ، في شبه تونيب شديد |
|
. " حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد حكم عليه ، تندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ ، وقال : " لقد خطئت إذ أسلمت الدم الزكي ! " فقالوا : " ماذا يهمنا ؟ أنت وما ترى ! " ؛ فطرح الفضة في الهيكل وانصرف ، ومضى فخنق نفسه " ؛ وقد أوضح الرسول بطرس في الخطبة التي أُدرجت له في " أعمال الرسل " ن أنه " سقط على رأسه ، فانشق من وسطه ، واندلعت أمعاؤه كلها ! " |
|
! مشهد يتملك المشاعر بقوته وعنفه ! فعلام يكترث الأحبار لذاك الداسوس الذي نالوا به أوطارهم ؟ ومن ثم فقد نضحت احتقاراً سافراً ، تلك الكلمات التي قذفوه بها . وأما وخزات ضميره ، فلم يكن أحد ليأبه لها ! ولكن ! .. ألم يكن عذاب الضمير ، في ذاك الرجل الضائع ، لمحة أخيرة من ذاك النور الذي كان قد فاض عليه ، وشبه استمساك أخير بيسوع ؟ ربما تبين لنا من خلال هذه الصحوة الأخيرة ، ما استبهم من بواعث خيانته : فيكون أن يهوذا لم يتعمد إهلاك معلمه ، بل أن يلقنه عبرة … وإن ما يستوقفنا ، ههنا ، ليس معضلة يهوذا فقط ، بل ذاك الشبه القائم بينه وبين جم من الناس : وكأن كل واحد منا لا يعاقب إلا بمقدار خياناته ! أما أوريجانس ، فمن غير أن يذهب إلى تبرير الخائن ، قد اقترح تفسيراً لا يخلو من الغرابة : وهو أن يهوذا قد شنق نفسه ، لكي تنفصل روحه عن جسده ، وتذهب لملاقاة روح المسيح ، متلمسة منها الرحمة ! ولكن كم كان أجدى له لو توجه إلى المصلوب بصرخة ، بل بكلمة ، بل بنظرة ! … إذن لكان ، مثل اللص ، وجد الخلاص |
|
. " وأخذ رؤساء الكهنة الفضة ، وقالوا : " لا يحل أن نلقيها في الخزانة ، بما أنها ثمن دم . وبعد أن تفاوضوا ، ابتاعوا حقل " الفخاري " ، مقبرة للغرباء . لذلك سمي ذلك الحقل " حقل الدم " إلى هذا اليوم . حقل الدم ! قبالة جهنوم ، ومن وراء تلك الوهدة الموحشة ، حيث كان الملوك الكفار ، قديماً ، يقربون للآلهة محرقات بشرية ، والتي أصبح اسمها بسبب ذلك ، مرادفاً لاسم جهنم – هناك كانت تحرق نفايات المدينة ، ليل نهار –تشاهد ن حتى اليوم ، تلك الأرض التي حلت بها لعنة الله … وسواء ابتاعها السنهدريم ( كما جاء في الإنجيل ) أم أن يهوذا نفسه ( كما ورد في أعمال الرسل ) فذكرها سوف يظل ، ابد الدهر ، مرتبطاً بذكر الخائن . وأما لقب " الفخاري " ، فربما التصق بالحقل من جري وقوعه في جوار " باب الخراف " ؛ بيد أن للفظة أيضاً صدىً نبوياً ؛ وقد أشار إليه الإنجيل ، مستشهداً بنبوءة ارميا القائل : " وأخذوا الثلاثين من الفضة ، ثمن الدم المثمن الذي ثمنه بنو إسرائيل ، ودفعوها عن حقل الفخاري ، على نحو ما أمرني الرب " ؛ ولئن ورد ذكر " الفخاري " و " الحقل " في نبوءة ارميا ( 18 : 2 – 3 ؛ 32 : 6 – 14 ) ، فقد أدرجت في سفر زكريا نبوءة أوضح : " فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها في بيت الرب إلى الخراف " ( 11 : 12 – 13 ) |
|
.. في تلك الغضون ، سيق يسوع إلى الوالي الروماني ، لكي يمسى حكم الموت بموافقته ، قراراً نافذاً .وابتدأت ، بذلك ، مرحلة ثانية من " المحاكمة " ، أشد خطورة . "وكان الصبح " على حد ما أوضحه يوحنا ، أي الساعة 5.52 ، إذا سلمنا بتاريخ 7 نيسان . وهي ، لعمري ، ساعة يستغرب فيها مثول متهم أمام موظف رفيع المقام . ولكننا نعلم أن الرومان كانوا يستيقظون باكراً ، وينقطعون في الصباح للشئون الجدية ، بينما كانوا ينصرفون ، في فترات ما بعد الظهر ، للقيلولة والعلاقات الودية والملاهي . ولنفترض أن الوقت لم يكن مناسباً ، فما كان ليثني اليهود عن قضاء وطرهم . وقد كانوا ، في علاقاتهم بالولاة الرومانيين ، يخلدون إلى مزيج من الخنوع والوقاحة متيقنين أن أولئك الولاة – وإن كان لابد من خشية بطشهم – كانوا ، هم أيضاً ، يجزعون من أن يسعى بهم عند الإمبراطور … " ولم يدخلوا دار الولاية ، خشية أن يتنجسوا فيمتنعوا عن أكل الفصح ؛ فخرج بيلاطس إليهم " . من اليسير أن موقف وال أجنبي ، في إحدى المستعمرات ، حيال قضية مبهمة معقدة ، اضطر – لمعالجتها – إلى التفاوض مع الشعب ، في وسط الشارع ! |
|
. أما استنطاق يسوع ، أمام بيلاطس ، فقد دونته الأناجيل الأربعة ( متى 28 ؛ مرقس 15 ؛ لوقا 23 ؛ يوحنا 18 : 28 ) . إلا أن رواية البشير يوحنا جاءت أكثر دقة من رواية الأناجيل المؤتلفة ؛ وقد أدت بفضل اكتشافات أثرية خارقة ، إلى تعيين موضع الحادثة ، فباتت من أوثق أحداث سيرة المسيح . " فالبريتوريوم " الذي يذكره الإنجيل الرابع ، لفظة لاتينية ، شاع استعمالها في جميع الأقاليم الرومانية ، ودخلت في صلب اللغة العبرية والآرامية ؛ وهي تشير إلى الموضع الذي يصدر فيه الحاكم قراراته ؛ فهو ليس حتما ، قصر العدل ؛ وربما كان مجرد خيمة . إذا كان الحاكم في حرب ، أو منزلاً خاصاً ، إذا كان والياً في مستعمرة . وكان}على جانب من البساطة : يتألف من منصة وضيعة ، نصف دائرية ( المنبر ) يعلوها المقعد الخشن القديم ، المعهود في تقاليد الرومان ( كرسي القضاء ) ؛ فأن يكون يسوع قد سيق إلى البريتوريوم ، مفاده إذن أنه سيق إلى حيث كان بيلاطس نازلاً ، آنذاك |
|
. ثمة نصوص من فيلون وإفلافيوس يوسيفوس ، فيها معلومات إضافية . فلقد كان الولاة الرومانيون ، مدة إقامتهم في أورشليم ، ينزلون بالأنطونيا ، وهي القلعة التي دعاها هيرودس الأكبر هكذا ، تودداً إلى أنطونيوس . وكانت قائمة شمالي المدينة ، عند حاشية الهيكل ن ممتدة في اتجاه الأسوار ، ومشرفة عليها بكتلتها الصخرية من علو 25 متراً . وكان يخفر القلعة ، في الأحوال العادية ، حامية من ستة مائة جندي ، يسهرون على أورشليم من مشارف أسوارها الضخمة . فإذا قدم الوالي ، عززت الحامية بإمدادات أخرى ، مستقدمة من قيصرية الساحل . ومن المحتمل أن بيلاطس ، في تلك السنة الثلاثين ، كان ينزل بذاك الحصن الصفيق ، وكان قد لمس في أهل ولايته بعض الاستياء الدفين ( وكانت قد وقعت في الجليل – قبل زمن يسير – أحداث ألمع إليها البشير لوقا ( 13 : 1 ) |
