دِرَاسات إنجيلية (2)

The Evangelical Studies ( 2 )

تَاريخ المَسيحيَّة

 في الإنجيل بحسَب لـُوقـَا

The History of the Christianity

 In the Evangel according to Lue

الأرشمِندريْت يُوسف درّة الحدّاد

Archimandrite Youssef Durrah alـHaddad

www.muhammadanism.org

December 15, 2004

(Arabic)

2

تَاريِخ المَسيحيّة

 في الإنجيل بحسَب لـُوقـَا

طبعة ثانية

جونيه 1990

أعاد النظر فيها ونقّحها

الأب جورج باليكي البولسي

مَنشورَات المَكتَبة البُولسِيّة

دِرَاسَاتٌ إنجيلية

2

تَارِيخ المَسيحيَّة

 في الإنجيل بحَسب لـُوق

الأرشمِندريْت يُوسف درّة الحدّاد

مَنشورَات المَكتَبة البُولسِيّة

فهرس

تَاريخ المَسيحيّة

 في الإنجيل بحسَب لـُوقـَا

تقديم : لوقا، مؤرخ المسيحية الملهم

17

 

1

ـ لوقا طبيب وأديب معاً

19

 

2

ـ صحة تاريخيته

20

 

3

ـ نزعة لوقا التاريخية الجامعة

20

 

4

ـ التحرّي التاريخي

21

 

5

ـ أسلوب لوقا التاريخيّ الجامع

22

 

6

ـ طريقة العرض والتدوين تجمع بين السيرة والدعوة

24

 

7

ـ فلسفة التاريخ في تخطيطه التاريخي

24

 

8

ـ قيمة لوقا بين كتبة الوحي الإنجيلي

25

 

9

ـ عند لوقا الجواب على مشاكل النقد الكتابي المعاصر

26

 

10

ـ الإنجيل بحسب لوقا : تاريخ الخلاص بالمسيح يسوع

27

6 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهرس

الكتاب الأول : الإنجيل بحسب لوقا أو تاريخ المسيح

29

الفصل الأول : تمهيد عام للإنجيل وكاتبه

31

تمهيد : ما هو الإنجيل بحسب لوقا ؟

33

بحث أول

: كاتب الإنجيل بحسب لوقا ـ توقيع لطيف في سفر الأعمال

35

أولاً

: شهادة السُنّة المسيحيّة

36

ثانياً

: شهادة الآثار الكتابية نفسها

40

ثالثاً

: بعض الشبهات على صحة نسبة الإنجيل إلى لوقا

43

 

1 ـ كاتب الإنجيل تلميذ بولس، وليس في الإنجيل من تعليم بولس

43

 

2 ـ له مصادر مكتوبة، فهل هو من عهد الرسل ؟

43

 

3 ـ في تقديم يوحنا على أخيه يعقوب ؟

45

 

4 ـ هل الموافقات التاريخية بين لوقا ويوحنا دليل القرب الزمانية ؟

45

بحث ثانٍ

: سيرة لوقا وثقافته

47

أولاً

: سيرته وملازمته لبولس

47

ثانياً

: ثقافته الجامعة

49

بحث ثالث

: زمن تدوين الإنجيل بحسب لوقا

51

أولاً

: هل بعد الحرب السبعينيّة ؟

51

ثانياً

: هل قبل أو بعد استشهاد بطرس وبولس ؟

52

ثالثاً

: القربى الزمانيّة بين مرقس ولوقا

52

بحث رابع

: مكان تدوين الإنجيل بحسب لوقا ـ وبيئتُه

54

كُتب ما بين قيصرية ورومة

54

فهرس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 7

وصدر في أخائية للعالم الهلنستي

54

الفصل الثاني : تحليل الإنجيل بحسب لوقا

57

بحث أوّل

: أصول التخطيط بحسب لوقا

59

 

1 ـ التخطيط التاريخي

59

 

2 ـ التخطيط البياني

60

 

3 ـ فلسفة تاريخ الخلاص

61

بحث ثانٍ

: تفصيل موجز للإنجيل بحسب لوقا

62

بحث ثالث

: تحليل الإنجيل بحسب لوقا

67

الفصل الثالث : أسلوب الإنجيل بحسب لوقا

79

بحث أول

: براعة التخطيط

81

 

1 ـ التخطيط التاريخي

82

 

2 ـ التخطيط البياني

83

بحث ثانٍ

: أسلوب لوقا التاريخي

86

 

1 ـ لوقا المؤرخ والإنجيلي معاً

86

 

2 ـ مصادره

87

 

3 ـ يمزج بأدب رفيع بين التاريخ والتعليم

88

 

4 ـ ميزته الكبرى الترتيب في القصص

89

 

5 ـ ربط السيرة المسيحية بالتاريخ العام

89

 

6 ـ ميزة المؤرخ التدقيق في الأحداث

89

 

7 ـ ميزة الأديب السرد القصصي المثير

90

8 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهرس

بحث ثالث

: أسلوب لوقا البياني

93

 

1 ـ أقرب الأناجيل إلى اليونانية الفصحى

93

 

2 ـ أقرب إلى النثر المنظوم منه إلى النثر المرسل

94

 

3 ـ التأليف بين القصص والخطب

95

 

4 ـ إنشاؤه تصويري رائع

95

 

5 ـ الفن القصَصي

95

 

6 ـ أسلوب تاريخي بياني

96

 

7 ـ وحدة التخطيط والترتيب والتأليف

96

بحث رابع

: أسلوب لوقا اللغوي

99

 

1 ـ أسلوب خبير بلغة الإغريق وبيانها

99

 

2 ـ مقارنة مع مرقس

99

 

3 ـ مقارنة مع متى

100

 

4 ـ أقرب الجميع إلى لغة بولس

100

 

5 ـ صحّة اللغة تجعله من الأدب الرفيع

101

 

6 ـ إعجاز الأدب الإنساني

101

 

7 ـ الأسلوب اللغوي والبياني والتاريخي في تخطيط محكم

101

الفصل الرابع : شهادة الإنجيل بحسب لوقا

103

توطئة

: شهادة لوقا بين الشهادات الإنجيلية

105

بحث أول

: إنجيل الخلاص

106

أولاً

: مصدر كلمتي (( خلاص )) و (( مخلص ))

106

ثانياً

: ميزة المسيحية الأولى أنها رسالة الخلاص

108

ثالثاً

: الخلاص بالمسيح يشمل البشرية جمعاء

109

فهرس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 9

 

1 ـ لوقا يهمل الناحية القومية من الدعوة الإنجيلية

110

 

2 ـ لوقا يؤكد على الناحية العالمية من الإنجيل

111

 

3 ـ يمتاز بسرد المعجزات لغير بني إسرائيل

111

 

4 ـ ينقل من الأمثال ما يعني الأمميين

111

 

5 ـ فلسفة المسيحية تجاه اليهودية والوثنية

112

 

6 ـ مكانة يسوع من تاريخ النبوة والكتاب

112

 

7 ـ عالمية الدعوة المسيحية وعموميّتها

112

رابعاً

: الخلاص المسيحي شخصي وجُماعي معاً

113

 

1 ـ الخلاص عمل شخصي أولاً

113

 

2 ـ الخلاص هو أيضاً جُماعي واجتماعي معاً

114

خامساً

: شروط الخلاص، وبيئته الروحية

115

 

1 ـ إنجيل التوبة والإيمان والمحبة

116

 

2 ـ إنجيل الصلاة

116

 

3 ـ إنجيل الطهارة وقداسة السيرة

118

 

4 ـ إنجيل الزهد في المال والأهل

118

بحث ثانٍ

: إنجيل (( المخلص )) ـ أسماء المسيح الحسنى

120

 

1 ـ يسوع

120

 

2 ـ المسيح

122

 

3 ـ الرب

123

 

4 ـ الملك

125

 

5 ـ ابن الله

128

 

6 ـ ابن البشر

134

 

7 ـ المخلص

135

10 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهرس

بحث ثالث

: (( إبن البشر )) لقب المسيح الجامع المانع

141

 

1 ـ مصادره الكتابية

141

 

2 ـ عبقرية يسوع في استخدامه

145

 

3 ـ إنه تورية بارعة لسرّ المسيح في بشريته وإلهيته

146

بحث رابع

: تحقيق الخلاص بالروح القدس

150

توطئة

: إنجيل لوقا هو إنجيل الروح القدس

150

أولاً

: إنجيل الفرح بالروح القدس

153

ثانياً

: إنجيل السلام في الروح القدس

154

ثالثاً

: إنجيل الحمد في الروح القدس

157

بحث خامس

: إنجيل (( إنسانية )) يسوع

160

أولاً

: إنسانية يسوع، على العموم

160

ثانياً

: الجوانب الخاصة من إنسانية يسوع

164

 

1 ـ إنجيل الرحمة

164

 

2 ـ إنجيل الخاطئين

165

 

3 ـ إنجيل المحرومين على الأرض

168

 

4 ـ إنجيل الغريب

170

 

5 ـ إنجيل تحرير المرأة

171

 

6 ـ إنجيل العذراء مريم

173

بحث سادس

: إنجيل العدالة الاجتماعية

177

توطئة

: الدستور الإنجيلي في العدالة الاجتماعية

177

القاعدة الأولى : تحريم عبادة المال

178

القاعدة الثانية : معنى الزهد في المال

179

القاعدة الثالثة : الدعوة للعطاء والبذل

180

القاعدة الرابعة : شرعة محبة القريب

181

فهرس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 11

بحث سابع

: الدستور الإنجيلي، في نظمه السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية

184

تمهيد

: المبدأ الإنجيلي في فصل الدين عن الدولة

185

أولاً

: النظام السياسي في الدستور الإنجيلي

187

ثانياً

: النظام الاجتماعي في الدستور الإنجيلي

190

ثالثاً

: النظام الاقتصادي في الدستور الإنجيلي

196

القول الفصل : المسيحية دين لا دولة، لكنها دين لكل دولة

200

بحث ثامن

: أخلاقية الإنجيل بين الواقع والمثالية

202

بحث تاسع

: من إعجاز الإنجيل : الأمثال

208

أولاً

: واقع المثل في الإنجيل

208

ثانياً

: ميزات المثل الإنجيلي

212

 

1 ـ ثماني صفات للمثل الإنجيلي

212

 

2 ـ شهادة العقّاد في أمثال الإنجيل

214

بحث عاشر

: نسَب يسوع في الإنجيل

217

توطئة

: إنه برهان قوميّ على صحة (( مسيحية )) يسوع

217

أولاً

: الواقع الإنجيلي

218

ثانياً

: صحة نسَب يسوع ومريم ويوسف من داود

222

 

1 ـ المشكلة الأولى : نسَب مريم العذراء

222

 

2 ـ المشكلة الثانية : نسَب يوسف الصديق

223

 

3 ـ الشبهات الأخرى يوضحها التاريخ الصحيح

223

بحث حادي عشر

: إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ

230

أولاً

: حالة الرسل قبل رؤية المسيح حيّاً

230

ثانياً

: الواقع الإنجيلي

232

ثالثاً

: تفصيل ظهورات المسيح بعد قيامته

235

12 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهرس

رابعاً

: هل من تعارض بين الروايات الإنجيلية ؟

245

خامساً

: هل حادث القيامة معقول ؟ أم هو وهم منقول ؟

250

سادساً

: دلائل الواقع وبراهين اليقين

252

سابعاً

: ما بين القيامة والصعود إلى السماء صلة وشهادة

257

بحث ثاني عشر

: إنجيل ارتفاع المسيح حيّاً إلى السماء، كحدَث تاريخي

258

توطئة

: انفراد لوقا بوصف مشهد القيامة

258

 

1 ـ أوجز (( المشهد )) في الإنجيل

258

 

2 ـ فصّل (( المشهد )) في الأعمال

259

 

3 ـ بعض شبهات على حادث الرفع إلى السماء

260

ختام

: رفع المسيح حيّاً إلى السماء دليل على سرّ شخصيته

268

بحث ثالث عشر

: يسوع هو (( المخلص، المسيح الرب ))

269

توطئة

: هذه الأسماء الحسنى دلائل على مسيحية المخلص وإلهيته

269

أولاً

: إلهية المسيح في لغة الإنجيل بحسب لوقا

270

ثانياً

: أحداث السيرة الخفية بوادر إلهية المسيح

273

ثالثاً

: الدعوة الأولى على شهادة بطرس باسم الرسل : تلاميح

276

رابعاً

: من التجلّي إلى الاستشهاد : إعلان متصاعد

280

خامساً

: إلهية المسيح في أسمائه الحسنى

283

سادساً

: يسوع ينسب لذاته أعمالاً وصفات إلهية

287

سابعاً

: كلمات المسيح هي كلمات إله، وابن الله

291

فصل الخطاب

: الإعجاز المطلق في الشخصية

294

أولاً

: السلطان المطلق في شخصيته

294

ثانياً

: صلة السيّد المسيح بالسماء ـ تتفتح له سبع مرات

302

ثالثاً

: الواقع التاريخي وشخصيّة السيد المسيح

305

فهرس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 13

خاتمة الشهادة

: الإنجيل بحسب لوقا صورة للواقع التاريخي

306

 

1 ـ الإنجيل تاريخ وتعليم، سيرة ودعوة

307

 

2 ـ الإنجيل صورة معجزة (( للمخلص، المسيح الرب ))

308

 

كتاب مستقل : سيرة السيد المسيح

 
 

في الإنجيل بحسب أحرفه ( أي نصوصه ) الأربعة

309

توطئة

: الإنجيل هو العمدة الوحيدة لتاريخ المسيح

311

أولاً

: الوحي الإنجيلي شخص منزل أكثر منه كتاباً منزلاً

311

 

1 ـ جوهر الإنجيلي : شهادة عامة للرسول وللرسالة معاً

311

 

2 ـ هذه الشهادة تقوم على أربعة أحداث

312

ثانياً

: مصادر الوحي الإنجيلي وثائق تاريخية معاصرة

313

 

1 ـ الدعوة الشفوية للمسيح

314

 

2 ـ موجز الإنجيل الشفوي أربعة أحداث جوهرية

314

 

3 ـ تدوين الإنجيل بأحرفه الأربعة تسجيل للدعوة الرسولية به

315

ثالثاً

: الوحي الإنجيلي تنزيل بالمعنى أكثر منه بالحرف

316

 

1 ـ مبدءان يدفعان كل الشبهات

316

 

2 ـ سواءٌ في الصحة والتاريخ والاختلاف الظاهر الموهوم

317

رابعاً

: شهادة التاريخ المسيحي منذ ألفي سنة

318

 

1 ـ الإجماع المتواتر بالصوت الحي، هو صوت الإنجيل عبر الدهور

318

14 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهرس

 

2 ـ الطعن في هذا الإجماع المتواتر طعن في كل نبؤة وتاريخ

318

     

خامساً

: شهادة العقاد في التحقيق التاريخي العلمي

319

 

1 ـ الإنجيل بأحرفه الأربعة هو العمدة الوحيدة الصحيحة

319

 

2 ـ جاءت المسيحية تعديلاً لكل مذهب من المذاهب القائمة

320

 

3 ـ الإنجيل واحد بأربعة أحرف، لحقيقة تاريخية واحدة

321

الفصل الأول

: التزمين والترتيب في سيرة المسيح

323

بحث أول

: الواقع الإنجيلي من حيث الترتيب الزمني

326

 

1 ـ المشكل الأكبر في الخلاف الظاهر بين يوحنا والمؤتلفة

326

 

2 ـ الإنجيل الأورشليمي عند يوحنا، والإنجيل الجليلي عند المؤتلفة

327

 

3 ـ يوحنا تكميل المؤتلفة في الدعوة الأولى والأخيرة بأورشليم

328

بحث ثانٍ

: بعض الركائز التاريخية لسيرة المسيح

330

 

1 ـ مولد المعمدان والمسيح على أيام هيرود الكبير

330

 

2 ـ بدء دعوة المعمدان وعماد المسيح

331

 

3 ـ مدة دعوة السيد المسيح

332

 

4 ـ بدء رسالة المسيح ـ والسنة الأولى من دعوته

335

 

5 ـ موت المسيح : اليوم والشهر والسنة

337

 

6 ـ متى وقع الفصح الموسوي، بالنسبة لنهار موت المسيح ؟

340

 

7 ـ إِمامنا في تزمين وترتيب أحداث السيرة المسيحية

343

بحث ثالث

: تقويم لتاريخ رسالة المسيح، بحسب الإنجيل

346

توطئة

: المبادئ الثلاثة المعتَمدة

346

السنة الأولى : الدعوة الأولى في أورشليم واليهودية، عام 27 م

347

فهرس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 15

السنة الثانية : وهي الأولى من الدعوة في الجليل، عام 28 م

348

السنة الثالثة : وهي الثانية من الدعوة في الجليل، عام 29 م

350

مطلع السنة الرابعة : حتى الفصح 9 نيسان، والصعود 18 أيار عام 30 م

354

بحث رابع

: الائتلاف والتكميل في الإنجيل بأحرفه الأربعة

359

 

1 ـ اقتصر المؤتلفة على الإنجيل الجليلي

359

 

2 ـ وأكمل يوحنا بتدوين الإنجيل الأورشليمي

360

 

3 ـ وكان لوقا صلة الوصل بين يوحنا والمؤتلفة

360

 

4 ـ الائتلاف والتكميل كما هو واقع في أقسام السيرة السبع

361

الفصل الثاني : تخطيط لسيرة المسيح

365

تقديم :

لـُوقـَا : مُؤرِّخ المَسيحيّة المُلهَم

1 ـ لوقا طبيب وأديب معاً

2 ـ صحة تاريخيّته

3 ـ نزعة لوقا التاريخيّة الجامعة

4 ـ التحرّي التاريخيّ

5 ـ أسلوب لوقا التاريخيّ الجامع

6 ـ طريقة العرض والتدوين

7 ـ فلسفة التاريخ

8 ـ قيمة لوقا بين كتبة الوحي الإنجيلي

9 ـ عند لوقا الجواب على مشاكل النقد الكتابيّ المعاصر

10 ـ الإنجيل بحسب لوقا : تاريخ الخلاص

إن الإنجيل بأحرفه الأربعة تاريخ منزل للمسيح في دعوته، وللمسيحية في نشأتها، لكن على أساليب مختلفة، بحسب عرضه على أربع بيئات مختلفة.