|
وقد تبسط إفلافيوس يوسيفوس في حديثه عن القلعة ، ضمن كتابه " حرب اليهود " . هناك ، فوق أنقاض حصن سليماني قديم ، شيد اليهود – جيلاً بعد جيل – قلاعاً منيعة ، وركزوها في تلك المنطقة التي باتت ، في الواقع ، سهلة المأخذ ، بسبب تلة بيت حسدا . هناك انتصب ، بعد الجلاء ن برج هنائيل ، الملقب " فاريس ، أي الحصن الحصين ؛ وهناك ، أخيراً ، شيد السمونيين قلعة ملكية ، خلع عليها هيرودس البذاخ شكلها النهائي . وهي بمثابة مستطيل طوله مائة متر ، وعرضه خمسون ، تدعمه عند زواياه الأربع ، أبراج مربعة ضخمة يبلغ علوها زهاء ثلاثين متراً . لقد كانت – بلا مراء – هي مفتاح المدينة المقدسة ، ومغلاق الهيكل . وكان ينحدر منها أدراج إلى باحات الحرم ، وتتفرع منها إلى ما تحت الساحة الكبرى ، مسالك سرية ، وأنفاق خفية . وقد بقيت الأنطونيا ، بعد أن تقوضت على يد تيطس ، واضحة المعالم ، محفوظة الموقع ، عبر الأجيال . وقد اثبت التقليد فيها – منذ الجيل الرابع – موضع البريتوريوم الذي مثل فيه يسوع أمام بيلاطس ، وشيدت فيها في الجيل السادس ، كنيسة على اسم " المحكمة المقدسة " ، هُدمت من بعد . ومنذ القرنين الخامس عشر والسادس عشر ، مازال " درب الصليب " ينطلق منها … |
|
. وخرج بيلاطس إلي باب القلعة ، وقال للجميع : " أية شكاية توردون على هذا الرجل ؟ " . لم يجيبوا أن : " حكمنا بالموت ، فنفذ الحكم ! " ، بل راوغوا قائلين : " لم لو يكن فاعل سوء ، لما أسلمناه إليك ! " ؛ ولكن بيلاطس لم يؤخذ بأحبولتهم ، أو ربما فاته قصدهم وتصور أنهم إنما جاءوا ليأذن لهم بمتابعة القضية . فقال لهم : " خذوه أنتم واحكموا في أمره ، بحسب ناموسكم ! " ؛ فأجابه الجمع : " لا يباح لنا أن نقتل أحداً ! " ؛ فازداد بيلاطس حيرة : " أي شر عساه فعل ؟ .. " ؛ قالوا : " لقد وجدنا هذا الرجل يثير أمتنا ، ويمنع من أداء الجزية لقيصر ، ويدعي أنه المسيح الملك ! " ؛ تهم ثلاث لا حاجة إلى تبيان ما انطوت عليه من بهتان سافر ! ومع ذلك فقد كان وقعها في نفس بيلاطس بحيث وطن النفس على استنطاق يسوع بذاته |
|
. من كان ذاك الرجل الذي سوف يتوقف عليه مصير يسوع ؟ لقد ذكره تاقيطس في تاريخه ، وتبسط فيلون وإفلافيوس يوسيفوس في الحديث عنه . كان طيباريوس قد أقامه والياً على اليهودية ، في " السنة الثانية عشرة من ملكه " ، أي – على الأرجح – في السنة 26 ، وظل في وظيفته عشر سنين . وأما عن أصله فلا ندري شيئاً . . واحد ولا شك ، من أولئك الفرسان الذين كان الأباطرة يؤثرونهم على طبقة الأرستقراطيين ، بسبب طواعيتهم …. ومهما يكن من أمر محتده ، فإن لنا في بحث نفسيته ، شأناً أعظم |
|
. ينبغي ألا نحمل على المعنى الحرفي ما جاء عنه في تاريخ اليهوديين يوسيفوس وفيلون . فلقد كان من مجانح هذين القوميين أن يلصقا جميع التهم بكل من لم يكن ميالاً إلى اليهود . فأن يكون بيلاطس – على حد ما وصفه يوسيفوس – فاسقاً ، نهاباً ، ظالماً ، مسانداً الفساد والعنف ، فذلك مما لم يكن ليفوق به غيره من كبار الموظفين الرومانيين . وأما فيلون ، فإذ يورد عليه " مظالمه واختلاساته ، ومفاسده وإهاناته " ، فهو لا يقيم عليها أي دليل . فأن يكون الوالي قد بطش بهم أحياناً ، فذلك ما أثبتته أحداث مختلفة . ولكن هل كان ، لحامل مسئولية النظام في أمة صعبة المراس ، حرية انتقاء الوسائل ؟ هذا ، ولا يؤخذ من الإنجيل أنه كان رجلاً عنيفاً عاتياً ، بل ضعيفاً متردداً . ولكنه بازاء ذلك ، كان شبيهاً كل الشبه بأفراد طبقته من أصحاب الإرادة في روما ، وقد باتوا يستمدون قوتهم من آرائهم التحكمية ، ويتخذون من الحضارة غثها وسمينها ، ولا يضمرون إلا الاحتقار للرعاع الأجلاف الذين تولوا أمرهم . وكان قد اجتاح روما منذ السنة 19 موجة من التنكر للسامية اضطرت اليهود إلى النزوح عنها . وكان بيلاطس – من طبعه – قليلاً ما يأنس إليهم . وكان له – فضلاً عن ذلك – أسباب معينة للاحتراز من تعصبهم ، ومما جر عليه ، غير مرة ، من متاعب … وهاهم الآن أيضاً يأتونه بملكٍ مزعوم ، نبي مشبوه ، واحد – ولا شك – من المتهوسين . وربما كان في سريرتهم أن يعرضوه للسخرية ، إذا ما أقدم على محاكمة رجل ضعيف العقل ! فذاك الرجل لم يؤخذ في جريمة التحريض على الفتنة . ومن ثم فما هي سوى أحبولة جديدة من أحابيل تلك الأمة الشكسة ! لقد كان بيلاطس إذن ، بسبب ازدرائه لليهود وتحفظه منهم ، ميالاً إلى يسوع |
|
. فعاد بيلاطس إلى دار الولاية ، تحامياً من صياح الجمع ، وسأل المتهم قائلاً : " أ أنت ملك اليهود ؟ " . سؤال فيه هزء طفيف ! فأجاب يسوع بسؤال آخر ، أفضى به تواً إلى صميم المعضلة : " أمن عندك تقول هذا ، أم أن آخرون قالوه لك عني ! " . في نظر القانون الروماني ، لم يتعرض المسيح ، ولا لحظة واحدة ؛ لتهمة الآمر على العرش ؛ وأما في نظر الدين اليهودي . أجل ، لقد كان يسوع هو الملك – المسيا ، مسيح الرب ! أجاب بيلاطس : " أو يهودي أنا ؟ إن أمتك ورؤساء الكهنة أسلموك إلى ؛ فماذا فعلت ؟ " . لم يتهرب يسوع من الجواب ؛ أو لم يكن بيلاطس ممثل السلطة ؟ فقال : " إن مملكتي ليست من هذا العالم !فلو كانت مملكتي من هذا العالم ، لكان رجالي يقاتلون عني ، فلا أُسلم إلى اليهود . ولكن لا ! إن مملكتي ليست من هنا ! " . لقد بدا ذلك لبيلاطس – ولا شك – على جانب من الإبهام ! فلم يسترع انتباهه إلا : " أأنت إذن ملك ؟ " ؛ فأجاب يسوع بالعبارة المقتضبة الشهيرة : " أنت قلت ! إني ملك ! " . ثم أفصح عن فكرته قائلاً : " لقد ولدت وجئت إلى العالم لأجل هذا : أن أشهد للحق ! وكل من هو للحق يسمع صوتي ! " . حتماً ، لم يكن للروماني بذاك الحالم أية حيلة ! فهز كتفيه قائلاً : " وما هو الحق ! " ؛ بكلمات تجمعت فيها كل ريبية المجتمع الذي كان منه |
|
! وخرج أيضاً إلى باب القلعة ، وخاطب الأحبار والشعب قائلاً : " أنا لا أجد عليه علة ! " ؛ في تلك اللحظة بدا واضحاً أن رأي بيلاطس في يسوع قد استقر على كونه رجلاً بسيطاً لا شر منه يخشى . إلا أن الجمع هب يصيح ، ويحتج ، ويثور ؛ واستعاد آنف التهم : " إنه يهيج الشعب ، معلماً في اليهودية كلها ، من الجليل حيث بدأ ، إلى هنا ! " الجليل؟ … لقد لقف بيلاطس الكلمة سريعاً ، وراح يستعلم : " ألعله جليلي ؟ .. " أجل ، فكرة بارعة ! |
|
كان هيرودس أنتيباس – الأمير الماجن ، زوج هيرودية – هو أيضاً في أورشليم للفصح . فصيانة الظواهر هي ، أبداً ، خطة العظماء . ولم يكن بيلاطس وهيرودس على كثير من التصافي : فالأمير لم يكن لينسى للروماني عنفه الشديد في قمع فتنة ثارت فوق أرض ولايته ؛ وأما الوالي فكان ، ولا شك ، واقفاً على الوشايات التي كان يسعى بها الأمراء الهيرودسيون عند الإمبراطور . فلما عرف بيلاطس أن يسوع من الجليل ، تكلف الاعتقاد بأنه تحت سلطة صاحب الجليل وبيرية ، فصرفه إليه . وأما الحكمة في ذلك فكانت متعددة الوجوه : فهو ، أولاً ، لون من ألوان الإحترام ؛ وهو أيضاً صرف للأدومي – إذا أسفرت القضية عن حكم إعدام – عن أن يسعى به عند الإمبراطور ، في روما أو في كابري . ويتهمه باعتماد البطش كعادته ؛ وربما اندس بعض التهكم في إحالة قضية تحمل زميله مسئولية حكم مورط ؛ وليس ما يمنع أخيراً من أن نشم فيه شركاً منصوباً : أو ليس من التجاوز أن يرضى الأمير بالبت في قضية ، خارج حدود ولايته ؟ |
|
. واجتاز يسوع ثانية جسر التيروبيون ، مع من كان يواكبه من حرس ومتفرجين . وكان قصر هيرودس يشرف على ساحة كيستس بصفوف أعمدته النفيسة ، وقاعاته الكثيرة . وسطوحه المزدانة بالحدائق . وأما اليوم فلم يبق ثمة سوى ركام من النازل العربية المتهدمة ، ما بين خليط من الأزقة المتشابكة …. ولم يكن هيرودس ، من طبعه ، بالرجل السفاح ؛ بل كان – على حد ما عرفناه في حادثة مصرع المعمدان – ضعيفاً متردداً ، ميالاً إلى الريبية والخرافات . لقد كان هو أيضاً – مثل بيلاطس – نموذجاً من تلك الحضارات المنحطة حيث تختلط الثقافات ، وتتبذل الأخلاق |
|
. " فلما رأى هيرودس يسوع فرح جداً ، لأنه ، من زمان طويل ، كان يشتهي أن يراه ، لما سمع عنه ، ويأمل أن يعاين منه آية يصنعها . فألقى عليه أسئلة كثيرة ؛ وأما يسوع ، فلم يجبه بشيء … " ؛ أجل ، نحن نذكر أن التترخس كان يرغب ، منذ زمن بعيد ، في أن برى المسيح . ( لوقا 9 : 9 ) ؛ ولكننا نذكر أيضاً أن يسوع أجاب موفدي هيرودس ، قائلاً : " إذهبوا وقولوا لهذا الثعلب … " ( لوقا 13 : 31 ) ؛ ومن ثم فقد كان موقفه من هيرودس ، غير موقفه من بيلاطس : فهو لا يعترف بسلطة الطاغية ؛ وبصمته ، قد أعرب عن ازدرائه . ولم يخف ذلك عن هيرودس ، " فازدراه هو وجنده . وهزأ به ؛ ثم ألبسه ثوباً لامعاً ورده إلى بيلاطس " . ما كان ذاك الثوب ؟ هل كان ثوباً فاخراً ، ولبوساً ملكياً ، يليق بمن اعى أنه " ملك اليهود " ؟ إذن لكان ذلك – ولا شك – لوناً من الهزء بيسوع نفسه ، وربما باليهود أيضاً : وكان الأمراء الهيرودسيون يميلون إلى تحقيرهم . وذهب البعض إلى أنه ثوب المختلين : وهل كان اليق منه بذاك الساذج ؟ ! إلا أن عدداً كبيراً من المفسرين قد أجمعوا على أنه حلة بيضاء كان يرتديها القواد الرومانيون في ساحات الوغي ، ويلبسها – جبراً – المرشحون للإنتخابات . فإذا صح هذا فهو – بلا مراء – تعريض ساخر ببيلاطس : " مهزأة بمهزأة ! " ؛ سيدان من أهل الحضارة الراقية يلهوان برجل مسكين ، يتقاذفانه كالكرة بين أيديهما ! ولكم من مثل هذه المقاذفات لا تزال جارية في الشئون القضائية ، من محكمة ، إلى محكمة ن ومن الحق العام إلى الدفاع ! .. أما بيلاطس فقد استملح اللعبة ! " وفي ذلك اليوم عينه ، تصادق هيرودس وبيلاطس ، وقد كانا ، من قبل ، متعاديين " |
|
. هذه الحادثة لم ترد إلا في إنجيل لوقا ( 23 : 7 – 12 ) . وقد شك كثير من النقاد في صحتها ؛ بيد أنها لا تقطع سياق الرواية الإنجيلية ؛ كما أنها لا تتضمن ، معنى ولا مبنى ، ما يدعو إلى إسقاطها . ويمكن التسليم بأن البشير لوقا - الذي يفوق سائر الإنجليين دقة في حديثه عن هيرودس – قد اعتمد مصدراً خاصاً : ولعله حنة امرأة خوزي ، قيم هيرودس ؛ وقد تفرد لوقا بإدراج اسمها في لائحة النساء الفاضلات ، اللواتي كن يبذلن من أموالهن في خدمة يسوع ( لوقا 8 : 3 ) . وسوف يجمع لوقا ، في " أعمال الرسل " ، هيرودس وبيلاطس إلى زمرة الأعداء الذين تعاقدوا على يسوع |
|
. وأعيد إلى دار الولاية ، ذاك الذي راح العظماء يتقاذفونه من دون ما حرج ! .. وكان قد انقضى زهاء عشر ساعات على بدء تلك المزلة الوجيعة . وللمرة الرابعة هب الموكب الصاخب يتعقب طريدته ، في أزقة المدينة وفي محاذاة أروقة الهيكل . إلام تباطؤ الروماني عن إرضاء رغائب الشعب ؟ .. ولكن بيلاطس لم يكن بعد قد آنس من ذاته الميل إلى اقتراف مظلمة سافرة ، لا لسبب إلا لأن كهنة اليهود ورعاعهم جاءوا يصيحون مطالبين بموت الرجل ! فاستقدم رؤساء الكهنة والأقطاب والشعب وقال لهم : " لقد قدمتم إلى هذا الرجل على أنه يفتن الشعب . وها أنا قد بحثت في أمره أمامكم ، فلم أجد عليه شيئاً من الإجرام التي تشكونه بها ؛ ولا هيرودس أيضاً ، لأنه قد رده إلينا . فهذا الرجل إذاً لم يأت شيئاً يستوجب الموت . فسأؤدبه إذن وأطلقه ! " تصريح خليق – ولا شك – بقاض نزيه : فهو يركن إلى العقوبة تأديباً لرجل قد أحدث بلبالاً ، ومراعاة لشعب لا بد من إرضائه . أجل ليس ثمة ما يكفي لأن ننسب إليه – مع ترتليانس – "روحاً مسيحية " ولكننا نجد في موقفه ما يدعو إلى الاعتقاد بأن يسوع قد وقع في نفسه موقعاً عميقاً ، وفي ذلك ما يفرغ لمسه جديدة على صورة ابن الله المتأنس ، وقد بدا – كما عهدناه دائماً – في منتهى البساطة والجلال |