وبينما تبرز صفة الدفاع عن المسيحية، في البيئة الإسرائيلية في الإنجيل بحسب متى، وفي البيئة الرومانية الهلّنستية بالإنجيل بحسب مرقس، وبينما تسيطر النزعة الصوفية على الإنجيل بحسب يوحنا في بيئته المسيحية، نرى الرغبة التاريخية غالبة على الإنجيل بحسب لوقا، في بيئته الهلّنستية السورية والإغريقية؛ وكذلك في سفر الأعمال.

1 ـ كان لوقا، كاتب الإنجيل وسفر الأعمال، من أنطاكية، عاصمة سورية في العهدين اليوناني والروماني. وكان طبيباً وأديباً معاً ـ وكم لازم الأدب الطبَّ عند الأقدمين. وقد اهتدى لوقا إلى المسيحية، ربّما على يد بولس الرسول، أثناء دعوته مع برنابا في أنطاكية ( أع 11 : 25 ـ 26؛ 13 : 1 ـ 3 ). نرى ذلك من ملازمة لوقا للرسول في رسالاته حتى الاستشهاد في رومة، وقد بقي وحده بقرب المعلم الشهيد ( 2 تيم 4 : 11 ).

فلوقا، ابن انطاكية عاصمة سورية وآسيا الرومانية، كان ربيب الثقافة السورية واليونانية معاً. وبهدايته إلى المسيحية، تتلمذ لبولس الرسول فاكتسب أيضاً الثقافة الكتابية والإنجيلية. وعاش مع (( رسول الأمم )) انتشار المسيحية في العالم السوري والآسيوي واليوناني والروماني. فهو في سفر (( أعمال الرسل ))

20 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تقديم

مؤرخ ثقة للمسيحية في نشأتها وغزوها للعالم الهلنستي الوثني الحاكم المتحكم. وفي اتصالاته الدائمة مع (( الذين كانوا منذ البدء شهود عيان للكلمة ـ ( أي الدعوة المسيحية ) ـ ثم صاروا دعاة لها )) ( لو 1 : 2 )، هو أيضاً مؤرخ ثقة لسيرة المسيح ودعوته في الإنجيل. وتلك الثقافة الواسعة، وذلك الاطّلاع الواثق الوثيق، مع إخلاصه للإيمان المسيحي، تجعله ثقة في تمييز التاريخ الصحيح من الأساطير الدخيلة.

2 ـ فتاريخية لوقا في تاريخ المسيح والمسيحية، تقوم على خبرته الذاتية، وعلى المصادر الشخصية والمكتوبة التي يشير إليها في فاتحة الإنجيل، وخصوصاً التزامه الدائم للشهود العيان للدعوة المسيحية ودعاتها الذين يفخر بذكرهم وصحبتهم في مطلع الإنجيل ( 1: 1 ـ 4 ).

لقد اهتدى لوقا، الطبيب الأديب، هداية نعمة وعلم واسع. فأقبل بثقافته كلها يبحث في مصادر إيمانه وصحتها. وها هو ذا، بعد البحث والتدقيق، يُشرك (( النبي ثاوفيلوس )) ، ومن ورائه المؤمنين من الأمميّين، في إيمانه وعلمه بسيرة المسيح ودعوته، ثم بنشأة المسيحية ودعوتها، في العالم الهلنستي كله، (( لكي يكون على بيّنة من صحة التعليم الذي اهتدى إليه )) ( 1 : 1 ـ 4 ). فصحّة اطلاع لوقا على ما يورده في كتابه بقسميه، الإنجيل والأعمال، ضمانة راسخة عند الراسخين في العلم لصحة تاريخيته.

3 ـ ونزعة لوقا التاريخية الجامعة تظهر من اتصالاته المتعددة، وصلاته المختلفة. فهو يرجع إلى أصول الدعوة المسيحية لدى أبطالها، (( فقد تحققتُ جميع الأمور من البدء )) (1: 3) ـ فهذه إشارة إلى التمهيد الكبير الذي وضعه للإنجيل : البشارة بالمعمدان والمسيح، مولد المعمدان والمسيح، نشأة المعمدان (( في القفار حتى ظهوره لإسرائيل )) ونشأة المسيح في الناصرة حتى سن الثلاثين،

لوقا، مؤرّخ المسيحيّة الملهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 21

كأنّ المسيح عاش دعوته قبل أن يجهر بها، (( في جميع ما عمل يسوع وعلم )) ( أع 1 : 1 ).

وتظهر كذلك من صلته بمدرسة يوحنا الرسول، وتركيزها في دعوتها على دعوة يسوع في اليهودية وأورشليم؛ فأخذ عنها شذرات من (( الإنجيل الأورشليمي )) ، مع (( الإنجيل الجليلي )) الذي أخذه عن الدعوة العامة، وسكبها في أسلوب فذّ في مسيرة يسوع الكبرى إلى أورشليم للشهادة والاستشهاد ( 9 : 51 ـ 19 : 27 )، لئلاَّ يتخطى التخطيط الذي فرضه بطرس والرسل للدعوة الرسولية الأولى ( أع 1 : 22 ) فكان بذلك صلة الوصل اللطيفة الخفية بين الأناجيل المتوازية والإنجيل بحسب يوحنا.

وتظهر أيضاً من تكميل لوقا سيرة المسيح ودعوته في الإنجيل، برواية نشأة المسيحية ودعوتها في (( المسكونة )) ، دولة الرومان، في سفر الأعمال. وهما كتاب واحد بقسمين، أهداهما إلى (( النبيل ثاوفيلوس )) نفسه، على عادة كتبة اليونان في ذلك الزمان. نرى فيهما تأسيس المسيحية ثم نشأتها المسكونية؛ لأن المسيحية، في نظر لوقا، إنما هي المسيح نفسه معروفاً ومحبوباً ومعبوداً في العالم. فكان لوقا، بنقل الدعوة الرسولية، صلة الوصل أيضاً بين الأناجيل المؤتلفة والرسائل الرسولية.

4 ـ والتحرّي التاريخي جعل لوقا، ضمن الإنجيل الشفوي الذي به يدعون وضمن المخطّط العام الموضوع للدعوة الرسولية، ينفرد بذكر أشياء لم يذكرها سابقاه متى ومرقس. منها التمهيد في نشأة يسوع وابن خالة أمه يوحنا المعمدان حتى (( ظهورهما )) للنبوة والرسالة. ومنها، في الدعوة نفسها، القسم الذي انفرد به، في وسط الإنجيل، رسالة يسوع في اليهودية، وهو ثلث الإنجيل عنده ( 9 : 51 ـ 19 : 27 ). وقد قرّر أن يسوع بدأ دعوته في موطنه الناصرة

22 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تقديم

( 4 : 14 ـ 21 )1 وهو بذلك يلتقي مع يوحنا في دعوة يسوع من الناصرة إلى عرس قانا الجليل حيث تمت معجزة يسوع الأولى ( يو 2 : 2 ).

وبسبب التنقيب والاستطلاع، ينفرد أيضاً لوقا بذكر ثلاث معجزات : إحياء ابن أرملة نائين ( 7 : 11 ـ 17 )، وشفاء المرأة الحدباء ( 13 : 10 ـ 17 )، وشفاء البرص العشرة ( 17 : 11 ـ 19 ). وينفرد بذكر ثمانية أمثال : السامري الصالح ( 10 : 25 ـ 37 )، الغني الغبي ( 12 : 13 ـ 21 )، التينة العقيمة ( 13 : 6 ـ 9 )، الابن المغرور ( 15 : 11 ـ 32 )، القيّم الماهر ( 16 : 1 ـ 8 )، لعازر الفقير والغني القاسي (16 : 19 ـ 31)، الأرملة والقاضي الظالم ( 18 : 1 ـ 8 )، الفريسي والعشار ( 18 : 9 ـ 14 ). وينفرد بذكر أربعة أحداث : بكاء يسوع على أورشليم في فرحة أحد الشعانين ( 19 : 41 ـ 44 )، إحالة يسوع، أثناء محاكمته، إلى هيرود، لأنه من ولايته ( 23 : 11 ـ 12 )، غفران يسوع على الصليب لصالبيه ( 23 : 34 )، غفران يسوع للص التائب المصلوب معه ( 23 : 39 ـ 43 ).

فتلك التحريات التاريخية طبعت الإنجيل بحسب لوقا بطابعه التاريخي والإنساني معاً.

5 ـ وأسلوب لوقا التاريخي الجامع يظهر من استفادته من تيَّارات الدعوة المسيحية القائمة : مدرس بطرس ( كما عند مرقس ومتى )، ومدرسة يوحنا الرسول، ومدرسة بولس.

فلوقا يتبع عادة مرقس، ترجمان بطرس، ويتممه بما عرفه من متّى ومن تحرياته الخاصة. فهو في القسم الأول ( 3 : 1 ـ 9 : 50 ) ـ بعد التمهيد

ــــــــــــــــــ

(1) استطرد لوقا، بحسب أسلوب الأقدمين في جمع الأحداث بمناسبة واحدة، إلى ذكر زيارتين أخريين إلى الناصرة في سياق واحد : الثانية ( 4 : 22 ـ 25 )، والثالثة ( 4 : 26 ـ 30 )؛ وقد ميّز يوحنا بين الأولى ( يو 2 : 1 ـ 2 ) وبين الثانية، بعد سنة ( يو 4 : 44 ).

لوقا، مؤرّخ المسيحيّة الملهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 23

الخاص به ـ يتبع متى بجزئين يقطعهما بجزئين من مرقس : فالجزء الأول ( 3 : 1 ـ 4 : 13 ) من وحي متى؛ والجزء الثاني ( 4 : 14 ـ 6 : 11 ) من وحي مرقس؛ والجزء الثالث ( 6 : 12 ـ 8 : 3 ) من وحي متى؛ والجزء الرابع ( 8 : 4 ـ 9 : 50 ) من وحي مرقس. وعند اختلافهما في أمر، يأتي لوقا بصيغة جامعة، كما في شهادة بطرس، باسم الرسل، للمسيح؛ نقل مرقس : (( أنت المسيح )) ، ونقل متى : (( أنت المسيح ابن الله الحي )) ، فنقل لوقا : (( أنت مسيح الله )) . وليس في هذه الصيغ من تعارض، فإن التعبير (( المسيح )) لم يكن يعني عند أهل الكتاب بنوّته لله ، كما اقترن اسم (( المسيح )) بها عند الأمميّين في الدعوة المسيحية : فأظهر متى في التعبير لليهود ما هو كامن في التعبير للأمميين. كذلك في شهادة المسيح أمام السنهدرين؛ فقد نقل مرقس : (( هل أنت المسيح ابن المبارك ؟ فقال له يسوع : أنا هو )) ؛ ونقل متى : (( هل أنت المسيح ابن الله الحي ؟ فقال له يسوع : أنت قلت )) ؛ فنقل لوقا: (( وقالوا له : إن كنت أنت المسيح فقله لنا. فقال لهم : إن كنت قلت لكم فلا تصدقون، وإن سألتكم فلا تجيبون. ولكن من الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين القدرة. فقالوا له جميعهم : أفأنت إذن ابن الله ؟ فقال لهم : أنتم قلتم! أنا هو )) . ففصّل لوقا السؤال الذي جمعه متى، وجمع الجوابين، عند متى ( بلغة القانون ) وعند مرقس ( بلغة الشعب ) ، في واحد.

وفي القسم الوسيط ( 9 : 51 ـ 19 : 27 )، جمع لوقا إلى (( الإنجيل الجليلي )) الذي كانت تقتصر عليه الدعوة الرسولية العامة، كما عند مرقس ومتى، شيئاً من (( الإنجيل الأورشليمي )) الذي كانت تدعو به مدرسة يوحنا قبل تدوينه؛ ولمَّا زالت بعد الحرب السبعينية الأسباب الموجبة للسكوت عنه دوّن يوحنا ما أغفله سابقوه عن حكمة اقتضتها ظروف الدعوة الأولى. وقد انفرد لوقا بهذا القسم الثاني الخاص به، مع مقابلات من متى. ففيه (( إنجيل التلاميذ ) ( 10 : 1 )، كما كان يوحنا يسمي نفسه (( التلميذ الذي كان يسوع يحبه )) .

24 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تقديم

وفي القسم الثالث، خصوصاً في محاكمة يسوع واستشهاده، نرى لوقا أقرب إلى رواية يوحنا منه إلى مرقس ومتى. وقد عدَّ بعضهم نحو واحد وأربعين تعبيراً متقابلاً بين لوقا ويوحنا، منها أربعة وعشرون في قصة الاستشهاد.

وفي أسلوب الإنجيل وهدفه يقدم لوقا سيرة المسيح ودعوته على خطى بولس في الدعوة المسيحية في العالم الإغريقي : فيسوع هو (( المسيح الرب )) ، و (( المخلص )) الأوحد. ويتبع في صيغة تقديس القربان صيغة بولس الدارجة في العالم الإغريقي.

فهذا الجمع اللطيف الدقيق بين التيَّارات المختلفة في الدعوة الإنجيلية، دليل على سعة اطلاع المؤرخ الخبير الذي يوثق به، وعلى وحدة الدعوة المسيحية وإن اختلفت أساليبها بحسب البيئات المختلفة.

6 ـ وفي طريقة العرض والتدوين، يجمع لوقا بين السيرة والدعوة جمعاً فنياً رائعاً، على طريقة الذوق اليوناني في كتابة التاريخ؛ فلا يكتفي مثل مرقس بتدوين الأحداث أكثر من الخطابات؛ ولا مثل متى يجمع أقوال يسوع وتعاليمه في خمس خطب جامعة. فهو يرد الأعمال والأقوال إلى مناسباتها التاريخية، على قدر ما يسمح له التخطيط العام الذي وضعه الرسل للدعوة الأولى.

ونرى لوقا يُهمل ما عند متى من نزعة كتابية في الاستشهاد بالكتاب بسبب بيئته الإسرائيلية، وما عند مرقس من واقعيات قد تلقي شبهات، في البيئة الإغريقية الأنيقة، على صورة المسيح أو رسله.

ففي طريقة العرض والتدوين لسيرة المسيح ودعوته معاً يؤالف لوقا بين التاريخ وذوق البيئة الهلنستية المرهف الذي يعرض عليها الإنجيل، كما يمثلها (( النبيل ثاوفيلس )) .

7 ـ وفي تخطيطه التاريخي، في كتابه بقسميه الإنجيل والأعمال، يرقى

لوقا، مؤرّخ المسيحيّة الملهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 25

لوقا إلى قمة فلسفة التاريخ، فيجعل من أورشليم محور الرسالة المسيحية في العالم، رابطاً هكذا بين نبؤات الكتاب عنها وبين الواقع الإنجيلي.

ففي الإنجيل بحسب لوقا، نرى يسوع يدعو أولاً في الجليل، ثم في اليهودية وهو في طريقه إلى أورشليم. أخيراً يصعد إلى أورشليم، محور التوحيد والتنزيل، وهو على بيّنة من أمره، فيدخلها دخول الفاتحين، كالمسيح الموعود، ويحتل الهيكل عنوان الدين والقومية، ويجهر بسر دعوته وسر شخصيته، فيختم رسالته بالاستشهاد شهادةً له. ثم يؤيّد الله الشهادة والاستشهاد بالقيامة المجيدة والرفع حيّاً إلى السماء. فصارت أورشليم بذلك محور الدعوة المسيحية.

ومن أورشليم، بحسب سفر الأعمال، تسير المسيحية إلى فتح (( المسكونة )) للمسيح : من أورشليم إلى أنطاكية، إلى أفسس، إلى أثينا وكورنثس، إلى رومة سيدة العالم. ففي ظرف ثلاثين سنة احتلت المسيحية، بالكلمة والمعجزة وقداسة السيرة والاستشهاد ـ لا بالجهاد ـ الموسوية إلى العالم الإسرائيلي، والوثنية الهلنستية على أشكالها في الدولة الرومانية.

فما بين أورشليم محور الدين، وما بين رومة محور الدولة, جلست المسيحية سيدة الدين والدولة، وسيدة المصير البشري، شاهِدتُه وشهيدته. لقد استشهد المسيح في أورشليم، واستشهد زعماء رسله، بطرس وبولس، في رومة : فكان استشهادهم برهان شهادتهم الذي لا يردّ، وبدء سلطان المسيحية في التاريخ والمصير البشري.

تلك هي فلسفة التاريخ عند لوقا في كتابه بقسميه الإنجيل والأعمال.

8 ـ وهكذا تظهر لنا أيضاً قيمة لوقا بين كتبة الوحي الإنجيلي. فهو في كتابه بقسميه الإنجيل والأعمال أولاً صلة الوصل بين الدعوة الإنجيلية والدعوة الرسولية؛ وثانياً صلة الوصل، بسفر الأعمال، بين الأناجيل المتوازية المؤتلفة ورسائل بولس وسائر الرسل؛ وثالثاً صلة الوصل بين الأناجيل المتوازية المؤتلفة

26 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تقديم

والإنجيل بحسب يوحنا؛ ورابعاً صلة الوصل، في الدعوة الرسولية نفسها بين (( البلاغ )) لبني إسرائيل أو للأمميّين، كما في سفر الأعمال، وبين (( التعليم )) للمهتدين من أهل الكتاب والأمميّين، كما في الإنجيل.

فقد كان للرسل طريقتان في الدعوة المسيحية : البلاغ لأهل الخارج ثم التعليم لأهل البيت. وهذا التعليم لأهل البيت كان على درجتين : التعليم الابتدائي في أركان الدين والإيمان، والتعليم الكامل (( للبالغين )) في الإيمان والحياة المسيحية، كما نرى ذلك في الرسالة إلى العبرانيين : (( فأنتم الذين كان عليهم أن يكونوا مع الوقت معلمين، تحتاجون من جديد إلى من يعلمكم الأركان الأولى لأقوال الله ، وبتـّم بحاجة إلى اللبن الحليب لا إلى الطعام القوي. أما الطعام القوي فهو للبالغين ... مع ذلك، فلندع التعليم الابتدائي، لنرتفع إلى التعليم التكميلي )) ( 5 : 11 : 14 مع 6 : 1 ـ 3 ). وبولس في رسائله يرتفع إلى مستوى هذا التعليم العالي : (( إِننا ننطق بالحكمة بين الكاملين )) ( 1 كو 2 : 6 ).

فلوقا يسد الفراغ الموهوم بين دعوة المسيح رسله له، وبين صيغة المسيحية في الأناجيل المؤتلفة وصيغة المسيحية في الإنجيل بحسب يوحنا، وبين دعوة الرسل ودعوة بولس، ثم دعوة بولس ودعوة يوحنا.

فعند لوقا محور التيارات المتنوعة التي فجّرها الوحي الإنجيلي.

9 ـ وبسبب تحقيقات لوقا التاريخية، نرى في كتابه بقسميه الإنجيل والأعمال، الجواب التاريخي على مشاكل النقد الكتابي المعاصر. فهم يتساءَلون : هل مسيح الإيمان هو يسوع التاريخ ؟ وهل دعوة الرسل إلى يسوع (( ربّاً ومسيحاً )) ( أع 2 : 36 ) هي دعوة المسيح نفسها إلى ملكوت الله ؟ وهل كنيسة الرسل هي جماعة المسيح نفسها ؟ وهل يستقل الإنجيل بعبقريته وإعجازه في (( حركته المسيحية )) ، عن دعوة رهبان قمران الاسّينيين كما كشفتها

لوقا، مؤرّخ المسيحيّة الملهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 27

لنا مخطوطات قمران، أم هي امتدادٌ لها ؟ فقد نشأ يوحنا المعمدان في كنفها، وتضامن يسوع معه في الإنجيل.

ففي كتاب لوقا التاريخي بقسميه الإنجيل والأعمال، نرى الجواب على تلك المشاكل الأربعة التي أثارها النقد الحديث. وهو الجواب التاريخي الصحيح لأن كتاب لوقا بقسميه يشمل دعوة المسيح ودعوة رسله كما (( تحققها بدقة منذ البدء، وكتبها بحسب ترتيبها )) ( لو 1: 3 ). فهو شهادة تاريخية جامعة من خبير عليم.

10 ـ وفي نظر لوقا، إنَّ الإنجيل سيرة ودعوة معاً لتاريخ الخلاص بالمسيح يسوع. والتاريخ الحق عنده واسطة التعليم الحق، كما يصرح في فاتحته : (( لقد رأيت أنا أيضاً، وقد تحققت بدقة جميع الأمور منذ البدء، ان أكتبها إليك بحسب ترتيبها، لكي تكون على بيّنة من صحة التعليم الذي اهتديت إليه )) ( لوقا 1 : 3 ـ 4 ). فالتاريخ الحق قاعدة التعليم الحق. والدعوة المسيحية بالإنجيل تعليم صحيح لأنها مبنية على تاريخ صحيح للتنزيل، وإن كان لوقا ينظر فيه إلى الأبعاد الدينية للأحداث الجسام أكثر منها إلى ظروفها الواقعية، لأن الإنجيل سيرة ودعوة معاً، دعوة في سيرة.

وفي تلكما الدعوة والسيرة تاريخ الخلاص بالمسيح يسوع. وتاريخ الخلاص بالمسيح له زمانان : زمان التأسيس بالمسيح في الإنحيل، وزمان الشهادة والدعوة بواسطة كنيسته، يؤيدها الروح القدس، في (( أعمال الرسل )) . فالروح القدس في كنيسة المسيح هما الشاهدان للمسيح في العالم، إلى نهاية الدهر ويوم الدين. فلوقا هو المؤرخ الفيلسوف لتاريخ الخلاص بالمسيح والمسيحية. والوحي كفيل وضامن أيضاً لصحة تاريخه، ولصحة (( كلامه )) في التاريخ المسيحي. والتاريخ العام الذي به يربط التاريخ المسيحي شاهد عدل.

28 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تقديم

ففي نظر لوقا، إن المسيح هو محور التاريخ، ومحور الخلق والزمان، ومحور الحياة والخلود : فلا خلاص، ولا حياة دينية صحيحة، ولا خلود إلاَّ به وفيه. والاستشهاد في سبيله هو الخلود والخلاص.

هكذا جاء تاريخ المسيح في (( الإنجيل بحسب لوقا )) .

وهكذا جاء تاريخ المسيحية في (( سفر الأعمال )) للقديس لوقا.

والكتابان تاريخ واحد لنشأة المسيحية المعجزة.

فلوقا هو مؤرخ المسيحية الملهم.

w

الكتاب الأول

الإنجيل بحَسَب لوقَـَا

أو

تَاريخ المَسِيح

الفَصلُ الأوّل

تَمهيدٌ عامٌّ للإنجيل وَكاتبـِهِ

تمهيد

: ما هو الإنجيل بحسب لوقا

بحث أول

: كاتب الإنجيل بحسب لوقا

بحث ثانٍ

: سيرة لوقا وثقافته

بحث ثالث

: زمن تدوين الإنجيل بحسب لوقا

بحث رابع

: مكان تدوين الإنجيل بحسب لوقا وبيئته

تمهيد

ما هو الإنجيل بحسب لوقا ؟

(( أيها النبيل، حبيب الله

(( لقد أخذ كثيرون في تدوين الأحداث التي جرت بين ظهرانينا على حسب ما نقله إلينا، أولئك الذين كانوا منذ البدء شهود عيان للكلمة، ثم صاروا دعاة لها. فرأيت أنا أيضاً، وقد تحققت بدقة جميع الأمور من أوائلها، أن أكتبها إليك بحسب ترتيبها لكي تكون على بيّنة من صحة التعليم الذي اهتديت إليه )) ( لوقا 1 : 1 ـ 4 ).

هذه هي فاتحة الإنجيل بحسب لوقا. وفيها يعلن عن مصادره الشخصية والأثرية، وعن أسلوبه التاريخي في عرض الإنجيل، وعن غايته من سيرة المسيح وتاريخ دعوته أي صحة التعليم المسيحي. إن فاتحة الإنجيل تعريف به. فالإنجيل بحسب لوقا هو تاريخ المسيح ودعوته.

مصادره الشخصية هم (( شهود العيان للكلمة )) أي الدعوة المسيحية؛ (( ودعاتـُها )) أي الرسل، صحابة المسيح.

ومصادره الأثرية هم كتبة الإنجيل، وكتاباتهم التي دوّنوا فيها إنجيل

34 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : تمهيد

المسيح. لقد سبقه (( كثيرون )) في تدوين الإنجيل. ويقصد بذلك خصوصاً الإنجيل بحسب متى، والإنجيل بحسب مرقس، فيؤلف معهما (( الأناجيل المؤتلفة )) الثلاثة القانونية.

وميزاته التاريخية تظهر من تصريحه في فاتحته : (( التحقيق )) في الأمور؛ والرجوع فيها إلى (( أوائلها )) ؛ وفي ذلك إشارة إلى الفصلين الأولين من أهل الإنجيل، في قصة المولد ونشأة يسوع ـ وفي الإشارة دحض لزعم الزاعمين أن هذين الفصلين هما من القصص الشعبي على هامش السيرة، لا من تاريخ سيرة المسيح ـ وميزة أسلوبه، كتابة أحداث السيرة والدعوة (( بحسب ترتيبها )) ، وهي ميزة المؤرخ المدقق؛ وهذا ما يميّزه عن متى الذي نسّقها تنسيقاً فنيّاً كلاميّاً للعرض والدفاع، وعن مرقس الذي سردها سرداً شعبيّاً، بلا ترتيب فني، مثل متى، ولا دمج في التاريخ العام، مثل مرقس. وغاية لوقا التاريخية هي التاريخ الصحيح أساساً للتعليم المسيحي الصحيح.

ولوقا، بصفته تابعاً، تقيّد بالتخطيط الذي فرضه زعيم الرسل بطرس للدعوة الإنجيلية المسيحية ( الأعمال 1 : 22 ) بالاكتفاء في أوائل الدعوة بعرض الإنجيل الجليلي. لكنه وجد سبيلاً إلى عرض بعض الإنجيل الأورشليمي في قصة صعود المسيح إلى أورشليم ( 9 : 51 ـ 19 : 27 )؛ تاركاً تصاريح المسيح في أورشليم نفسها، مثل سابقيه، لحكمة اقتضتها ظروف الدعوة الرسولية في أورشليم. فكان لوقا بذلك صلة الوصل التاريخية بين الأناجيل المؤتلفة التي تنقل الإنجيل الجليلي، وبين الإنجيل بحسب يوحنا الذي ينقل خصوصاً الإنجيل الأورشليمي.

فالإنجيل بحسب لوقا هو تاريخ الرسول والرسالة، سيرة المسيح والمسيحية، في البيئة الإسرائيلية.

إنه تاريخ المسيح ودعوته، بحسب تخطيط الرسل، وبحسب أصول التاريخ في ذلك الزمان.

كاتب الإنجيل بحسب لوقا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 35

بحث أول

كاتب الإنجيل بحسب لوقا

كاتب الإنجيل بحسب لوقا هو لوقا نفسه، كما أجمعت الأخبار والآثار المسيحية بالتواتر والسند الصحيح، تؤيدها الكنيسة الجامعة بذكر اسمه في تلاوة الإنجيل في الكنائس منذ عهد الرسل.

ويظهر من مقارنة الإنجيل بحسب لوقا بسفر (( أعمال الرسل )) أن كاتبهما واحد، فهما سفران لكتاب واحد، تجمعهما وحدة التخطيط ووحدة الإنشاء. وفي سفر الأعمال توقيع لطيف من الكاتب لكتابيه : ففي مطلع سفر الأعمال يذكر صلته بالإنجيل : (( يا ثاوفيلس، لقد أنشأت الكتـاب الأول في جميع ما عمل يسوع وعلم به، من البدء حتى اليوم الـذي ارتفع فيه ... )) ( 1 : 1 ـ 3 )؛ وفي تضاعيف سفر الأعمال ينتقل الخطاب فجأة من صيغة الغيبة إلى صيغة المتكلم ( أع 16 : 10 )، فيظهر لوقا معاوناً لبولس الرسول في الرسالة والدعوة المسيحية؛ فالمتكلم هو الكاتب، ويتكرّر ذلك مراراً ( 17 : 1 ـ 18 : 16؛ 20 : 5 ـ 21: 18؛ 27 : 1 ـ 28 : 16 ). فهذه التورية خفي من لوقا.

ولولا صحة نسبة الإنجيل إلى كاتبه لوقا، لما تمسكت الكنيسة الجامعة به في مشارق الأرض ومغاربها، في تلاوته باسمه. فهو ليس من الرسل حتى يعتقد

36 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 1

بشهادته، لولا صحتها ونسبتُها إليه. قال رينان المرتدّ أن نسبة الإنجيل والأعمال إلى لوقا صحيحة، لأن لوقا مثل مرقس لم يكن من عمدة الكنيسة الرسولية حتى يتستّروا به، فيضعوا الإنجيل باسمه ترويجاً له، كما هو الحال في الأناجيل المنحولة إلى الرسل.

فلوقا هو كاتب الإنجيل كما يظهر من شهادة السُنّة المسيحية، والآثار الكتابية.

أولاً : شهادة السنة المسيحية

منذ عهد الرسل تتواتر الشهادات، بالسند الصحيح غير المقطوع، ومن أطراف المسكونة كلها على صحة نسبة الإنجيل إلى لوقا نفسه، الطبيب الأديب الانطاكي، مرافق بولس إلى الرسول.

في القرن الأول، قبل نشوء البدع، وظهور الأناجيل المنحولة, اعتاد علماء المسيحية اقتباس آيات الإنجيل، في أحرفه الأربعة، باسم (( أقوال الرب )) دون ذكر الإنجيلي نفسه، كما يفعل اكليمنضوس الروماني وأغناطيوس الأنطاكي. لكن لمّا دعت الحاجة إلى تمييز صحة الإنجيل المتواتر عن الرسل، من الأناجيل المنحولة إليهم، من ذكر اسم الإنجيلي، عربون رسوليته وصحته، اعتاد آباء الكنيسة ذكر أسماء الإنجيليين الحقيقيين؛ وذلك منذ مطلع القرن الثاني، نقلاً عن يوحنا الرسول وتلاميذه.

1 ـ توفي الرسول يوحنا في آخر القرن الأول. وتلاميذه نقلوا لنا أسماء الإنجيليين الحقيقيين، مثل لوقا.

كاتب الإنجيل بحسب لوقا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 37

فهذا العالم الأسقف ﭙاﭙياس، كان تلميذ بوليكربوس، تلميذ يوحنا الرسول، يذكر اسم لوقا الإنجيلي منذ عام 125 ـ 130 في تفسير ( أقوال الرب ). فالسند متواتر وصحيح وغير مقطوع عن الرسول يوحنا.

كذلك في شهادة الأسقف بوليكربوس الشهيد، تلميذ يوحنا الرسول، من العام 150، وقد نقلها لنا تلميذه الأسقف ايرناوس في كتابه ( الرد على الهرطقات ك 3 ف 14 ع 3 ـ 4 ).

2 ـ وشهادة الكنيسة الرومانية نجدها في (( قانون موراتوري )) ، باسم العالم الأثري الذي اكتشف الوثيقة، وهي من أواخر القرن الثاني. فهذه الوثيقة، المتواترة منذ عهد الرسل تقول : (( والكتاب الثالث للإنجيل هو بحسب لوقا. فلوقا هذا كان طبيباً، وقد اصطحبه بولس معه، بعد ارتفاع المسيح، رفيق الطريق؛ وباسمه دَوَّن ما هو مشهور، لأنه لم ير شخصياً المسيح في الجسد. وقد ابتدأ بمولد يوحنا )) .

فقانون (( موراتوري )) هو قانون الكنيسة الرومانية للكتب المقدسة الصحيحة وهو يشهد أن الإنجيل الثالث المتلو في الكنيسة الرومانية هو للقديس لوقا الطبيب الأنطاكي ورفيق بولس في أسفاره الرسولية، كما يؤكد ذلك بولس نفسه في رسائله.

وفي الكنيسة الرومانية أيضاً اشتهر منذ أواخر القرن الثاني (( تعريف لاتيني )) للأناجيل الأربعة القانونية. والتعريف بالإنجيل بحسب لوقا يقول : (( لوقا سوري من إنطاكية، طبيب، تلميذ الرسل. أخيراً تبع بولس حتى استشهاده. لقد خدم الرب بلا لوم. ولم يتزوج، ولم يكن له ولد. ثم مات في بيوثية، ممتلئاً من الروح القدس، عن ثمانين عاماً. فبعد أن كتب متى إنجيله في اليهودية، ومرقس في إيطالية، كتب هو إنجيله، بوحي الروح القدس، في اقليم أخائية.

38 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 1

وفي مطلعه يذكر أن أناجيل آخر قد دُوّنت قبله، لكن تراءى له ضرورة تدوين سيرة كاملة وشاملة، وذلك لأجل المؤمنين من أصل يوناني )) .

إن لوقا استخلص بولس في الاتباع حتى الاستشهاد لأن هدايته تمت على يده، ربما في أنطاكية عام 43 ( أع 11 : 19 ـ 26 )، وكان في ربيع العمر. وبما أنه بلغ الثمانين، فتكون شهادته قد بلغت أواخر القرن الأول، فالتقطها علماء المسيحية في القرن الثاني، الذين عاصروا آخرته، أمثال تلاميذ يوحنا الرسول. فالسند على صحة النسبة إلى لوقا متصل بلوقا نفسه، كما تشهد الآثار الرومانية، ومدرسة يوحنا الرسول في آسيا الرومانية، وهما طريقان للسند الصحيح المتواتر.

3 ـ وتجتمع شهادة الشرق والغرب عند الأسقف العلامة ايرناوس الأسقف المشرقي في ليون من أعمال فرنسا، والذي كان على اتصال دائم برومة وبتلاميذ يوحنا الرسول. فهو يقول في كتابه ( الرد على الهرطقات ) من أواخر القرن الثاني : (( كذلك لوقا، رفيق بولس، قد دوّن في كتاب الإنجيل الذي كان ( بولس ) يدعو به )) ( ك 3 ف 1 عـ 1 )؛ (( وقد اعتُبر لوقا جديراً بأن ينقل إلينا الإنجيل )) ( ك 3 ف 14 عـ 1 )؛ ويفصّل لنـا ميزات هذا الإنجيل ( ك 3 ف 14 عـ 4 ) وأن الإنجيل بحسب لوقا الصحيح هو في الكنيسة الجامعة، لا عند أهل البدعة.

4 ـ من القرن الثالث، لدينا أيضاً شهادة كنائس مصر وشمال أفريقيا.

منذ مطلع القرن الثالث ( 207 ـ 211 ) يقول العلامة الإفريقي ترتليانس تلميذ رومة في ( الرد على مرقيون ) : إن عادة الكنائس الرسولية أن تقرأ الإنجيل بحسب لوقا ( ف 4 ـ 5 ) وأن لوقا تلميذ بولس، هو صاحب الإنجيل الذي اعتمده مرقيون دون سواه، بعد تحريفه وتسميته ( إنجيل بولس ).

واكليمنضوس الإسكندري، مؤسس المدرسة المسيحية الإسكندرية،

كاتب الإنجيل بحسب لوقا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 39

يقارن في كتابه ( السترومات ك 5 ف 12 ) بين نسبة مرقس إلى بطرس، ونسبة لوقا إلى بولس، في رواية الإنجيل، دليلاً على رسوليتهما وصحتهما. ويؤكد أن المسيح وُلد على عهد القيصر اغسطوس (( كما هو مكتوب في الإنجيل بحسب لوقا1 )) .

ومن القرن الثالث أيضاً شهادة العلامة الإسكندري أوريجين الذي جمع الكتاب المقدس كله، العهد القديم والجديد، على أعمدة ستة، بحسب النسخ الشهيرة المتواترة. فهو يؤكد مراراً أن الإنجيل الثالث (( هو الإنجيل بحسب لوقا، الذي مدحه بولس، والذي دُوِّن لأجل المؤمنين من الأمميّين2 )) .

5 ـ ومن القرن الرابع، لدينا الشهادة الجامعة، شهادة علامة الشرق في التاريخ إفسابيوس، وعلامة الغرب جيروم.

إفسابيوس، أسقف قيصرية فلسطين، والقيّم على مكتبتها العامرة بمؤلفات الأقدمين، ينقل لنا في كتابه ( تاريخ الكنيسة ) شهادات الأقدمين : (( إن لوقا، وأصله من أنطاكية، قد مارس مهنة الطب ـ ( كول 4 : 14 ) ـ ورافق مدة طويلة بولس أكثر من سائر الرسل. فعنهم أخذ طبّ النفوس في ما خلّفه لنا في كتابين من وحي الله : الإنجيل الذي يشهد أنه دوّنه نقلاً (( عن الذي كانوا منذ البدء شهود عيان للكلمة، ثم صاروا خداماً لها )) ، ويؤكد أنه تتبّعهم منذ البداية؛ وأعمال الرسل التي دوّنها، لا عن سماع، بل عن مشاهدة عيان. ويقولون : إن بولس يذكر الإنجيل بحسب لوقا كلما كتب (( بحسب إنجيلي )) ـ (رو 2 : 16؛ 2 تيم 2 : 8) ـ كأنه يتكلم عن إنجيل هو كاتبه3 )) .