|
. وذهب بيلاطس إلى المنصة ، وجلس على كرسي القضاء لإصدار الحكم . وفي تلك اللحظة – بحسب رواية الأناجيل الأربعة ( متى 27 : 15 – 26 ؛ مرقس 15 : 6 – 15 ؛ لوقا 23 : 13 ؛ يوحنا 18 : 39 – 4. ) – وقع أمر رد إلى بيلاطس ، هنيهة ، الأمل بأن ينقذ يسوع من غير أن يستفز الشعب ؛ فلقد كانت هناك عادة تقضي على الوالي بإطلاق أحد المساجين ، في عيد الفصح . وربما جاءه ، في تلك الساعة ، وفد يذكره بالأمر . وكان في السجن ، آنذاك ، أسير شهير ، أسمه براباس ، رجل من أهل الفتنة ( مرقس ) ، متمرد قاتل ( لوقا ) ، ولص ( يوحنا ) ؛ فقال لهم بيلاطس : " أي الاثنين تريدون أن أطلق لكم : أباراباس ، أم يسوع الذي يقال له المسيح ؟ " . لقد كان غرضه ، من السؤال ، واضحاً : فبين مجرم ثبتت جريمته ، ورجل انتفت رجاحة ذنبه ، توهم الروماني أن اختيار الشعب سوف يطابق رغبته |
|
لم يجب الشعب تواً إلى سؤال الوالي ، ويلوح من خلال سطور الإنجيل ، في صفوف الجمع ، تردد ، استطاع الوالي أن يأمل منه نجاح مسعاه ؛ وقد ازدادت تلك الأمنية فيه لجاجة ، من بعد أن أرسلت امرأته تقول له ، وهو على كرسي القضاء : " لا تسئ إلى ذاك الصديق ؛ فإني اليوم قد توجعت من أجله في الحلم " ( متى 27 : 19 ) . ولا شك أن بيلاطس قد اهتم لإنذار زوجته ، شأنه ، في الخرافات ، شأن كل روماني أصيل . هذا وكان بعد عاقاً في جميع الأذهانن ما كان قد وقع لقيصر ، يوم أنذرته امرأته كلبرنيا بحلم خبيث وتوسلت إليه ألا يخرج في ذاك النهار ، فلم يكترث للنبأ ، وراح هاوياً تحت طعنات الخناجر … |
|
! كل ذلك قد عزز في الوالي رغبته في إطلاق يسوع . ولكنه لم يكن قد حسب حساباً لطغيان الهوى وزيغ البصيرة في الجماهير . هذا ولم يكن الأحبار ، في تلك الأثناء ، لينفقوا وقتهم سدى ، بل راحوا يختلطون بالحاضرين ، ويسرون إليهم بالجواب . وسمعت اللفظة في الجمهور : " براباس ! برباس ! " ؛ فصاح بهم بيلاطس مستغرباً : " وماذا أصنع إذن بيسوع الذي يدعى المسيح ؟ " ، فقالوا كلهم : " ليصلب ! " – " وأي شر صنع ؟ " ، فازدادوا صياحاً ، قائلين : " ليصلب ! " ؛ وتعالت الصيحة القتالة ، تُرجعها مئات الحناجر ، ويقذفها حقد مترع |
|
! في غضون ذاك المشهد كله ، لبث يسوع صامتاً ، يتتبع مراحل ذاك النقاش الذي توقف عليه مصيره : " لا مشيئتي ، بل مشيئتك ، اللهم ! " . لقد رضي بكل شئ ، فكان لا بد أن يتم كل شئ |
|
إذا ذاك بدأت سلسلة الأعذبة ؛ وافتتح مساق الأحداث التي كان لا بد أن يسيل فيها دم المسيح في تزايد مستمر . كان بيلاطس قد صرح أنه سوف " يؤدب " يسوع قبل أن يطلقه ؛ ومع كونه قد ألجئ إلى إطلاق براباس فقد احتفظ بقراره ، وأمر بجلد الصديق . إن الإنجيل ، سواء في رواية متى أم مرقس أم يوحنا ، قد اقتصر على ذكر القليل من وصف هذا المشهد المريع . وأما لوقا فقد أغفله إغفالاً تاماً ؛ ولكأن الرعب المقدس قد أزال أصحاب الإنجيل عن الإطناب في وصف تلك الفظاظة . هذا ، ولم يكن من أهل العصر من بات يجهل تلك العقوبة التي كان قد شاع استعمالها جداً . وقد أتى الأدباء اللاتينيون على وصفه مراراً : وإننا لنسمع ، من خلال سويتون وتيت – ليف ، صيحات القضاء يستحثون الجلادين على الإمعان في الضرب، ونري، من خلال شيشرون وبلوتارك، المذنب يتلوى تحت الجلدات، وقد تدرج جسمه بالدم، وهوي إلي الأرض، هذا إذا لم يفارق الحياة قبل نهاية العقاب … |
|
. وأما عند اليهود، فكان الجلد من الأعذبة القديمة، وقد ورد ذكره في سفر تثنية الإشتراع (فصل 25) ، وكانوا يعمدون إليه في بعض الأحوال المعينة، (مثلاُ في معاقبة الحر إذا أفضي إلي أمة غيره)، ولكن الشريعة الموسوية كانت قد لطفت من قسوته بعض الشئ. وكانوا يستعملون له السوط المألوف أو العصي، ولا يأذنون بضرب المذنب أكثر من أربعين جلدة، وكانوا خوفاً – من تخطي هذا الرقم – يكتفون بتسع وثلاثون جلدة : ثلاث عشرة علي الصدر، ومثلها علي كل من المنكبين، وربما عمدوا أحياناً إلي استعمال سوط بثلاثة سيور يضربون به المذنب ثلاث عشرة جلدة. وأما عند الرومان، فكان الأمر أشد هولاً : فعدد الجلدات لم يكن محدداً، في الشرع، بل متروكاً لحكم القاضي أو لهوي الجلاد. وكانوا يستعملون نوعين من المضارب: السوط، وهو مجموعة من الأقدة الجلدية، إذا عنف بها الجلاد، استطاع أن يقصم بها ترقوة الصدر أو سلسلة الظهر، وإذا لطف بها، استطاع أن يقشط بها الجلد قشطاً ذريعاً … والمجلدة وهي مجموعة من السلاسل الحديدية تناط بأطرافها كريات معدنية أو عظيمات خروف. ويؤخذ من نص القديس مرقص، باللغة اليونانية، أنهم جلدوا يسوع بمثل هذه الأخيرة … وأما عمود الجلد فكان اسطوانة عريضة وقصيرة (علوها قدمان وبعض القدم) ينحني عليها المجلود – وقد عري من ثيابه – انحناءه يتوتر معها الجلد، فيخترقه السوط اختراقاً أحكم |
|
. بعد أن أنجز الجلادون مهمتهم، " اقتاد الجند يسوع إلي دار الولاية وجمعوا عليه الكتيبة كلها. ونزعوا عنه ثيابه وألبسوه رداء قرمزياً، ثم ضفروا إكليلاً من الشوك ووضعوه علي رأسه، ووضعوا قصبة في يمينه، وجثوا قدامه، وهزأوا به قائلين: (سلام، يا ملك اليهود! ) ، وبصقوا عليه وأخذوا القصبة، وضربوا بها رأسه" (متي 27 : 26 – 3.، مرقص 15 : 15 – 19 ، لوقا 23 : 24 – 25 ، يوحنا 19 : 1 – 3 ) |
|
.. هذا اللون الآخر من التنكيل لم يكن بيلاطس قد أمر به. ولكن الرعاع البشري شديد الوطأة علي من خانهم الدهر، فكيف إذن بتلك الحثالة العسكرية المتكالبة ؟ .. لقد كانوا علي الأرجح – من مرتزقة سورية أو البادية، وربما أيضاً من أهل السامرة، تحت إمرة بعض الضباط الرومانيين. وإذا يهودي بين أيديهم! فرصة سانحة للإنقضاض عليه بسخائمهم الموروثة ! وعلي كل فلم يكن الرجل – وقد أمر الوالي بجلده – ممن يوزن لهم وزن ! |
|
في ركن من أركان باحة الأنطونيا، وبقرب الدرج المفضي إلي مربأة الحرس، وجدت نقوش محفورة في الصفائح الأرضية، تمثل ألعاباً كان جنود الحامية – من دون أي ريب – يتلهون بها . ويري – حتى اليوم – موضع السراج الذي كانوا يسهرون علي ضوئه، في ساعات الخفر. وكان الناس، في جميع أطراف الامبراطورية الرومانية، مولعين كل الولع ببعض ألعاب القمار أو الرشاقة : منها لعبة الحواجز" التي لا يزال الأطفال، حتى اليوم، يرسمونها فوق الأرصفة، وبعض ألعاب شبيهة بالنرد أو الدامة. وكان أكثرها شيوعاً لعبة " الكعاب " وهي لا تزال شائعة، حتى اليوم، في بلاد الشرق. وكانت الكعاب تسد مسد النرد في مختلف احتمالات وقوعها. ويري في فخارة محفوظة في اللوفر، رسم ثلاث نساء فتيات جاثيات علي الأرض، يقذفن كعاباً في دائرة محفورة في التراب، تجتازها خطوط أفقية ويشاهد اليوم بوضوح، فوق صفائح الليثستروتس (1). ما يسمونه، بلعبة "الدائرة" … وكانوا يلعبونها بأربعة كعاب تحمل أرقاماً أو حروفاً، وكان علي اللاعب أن يتتبع فيها رسوماً معلومة ، واصطلاحات معقدة جداً، كما هو الأمر في لعبة "البطة" ، وكان لبعض قذفاتها أسماء معينة، منها "قذفة الاسكندر"، و "قذفة الشاب" ، و "قذفة داريس"، وأوجهها " قذفة الملك"، وإننا لنميز بجلاء، فوق الصفائح الحجرية، رسم الدائرة، وقد انبثق منها خط متعرج ملتو، منتقل من رسم إلي رسم، والحرف الأول ( ) من لفظة الملك باليونانية ( )، والإكليل الملكي. أفلا تكون هذه اللعبة هي التي أوحت إلي الجنود بتلك المهزلة البربرية التي ألحقوها بيسوع ؟ لقد كانوا منهمكين في لعبة الدائرة، إذ جاوؤهم بيهودي يدعي الملك ! فما ضر لو تلهوا به قليلاً ؟ ألا فلتكن "قذفة الملك" لملك اليهود ! … |
|
وقد يكون في نقوش الليثستروتس، ما يشير أيضاً إلي شكل الإكليل. فهو لا يتألف فقط من عصابة تحيط بالرأس، بل تصعد منه حداد مسننة. هو "التاج الشعاعي"، المعروف في الشرق، كما يبدو رسمه في عملة أنطيوخس إيبيفانس (175 – 164 ق. م .)، وكما كان يلبسه أمراء العرب في القرون الأولي بعد المسيح. وأما العشبة التي ضفروا منها إكليل المهانة، ففيها مزاعم كثيرة … مهما يكن من أمر، فالمسيحيون قد آنسوا دائماً في ذاك التاج المشين رمزاً بليغاً إلي التواضع والتجرد اللذين وضعهما المسيح في قمة الفضائل. لا ندري هل كان المسيح لا يزال مكللاً بالشوك وهو علي الصليب … بيد أن ذاك الإكليل الوجيع هو الذي لا يزال المسيح يحمله في قلب الذين يحبونه … |
|
. استمرت المهزلة وقتاً غير يسير. وظهر بيلاطس ثانية، فإذا به أمام المسيح كما تركه الجند، مكللاً بالشوك، موشحاً بثوب أرجواني، مشوهاً، زرياً … فحدق إليه … واجتازته فكرة أخيرة بل ربما أمل جديد بأن تستفيق أخيراً في ذاك الجمع ومضة عطف وإشفاق . وكان الجمهور عند باب القصر ، متراصاً بقرب منفرجاته الرحبة ، يترقب متوعداً ، وهو لا يقدم على اجتياز عتبة الأنطونيا ، خوفاً من الرجاسة الشرعية التي كانت تلحق بكل مؤمن يدخل بيتاً وثنياً . ودنا الروماني إليهم مكرراً : " إني لا أجد على هذا الرجل علة ! " ، ثم تقدم بيسوع إلى الشعب ، مجرباً خطته ، وصاح بهم قائلاً : " هو ذا الرجل ! " |
|
هو ذا الرجل ! .. انطلقت الكلمة عبر التقاليد المسيحية ، باعثة في النفوس أصداء فاجعة ! ففي اللحظة التي ظهر فيها يسوع أمام اليهود – وهم يتصارخون لموته – إنما انبعثت صورة ذاك الرجل الذي تنبأ به أشعياء ، " رجل أوجاع " ، الذي حمل شقاء الدنيا وأوصاب البشر ، وكأنه صورة المأساة التي يعانيها البشر ! لم يكن بيلاطس ليدرك كل هذه المستبطنات ، وما كان في نيته إلا أن يومئ إلى تلك الضحية البائسة ، إيماءه تستنزل الرحمة ! بيد أن مضمون العبارة بات أعمق مدىً من منطوقها ؛ فالوالي ، بإيماءته ، إنما دل إلى الإنسانية بأسرها ، فكرة الجمهور ، في ذاك المشوه ، شبه ذاته … |
|
خاب أمل الوالي . " فإن رؤساء الكهنة والشرط ، إذ ابصروا يسوع ، صرخوا قائلين : " أصلب ! اصلب ! " ؛ فقال لهم بيلاطس : " خذوه أنتم واصلبوه ، فإني أنا لا أجد عليه علة ! " ( يوحنا 19 : 6 – 7 ) ؛ وكان جوابهم حاضراً ، فقالوا : " إن لنا ناموساً ، وبحسب الناموس يستوجب الموت ، لأنه جعل نفسه ابن الله ! " . انتقلت التهمة إذن إلى حيز الدين : أولم تكن السلطة الرومانية قد تعهدت بمراعاة الشرع اليهودي ؟ أو لم تكن السلطة بالذات قد أعدمت جندياً رومانياً ، لأنه أقدم – استهتاراً – على إتلاف بعض كتبهم المقدسة ؟ .. وأما يسوع فكان قد جدف … |
|
. " فلما سمع بيلاطس هذا الكلام ، ازداد خوفاً " . هو الروماني المتطير الذي مازال حلم امرأته يزعزع وجدانه ! " ابن الله ؟ : عبارة ، ولا شك – مقضة ! ؛ " فدخل أيضاً دار الولاية ، واستجوب يسوع ثانية : " من أين أنت ؟ " ؛ فلم يرد عليه جواباً ؛ فقال له بيلاطس : " ألا تكلمني ؟ .. أفما تعلم أن لي سلطاناً أن أطلقك ، وسلطاناً أن أصلبك ؟ " ؛ فأجاب يسوع : " ما كان لك على من سلطان ، لو لم يعط لك من فوق ! لذلك ، فالذي أسلمني إليك ، قد اقترف خطيئة أعظم ! " |
|