ــــــــــــــــــ

(1) السترومات 1 : 21 و 145 قابل مجموعة الآباء اليونان 8 : 885.

(2) أوريجين : تفسير متى ف 1 ـ قابل مجموعة الآباء اليونان 13 : 830 ؛ وإفسابيوس : تاريخ الكنيسة ك 6 ف 25 عـ 6.

(3) إِفسابيوس : تاريخ الكنيسة ك 3 ف 4 عـ 6.

40 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 1

وجيروم، ابن رومة، وناسك بيت لحم، يحمل أيضاً شهادة الغرب والشرق المتواترة في صحة نسبة الإنجيل إلى لوقا، بدون أدنى خلاف وبالإجماع المطلق؛ وذلك في كتبه كلها1 .

فالشهادات على صحة نسبة الإنجيل إلى لوقا متواترة بالإجماع والسند الصحيح من أطراف المسكونة كلها، منذ عهد الرسل، حتى عهد المخطوطات الكبرى على الرق الباقية إلى اليوم في المتاحف الشهيرة. وكلها تؤيد التلاوة المتواترة الجامعة في الكنائس كلها (( للإنجيل بحسب لوقا )) .

 

ثانياً : شهادة الآثار الكتابية نفسها

1 ـ لقد أجمع علماء النقد الكتابي، منذ هرنك، أن الإنجيل بحسب لوقا وسفر أعمال الرسل هما من تدوين مؤلف واحد : فاللغة واحدة، والإنشاء واحد، والتخطيط بين الكتابين متواصل متكامل، والمُهْدى إليه، النبيل ثاوفيلوس، واحد في الاثنين.

ويتضح من سفر الأعمال أن كاتبهما أحد أعوان بولس حينما ينقل الخطاب من صيغة الغيبة إلى صيغة المتكلم، فيقحم نفسه شاهد عيان. هذا ما يسمونه المجموعات (( نحن )) في سفر الأعمال ( 16 : 10 ـ 17؛ 20 : 5 ـ 21 : 18؛ 27 : 1 ـ 28 : 16 ). وهذا يؤيد قـول السُنّة المتواتر أن لوقا كان رفيق بولس في رسالاته، كما يشهد بولس نفسه في رسائله ( كول 4 : 14 )؛ وظل في صحبته حتى الاستشهاد ( 2 تيم 4 : 10 ).

ــــــــــــــــــ

(1) قابل تفسير أشعيا؛ مقدمة تفسير متى؛ الرسالة 20 : 4؛ 53 : 9؛ مشاهير الرجال 9.

كاتب الإنجيل بحسب لوقا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 41

ويظهر من سفر الأعمال أن كاتبه كان مطلعاً أحسن اطلاع على نشأة المسيحية في أنطاكية ( أع 6 : 6؛ 9 : 19 ـ 27؛ 13 : 1؛ 14 : 19؛ 15 كله ). فهـو يذكر بفخر أنه (( في أنطاكية أولاً دُعي التلاميذ : مسيحيين )) ( أع 10 : 26 )؛ ويجعل من أنطاكية، بعد أورشليم، مصدر ومرجع الرسالة المسيحية في العالم السوري والأسيوي والإغريقي؛ فبعد كل رحلة من رحلاته يعود بولس وأعوانه إلى أنطاكية. وهذا التركيز على أنطاكية، بعد أورشليم، يؤيد صحة نسبة لوقا إلى وطنه أنطاكية.

2 ـ وتقـول السُنّة المتواترة أيضاً إن لوقـا كان طبيباً، كمـا يؤكد ذلك بولس نفسه ( كول 4 : 14 )، والإنجيل وسفر الأعمال يشهدان أن كاتبهما كان عليماً بالأوصاف والأسماء الطبية. وهذه ميزة على متى ومرقس1 . وقد وجد الأستاذ ( كاديوري ) عام 1920 أن هناك أربعماية تعبيراً طبيّاً مشتركاً بين لوقا والأطباء اليونانيين. أجل كل أديب مثل لوقا يُفترض فيه سعة الاطلاع على مثل تلك التعابير؛ لكن وجودها بهذه الكثرة الظاهرة عند لوقا، من دون متى ومرقس، دليل كاف على أن كاتب الإنجيل بحسب لوقا كان طبيباً وأديباً كما تنقل السُنّة.

3 ـ ولغة الإنجيل بحسب لوقا أقرب إلى لغة بولس من سائر أسفار العهد الجديد. وقد عدّوا نحو مائة وخمسين تعبيراً مشتركاً بين لوقا وبولس، ولا توجد في سائر الأناجيل، منها كلمات : (( إيمان، ونعمة، وخلاص )) . وإذا كان الإنجيل بحسب لوقا لا ينضح بتعليم بولس الخاص، فهذا دليل على استقلال لوقا في كتابة التاريخ وعلى صحته التاريخية، لأنه لم يمزج كلام معلمه بولس بتعليم المعلم الإلهي؛ لا دليل على أن لوقا لم يكن تلميذاً لبولس.

ــــــــــــــــــ

(1) مرة واحدة فقط يظهر أن تعبير مرقس ( 9 : 26 ) أصح من تعبير لوقا.

42 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 1

4 ـ وظواهر الإنجيل بحسب لوقا تدل على أن كاتبه لم يكن يهوديّاً؛ ولا يكتب للنصارى اليهود. والدلائل كلها تشير إلى أن كاتبه كان (( أميّاً 1)) ، وصار مسيحيّاً؛ وهو يكتب لتوطيد أخوته المسيحيين من الأميّين في الإيمان ( لو 1 : 4 ). لذلك فهو لا يكترث بالعادات اليهودية التي لا تعني العالم الإغريقي والهلنستي. وفي الفصول التي انفرد بهـا عن سابقيه (9 : 51 ـ 19 : 27) لا يذكر شيئاً خاصاً باليهود. وقد أسقط من الإنجيل كل ما ورد في متى ممَّا يعني اليهود وحدهم، مثل علاقة الإنجيل بالشريعة الموسوية، في خطاب المسيح التأسيسي على الجبل ( متى 5 ـ 8 ) وقد تحاشى كل كلمة قد تجرح الأميّين، غير اليهود، ممّا جاء مثله في الإنجيل بحسب متى، على عادة اليهود. ويسوع، بحسب لوقا، كما في سائر الأناجيل، هو المسيح؛ لكن لوقا يفضّل تسميته (( الرب )) و (( المخلص )) ، أكثر منه (( المسيح ابن داود ابن إبراهيم )) ( متى 1 : 1 ). فهذه الظواهر كلها دلائل، كما في إجماع السُنّة المسيحية، على صحة نسبة الإنجيل إلى لوقا.

5 ـ وقد قبل المسيحيون أَجمعون، منذ عهد الرسل، الأناجيل على أنها (( مذكرات الرسل )) ، بحسب تعبير الفيلسوف النابلسي يستينوس. وهذا دليل على رسوليتها. ولا يُقبل تعليم في المسيحية إلاّ بناءً على رسوليته. وبسلاح (( الرسولية )) حارب علماء المسيحية البدع الناشئة فيها. فلو لم تكن رسولية الإنجيل بحسب لوقا، كما بحسب مرقس، قائمة، بناء على نقلهما عن بولس وبطرس، لكان ردّها أهل البدع، بلا تردّد. فقبول المسيحيين والخوارج عنهم على السواء لرسولية الأناجيل وأسماء الإنجيليين المتواترة برهان على صحة نسبة هذه الأناجيل إلى كاتبيها.

6 ـ وهكذا تتضافر الآثار الكتابية والأخبار التاريخية على أن لوقا هو كاتب الإنجيل الذي يحمل اسمه. وكلها تشهد بتلمذته لبولس. وتلمذة لوقا

ــــــــــــــــــ

(1) نرادف بين (( أميّ )) و (( أمميّ )) بحسب الاصطلاح الكتابي والقرآني.

كاتب الإنجيل بحسب لوقا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 43

لبولس، كما تشهد الأعمال والرسائل ( 2 كو 8 : 18؛ كو 4 : 14؛ فيلمون 24؛ 2 تيم 4 : 11 ) هي الدليل الأكبر، بعد تحقيقات المؤرخ وسماعه ونقله عن الرسل الشهود العيان ( لوقا 1 : 1 ـ 4 )، على رسولية شهادة الإنجيل بحسب لوقا، وعلى صحتها التاريخية، وعلى صحة نسبة الإنجيل إلى لوقا.

 

ثالثاً : بعض الشبهات على صحة نسبة الإنجيل إلى لوقا

قام أخيراً بعضهم يعترض على صحة نسبة الإنجيل إلى لوقا.

1 ـ قالوا : إن السُنّة المسيحية تقول إن كاتب الإنجيل الثالث كان تلميذاً لبولس الرسول. والحال ليس في هذا الإنجيل شيء من تعليم بولس الخاص، كالخلاص بالإيمان من دون الشريعة الموسوية، وكعلاقة الإنجيل بالشريعة الموسوية.

ـ ليس ذلك دليلاً على عدم صحة النسبة إلى لوقا تلميذ بولس : إنما هو الدليل على صحة تاريخية الإنجيل بحسب لوقا، فإنه لم يُقحم كلام بولس في تعليم المسيح. وقد رأينا أن تعابيره أقرب أسفار العهد الجديد إلى لغة بولس؛ وأن تفكيره أقرب من الكل إلى تعليم بولس، كما في ضرورة الإيمان للخلاص (لوقا 5 : 20؛ 7 : 50؛ 8 : 48؛ 17 : 19؛ 18 : 42)، وكما في عمومية الخلاص بدم المسيح. وهو ينقل صيغة تقديس القربان بلغة بولس، لا بلغة متى ومرقس. فلوقا تلميذ بولس في تعبيره وتفكيره، وإن لم يمزج كلام بولس بتعليم المعلم الإلهي. وهذا الواقع الملموس يؤيد صحة تلمذة لوقا لبولس وصحة تاريخية الإنجيل بحسب لوقا.

2 ـ وقالوا : إن السُنّة المسيحية تقول برسولية الإنجيل بحسب لوقا، عن

44 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 1

طريق نقله عن الرسل الشهود العيان، وعن بولس نفسه. والحال أن ظواهر الإنجيل لا تدل على ذلك! ففي فاتحته يشير إلى أنه نقل عمّن سبقه من كتبة الإنجيل؛ ووصفه لخراب أورشليم على يد الرومان عام 70 هو وصف تاريخ لا وصف نبؤة، وهو وصف قريب من وصف المؤرخ اليهودي يوسيف الذي كتب بعد الحوادث. فليس الإنجيل بحسب لوقا من لوقا من عهد الرسل!

ـ أجل يذكر لوقا في فاتحة الإنجيل أنه كتب بعد غيره ونقل عنهم. وهذا لا يعني أنه كتب بعد عهد الرسل، فقوله صريح : إنه يدوّن الأحداث (( التي جرت بين ظهرانينا )) ( 1 : 1 ) فهو ليس ببعيد عنها في الزمان والمكان؛ وهو ينقل الأحداث (( على حسب ما نقلها إلينا أولئك الذين كانوا منذ البدء شهود عيان للكلمة؛ ثم صاروا دعاة لها )) ( 1 : 2 )، فهو قد اتصل بشهود العيان ونقل عنهم دعوتهم بالإنجيل. فالإنجيل بحسب لوقا هو من عهد الرسل ومن شهادتهم ودعوتهم.

وصراحة لوقا في وصف خراب أورشليم والهيكل ( 19 : 43؛ 21 : 20 و4 ) ليس أقرب إلى التاريخ منه إلى النبوة. أجل أنه أصرح من متى ( 24 : 15 ـ 22 ) ومن مرقس ( 13 : 14 ـ 19 )؛ لكن ذلك دليل (( تحقيقه بدقة )) ( لو 1 : 3 ) في تلك النبوة الضخمة التي عليها يتوقف مصير إسرائيل، لا دليل جعله التاريخ نبؤة بعد الحادث؛ فبسبب دقته في التعابير جـاء نص النبؤة عنده أصرح من عند غيره؛ لكـن لتعابيره أشـباه في العهد القديم ( التثنية 28 : 64؛ هوشع 9 : 7؛ زخريا 2 : 30 ) وهو العليم بتلاوة الكتاب في الترجمة السبعينية، والخبير في محاكاتها بأسلوبه الإنشائي. ولو أن لوقا كتب بعد السنة السبعين، لأشار بفخر واعتزاز إلى تحقيق نبؤة المسيح العظيمة في خراب أورشليم وهيكلها، كما فعل في سفر الأعمال ( 11 : 28 ). وهبْ أن لوقا كتب الإنجيل بعد السنة السبعين، فهذا لا يمنع أنه ينقل عن الرسل الشهود العيان كما يصرّح في الفاتحة؛ ولا يشير إلى تتميم النبؤة، أمانة منه لتاريخية الإنجيل.

كاتب الإنجيل بحسب لوقا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 45

وصراحة لوقا في نبؤة المسيح عن خراب أورشليم وهيكلها، وانتقال الدين السماوي وملكوت الله من إسرائيل إلى (( الأميّين )) المؤمنين، بواسطة الدعوة الإنجيلية، تظهر وصفه قريباً من وصف يوسيف المؤرخ اليهودي : لقد جمعهم الواقع نبؤةً وتاريخاً، ولم يجمعهم الاقتباس، فالخلافات بين لوقا ويوسيف أكثر من اللقاءات1 . والتلاقي على الواقع بين النبؤة والتاريخ، ليس دليلاً على تأخر تدوين الإنجيل عن عهد الرسل، بل دليلاً على صحة النبؤة وتاريخيتها.

3 ـ وقالوا : في لوقا أثر يدل على أن لوقا كتب بعد السنة السبعين، في أواخر القرن الأول، عندما بقي يوحنا الرسول وحده بين الرسل على قيد الحياة، وتوطدت زعامته على الكنيسة : فلوقا وحده يقدم يوحنا الرسول على أخيه الأكبر يعقوب ( لو 8 : 51؛ 9 : 28؛ الأعمال 1 : 13 ). وهذا دليل لطيف على زمن تدوين الإنجيل بعد عهد الرسل ولوقا.

ـ أجل إن لوقا يخالف أحياناً الترتيب المتواتر عند متى ومرقس، بتقديم يعقوب على يوحنا. لكن لوقا يحافظ أيضاً على هذا الترتيب المتواتر ( 5 : 20؛ 6 : 14؛ 9 : 54 )، وهذا مما يوحي بأن لوقا لا يعلق على ذلك الترتيب قيمة ما خلا بطرس. فليس الأثر الموهوم بدليل على تأخر تدوين عن عهد الرسل إلى أواخر القرن الأول.

4 ـ وقالوا : إن الموافقات التاريخية من سيرة المسيح بين الإنجيل بحسب لوقا والإنجيل بحسب يوحنا دليل على وحدة الزمن في التدوين. فقد عدّ العالم (( هوك )) نحو أربعين موافقة، منها أربع وعشرون في سيرة الآلام وحدها. وهذا دليل على أن الإنجيلَيْن من زمن واحد، في آخر القرن الأول. فليس الإنجيل الثالث من لوقا، ولا من عهد الرسل.

ــــــــــــــــــ

(1) قابل يوسيف : العاديات اليهودية، Antiqités juives ، 5 : 20، والكتاب من عام 93 ـ 94.

46 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 1

ـ أجل إن لوقا تأثر بمدرسة يوحنا الرسول، فنقل من دعوة المسيح في اليهودية قسماً أورده في دعوة المسيح في الجليل، بأسلوب قصة صعود يسوع إلى أورشليم ( 9 : 51 ـ 19 : 27 )؛ وتلك الموافقات التاريخية قد تكون من هذا التأثير : فلوقا ويوحنا كانا في اليونان وآسيا الرومانية قبل الحرب السبعينية وبعدها.

لكن ذلك لا يعني أن الإنجيل بحسب لوقا هو من زمن الإنجيل بحسب يوحنا، وتحت تأثير مدرسة يوحنا المباشر : فشتان ما بين الإنجيلين، ولوقا من (( الأناجيل المؤتلفة )) دعوة وأسلوباً، لا من مدرسة يوحنا الرسول؛ وهو أقرب في تفكيره وتعبيره إلى بولس منه إلى يوحنا الرسول. فتلك الموافقات بين لوقا ويوحنا دليل وحدة المصادر الرسولية، لا دليل وحدة التأليف والزمان؛ وهي شهادة قيمة على صحة مصادر لوقا، وعلى شمولها؛ وعلى صحة تاريخيتها، فقد بلغت خصوصيات بولس ويوحنا. فكان لوقا صلة الوصل بين دعوة الرسل المتمثلة في متى ومرقس، وبين بولس، ثم يوحنا الرسول.

وهكذا فإِن تلك الاعتراضات التي يقصد منها تأخير كتابة الإنجيل بحسب لوقا إلى ما بعد السنة السبعين حتى أواخر القرن الأول، لإسقاط رسوليته، إنْ هي إلا شبهات تسقط لدى النقد النزيه، والتاريخ الصحيح.

فلوقا، تلميذ بولس، هو كاتب الإنجيل بحسب لوقا.

سيرة لوقا وثقافته ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 47

بحث ثان

سيرة لوقا وثقافته

لقد أجمعت الأخبار والآثار على أن لوقا كان سورياً من أنطاكية، تثقف بالثقافة الهلنستية الرفيعة التي كانت شائعة في عاصمة سوريا الرومانية.

وقد كان طبيباً، بشهادة بولس الرسول ( كول 4 : 11 و14 ). والطب والأدب متلازمان عند الأقدمين. وكان الأدب يشمل اللغة والبيان والعلم والتاريخ والفلسفة العامة.

اهتدى لوقا إلى المسيحية في أنطاكية، ربما على يد بولس، عام 43 (الأعمال 11 : 1 ـ 4) فإننا نراه يلازم بولس تلميذاً ومعاوناً وطبيباً حتى السجن والاستشهاد.

ولا عبرة لرواية بعض المتأخرين أن لوقا كان من تلاميذ المسيح الاثنين والسبعين، لأنه وحده يذكر بعثتهم التدريبية ( لو 10 : 1 ـ 20 )؛ وأنه كان أحد التلميذين اللذين شاهدا المسيح بعد قيامته على طريق عمَّاوس لأنه وحده يذكر الحادث ( لو 24 : 13 ـ 35 ).