.. نشعر شعوراً واضحاً أن الوالي أخذ يتفاقم اضطرابه ، ويضيق به وضعه ، ويعنته ما فرض عليه من اتخاذ قرار في مثل هذه القضية . ولقد بات يرغب ، أكثر من أي وقت مضى ، في اطلاق ذاك النبي الذي ادعى القدرة الإلهية . ولكن هتافات الشعب كانت تترامى إلى اذنيه ، من أعتاب القصر ، صاخبة ! والذي تميزه فيها ذاك العميل الخاضع لأشد الأباطرة ظنةً وارتياباً ، لم يكن ليطيب نفسه : " إن أنت أطلقته ، فلست محباً لقيصر ! " ( يوحنا 19 : 12 ) ؛ لم يكن بيلاطس رجلاً هزيل الشخصية ؛ وهتافات الشعب ما كانت – على الأرجح – لتثنيه عن عزمه . وإن ما بدا من موقفه السابق يثبت استمساكه بمبدأ العدالة المتوارث في روما ، الذي أفره الإمبراطوران مكميانس و ديوكلسيانس ، من بعد ن في الصيغة التالية : " لا يكترثن القاضي للهتافات الشعبية الباطلة ؛ فالجماهير كثيراً ما تطالب بتبرئة الأثيم ، وتأثيم البرئ ! " . ولكن زعماء الحملة كانوا قد وقعوا على الحجة السياسية التي كان لا بد أن تصيب مرماها ! |
|
! جاء في كتابات فيلون أن بيلاطس كان يخشى أن ينفذ إلى روما وفد يفضح اخطاء سياسته العوجاء ، واغتصاباته ، وقراراته الجائرة ، وتنكيلاته الوحشية … ومن المرجح أن الوالي كان لا بد أن يوجس ، من تصرفاته الإدارية ، بعض ما يريب ضميره : فالاضطرابات التي أحدثتها قراراته الخرقاء ن في حادث " البنود في الهيكل " ، وحادث " الخزينة المقدسة المنهوبة " ، كانت لم تزل بعد في الأذهان . ولكن ، على افتراض أنه كان واثقاً من نفسه كل الثقة ، فما كان ذلك ليكفيه مخاوف الوشاية . " فلقد كانت الشرائع ، آنذاك – على حد قول تاقيطس – خاضعة لتحكم السطوة والسعاية والمال ؛ حتى أمست ، بسبب الوشايات – ولا سيما في عهد طيباريوس – آفات فتاكة ن كالرذائل في سالف الزمان " – " لست محباً لقيصر ! .. " : لقد كان بحسبه تلك العبارة إنذاراً بأن رأسه بات متزعزعاً بين كتفه |
|
. لقد كان من الشجاعة أن يستهين بذاك التهويل ، ويتعرض لوشاية كاذبة ، استنقاذاً للرجل البرئ ! ولكن بيلاطس لم يقدم ! … وتلك هي جريرته الثابتة ! وارتقى منصة الحكم ، ثانية ن لكي يستعيد ، ولا ريب ، بعض هيبته . وقال للجمع : " هو ذا ملككم ! " . فاجتاحته هتافات صاخبة : " ارفعه ! ارفعه ! اصلبه ! " ؛ وذبذب الوالي مرة أخيرة ، قائلاً : " اأصلب ملككم ؟ " ؛ فأجاب الجمع ، يهمزه الأحبار والكهنة : " لا ملك لنا إلا قيصر ! " ؛ إذ ذاك خانته قواه ، فلم يجرؤ حتى على اصدار حكم قضائي ، " فأسلمهم يسوع ليصلب " |
|
ما كانت خواطر بيلاطس في اللحظة التي سوغ فيها واحدة من أعظم فضائح التاريخ ؟ آيتان من إنجيل متى تكشفان لنا عن ذلك ( متى ( 28 : 24 9 أجل ، لقد انصاع لضغط الجماهير ن ولكنه أراد أن يعلمهم أنه لم يكن ليحمل مسئولية ذاك القرار . " فأخذ ماء ، وغسل يديه على مشهد من الجمع " . لقد كانت تلك عادة قديمة عند اليهود ، بينة المغزى ، وفي متناول أفهام الحاضرين . وقد وردت العبارة في سفر التثنية ( 21 : 6 – 7 ) ، بنفس الدلالة التي توخاها بيلاطس : فشيوخ المدينة قد " غسلوا ايديهم " ، إشارة إلى التبرؤ من جرم . |
|
. وصاح بيلاطس قائلاً : " أنا برئ من دم هذا الصديق ! فأنتم وما ترون ! " . وإننا نقرأ في الإنجيل ، وليس في إنجيل يوحنا ( وقد عرفناه ناقماً على "اليهود " ) بل في إنجيل متى 0 27 : 25 ) ، ذاك الجواب المذهل الذي أطلقه الشعب ، والذي ما فتئ المسيحيون ، في سوادهم ، متمسكين بمنطوقه : " دمه علينا وعلى أولادنا ! " |
|
. تلك الصرخة الغضبى تبعث في النفس ن بلا مقاوم ن فكرة المصير الفاجع الذي التصق بإسرائيل ، عبر القرون ، وصورة الدم السائل بلا انقطاع على منكبيه ، وصراخه الناحب المترجع أبداً ، وكأنه صدى تلك الصرخة الأولى ! ههنا سر من أعمق أسرار التاريخ ، مرتبط بدعوة الشعب المختار وخيانته ، من جهة ، ومستقبل الأزمنة ، كما وصفها بولس الرسول في رسالته إلى روما ، من جهة أخرى . فالمسيحي لا يستطيع أن ينسى ، بإزاء وجه ذاك الشعب المخضوب بالدماء ، وجهاً آخر ، مثله ، مشوهاً بالدم والبصاق ! بيد أن المسيحي لا يستوحي من هاتين الصورتين حافزاً على الضغينة ، بل دعوة إلى الصفح . فإنه ليس لنا أن ننصب ذواتنا قضاة في معضلة قد هيمنت على مجرى القرون . أو لن يدعو المسيح نفسه لجلاديه ، وهو على الصليب : " يا أبت ! اغفر لهم ، لأنهم لا يدرون ما يعملون " ( لوقا 23 : 34 ) |
|
. أما بيلاطس ، فلم تكن فطنته الرعديدة لتجديه طويلاً . فخمسة أعوام بعد مصرع المسيح ، حشد " نبي " أهل السامرة في جبل جرزيم ، لتظاهر يفتتحون به العهد الماسوي . فأنفذ بيلاطس جنداً يشتتونهم . فسقط بعض القتلى ، وأنجز على بعض الأسرى . فذهب وفد من السامريين يرفعون ظلامتهم إلى فيتليس ، موفد الإمبراطور إلى سورية ، ورئيس بيلاطس رتبةً . وكان فيتليس على بينة – ولا شك – من تصرفات مأموره ، فرحب بعريضتهم وتقدم إلى الوالي بالذهاب إلى روما ، لعرض قضيته .وما إن بلغ إلى العاصمة ، حتى فوجئ بنبأ وفاة طيباريوس . وأما ما حدث في إثر ذلك ، فلا يعلم ، وقد ذهب إفسابيس وفيلون إلى أنه مات شر ميتة … ولا بدع ، فلاجبانة لا تجدي إلا نادراً |
|
تُرك يسوع إذن عرضة لخصومه ، وأخذت تتحقق النبوءة التي تنبأ بها ، ولسوف " يرفع " ويردى على الصليب ! ولكن هل لنا أن نصدر ، في تلك المأساة ، حكماً ؟ وهل بالإمكان أن نحدد أطراف المسئولية ؟ |
|
من الثابت أنه لم تُجر ثمة " محاكمة " بالمعنى الصحيح . فقد كان للمتهم ، في الحق اليهودي ، كما في الحق الروماني ، ضمانات شرعية ن كثيرة ومتينة . وأما يسوع ، فمما لا نزاع فيه أن القوانين لم تطبق على قضيته ؛ بل منها ما انتهك ما انتهك انتهاكاً سافراً ، ومنها ما أسقط عن حيلة أو تهاون . ولا نتصور كيف استطاع رينان أن يثبت لها وجهاً من العدالة . ففي غضون " المرحلة اليهودية " من هذه المحاكمة ، نقع على دسيسة مدبرة على هلاكه ؛ وربما لم تكن حوافز أصحابها كلها خسيسة ؛ ولكن الذرائع التي اعتمدوها كانت والعدالة على طرفي نقيض . وأما " المرحلة الرومانية " ، فقد تمت بمعزل عن المناهج القضائية المسنونة ، وبعيداً عن تلك الرزانة المدققة التي امتاز بها الشرع الذي انبثق منه شرعنا . ولو أن بيلاطس اثبت على يسوع تهمة الإثارة الشعبية ، أو الدعوة إلى التخريب أو التكتل المحظور أو ما إليه ، لسلمنا بذلك تسليماً تاماً . ولكن شيئاً من ذلك لم يكن ! فالاتجواب لم يتعرض حتى للقضايا الجوهرية ؛ ولم يتخذ ثمة قرار رسمي ز ثم إن الوالي لم يحكم بضرورة تقرير ، لم ينفذ إلى الإمبراطور أو إلى مجلس الشيوخ ؛ على كل ، فمثل هذا التقرير لم يعثر عليه ! |