ويظهر أنه، مثل معلمه، لم يتزوج، حتى يتفرّغ للدعوة المسيحية.

فقد نراه إلى جانب بولس في رحلته الرسولية الثانية، سنة خمسين ( أع 15 : 36 ـ 18 : 22 ) يشترك معه في العمل الرسولي ( أع 16 : 10 ـ 17 )

48 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 2

فيصحب بولس من ترواس إلى فيلبّي، حيث يبقى ثماني سنوات ( 50 ـ 57 ). فإن بولس في رحلته الثالثة يجده في فيلبي حيث تركه يكمّل عمل معلمه ( أع 20 : 5 ). وقد رافق لوقا بولس إلى أورشليم، وكان قربه في سجنه في قيصرية فلسطين، وفي سفره إلى رومة، ثم في سجنه برومة.

وفي مدة توقيف بولس في أورشليم وقيصرية ( 57 ـ 59 ) وجد لوقا متّسماً من الوقت ومجالاً رحباً للتحقيقات الشخصية والتاريخية والأثرية والجغرافية التي يذكرها لنا في مطلع إنجيله وفي تضاعيفه. ولا شك أنه في هذه المدة التقى بالسيدة العذراء، أم المسيح، فنقل لنا عنها مباشرة، أو عن المقربين إليها، معلوماتها الشخصية في البشارة وقصة المولد والحياة في الناصرة، تلك المعلومات التي انفرد بها. وهو يشير إلى مصادره من طرف خفي بقوله : (( أمَّا مريم فكانت تحفظ كل شيء في قلبها )) ( 2 : 19 و51 ). ولا شك أيضاً أنه لقي يوحنا الحبيب وتلاميذه فأخذ عنهم بعض التعاليم من الإنجيل الأورشليمي الذي تخصص يوحنا في الدعوة به، وقد انفرد لوقا، بين الأناجيل المؤتلفة، بذكر شيء من الدعوة في اليهودية ( لو 9 : 51 ـ 19 : 27 ). وأخذ عنهم أيضاً بعض المعلومات في استشهاد المسيح، كما يظهر من القرائن بين لوقا ويوحنا.

وفي سنة 59 ميّز بولس دعواه إلى قيصر. فسفّروه إلى رومة، يصحبه لوقا (( الطبيب الحبيب )) ( كول 4 : 14 ). وفي رومة، مدة توقيف بولس سنتين، عرف لوقا بطرس زعيم الرسل، واجتمع بمرقس ترجمانه الذي كان أيضاً يتردد على بولس في سجنه. وبولس يجعل لوقا ومرقس من معاونيه في رومة ( كول 4 : 10 و14؛ فيلمون 24 ).

فتسنّى في رومة للإنجيليّين لوقا ومرقس أن يتعارفا مليّاً، وأن يتبادلا معلوماتهما عن سيرة المسيح ودعوته؛ وأن يقارنا بين دعوة بطرس ودعوة بولس بالإنجيل للمسيحية. ولمَّا دوَّن مرقس الإنجيل ينقل فيه (( مذكرات بطرس )) ، أخذ

سيرة لوقا وثقافته ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 49

عنه لوقا نسخة استعان بها في كتابة إنجيله، ونقـْل كلمات يسوع من الأرامية إلى اليونانية. وهذا سبب ما بين الإنجيل بحسب لوقا والإنجيل بحسب مرقس من ائتلاف في التعبير والتفكير والترتيب1 .

وأفرج عن بولس، فرجع يتفقّد رسالاته السابقة، ولوقا معه. ثم اعتُقل بولس ثانية واقتيد إلى رومة، فصحبه لوقا. وفي سجنه الاخير يعتزّ بولس ويتعزّى بوجود لوقا قربه، وقد تركه الجميع : (( لوقا بقي وحده معي )) ( تيم 4 : 11 ).

ويظهر أن لوقا بعد استشهاد معلمه سنة 67 رجع إلى أخائية رسولاً في اليونان، على مقربة من يوحنا في أفسس. ويظهر أنه توفي شهيداً عن 84 عاماً، كما جاء في بعض الآثار القديمة.

 

كان لوقا، ابن انطاكية، العاصمة الثالثة في الدولة الرومانية، يتمتع بثقافة رفيعة. فقد كان، بسبب بيئته وهدايته إلى المسيحية، غنياً بالثقافات المتنوعة.

فهو، كسوري، قد عبّ من ثقافته القومية. وبما أنه ابن العالم الهلنستي، فقد تفوّق بالثقافة اليونانية، كما يظهر من لغة إنجيله وبيانها. ولما اهتدى إلى المسيحية، نهل من الثقافة الكتابية ما وسع. ويرى اللغويون أن لوقا يتقن الترجمة السبعينية للكتاب المقدس، ويعارضها في إنجيله. وفي اتصاله بالرسل الشهود العيان للدعوة المسيحية أخذ الدين المسيحي عن مصادره الأولى الصحيحة. وفي صحبة بولس المتواصلة أخذ عنه فلسفة المسيحية في الخلاص بالمسيح

ــــــــــــــــــ

(1) من المشهور أن عند لوقا ثلاث مجموعات متوافقة ترتيباً وتعبيراً مع مرقس، ما بين ثلاث مجموعات انفرد بها لوقا بحسب مصادره الخاصة :

لوقا 4 : 31 ـ 6 : 19

= مرقس 1 : 21 ـ 3 : 12

لوقا 8 : 4 ـ 9 : 50

= مرقس 4 : 1 ـ 9 : 41

لوقا 18 : 15 ـ 21 : 38

= مرقس 10 : 13 ـ 13 : 37

50 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 2

للبشرية جمعاء. وقد وصف ترتليانس تأثير بولس في لوقـا بقوله : (( لقد كان بولس ملهم لوقا )) . لقد أخذ لوقا عن بولس فلسفة المسيحية وصوفيتها، وإن لم يزج بهما في الإنجيل، أمانة منه لقدسيته وتاريخيته.

ودليل آخر على ثقافة لوقا الواسعة أنه كان طبيباً، بإجماع الأخبار والآثار وقديماً كان الطب والأدب على أنواعه متلازمان. فبولس يسميه (( الطبيب الحبيب لوقا )) (كول 4 : 14). وقد جمع أحدهم نحو أربعماية تعبيراً طبيّاً من الإنجيل بحسب لوقا ومن سفر الأعمال، منها مثلاً ( لو 4 : 38؛ 5 : 18 و24؛ 8 : 44؛ 11 : 46؛ 14 : 2؛ 21 : 34 ). ولوقا وحده ينقل المثل على لسان المسيح : (( يا طبيب طبّب نفسك )) ( 4 : 23 ).

وهناك رواية متأخرة مشبوهة، لا دليل على صحتها، تجعل لوقا فناناً يتقن التصوير. نجد صدى هذه الرواية في نشيد الباركليسي الذي تترنم به الكنيسة البيزنطية قبل عيد السيدة، في آب الشهر المريمي الشرقي :

(( يا والدة الإله، لتخرس شفاه الذين لا يكرمون بإجلال ايقونتك المقدسة، التي صوّرها لوقا الإنجيلي، والتي بها اهتدينا إلى الإيمان المستقيم )) .

وقد تكون هذه الرواية تجسيداً للصورة البيانية التي رسمها لوقا في الإنجيل للسيدة أم المسيح.

فكل تلك الثقافات والصفات تجعل لوقا أفضل مؤرخ للمسيحية. وقد قال رينان1 المرتد في الإنجيل بحسب لوقا : (( إنه من حيث الفن والأدب أفضل الأناجيل ...لا، بل إنه أجمل كتاب على الإطلاق )) .

ــــــــــــــــــ

(1) Renan : Les Evangiles Synotiques, . 277 et 282

زمن تدوين الإنجيل بحسب لوقا ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 51

بحث ثالث

زمن تدوين الإنجيل بحسب لوقا

إِن الإنجيل بحسب لوقا، بإجماع الأخبار والآثار، وشهادة الإنجيل لنفسه في فاتحته أنه نَقْل عن (( الشهود العيان للكلمة ودعاتها )) ( 1 : 2 ) هو من عهد الرسل، وهو شهادة رسولية للمسيح والمسيحية، ينقل بوحي الروح القدس (( مذكرات الرسل )) عن المعلّم الإلهي الحبيب؛ ولو اختلفت الآثار والأخبار في تحديد الزمان والمكان.

فهناك خلاف أول على تحديد الزمان : هل كان التدوين بعد الحرب السبعينية كما يرى بعض العلماء، استناداً إلى بعض معطيات متشابهة في الإنجيل نفسه ؟ لقد رأينا أن علاقة لوقا بيوسيف المؤرخ اليهودي إشارة عابرة1 لا يُعتد بها، لأن الشعب كله يذكر موجز الانقلابات التي تستبدّ ببلد، في فترة من الزمن، قديماً وحديثاً. وأن علاقة لوقا بيوحنا الرسول في بعض التعابير لا تتعدَّى حدود العلاقة المصدرية بالمصادر نفسها، والمفارقات بينهما أبلغ من اللقاءات. وان نبؤة المسيح عن خراب أورشليم، وإن كانت عند لوقا أصرح منها عند متى ومرقس، فهي أقرب إلى النبؤة منها إلى التاريخ، وصراحتها

ــــــــــــــــــ

(1) إن خطاب جملئيل ( الأعمال 5 : 36 ) الذي يذكر الانقلابات اليهودية المتواترة، يقابل إشارة يوسيف في ( العاديات اليهودية 20 : 5 ).

52 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 3

مصداق تاريخيتها كما أيدها الواقع والتاريخ. فكل هذه الشبهات وأمثالها لا تنقض معطيات الإنجيل والسُنّة المسيحية، بأن الإنجيل بحسب لوقا قد دُوّن في العهد الرسولي قبل الحرب السبعينية. ولا نستبعد أن يكون لوقا قد نقّح إنجيله، بعد الحرب السبعينية، قبل نشره في العالم الإغريقي حيث قضى آخر رسالته وحياته.

وهناك خلاف ثان : هل كان التدوين قبل موت الرسولين بطرس وبولس، أم بعد استشهادهما، وعلى كل حال قبل الحرب السبعينية ؟ فبعضهم على آثار القديس ايريناوس يزعمون أن لوقا دوّن الإنجيل بعد وفاة الرسولين. وبعضهم، مع القديس جيروم، يقولون إن لوقا دوّن الإنجيل قبل وفاة معلمه بولس. وجيروم نفسه قال بالرأي الأول، ثم عدل عنه إلى الرأي الثاني.

والعلاَّمتان هرْنك ولاغرنج يستندان إلى العلاقة الكيانية الصميمة بين الإنجيل والأعمال ـ فهما تاريخ واحد للنبيل ثاوفيلوس ومَن يمثلهم من الإغريقيين المهتدين إلى المسيحية، بلغة واحدة وإنشاء واحد وأسلوب واحد وتخطيط واحد متكامل ـ ليؤكدا أَن لوقا دوَّن الإنجيل في زمن توقيف بولس في قيصرية ورومة ( 57 ـ 63 ) قبل سفر ( أعمال الرسل ) وقبل الإفراج عن بولس عام 63، فإِن سفر الأعمال يتوقف قبل معرفة مصير تمييز دعوى بولس إلى قيصر، ولو عرفها لذكرها قبل نشر ( أعمال الرسل ).

يؤيد ذلك صلة القربى ما بين الإنجيل بحسب لوقا والإنجيل بحسب مرقس الذي هو من مصادر لوقا. ومرقس دوّن الإنجيل قبل استشهاد زعيم الرسل عام 64.

فعلى كل حال، إن الإنجيل بحسب مرقس هو من عهد الرسل (( الشهود

زمن تدوين الإنجيل بحسب لوقا ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 53

العيان للكلمة ودعاتها )) ( لو 1 : 2 )؛ فهو شهادة رسولية تاريخية صحيحة لسيرة المسيح ودعوته، كما نقلها لوقا عن أولئك الشهود العيان؛ وزمن تدوينه لهذه الدعوة الرسولية بإنجيل المسيح، لا يُنقض من قيمة الشهادة التاريخية ولا من صحتها، طالما لوقا نفسه هو الذي ينقلها لنا عن (( أولئك الذين كانوا منذ البدء شهود عيان للكلمة، ثم صاروا دعاة لها )) ( 1 : 2 ).

54 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 4

بحث رابع

مكان تدوين الإنجيل بحسب لوقا ـ وبيئته

مكان تدوين الإنجيل بحسب لوقا مسألة ثانوية.

تختلف الآثار المسيحية في تعيين المكان: أهو اليونان ؟ أم أخائية بالذات ؟ أم بيوثية ؟ أم قيصرية فلسطين ؟ أم الاسكندرية ؟ أم رومة ؟

يرشح على الأرجح أنه صدر في أخائية للعالم الإغريقي، كما يقول (( التعريف اللاتيني )) ؛ وإن كانت كتابته قد تمت ما بين قيصرية فلسطين ورومة، في زمن أسر بولس الأول.

ويكفي أن نعرف أن لوقا كتب للعالم الإغريقي الهلنستي. هذه هي بيئته التفكيرية. فالإنجيل بحسب لوقا هو عرْض إنجيل المسيح الواحد على البيئة الإغريقية الهلنستية، التي قام لوقا مع معلمه بولس بالدعوة فيها للمسيحية.

ولنا في معطيات الإنجيل نفسه الأدلة الكافية :

إنه يكتب (( للنبيل ثاوفيلوس )) ومَن يمثـّلهم أي للعالم الإغريقي الهلنستي، (( لكي تكون على بينة من التعليم الذي اهتديت إليه )) ( لو 1 : 4 ).

إِنه يشرح لقارئيه أسماء مدن إسرائيل وأعيادهم؛ ولا حاجة لذلك لو كتب لبني إسرائيل. قابل ( 1 : 26؛ 4 : 31؛ 8 : 26؛ 22 : 1 و7 ).

مكان تدوين الإنجيل ـ بيئته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 55

إِنه يلطف التعابير الجارحة عند متى بحق الأميّين. فبدل قول متى : (( أليس الوثنيون هكذا يفعلون ؟ )) . ( 5 : 47 )؛ يقول لوقا : (( أليس الخاطئون هكذا يفعلون ؟ )) . وبدلاً من قول متى : (( وهذا كله يطلبه الأميّون )) ، يقول لوقا : (( وهذا كله يطلبه الخاطئون )) . وكان تعبير (( الخاطئين )) كناية عن الأمميين الذين لا يعرفون الله الواحد الأحد.

إِنه يهمل الأحداث التي تجرح كرامة الأميّين. فهو يمر مرور الكرام على حادث المرأة الكنعانية بسبب كلمة يسوع : (( لا يليق أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب! )) ( متى 15 : 26 )، والكلاب كناية يهودية عن الأميّين الذين لا كتاب منزلاً لهم. ويترك ما خصّ به يسوع من رسالته بني إسرائيل وشريعتهم في الخطاب التأَسيسي على الجبل. ولا ينقل كلمة المسيح باقتصار دعوته الشخصية على بني إسرائيل ( متى 17 : 24 )، وقوله في بعثة الرسل التدريبية : (( لا تسلكوا طريقاً إلى الوثنيين؛ ولا تدخلوا مدينة للسامريين! )) ( متى 9 : 5 ).

ولكنه ينقل كل ما من شأنه أن يقرّب الأمميّين في العالم الإغريقي الروماني إلى الإيمان المسيحي، لإِيلافهم. فهو يفتح سيرة المسيح بنشيد الملائكة الذي يبشر بالسلام أهل الأرض كلهم : (( المجد لله في العلى! والسلام على الأرض لأهل الرضى! )) ( 2 : 14 ). وينقل نشيد سمعان الشيخ الذي يرى في يسوع المسيح (( مجداً لإسرائيل ونوراً للأميّين )) ! (2: 32). وبينما يحصر متى نسب يسوع في إسرائيل : (( ابن داود، ابن إبراهيم )) ( متى 1: 1 ) يرتقي به لوقا فوق القوميات كلها إلى آدم، وفوق البشرية إلى الله رب العالمين ( لوقا 3 : 38 ).

ويسرد رجوع الخطأة إلى الله وإيمانهم بالمسيح بشغف، أسوة لأمثالهم من الأمميّين. فيفصّل مثال الابن الشاطر مثال كل إنسان ترك الله وبيت أبيه

56 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 4

( 15 : 11 ـ 32 )، ومثل صلاة الفريسي المتكبر والعشار المتواضع، ليظهر فضل الجابي المكروه على رجل التقوى الفريسي المتجبّر ( 18 : 10 ـ 14 ). وكم من البشر يبكون حتى اليوم عند تلاوة تلك الصفحات الخالدات!

فالإنجيل بحسب لوقا هو عرْض لإنجيل المسيح الواحد في البيئة الإغريقية الهلنستية، كما يظهر أخيراً من أسلوبه ومن ميزات تعليمه، كما سنرى، لأنه كُتب بوحي الله فيها وإليها.

الفَصلُ الثَّاني

تحليلُ الإنجيل بحَسَب لـُوقـَا

بحث أول

: أصول التخطيط بحسب لوقا

بحث ثانٍ

: تفصيل موجز للإنجيل بحسب لوقا

بحث ثالث

: تحليل الإنجيل بحسب لوقا

أصول التخطيط ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 59

ندرس في هذا الفصل أصول التخطيط فيه ثم مبادئ التفصيل عنده، أَخيراً نعطي تحليلاً كاملاً للإنجيل بحسب لوقا.

بحث أول

أصول التخطيط في الإنجيل بحسب لوقا

إِن الإنجيل بحسب لوقا تاريخ بياني لسيرة المسيح ودعوته. لذلك فهو يعتمد التخطيط التاريخي والبياني في الإنجيل.

1 ـ التخطيط التاريخي

إن لوقا ينقل دعوة الرسل بإنجيل المسيح. فكان عليه أن يتقيّد بالمخطط الرسولي في تدوين الإنجيل مثل سابقيه متى ومرقس. وكان عليه أن يسرد قصة الدعوة في الجليل (الإنجيل الجليلي) متجاهلاً الدعوة في اليهودية ( الإنجيل الأورشليمي )، لحكمة اقتضتها في البدء ظروف الدعوة الرسولية في أورشليم.

60 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2 : بحث 1

لكن تحقيقاته التاريخية كشفت له عن وجود دعوة للمسيح في اليهودية تكتنف الدعوة في الجليل وتتخلّلها، فوجد أسلوباً ليذكرها في رحلة المسيح الكبرى إلى أورشليم، بعد الدعوة في الجليل. فجاء الإنجيل الأورشليمي ( 9 : 51 ـ 19 : 27 ) موازياً عنده للإنجيل الجليلي ( 1 : 1 ـ 9 : 50 ). فكان لوقا المؤرخ صلة الوصل في ذلك بين الأناجيل المؤتلفة والإنجيل بحسب يوحنا الذي قد يقتصر على الدعوة في أورشليم واليهودية، مع الإشارة إلى تشابكها مع الدعوة في الجليل.

وقد ذكرنا ما انفرد به لوقا عن سابقيه متى ومرقس من تحريات في سيرة المسيح ودعوته. ثم تقصى قصة المولد ونشأة يسوع، وربطهما بقصة مولد المعمدان سابقه ونشأته.

فجاء تخطيطه التاريخي تاماً في ثلاثة أقسام. الدعوة في الجليل؛ ثم على طريق أورشليم ( حيث يذكر الدعوة في اليهودية)؛ ثم الاستشهاد في أورشليم.

2 ـ التخطيط البياني

كتب لوقا تاريخ المسيح على طريقة الأقدمين بأسلوب بياني أكثر منه علميّاً، بحسب عرْفنا الحديث للتاريخ الذي يدقّق في المعلومات الجغرافية والظرفية والشخصية. فلوقا يهمه من ذكر الحوادث معانيها أكثر من ظروفها، لذلك يستهلها أحياناً بعبارات شائعة لا تحدد زماناً ولا مكاناً، كقوله : (( وكان في إحدى المدن )) ، (( وفي أحد الأيام دخل سفينة )) ، (( وفيما هو يصلي على انفراد )) ، (( وفيما هم سائرون دخل قرية )) ...

ولوقا كمؤرخ أرجع مجموعات متى التعليمية إلى أزمنتها التاريخية. لكنه كمؤرخ أديب، للبيان عنده ميزة على العلم التاريخي كما نفهمه اليوم، لم يحفل بالتفاصيل الواقعية التي نعشقها عند مرقس.

أصول التخطيط ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 61

3 ـ فلسفة تاريخ الخلاص

كل مؤرخ كبير، له فلسفة في كتابة التاريخ. وفلسفة لوقا التي يستقيها من تعليم المسيح نفسه أن سيرة المسيح هي تاريخ الخلاص للبشرية بالمسيح يسوع. وبما أن التاريخ والبيان عنده متلازمان، فقد ركّز سيرة المسيح ودعوته على احتلال أورشليم والهيكل، للسيطرة على التوحيد التوراتي، ونقله من أورشليم إلى العالم بواسطة رسله. وهذا التركيز على أورشليم، عاصمة التوحيد والتنزيل، في خاتمة الإنجيل وفاتحة الأعمال هو ميزة لوقا، في فلسفة تاريخ الخلاص وبيانها.

فالإنجيل بحسب لوقا تاريخ بياني لسيرة المسيح ودعوته.

62 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2 : بحث 2

بحث ثان

تفصيل موجز للإنجيل بحسب لوقا

يُقسم الإنجيل بحسب لوقا إلى ثلاثة أقسام؛ وكل قسم منها إلى ثلاثة أجزاء؛ وكل جزء إلى ثلاثة فصول. وهذا التخطيط يظهر براعة الأديب الفنان.

فاتحة : التعليم الحق مبني على التاريخ الحق ( 1 : 1 ـ 4 )

تمهيد عام : نشأة المخلص وسابقه :

1 ـ البشارتان ( 1 : 5 ـ 56 )

2 ـ المولدان ( 1 : 57 ـ 2 : 38 )

3 ـ حداثة يسوع في الناصرة ( 2 : 38 ـ 52 )

القسم الأول

دعوة المخلص في الجليل

مطلع : تاريخ الدعوة المسيحية من التاريخ العام ( 3 : 1 ـ 3 )

توطئة : ظهور المخلص وسابقه ( 3 : 3 ـ 4 : 13 )

مطلع : بدء الدعوة في الناصرة ( 4 : 14 ـ 22 ) ـ استطراد ( 4 : 23 ـ 30 ).

جزء أول : الدعوة الأولى في الجليل ( 4 : 14 ـ 6 : 11 )

تفصيل موجز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 63

فصل أول : اليوم الأول في كفرناحوم ( 4 : 31 ـ 41 )

فصل ثان : جولة أولى حول كفرناحوم ( 4 : 42 ـ 5 : 26 )

فصل ثالث : الخلافات الأولى مع الفريسيين والكتبة ( 5 : 27 ـ 6 : 10 )

خاتمة : المؤامرة الأولى لاغتيال يسوع ( 6 : 11 )

جزء ثان : اصطفاء الرسل وتعليمهم ( 6 : 12 ـ 7 : 50 )

فصل أول : الخطاب التأسيسي في ملكوت الله ( 6 : 12 ـ 49 )

فصل ثان : جولة في الجليل مع الرسل ( 7 : 1 ـ 50 )

فصل ثالث : جولة أخرى في الجليل مع الرسل وبعض النساء ( 8 : 1 ـ 56 )

جزء ثالث : الدعوة الأخيرة في الجليل ( 9 : 1 ـ 50 )

فصل أول : بعثة الرسل التدريبية ( 9 : 1 ـ 11 )

فصل ثان : إعلان سر المسيح وسر رسالته ( 9 : 12 ـ 27 )

فصل ثالث : الكشف عن سر المسيح وسر رسالته ( 9 : 28 ـ 48 )

خاتمة القسم الأول : اسم يسوع وحده يطرد الشياطين ( 9 : 49 ـ 50 )

القسم الثاني

على الطريق إلى أورشليم : دعوة الخلاص في اليهودية

مطلع : تصميم المخلص على الذهاب إلى أورشليم1 ( 9 : 51 )

ــــــــــــــــــ

(1) نرى مع غيرنا في إشارات لوقا إلى صعود المسيح إلى أورشليم ( 9 : 50؛ 13 : 22؛

64 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2 : بحث 2

توطئة : البعثات أمامه ( 9 : 52 ـ 10 : 24 )

جزء أول : الشطر الأول من الرحلة الكبرى إلى أورشليم

( 10 : 25 ـ 13 : 22 )

فصل أول : تعليم الرسل على انفراد ( 10 : 25 ـ 11 : 13 )

فصل ثان : خلاف مع الفريسيين وعلماء الشريعة ينتهي بمؤامرة لاغتيال يسوع (11: 14 ـ 54)

فصل ثالث : ملكوت الله بين ظهرانيهم ( 12 : 1 ـ 21 )

جزء ثان : الشطر الثاني من الرحلة الكبرى إلى أورشليم

( 13 : 22 ـ 17 : 10 )

فاصل واصل : مسيرة المخلص المتواصلة إلى أورشليم ( 13 : 22 )

فصل أول : إسرائيل والملكوت ( 13 : 23 ـ 14 : 44 )

فصل ثان : طريق الملكوت والخلاص ( 14 : 25 ـ 16 : 8 )

فصل ثالث : الجهاد في سبيل الملكوت ( 16 : 9 ـ 17 : 10 )

جزء ثالث : الشطر الثالث والأخير من الرحلة الكبرى إلى أورشليم

( 17 : 11 ـ 21 : 37 )

فاصل واصل : مسيرة يسوع المتواصلة إلى أورشليم ( 17 : 11 )

فصل أول : ظهور الملكوت في يوم ابن البشر ( 17 : 12 ـ 18 : 30 )

فصل ثان : احتلال المسيح الملك للعاصمة والهيكل ( 18 : 31 ـ 19 : 46 )

فصل ثالث : الأيام الحاسمة في أورشليم ( 19 : 47 ـ 21 : 4 )

ــــــــــــــــــ

17 : 11 ) إشارة صريحة إلى رحلات يسوع إلى أورشليم واليهودية التي يفصّلها الإنجيل بحسب يوحنا في أورشليم، ولوقا في اليهودية.

تفصيل موجز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 65

خاتمة القسم الثاني : النبؤة الكبرى في خراب أورشليم ومجيء ابن البشر بمجد (21: 5 ـ 37)

القسم الثالث

الخلاص باستشهاد المخلص على الصليب

مطلع : مؤامرة السنهدرين الكبرى وخيانة يهوذا ( 22 : 1 ـ 6 )

جزء أول : الاستعداد للاستشهاد ( 22 : 7 ـ 62 )

فصل أول : العشاء السري والعهد الجديد ( 22 : 7 ـ 38 )

فصل ثان : الصلاة الاستعدادية في بستان الزيتون ( 22 : 39 ـ 53 )

فصل ثالث : يسوع موقوف في دار الحبر الأعظم ( 22 : 54 ـ 65 )

جزء ثان : محاكمات يسوع ( 22 : 66 ـ 23 : 25 )

فصل أول : يسوع أمام السنهدرين : الحكم عليه بالإعدام ( 22 : 66 ـ 23 : 1 )

فصل ثان : يسوع أمام الوالي الروماني ( 23 : 2 ـ 7 )

فصل ثالث : يسوع أمام هيرود ( 23 : 8 ـ 12 )

خاتمة : التصويت على الحكم بالإعدام ( 23 : 13 ـ 25 )

جزء ثالث : الاستشهاد على الصليب ( 23 : 26 ـ 56 )

فصل أول : صلب المخلص ( 23 : 26 ـ 43 )

66 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2 : بحث 2

فصل ثان : موت المخلص ( 23 : 44 ـ 49 ).

فصل ثالث : دفن المخلص ( 23 : 50 ـ 56 )

 

خاتمة الكتاب : القيامة المجيدة والرسالة العامة ( 24 : 1 ـ 53 )

1 ـ القبر الخالي ـ وبشرى الملائكة السعيدة ( 24 : 1 ـ 12 )

2 ـ ظهور المسيح إلى تلميذين على طريق عماوس ( 24 : 13 ـ 35 )

3 ـ ظهور المسيح للرسل ـ وتسليمهم آخر أسرار الملكوت ( 24 : 36 ـ 49 )

فصل الخطاب : صعود المخلص إلى السماء بينما الرسل له يسجدون ( 24 : 50 ـ 53 )

تحليل الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 67

بحث ثالث

تحليل الإنجيل بحسب لوقا

فاتحة : التعليم الحق مبني على التاريخ الحق ( 1 : 1 ـ 4 )

تمهيد عام : نشأة المخلص وسابقه

فصل أول : البشارتان ـ السماء تبشر بالمسيح المخلص

1 ـ البشارة بالمعمدان، سابق المسيح المخلص ( 1 : 5 ـ 25 )

2 ـ البشارة بيسوع المخلص ( 1 : 26 ـ 38 )

3 ـ الإعلان الأول لظهور المسيح المخلص ـ نشيد التجسّد ( 1 : 39 ـ 56 )

فصل ثان : قصة المولِدَيْن ـ السماء والأرض تفرحان بمولد المسيح الرب

1 ـ مولد السابق ( 1 : 57 ـ 80 )

2 ـ مولد المسيح المخلص ( 2 : 1 ـ 21 )

3 ـ الإعلان الثاني لظهور المسيح المخلص في هيكل أورشليم ( 2 : 22 ـ 38 )

فصل ثالث : الحياة الخفية في الناصرة ـ يسوع هو النبي الأعظم منذ حداثته

1 ـ المخلص في صباه ( 2 : 39 ـ 40 )

68 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2 : بحث 3

2 ـ المخلص، وهو صبي، بين العلماء في الهيكل ( 2 : 41 ـ 50 )

3 ـ المخلص، في شبابه ( 2 : 51 ـ 52 )

القسم الأول

دعوة المسيح المخلص في الجليل

مطلع : الدعوة المسيحية في التاريخ العام ( 3 : 1 ـ 2 )

توطئة : ظهور المخلص وسابقه ( 3 : 3 ـ 4 : 13 ) ـ إنه ابن آدم وابن الله

1 ـ نبي الأردن يُهيّئ الشعب لظهور المسيح المخلص ( 3 : 3 ـ 20 )

2 ـ ظهور المسيح المخلص في عماده : يسوع ابن الله الحبيب ( 3 : 21 ـ 38 )

3 ـ استعداد المخلص لرسالته في الخلوة ( 3 : 39 ـ 4 : 13 )

جزء أول : الدعوة الأولى في الجليل

مطلع : بدء الدعوة الظافرة، في الناصرة ( 4 : 14 ـ 22 )

استطراد

: زيادة ثانية إلى الناصرة : لا كرامة لنبي في وطنه ( 4 : 22 ـ 27 )

 

زيارة ثالثة : بنو قومه يرفضونه ( 4 : 28 ـ 30 )

فصل أول : اليوم الأول في كفرناحوم ـ يسوع (( قدوس الله ))

1 ـ إخراج شيطان من رجل في الجامع ( 4 : 33 ـ 37 )

2 ـ شفاء حماة بطرس من الحمّى بلمسة يد ( 4 : 38 ـ 39 )

3 ـ أشفية بالجملة عند المساء ( 4 : 40 ـ 41 )

تحليل الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 69

فصل ثان : جولة أولى حول كفرناحوم ـ سلطان يسوع الإلهي في الغفران

1 ـ دعوة الرسل الأوائل ( 5 : 1 ـ 11 )

2 ـ شفاء أبرص ( 5 : 12 ـ 16 )

3 ـ في كفرناحوم شفاء مخلّع نفساً وجسداً ( 5 : 17 ـ 26 )

فصل ثالث : الخلافات الأولى مع الفريسيين ـ يسوع (( رب السبت ))

1 ـ خلاف في الصوم، بمناسبة دعوة متى ووليمته ليسوع ( 5 : 27 ـ 39 )

2 ـ خلاف أول في السبت، بمناسبة السنبل المفروك ( 6 : 1 ـ 5 )

3 ـ خلاف ثان في السبت، بمناسبة معجزة في الجامع ( 6 : 6 ـ 10 )

خاتمة : المؤامرة الأولى لاغتيال يسوع ( 6 : 11 )

جزء ثان : اصطفاء الرسل وتعليمهم

توطئة : اصطفاء الرسل من بين التلاميذ، بعد صلاة ليل ( 6 : 12 ـ 16 )

فصل أول : الخطاب التأسيسي لملكوت الله ـ يسوع المصلح الاجتماعي الأعظم

مطلع : تجمهر التلاميذ والشعب حول يسوع ( 6 : 17 ـ 20 )

1 ـ للتلاميذ : التطويبات والويلات ( 6 : 21 ـ 26 )

2 ـ للجمهور : أحكام سبعة في معاملة الناس بالحسنى ( 6 : 27 ـ 38 )

3 ـ للجمهور أيضاً : أمثال خمسة في كيفية معاملة الناس ( 6 : 39 ـ 45 )

خاتمة : البيت المبني على الصخر، والبيت المبني على التراب ( 6 : 46 ـ 49 )

فصل ثان : جولة في الجليل مع الرسل ـ سلطانه الإلهي في إحياء الموتى

مطلع : الرجوع إلى كفرناحوم ( 7 : 1 )

70 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2 : بحث 3

1 ـ شفاء غلام النقيب الروماني في كفرناحوم ( 7 : 2 ـ 10 )

2 ـ إحياء ابن أرملة نائين ( 7 : 11 ـ 17 )

3 ـ وفد المعمدان إلى المسيح للاستطلاع ( 7 : 18 ـ 23 )

استطراد أول : ثناء المسيح على يوحنا المعمدان ( 7 : 24 ـ 30 )

استطراد ثان : حكم يسوع في أبناء جيله ( 7 : 31 ـ 35 )

4 ـ الفريسي والمرأة الخاطئة التائبة ( 7 : 36 ـ 50 )

فصل ثالث : جولة أخرى في الجليل مع الرسل وبعض النساء ـ يسوع هو الرسول الإنساني الأعظم.

مطلع : بعض النساء ينضممن إلى الرسل لخدمة يسوع ( 8 : 1 ـ 3 )

1 ـ التعليم بالأمثال ـ قرابة يسوع الروحيّة ( 8 : 4 ـ 21 )

2 ـ تسكين عاصفة في البحيرة بكلمة ( 8 : 22 ـ 25 )

3 ـ شفاء مجنون من جرش ( 8 : 26 ـ 39 )

4 ـ إحياء ابنة يائير ـ مع شفاء المدمية ( 8 : 40 ـ 56 )

 

جزء ثالث : الدعوة الأخيرة في الجليل

فصل أول : بعثة الرسل التدريبية ـ يسوع هو المعلم الإلهي

1 ـ بعثة الرسل التدريبية ( 9 : 1 ـ 6 )

2 ـ حيرة هيرود في أمر يسوع ( 9 : 7 ـ 9 )

3 ـ خلوة يسوع عند بيت صيدا ـ أشفية بالجملة ( 9 : 10 ـ 11 )

فصل ثان : إعلان سر المسيح وسر رسالته ـ يسوع هو المسيح والشهيد الفادي

تحليل الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 71

1 ـ معجزة تكثير الأرغفة الخمسة ( 9 : 12 ـ 17 )

2 ـ شهادة بطرس، باسم الرسل، بمسيحية يسوع ( 9 : 18 ـ 21 )

3 ـ النبوءة الأولى الصاعقة في استشهاد المسيح ( 9 : 22 ـ 37 )

فصل ثالث : الكشف عن سر المسيح وسر رسالته ـ صلب المسيح وإلهيته

1 ـ التجلّي الإلهي يكشف سر المسيح وسر رسالته ( 9 : 28 ـ 36 )

2 ـ شفاء مجنون يظهر سلطان المسيح على الشيطان ( 9 : 37 ـ 43 )

3 ـ نبوءة ثانية في استشهاد المسيح ( 9 : 43 ـ 48 )

خاتمة القسم الأول : اسم يسوع وحده يطرد الشيطان ( 9 : 49 ـ 50 )

القسم الثاني

على الطريق إلى أورشليم ـ دعوة الخلاص في اليهودية

مطلع : تصميم المخلص على الصعود إلى أورشليم ( 9 : 51 )

توطئة : يسوع يرسل البعثات أمامه ـ يسوع هو الرسول الأعظم

1 ـ بعثة بعض الرسل إلى قرية للسامريين ( 9 : 52 ـ 56 )

2 ـ اختيار المدعوين للعمل مع يسوع ( 9 : 57 ـ 62 )

3 ـ بعثة الاثنين والسبعين تلميذاً في اليهودية كلها ( 10 : 1 ـ 24 )

جزء أول : الشطر الأول من الرحلة الكبرى إلى أورشليم

فصل أول : تعليم الرسل على انفراد ـ يسوع هو المعلّم الإلهي

72 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2 : بحث 3

1 ـ المحبة سبيل الحياة الأبدية ـ مثل السامري ( 10 : 25 ـ 37 )

2 ـ النصيب الأفضل هو الاستماع إلى المخلص ( 10 : 38 ـ 42 )

3 ـ الصلاة البنوية سبيل الخلاص ـ صلاة (( أبانا )) ( 11 : 1 ـ 13 )

فصل ثان : الخلاف مع الفريسيين وعلماء الشريعة ـ المعجزات دليل الملكوت

1 ـ يسوع وبعل زبول : معجزات يسوع برهان ظهور ملكوت الله ( 11 : 14 ـ 28 )

2 ـ آية يونان هي معجزة المسيح الكبرى ( 11 : 29 ـ 36 )

3 ـ يسوع يحمل، في وليمة، على خصوم الملكوت ( 11 : 37 ـ 52 )

خاتمة : مؤامرة لإحراج يسوع في تعليمه ( 11 : 53 ـ 54 )

فصل ثالث : ملكوت الله هو في ما بينكم ـ حضور الملكوت بظهور المسيح

1 ـ تحذير من الفريسيين، وعدم الخوف من مناوراتهم ( 12 : 1 ـ 12 )

2 ـ تحذير من الطمع في الدنيا، والتسليم للعناية الإلهية ( 12 : 13 ـ 53 )

3 ـ علامات الأزمنة تدل على حضور ملكوت الله ( 12 : 54 ـ 13 : 17 )

خاتمة : ملكوت الله ينمو مثل حبة خردل، أو مثل خميرة في عجين البشرية ( 13 : 18 ـ 21 )

 

جزء ثان : الشطر الثاني من الرحلة الكبرى إلى أورشليم

فاصل واصل : مسيرة يسوع المتواصلة إلى أورشليم ( 13 : 22 )

فصل أول : إسرائيل والملكوت ـ يسوع هو سيد الملكوت

1 ـ إسرائيل والخلاص بالملكوت المسيحي ( 13 : 23 ـ 30 )

2 ـ مناورة فريسية لتخويف يسوع باسم هيرود ( 13 : 31 ـ 35 )

تحليل الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 73

ـ تخويف يسوع باسم هيرود ( 13 : 31 )

ـ نبؤة يسوع الثالثة عن استشهاده في أورشليم ( 13 : 32 )

ـ حملة يسوع على أورشليم الكافرة ( 13 : 34 ـ 35 )

3 ـ في وليمة عند زعيم فريسي ـ موقف اليهود من الدعوة للملكوت (14 : 1 ـ 34 ).