|
. إن المسيحيين الذين ما زالوا ، إلى اليوم ، يرددون ، في قانون إيمانهم : " وصلب على عهد بيلاطس البنطي " ، إنما يلقون على ذاك الرجل ، وعليه وحده ، عاراً ابدياً . فمن الناحية المادية ن القانونية ، يحمل الحاكم الروماني مسئولية الحدث : فهو ، إذ سوغ لليهود تنفيذ الحكم ، قد غدا قاتل المسيح .. ولكن ، من الناحية الأدبية ؟ .. من طالع الأناجيل ، تبين بوضوح أن بيلاطس قد أمسى – نوعاً ما – بين أيدي رعاياه ، ىلة سخروها لأغراضهم . حتى وإن صح ما ذهب إليه بعض المؤرخين ، من أنه لم يكن ثمة " محاكمة يهودية " ، أن السنهدريم لم يحكم على يسوع حكماً قانونياً ، فإن النصوص الإنجيلية تفرض الاعتقاد بأن الدسيسة اليهودية قد أُحكمت بحيث لم يبق للروماني حيلة إلا في الانصياع . هناك اتجاه يدعمه جمهور من أقطاب الفكرة المسيحية ، ويعبر عنه القديس أوغسطينوس بقوله : " إن بيلاطس قد شاطر اليهود جريمتهم بقدر أعماله ؛ ولكنه ، إذا قيس بهم ن بدا أقل إثماً منهم ! " |
|
. منهم ! … أي اليهود ، بل اليهود في مجموعهم ز وهذه اللفظة وحدها تطرح مشكلة جسيمة الخطورة . فلئن اتضح أن اليهود ، في مأساة المسيح ، مسئولية فادحة . فهل يحق أن نرهق بها جميع اليهود ، والشعب اليهودي برمته ، بل العنصر اليهودي ؟ .. الرأي المسيحي المتواتر يرد بالإيجاب . ففي إنجيل يوحنا نرى أن "اليهود" هم الذين ساقوا القضية كلها إلى أن انطلقت ، في وجه بيلاطس ، الصرخة الغاشمة : " ارفعه ! اصلبه ! " . وفي كتاب أعمال الرسل ، يوجه بطرس الكلام إلى " رجال إسرائيل " ، ويأخذ عليهم أنهم قتلوا صلباً ، بأيدي الأثمة ، " يسوع الناصري الذي أيده الله بالآيات والعجائب " ( 2 : 22 – 23 ) ؛ أما الرسول بولس فيجزم ، في رسالته إلى أهل تسالونيكي ، " أن اليهود قتلوا الرب يسوع ! " ( 2 : 15 ) . قتلة الله تلك العبارة التي نعتهم بها أفسابيس أول مؤرخ من كبار مؤرخي الكنيسة . ومنذ ذلك العهد ، كم وكم من الكتاب المسيحيين في جميع الطوائف ، رددوا نفس التهمة ، وأيدوا نفس النظرية ؛ ومن ثم فقد بات صعباً جداً على المسيحي أن يكتشف أن هناك معضلة دقيقة ، وأن يفقه جيداً إلى أي مدى ن وبأي معنى ، يمكن التسليم بفكرة " المسئولية اليهودية الشاملة " |
|
. معضلة دقيقة ، بل أكثر من معضلة فهناك أولاً قضية الوقائع . فلكي نحمل جميع الشعب اليهودي المعاصر للمسيح ، مسئولية قتله ، يجب أن نقيم البرهان على أن الشعب كله قد عرف يسوع ، وأن الشعب كله قد أيقن أن يسوع هو " المسيح " وتنكر له ، وان الشعب كله قد طالب بإعدامه . والحال مجرد الوقوف على النصوص الإنجيلية لا يسوغ الإجابة ، بالإثبات ، إجابة قاطعة . فمن تتبع تلك النصوص ، تبين له بوضوح أن كرازة المسيح لبثت ، في أصدائها ، محدودة النطاق . فإن جل رسالته إنما تحقق في الجليل ، ولا سيما في منطقة البحيرة ، أي في بقعة نائية لم يكن يهود اليهودية – وهم حفظة التقاليد الإسرائيلية – ليولوها شأناً كبيراً . وتلك " الجماهير " التي كانت تتبعه ، في الجليل ، كم كان عددها ؟ لقد كانوا من أربعة آلاف رجل ، يوم تمت " معجزة الخبز " ؛ وهذا كثير ولكنه لا يكون شعباً برمته وأما اليهودية ، فمن الثابت أن يسوع – بالرغم من تعريجاته القصيرة بها – لم يشتهر فيها إلا من بعد أن وافاها في المرحلة الأخيرة من رسالته . ونجد إشارة واضحة إلى ذلك في إنجيل البشير متى ، حيث نرى الناس يتساءلون : " من هذا ؟ " ، يوم دخل يسوع أورشليم دخلته الماسوية ، في أحد الشعانين . حتى وإن افترضنا أن رسالة يسوع ، في اليهودية ، قد استغرقت كل الوقت الذي ذكره البشير يوحنا ، فما كان ذلك ليشهره كثيراً ؛ فالإنجيلي الرابع نفسه قد أوضح أن يسوع " كان يحتجب كثيراً " .. يبدو إذن أن صدى رسالة المسيح ، وإن انتشر في الجليل انتشاراً واسعاً ، فقد لبث في سائر فلسطين ، محصوراً جداً . ناهيك عن يهود الشتات الذين لم يسمعوا بأخباره إلا اتفاقاً ، وعن طريق الحجاج العائدين من أورشليم |
|
وحتى الذين وقفوا على أمره ، هل كانت مقاومتهم له من الشمول بحيث يسوغ القول – بنزاهة – أن " كل اليهود " قد ناصبوه العداء ؟ يقيناً لا فشهادة الأناجيل المؤتلفة ، في ذلك ، حاسمة . فقد جاء في لوقا ، " أن المسيح كان كله كانوا يستمعون إليه بشغف " ( 19 : 48 ) ؛ وفي متى " أن المسيح كان عندهم نبياً " ( 21 : 46 ) ؛ وفي مرقس " أن الجمع كله كان معجباً جداً بتعليمه " ( 11 : 18 ) ؛ والبشير يوحنا نفسه يسند إلى أعداء يسوع هذه الكلمات البليغة : " إن نحن تركناه على هذه الحال ، آمن به الجميع " ( 11 : 48 ) . لقد وجد إذن ، في إسرائيل ، رجال ونساء شُغفوا بقضية المسيح ، وتولعوا بشخصه ؛ وإن كان لا بد من دليل إضافي على ذلك ، حسبنا التذكر بواقع راهن : وهو أن الذين وقفوا حياتهم للمسيح نهائياً ، وواكبوه في جميع أطوار بعثته ، وكونوا الكنيسة من بعد موته ، إنما كانوا رجالاً ونساء وأصدقاء . فهل حدث ، بعد ذلك ، تبدل في الرأي العام ، وتنكر للنبي الذي تمكنت منه الجماهير ؟ ذلك ممكن ، بل مرجح ، بل منسجم وما نعرفه من نفسسية الكتل البشرية . ولكن ، هل كانوا كلهم ، يوم ذاك ، في أورشليم ، أولئك الجليليون الذين بايعوا المسيح فوق هضابهم ؟ وهل كانوا كلهم ، أمام قصر الولاية يطالبون بموته ، أولئك الذين لوحوا بالسعف لاستقباله ، وطرحوا تحت أقدام دابته ؟ سوف يقول الرسول بولس يوماً ، لمستمعيه في أنطاكيه بسيدية : " إن القاطنين في أورشليم ورؤساءهم التمسوا من بيلاطس أن يُقتل يسوع " ( أعمال 13 : 28 ) أجل ولكن هل كلهم ؟ |