ـ يسوع يتحداهم بشفاء مستسقٍ يوم السبت ( 14 : 1 ـ 6 )

ـ درس في التواضع ومحبة المحرومين ( 14 : 7 ـ 14 )

ـ موقف اليهود من الدعوة إلى الملكوت المسيحي ( 14 : 15 ـ 24 )

فصل ثانٍ : طريق الملكوت والخلاص ـ يسوع هو الأسْوة الحسنة

1 ـ شروط أربعة لاستحقاق الملكوت ( 14 : 25 ـ 35 )

ـ التجرد عن الأهل ( 14 : 25 ـ 26 )

ـ حمل الصليب على آثار المخلص ( 14 : 27 )

ـ التجرد عن المال ( 14 : 28 ـ 33 )

ـ تجديد السيرة كالملح الجيد ( 14 : 34 ـ 35 )

2 ـ يسوع مثال رحمة الله بالخطأة ( 15 : 1 ـ 32 )

ـ يسوع مثال الرحمة ( 15 : 1 ـ 3 )

ـ فرح الراعي بوجود الخروف الضال ( 15 : 4 ـ 7 )

ـ فرح ربة البيت بوجود الدرهم المفقود ( 15 : 8 ـ 10 )

ـ فرح الأب برجوع الابن الضال ( 15 : 11 ـ 32 )

3 ـ الحكمة في وكلاء الملكوت، بمثل القيّم الماكر ( 16 : 1 ـ 8 )

74 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2 : بحث 3

فصل ثالث : الجهاد في سبيل الملكوت ـ الإنجيل كمال الشريعة

1 ـ المال المكدّس ظلم يجب التصدّق به ( 16 : 9 ـ 12 )

2 ـ خطر عبادة المال ـ مثل الغني ولعازر ( 16 : 13 ـ 31 )

استطراد : ما بين الشريعة والإنجيل ( 16 : 16 ـ 18 )

3 ـ شروط أربعة أخرى للحياة في الملكوت ( 17 : 1 ـ 10 )

ـ الحيطة من معثرة الضعفاء ( 17 : 1 ـ 3 أ )

ـ واجب المسامحة الأخوية ( 17 : 3 ب ـ 6 )

ـ قوة الإيمان في الخدمة لوجه الله ( 17 : 7 ـ 10 )

 

جزء ثالث : الشطر الثالث والأخير من الرحلة الكبرى إلى أورشليم

فاصل واصل : مسيرة يسوع المتواصلة إلى أورشليم ( 17 : 11 )

فصل أول : الملكوت والخلاص في يوم ابن البشر ـ يسوع هو ابن البشر السماوي

1 ـ الخلاص بالإيمان وحمد الله على نعمته ـ مثل البرص العشرة ( 17 : 12 ـ 19 )

2 ـ ظهور الملكوت علناً في يوم ابن البشر ( 17 : 20 ـ 37 )

3 ـ الشروط الاستعدادية الأربعة للملكوت والخلاص ( 18 :1 ـ 30 )

ـ الإلحاح في الصلاة ـ مثل الأرملة مع الحاكم الظالم ( 18 : 1 ـ 8 )

ـ التواضع في الصلاة ـ مثل الفريسي والعشار ( 18 : 9 ـ 14 )

ـ الاستعداد للملكوت بوداعة الأطفال ( 18 : 15 ـ 17 )

ـ الخلاص والملكوت بالتجرد عن المال والأهل ( 18 : 18 ـ 30 )

فصل ثان : احتلال المسيح الملك للعاصمة والهيكل ـ يسوع هو المسيح الملك

تحليل الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 75

مطلع : النبؤة الأخيرة الكاشفة للنصر والاستشهاد ( 18 : 31 ـ 34 )

1 ـ في أريحا : شفاء أعمى أريحا ـ وتوبة زكا بلطف يسوع ( 18 : 35 ـ 19 : 10 )

2ـ قرب أورشليم : تقويم الرأي العام في معنى دخوله إلى أورشليم ـ مثل الأمْناء ( 19 : 11 ـ 27 )

3 ـ احتلال المسيح الملك للعاصمة والهيكل ( 19 : 28 ـ 48 )

ـ تهيئة مركوب النبوة ( 19 : 28 ـ 34 )

ـ الدخول الشعبي الظافر إلى أورشليم ( 19 : 35 ـ 40 )

ـ دمعة على أورشليم الكافرة ( 19 : 41 ـ 44 )

ـ دخول الهيكل وطرد تجار الدين منه ( 19 : 45 ـ 46 )

فصل ثالث : الأيام الحاسمة في أورشليم ـ يسوع ابن داود وربه معاً

مطلع : مؤامرة السنهدرين لاغتيال يسوع ( 19 : 47 ـ 48 )

1 ـ جدال حاسم مع السلطة اليهودية في سلطانه ( 20 : 1 ـ 19 )

2 ـ جدال حاسم مع الأحزاب اليهودية في تعليمه :

ـ جدال في تعليمه القومي : الجزية لقيصر ( 20 : 20 ـ 26 )

ـ جدال في تعليمه الديني : قيامة الموتى ( 20 : 27 ـ 40 )

3 ـ الرد الحاسم، وحملة يسوع الأخيرة ( 20 : 41 ـ 47 )

ـ الرد الحاسم : يسوع المسيح هو ابن داود وربه معاً ( 20 : 41 ـ 44 )

ـ حملة يسوع الأخيرة على العلماء المضلّين ( 20 : 45 ـ 47 )

ـ فاصل : فلس الأرملة ( 21 : 1 ـ 4 )

76 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2 : بحث 3

خاتمة القسم الثاني : نبؤة المسيح الكبرى ( 21 : 5 ـ 36 )

ـ في خراب أورشليم والهيكل ( 21 : 5 ـ 24 )

ـ في مجيء ابن البشر بالمجد ( 21 : 25 ـ 36 )

ـ ملاحظة : كيف قضى يسوع تلك الأيام ( 21 : 37 ـ 38 )

 

القسم الثالث

الخلاص باستشهاد المخلص على الصليب

توطئة : مؤامرة السنهدرين لاغتيال يسوع ـ وخيانة يهوذا ( 22 : 1 ـ 6 )

جزء أول : الاستعداد للاستشهاد

فصل أول : العشاء الفصحي والعهد الجديد ـ العهد الجديد بدم المسيح

1 ـ تهيئة الفصح الأخير ( 22 : 7 ـ 13 )

2 ـ الفصح والقربان المسيحي ( 7 : 14 ـ 20 )

3 ـ الكشف عن الخائن ( 22 : 21 ـ 23 )

4 ـ خلاف بين الرسل على السلطة ـ الرئاسة في المسيحية خدمة ( 22 : 24 ـ 27 )

5 ـ مكافأة الرسل على ثباتهم مع يسوع ( 22 : 28 ـ 30 )

6 ـ النبؤة بجحود بطرس ( 22 : 31 ـ 34 )

7 ـ لقد حانت الساعة ( 22 : 35 ـ 38 )

تحليل الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 77

فصل ثان : الخلوة الأليمة في بستان الزيتون للصلاة ـ بشرية يسوع

1 ـ صلاة المخلص حتى الدم، في بستان الزيتون ( 22 : 39 ـ 42 )

2 ـ ظهور ملاك ليسوع يشجعه على الاستشهاد ( 22 : 43 ـ 46 )

3 ـ توقيف يسوع وهرب الرسل ( 22 : 47 ـ 53 )

فصل ثالث : في دار الحبر الأعظم ـ السجين الإِلهي

1 ـ جحود بطرس ليسوع بسبب جارية ( 22 : 54 ـ 60 )

2 ـ التفاته من يسوع إلى بطرس، فيخرج باكياً بمرارة ( 22 : 61 ـ 62 )

3 ـ حرس الحبر الأعظم يهينون السجين الإلهي طول الليل ( 22 : 63 ـ 65 )

 

جزء ثان : محاكمات يسوع

فصل أول : المحاكمة الدينية، يسوع أمام السنهدرين ( 22 : 66 ـ 71 )

ـ يسوع هو المخلص ابن الله

فصل ثان : المحاكمة المدنية، يسوع أمـام الوالي الروماني ( 23 :1 ـ 7؛ 13 ـ 25 ) ـ يسوع هو المسيح الملك

فصل ثالث : يسوع أمام هيرود ـ جلال الصمت ( 23 : 8 ـ 12 )

 

جزء ثالث : الاستشهاد على الصليب

فصل أول : صلب المخلص ـ المصلوب سيد الخلود والجنة

1 ـ على درب الصليب ـ بنات أورشليم ( 23 : 26 ـ 32 )

2 ـ صلب المخلص بين لصين ( 23 : 33 ـ 34 )

3 ـ سخرية الرؤساء والجنود بيسوع ـ توبة اللص المصلوب ( 23 : 35 ـ 43 )

فصل ثان : موت المخلص على الصليب ـ (( بالحقيقة هذا ابن الله ))

78 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2 : بحث 3

1 ـ موت المخلص على الصليب ( 23 : 44 ـ 46 )

2 ـ شهادة القائد الروماني ـ وندامة الجماهير ( 23 : 47 ـ 48 )

3 ـ وجوم أتباع يسوع الحاضرين عند موته ( 23 : 49 )

فصل ثالث : دفن المخلص ـ بالحقيقة هو أيضاً بشر

1 ـ المشير يوسف الرامي يستأذن بدفن يسوع ( 23 : 50 ـ 52 )

2 ـ تكفين يسوع ودفنه ( 23 : 53 ـ 54 )

3 ـ نساء الجليل يراقبن ثم يعددن الحنوط ( 23 : 55 ـ 56 )

 

خاتمة الكتاب : القيامة المجيدة ـ والرسالة العامة

1 ـ القبر الخالي والبشرى السعيدة ( 24 : 1 ـ 12 )

ـ حاملات الحنوط أمام القبر الخالي ( 24 : 1 ـ 3 )

ـ ملاكان يبشران حاملات الحنوط بالقيامة ( 24 : 4 ـ 8 )

ـ نقل البشرى إلى الرسل ـ استنكارهم وتحقيق بطرس ( 24 : 9 ـ 12 )

2 ـ ظهور المخلص حيّاً على طريق عماوس ( 24 : 13 ـ 35 )

3 ـ ظهور المخلص أخيراً للرسل ( 24 : 36 ـ 43 )

وتسليمهم آخر أسرار الملكوت ( 24 : 44 ـ 49 )

فصل الخطاب : صعود المسيح المخلص إلى السماء، فيما الرسل يسجدون له ( 24 : 50 ـ 53 )

$

الفَصلُ الثالِث

أُسْلوبُ الإنجيْل بحَسَب لـُوقـَا

بحث أول

: براعة التخطيط

   

بحث ثانٍ

: أسلوب لوقا التاريخي

   

بحث ثالث

: أسلوب لوقا البيانيّ

   

بحث رابع

أسلوب لوقا اللغويّ

 

براعة التخطيط ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 81

كانت الأرامية، في عهد المسيح، لغة السوريين والعبرانيين الشعبية؛ واليونانية لغة الدولة والأدب. ولوقا الأنطاكي، الطبيب الأديب، ما بين العالم الإسرائيلي والعالم الإغريقي، يجمع بين العبقرية اليونانية والعبقرية السورية الأرامية. وبهدايته إلى المسيحية، وتلمذته فيها على يد بولس الرسول، اكتسب أيضاً العبقرية المسيحية الطالعة.

فجاء أسلوبه في الإنجيل وسفر الأعمال جامعاً لتلك العبقريات كلها.

 

بحث أول

براعة التخطيط

كان التاريخ عند الأقدمين بيانيّاً، وفنّاً أدبيّاً، أكثر منه علميّاً كما نفهمه اليوم. لذلك جاء تاريخ المسيحية في الإنجيل بحسب لوقا، وفي سفر الأعمال الذي يكمله تاريخاً بيانيّاً أكثر منه علميّاً بالمعنى الحديث.

82 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 1

1ـ التخطيط التاريخي

في نظر لوقا، إن سفر الإنجيل وسفر الأعمال كتابان لتاريخ واحد، تاريخ الدعوة المسيحية على يد مؤسسها السيد المسيح، وتاريخ انتشارها في (( المسكونة )) على يد رسل المسيح.

لذلك يسيطر على الإنجيل بحسب لوقا، وعلى (( أعمال الرسل )) فكرة تاريخية واحدة، شاملة كاملة، جامعة مانعة، هي فلسفة التاريخ المسيحي : يسوع في الإنجيل، يحتل بنفسه أورشليم وهيكلها، عاصمة الدين والكتاب، ويسيطر عليها باستشهاده وقيامته؛ وفي سفر الأعمال تحتل المسيحية (( المسكونة )) من أنطاكية السورية إلى كورنثس اليونانية إلى رومة عاصمة الدولة وقلب العالم الهلنستي كله. وذلك بالكلمة والمعجزة والقداسة، في ظرف ثلاثين سنة. إنه فتح الفتوحات في تاريخ البشرية كلها.

قال المرحوم الأستاذ العقاد1 : (( وبعد فمن الحق أن نقول : إن معجزة المسيح الكبرى هي هذه المعجزة التاريخية التي بقيت على الزمن، ولم تنقض بانقضاء أيامها في عصر الميلاد. رجل ينشأ في بيت نجار، في قرية خاملة، بين شعب مقهور، يفتح بالكلمة دولاً تضيع في أطوائها دولة الرومان. ولا ينقضي عليه من الزمن في إنجاز هذه الفتوح ما قضاه الجبابرة في ضمّ أقليم واحد قد يخضع إلى حين ثم يتمرّد ويخلع النير، ولا يخضع كما خضع الناس للكلمة بالقلوب والأجسام )) .

ولوقا لا يكتب تاريخاً عادياً، بل تاريخ أعظم دعوة دينية، خلاص البشرية بالمسيح. وهو يقسم هذا التاريخ إلى زمانين وكتابين : زمن المسيح في الإنجيل، وزمن الروح القدس بواسطة الرسل في سفر الأعمال. ففي الإنجيل، المسيح

ــــــــــــــــــ

(1) عباس محمود العقاد : حياة المسيح ص 197.

براعة التخطيط ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 83

الرب المخلص، يؤسس ملكوت الله على أنقاض العهد القديم الموقوت، وفي سفر الأعمال، الروح القدس الموعود يستولي على رسل المسيح، ويبني بواسطتهم ملكـوت الله والمسيح في (( المسكونة )) على أكتاف دولة قيصر.

فالمسيح هو محور تاريخ الخلاص. لذلك يقسم أيضاً لوقا تاريخ الخلاص بالمسيحية إلى زمانين : الزمن الإسرائيلي الذي ينهار أمام المسيحية الصاعدة، وزمن الأميّين الذين يهتدون إلى المسيحية. بسبب جحودهـم لمسيحهم، يُسبى بنـو إسـرائيل إلى جميـع الأمـم، (( وتدوس الأمم أورشليم إلى أن تتم أزمنة الأمم )) ( لوقا 21 : 24 )، فيرجع حينئذٍ بنو إسرائيل إلى مسيحهم ويعترفون أنه أتى في يسوع الناصري المصلوب، وتكون رعية واحدة لراع واحد، من أهل الكتاب والأميين، في المسيحية الظافرة.

وفي تخطيط الإنجيل التاريخي ينجلي اقتدار لوقا الفني والتاريخي معاً. بعد تمهيد نشأة المسيح وسابقه، يقسم لوقا سيرة المسيح ودعوته إلى ثلاثة أقسام : دعوة الخلاص في الجليل؛ دعوة الخلاص في اليهودية؛ استشهاد المسيح في أورشليم؛ ويختم بالخاتمة السعيدة، قيامة المسيح وبعثة الرسل إلى العالم لفتحه للمسيح.

ويقسم كل قسم إلى ثلاثة أجزاء متقاربة؛ وكل جزء إلى ثلاثة فصول متتابعة في الزمن. فيظهر الإنجيل بحسب لوقا، في هذا التخطيط التاريخي البياني، عقداً فريداً، تنتظم فيه الأحداث والتعاليم كاللآلئ، وتتطور بحسب التخطيط المرسوم الذي يظهر فيه المسيح، محور الخلاص، ومحور التاريخ.