|
أما الدوافع الوجيهة – أو التي توهمها " اليهود " وجيهة – للوقوف من يسوع موقف العداء ، فليس من الثابت ، بل ولا من الراجح ، أن يكون معظم الشعب اليهودي قد وقف عليها وفهمها . فالأمر الذي كان بالإمكان أن يثير مقاومة سريعة – أعني صفة يسوع الماسوية ومناقتها لما كانوا يتصورون عن المسيح – يبدو أن المسيح سعى جهده إلى مجانبة التنويه به . فهو كشف لتلاميذه عن ألوهيته – بتجليه ، مثلاً ، أو بمعجزاته – لم يغفل إلزامهم بالصمت ؛ والمرة الوحيدة التي شذ فيها عن هذا النهج ، هي دخوله الإحتفالي أورشليم ، في أحد الشعانين : هذا ويبدو أن ذاك الاحتفال ، ظل ملتزماً جانب التواضع . وأما المعجزات فقد ذهب الأب لاجرانج – في تعليق سديد – إلى أنها ، بالرغم من طابعها الخارق ، لم تكن لتقيم الدليل على ماسويته في نظر الشعب ، أو على ادعائه الماسوية : أو لم يكن بعض الأنبياء ، من أمثال إيليا وأليشع ، قد أقاموا الموتى ؟ … |
|
. إذا كان من المستبعد إذن أن نجد في تصدي الشعب اليهودي بجملته وانتفاضته العفوية ، جذور ذاك الصراع الذي أفضى إلى مأساة 3. نيسان فمن ذا الذي بعث ذاك الصراع ؟ إن الجواب لفي نصوص كثيرة من الإنجيل والعهد الجديد . وقد بينه يعقوب – وهو من أرومة يهودية صرفة – في كلمات وجيزة من رسالته : " أيها الأغبياء … لقد حكمتم على البار وقتلتموه " ( 5 : 1 – 6 ) . من هم أولئك الأغبياء ؟ هم – بشهادة الإنجيل المتكررة – أولئك الذين نظموا ، على يسوع ، حركة المعارضة : رؤساء الكهنة ، وزعماء الشعب ، والشيوخ ، والكتبة وعلماء الناموس ؛ أولئك الذين سوف يدعوهم بولس الرسول : " رؤساء هذا الدهر " 1 كورنثوس 2 : 8 ) ، أي القادة ، والطغمة الآمرة ؛ أولئك الذين تمكنوا ، سريعاً جداً ، من التنبه للخطر الذي بات يحدق بالنظام السائد بسبب ذاك النبي الجليلي الطالع ، فهبوا فوراً يدبرون على هلاكه . منهم حنان ن ذاك الذي قال عنه رينان : " إنه الدافع الحقيقي على جريمة القتل القانونية ؛ ومنهم أيضاً قيافا ، الذي صرح " أنه خير أن يموت رجل واحد … " ؛ وحزب الصدوقيين الذي بات يجزع من تدخل الدولة المستعمرة ؛ ومنالفريسيين اشدهم انكماشاً على تقاليدهم ، واستهجاناً لتعليم المسيح ؛ فأن يكون هؤلاء القادة قد وقفوا – في غضون الأيام العصيبة = إلى استنفار بعض العناصر الشعبية على يسوع ، وتسخير تلك الجماهير التي لا أسهل من إهاجة غرائزها ، فذلك ممكن ، بل مرجح . ولكن ذلك لا يسوغ لنا أن نشمل بتهمتهم الشعب الإسرائيلي برمته ، بل ولا شعب أورشليم بأسره |
|
! وإنما ينضاف ن هنا ، إلى ما سبق من اعتبار الوقائع ، قضية مبدئية فإلى أي مدى يجوز أن نلقي على الشعب إجمالاً تبعة الأخطاء والجرائم التي يقترفها زعماؤه ؟ .. يتبين لنا ، من منطق التاريخ الهائل ، أن الأمور تجري في الواقع بمقتضى هذه السنة ، وأن أوزار الحكام تقع على كواهل رعاياهم . وإنه لمن منازع وجداننا البشري ، وانحرافاته الفطرية ، إذا كابدنا من أمة ، أن نشمل الأمة كلها بالتأثيم والبغضاء ، ولكن ليس ثمة ما يبرر الانقياد لتلك النزعة |
|
. الحقيقة أن قضية البحث في مسئولية مصرع المسيح لا تنحصر في حيز التاريخ والقانون ، وأنها لن تصادف جواباً شافياً إلا في نظام يسمو التاريخ ولاطبيعة . على ذاك الصعيد ن تغدو المسئولية المشتركة واقعاً ، ولكن بالمعنى الذي رمى إليه بيغي ، حيث قال : " كل نفس مكلفة بجميع الشر الذي يرتكبه الناس ! " ؛ على هذا النحو أيضاً يجب أن نفهم – ولا شك – لفظة " اليهود " ، في لغة البشير يوحنا والرسول بولس ، وحتى بطرس في أعمال الرسل ؛ فهم يطلقونها على أعداء المسيح الذين ما كانوا سوى " طائفة " من اليهود . فإن جحود اليهود – وكان قد أمسى واقعاً سافراً في الحقبة التي دونت فيها هذه النصوص – وقد تناول بوصمة لاحقة ما تقدم من موقف الأمة اليهودية عهد المأساة . فحتى الذين جهلوا كل شئ عن يسوع ، والذين لم تتوفر لهم لا الفرصة ولا الرغبة في المطالبة بدمه ، باتوا ، بسبب كفر إسرائيل بماسوية يسوع ، مرتبطين بالجريمة الهائلة التي ارتكبتها طائفة من أهل ملتهم وزعامتهم |
|
ولكن ن أوحدهم ؟ .. كلا ! فلقد كُتب لإسرائيل – حامل اسم الله – مصير فريد : وهو أن يقوم ن في التاريخ ، شاهداً وصورة للإنسانية جمعاء . ويوم كفر زعماء الشعب اليهودي بيسوع ، وصلبوه ن إنما كانوا – من حيث لا يدرون – مخلصين لنفس تلك الدعوة العلوية التي سادت مصير إسرائيل عبر الأجيال . لقد كانوا – أولئك الفطنون ! – ممثلي فئة من الناس عرفتهم جميع الأزمنة وجميع الشعوب ، وما فتئوا ، إلى اليوم ، يكفرون برسالة المسيح . ولكم من مسيحي اليوم ، لو وضعوا في نفس الظروف التي وجد فيها الشعب اليهودي ن سنة 3. ، وألجئوا إلى الوقوف من الناصري إما أنصاراً وإما أعداء ، كم منهم كانوا في عداد التابعين ؟ وكم في عداد الجلادين ؟ .. لقد كانت هناك أوامر السلطة ، والنظام السائد ، والفطنة … " افليس أن كثيرنا – على حد قول الأب دي لوباك – قد انتحلوا المسيحية ، لنفس دواعي الترغد الصميم ، والتبلد الجماعي ، التي كانت ربما حملتهم – قبل عشرين قرناً – على التنكر للإنجيل وبدعته المقلقة ؟ " |
|
من المسئول عن مقتل االمسيح ؟ قال بيجي أيضاً في رد حاسم على هذا السؤال : " ليس اليهود هم الذين صلبوا يسوع المسيح ، بل خطايانا كلنا ! واليهود الذين ما كانوا سوى الوسيلة ، ينهلون هم أيضاً ، مع الآخرين ، من معين الخلاص ! " |
|
الموضع المبلط بالحجارة، وقد عثر على جزئه الأكبر تحت دير راهبات صهيون، في القدس" | (1) |
فيلم يسوع باللغة العربية