 

2 ـ التخطيط البياني

كانت طريقة الأقدمين في كتابة التاريخ بيانية أكثر منها علمية. لذلك جاء تخطيط لوقا للإنجيل تاريخيّاً وبيانيّاً معاً، كما رأينا.

84 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 1

ومن تخطيطه البياني دمْج دعوة المسيح في اليهودية بدعوته في الجليل بأسلوب رحلة المسيح الكبرى إلى أورشليم للاستشهاد. فقد ورث لوقا عن الدعوة الرسولية، والإنجيل الشفوي، وعن سابقيه متى ومرقس، الإطار التاريخي المرسوم للدعوة الرسولية، كما قرره بطرس والرسل في اجتماعهم الأول بعد صعود المسيح إلى السماء ( أع 1 : 22 ). فاقتصرت الدعوة المسيحية الأولى على الإنجيل الجليلي، لإيلاف أهل أورشليم وتلافي نقمة السنهدرين. لكن لوقا، في تحرياته التاريخية، وجد أن للمسيح دعوة ثانية في اليهودية، نقدر أن نسميها الإنجيل الأورشليمي، الذي سيتخصص يوحنا الرسول ومدرسته بالدعوة به، بعد أن زالت أسباب السكوت عنه. فدمج لوقا، دمجاً فنيّاً، شذرات من الإنجيل الأورشليمي في اليهودية، في القسم الثاني من الإنجيل، بعد الدعوة في الجليل؛ ولكن بدون تحديدات زمانية ومكانية وظرفية، حرصاً على صحة التاريخ، وأمانة منه للتصميم المتواتر في الأناجيل المؤتلفة، نقلاً عن دعوة الرسل أنفسهم. وهكذا تظهر براعة لوقا في التخطيط، بإدماج التاريخ بالبيان.

ولوقا يبني تخطيطه البياني على التخطيط التاريخي، لبيان تاريخ الخلاص بالمسيح.

في التمهيد العام نرى ظهور المخلص من المهد إلى الدعوة، بين أناشيد الفرح في السماء وعلى الأرض.

في القسم الأول، دعوة الخلاص في الجليل، نرى أعمال المخلص المعجزة في إعلان حضور ملكوت الله بظهوره.

في القسم الثاني، دعوة الخلاص في اليهودية، بأسلوب رحلة المسيح الكبرى إلى أورشليم، نرى تعليم المسيح المعجز في الملكوت والخلاص. وفي ثلاث مجموعات، كما رأينا في التحليل، يقدم لنا شروط الخلاص والحصول على ملكوت الله.

في القسم الثالث، مأساة استشهاد المسيح في أورشليم، نرى كيف يبني المسيح الخلاص والملكوت، ليس فقط على تعليمه، بل على دمه أيضاً.

براعة التخطيط ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 85

وتأتي الخاتمة السعيدة، بالقيامة المجيدة، والرسالة العامة الحميدة، للعالم أجمع؛ ويُختم برفع المسيح إلى السماء حيّاً، بينما رسله وتلاميذه، وقد استناروا بنور القيامة وفهموا سر المسيح وسر رسالته، يسجدون له.

ويأتي قصص الإنجيل المعجز، بهذه الأقسام الثلاثية، وأجزائها الثلاثية، وفصولها الثلاثية، كما رأينا في التحليل، لوحات تاريخية فنية، تنتظم كاللآلئ في عقد الجمان.

وهذا التخطيط التاريخي البياني معاً يشرح لنا لماذا اختصر لوقا التصريح برحلات المسيح إلى خارج الجليل، ليظل محور التخطيط أورشليم؛ ولماذا أسقط في قصصه تلك اللقطات المرقسية الواقعية الحية التي تعوق تأليف الوحدات الفنية في الوحدة الفنية العامة؛ ولماذا وزّع لوقا تلك الوحدات التعليمية الجامعة عند متى، على الإنجيل كله، ليقرن القول المعجز بالعمل المعجز، فيظهر المسيح المخلص سيّد من قال وسيدّ من فعل، بالإعجاز المطلق في القول والعمل.

b

86 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 2

بحث ثان

أسلوب لوقا التاريخي

قال رينان1 : (( الإنجيل بحسب لوقا رواية رائعة محكمة، بأسلوب عبري وإغريقي معاً )) .

وهذا الوصف يطابق شخصية كاتب الوحي في الإنجيل بحسب لوقا، وميزاته الموضوعية والأسلوبية والتاريخية والقصصية.

فلوقا مؤرخ المسيحية الملهم، يتمتع بصفات المؤرخ الممتاز، من استقصاء المصادر، وترتيب القَصَص، وتقديم المسبّبات، وإظهار النتائج، ومزج التعليم بالسيرة، حتى يأتي الكتاب لوحة تاريخية تعليمية فنية رائعة.

1 ـ لكن لوقا مؤرخ وإنجيلي معاً، كما يعلن في فاتحته. وفي ذلك عظمته وحدوده. فالإنجيل بحسب لوقا يقصد إرساء التعليم المسيحي الصحيح على التاريخ المسيحي الصحيح. فهو لا يكتب التاريخ لأجل التاريخ، بل يكتب التاريخ لأجل التعليم؛ (( لكي تكون على بيّنة من صحة التعليم الذي اهتديتَ إليه )) ( لو 1 : 4 ). لكن هذا الهدف التعليمي لا يشوّه التاريخ الحق، بل يحمل على التدقيق التاريخي لأنه سبيل إلى الإيمان الصحيح؛ فهو يكتب تاريخ تنزيل عقيدة إلهية ورسالة المعلم الإلهي.

ــــــــــــــــــ

(1) Renan : les Evangiles synotiques, . 283

أسلوب لوقا التاريخي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 87

ولوقا يكتب التاريخ على طريقة الأقدمين، فيمزج القَصَص بالتعليم، لذلك وزّع مجموعات متى على سيرة الدعوة كلها؛ ويدمج مصادره في قَصَصِه، ممَّا يعطي أسلوبه اللغوي تلك التغييرات الملحوظة فيه.

ولوقا يعرف أصول كتابة التاريخ، من ضرورة استقصاء المصادر الشخصية والأثرية، وضرورة الاتصال الممكن بالشهود العيان، وزيارة أماكن الأحداث، ومعرفة أزمنتها. ويرتفع كمؤرخ من الطراز الأول من التاريخ الخاص إلى العام، فيربط بينهما؛ ويُعطي الأحداث أبعادها التاريخية، ويربط بين أسبابها ونتائجها؛ فينتج من ذلك فلسفة تاريخية فيها حكمة وعبرة.

2 ـ ويصرح لوقا، منذ فاتحته، بمصادره. فقد نقل عن الشهود العيان، رسل المسيح، واستعان بما دوّنه أسلافه عنهم.

مصدره العام هو الإنجيل الشفوي الذي يدعو به رسل المسيح، حملة الإنجيل إلى العالم، خصوصاً بطرس وبولس، كما نرى من سفر الأعمال حيث يقتصر على أعمال بطرس وبولس.

ومن مقارنة الأناجيل المؤتلفة بعضها ببعض، نرى أن لوقا كان يتبع مرقس، ترجمان بطرس، في بعض المجموعات، مع بعض التنقيحات. وفي نقل أقوال المسيح يظهر أنه يتبع متى في صيغته الأرامية.

وله مصادره الخاصة التي يشير إليها من طرف خفي، مثل مريم العذراء، ، أم المسيح (( التي كانت تحفظ هذه الأشياء كلها في قلبها )) ؛ والنسائ الجليليات اللواتي كن يتبعن يسوع لخدمته وصحابته ( 8 : 1 ـ 3؛ 10 : 38 ) وبنات أورشليم اللواتي حضرن درب الصليب ( 23 : 27 و49 )، والنساء اللواتي حضرن صلبه، وعدْن إليه يوم القيامة ليطيّبن جسده، فكن رسولات البشرى بالقيامة ( 24 : 10 ) ومثل قلوبا ( 24 : 18 ) ومنهايم ( أو مناين ) أخي هيرود بالرضاعة ( أع 13 : 1 )، وبعض التلاميذ من الاثنين والسبعين ( 10 : 1 ـ 24 ).

88 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 2

فيظهر الإنجيل بحسب لوقا أصيلاً في وضعه، لا ترجمة لإنجيل أرامي للوقا كما وهم بعضهم؛ ولا نسخة ثانية مزيدة ومنقحة لإنجيل لوقا كتبها غيره. مثل هذه النظريات لا أساس لها في الإنجيل ولا في التاريخ.

وسكب لوقا نفسه مصادره في تأليف محكم من مبادئه حتى خواتيمه. فانفرد بالبشارة بالمعمدان والمسيح، وبميلاد المعمدان والمسيح، وبنقل رسالة المعمدان تهيئة لرسالة المسيح، أوسع من متى، ولو كان متى ويوحنا أشمل في دعوة المعمدان. وانفرد عن سابقيه بنقل تعليم المسيح في اليهودية، ودمجه بتعليمه في الجليل، في قسم خاص به ( 9 : 51 ـ 18 : 27 ) فضحّى فيه بالمعلومات الزمانية والمكانية لئلاّ يخرج عن التخطيط الرسولي المرسوم للدعوة الأولى.

3 ـ ويعلم لوقا كيف يمزج بأدب رفيع بين التاريخ والتعليم، بانتقاء التفاصيل والاكتفاء منها بما هو ضروري للبيان والتبيين، من دون إسهاب مرقس وإيجاز متى. ويقصُّ مثل خبير عليم، فيعطي المقدمات والأسباب التي توضح سير القَصَص، ولا يلجأ إلى الاستطرادات للإيضاح مثل مرقس. وينفر مثل أديب فنَّان من تكرارا الأحداث ولو كانت تاريخية مثل متى : فلا يذكر معجزة تكثير الخبزات مرتين، ويستغني عن لعنة التينة ( مر 11 : 12 ـ 14 و20 ـ 25 ) بمثل التينة ( لو 13 : 6 ـ 2 مع 17 : 6 )، ويكتفي بمعجزة تسكين العاصفة على البحيرة عن معجزة السير على الماء ( مر 6 : 45 ـ 52 )، ويقتصر على ذكر غفرانه للخاطئة ( لو 7 : 36 ) عن ذكر تطييبه في بيت عنيا قبل الاستشهاد ( مر 14 : 3 ـ 9 )؛ ويقتصد في محاكمة المسيح أمام السنهدرين بذكر جلسة واحدة في النهار، عن ذكر جلسة التحقيق في الليل وإصدار حكم الإعدام في النهار؛ ويعتمد عن ذكر تقديم الخل ليسوع قبل الصلب ثم على الصليب ( مر 15 : 23 ) ذكر تقديم الزوفى المبلّلة بالخل مرة واحدة ( لو 23 : 36 ). وهكذا يظهر لوقا ابن العبقرية اليونانية الذي يقرن بأدب رفيع بين التاريخ والفن.

أسلوب لوقا التاريخي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 89

4 ـ وميزة التاريخي الكبرى هي الترتيب في القَصَص. ولوقا يعلن منذ فاتحته تمسكه بهذه القاعدة الأولى. ويعرف كيف يسلك السبيل إليها. فلا يجمع الأحداث والتعاليم مجموعات مستقلة مثل متى، ولا مجموعات متناثرة مثل مرقس، بل يوزعها توزيعاً محكماً في أزمنتها وأماكنها، إلاَّ إذا اقتضى التأثير البياني ذلك أو عدم التكرار، مثل استطراد لوقا إلى ذكر زيارة يسوع الثانية وربما الثالثة إلى الناصرة، مع ذكر زيارته الأولى لها في افتتاح رسالته في الجليل ( 4 : 16 ـ 30 )؛ كذلك القول في تقديم أو تأخير بعض الأحداث مثل دعوة الرسل (5 : 3 ـ 11) ومطلع خطبة المسيح على الجبل ( 6 : 12 ـ 19 ) وقرابة يسوع الفضلى (8 : 19 ـ 21) وحادث ابن تيماء ( 18 : 35 ـ 43 ) والنبؤة عن خيانة يهوذا في العشاء السري ( 22 : 15 ـ 23 ). وقد كان الأقدمون يفضلون التأثير البياني على الترتيب الزماني والمكاني.

5 ـ والمؤرخ الخبير يربط سيرة بطله بالتاريخ العام. فلا يفوت لوقا أن يربط سيرة المسيح ( 2 : 31 ) ورسالة المعمدان فاتحة رسالة المسيح ( 3 : 1 ـ 2 ) بالتاريخ الإسرائيلي والتاريخ الدولي، فيسمّي سبعة حكام معاً؛ ويذكر الأشخاص الذين كانوا يهيمنون في الداخل والخارج على مقدّرات البلاد والعباد، من القياصرة أغسطوس وطيباريوس، إلى الولاة مثل كيرينوس على سورية، إلى الحكام مثل بيلاطوس على اليهودية، إلى الأمراء الملوك الصغار مثل هيرود أنتيبَّا بن هيرود الكبير ( 1 : 5؛ 2 : 1 ـ 2؛ 9 : 7؛ 13 : 31؛ 23 : 8 ).

6 ـ وميزة المؤرخ الحق هي التدقيق في الأحداث والأقوال. وقد أعلن لوقا في فاتحته تقيده بهذه القاعدة الثانية في كتابة التاريخ. وهنا يظهر كيف يدقق لوقا في معطيات سابقيه متى ومرقس. فلا يجزم أن تجلي المسيح جرى (( بعد ستة أيام )) من شهادة بطرس بمسيحية يسوع، بل (( بعد نحو ثمانية أيام )) ( 9 : 28 ). ولا يجعل الحكم بالإعدام على يسوع مع التحقيق في الليل، بل يجعل إصدار الحكم في مطلع النهار ( 22 : 66 ). ولا يجزم مثل مرقس ( 4 : 35 )

90 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 2

أن تسكين العاصفة في البحر كان مساء يوم الأمثال على الشاطئ ( لو 8 : 22 ). ويشير ثلاث مرات إلى صعود يسوع إلى أورشليم، في رحلته الكبرى إليها، ليوحي من طرف خفي إلى تردّد يسوع عليها كما سيفعله يوحنا، لا كما يظهر من متى ومرقس أنه صعد إليها في رسالته مرة واحدة كانت القاضية. ولوقا ينقل عادة الأحداث، في مصادره، إلى محلّها في أزمنتها، إلاّ اقتضت الضرورة البيانية ذلك1 .

فالتدقيق في ظروف الأحداث والأقوال لم يكن مطلقاً عند الأقدمين مثلنا اليوم. فاتبع الإنجيليون طريقة زمانهم. وهذا ما يدفع عنهم تهمة التناقض. فإنهم كانوا ينفذون إلى جواهر الأمور لا إلى ظواهرها وظروفها. تلك هي قاعدة الأقدمين في التدقيق التاريخي.

7 ـ وميزة المؤرخ الأديب هو السرد القصصي المثير. ولوقا يعرف كيف يحكم الربط بين الأحداث، لإظهار ترابطها ووحدة السياق فيها، مثل ذكر البشارة بالمعمدان قبل البشارة بالمسيح، وذكر مولد المعمدان قبل مولد المسيح، وذكر دعوة المعمدان تهيئة لدعوة المسيح. وما جاء مفرقاً عند مرقس نجده مربوطاً محكماً عند لوقا2؛ وما ورد مجموعاً منسقاً عند متى نجده موزّعاً بحسب زمانه عند لوقا. ويرتب سرد الأحداث ليظهر تفاعلها كربط دعوة المسيح بدعوة المعمدان سابقه3 .

ــــــــــــــــــ

(1) قابل مر 3 : 32 ـ 30 مع لو 11 : 12 ـ 22؛ مر 4 : 30 ـ 32 مع لو 13 : 18 ـ 19؛ مر 6 : 1 ـ 6 مع لو 4 : 16 ـ 30؛ مر 8 : 11 ـ 13 مع لو 11 : 16 ـ 29؛ مر 9 : 49 ـ 50 مع لو 14: 34 ـ 35؛ مر 10 : 41 ـ 45 مع لو 22 : 24 ـ 27؛ مر 12 : 28 ـ 34 مع لو 10 : 25 ـ 28.

(2) قابل مر 4 : 13 مع لو 8 : 11؛ مر 4 : 21 مع لو 8 : 16؛ مر 5 : 21 مع لو 8 : 40؛ مر 8 : 31 مع لو 9 : 22؛ مر 9 : 2 مع لو 9 : 28.

(3) قابل أيضاً 4 : 1؛ 5 : 1 و36؛ 9 : 34 ـ 37؛ 19 : 28 و36 و47؛ 20 : 1.

أسلوب لوقا التاريخي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 91

وعندما يكون ترتيب الأحداث والتعاليم تنسيقيّاً، لا تاريخيّاً، كما في مجموعته الكبرى الخاصة ( 9 : 51 ـ 18 : 27 )، مقصوداً لغاية يستعيض فيها بالرباط البياني عن الرباط التاريخي، تأتي الرُبُط التاريخية غامضة مثل قوله : (( في ذات يوم )) ( 5 : 17؛ 8 : 22؛ 20 : 1 )، أو مثل قوله : (( بعد ذلك )) ، (( في تلك الساعة )) ( 6 : 12؛ 7 : 11؛ 8 : 1؛ 10 : 21؛ 20 : 19 )، أو بدون رباط ( 10 : 1 و25؛ 12 : 1 و35 و49؛ 13 : 22؛ 16 : 1؛ 17 : 1 و3 و5 و7؛ ... ). فيعوّض السرد البياني المعجز عن السرد التاريخي المحدود.

ويمتاز لوقا، في السرد القصصي، بتهيئة الأحداث : مثلاً ترك الشيطان يسوع إلى حين (4 : 13) ورجع إليه قبل استشهاده (21 : 31 ـ 32). وهيّأ قوله في المعمدان (( وأقام في القفار إلى يوم اعتلانه لإسرائيل )) ( 1 : 80 ) قوله : (( كانت كلمة الله إلى يوحنا بن زكريا في القفر )) ( 3 : 2 ـ 3 ). وهيّأ قوله : (( زاد على ذلك جميعه أنه ألقى يوحنا في السجن )) ( 3 : 20 ) قوله : (( أما يوحنا فقد قطعت أنا رأسه ... )) ( 9 : 9 ). وهو أسلوب متواتر عند لوقا ( 9 : 1 ـ 6 = 10 : 1؛ 5 : 33 = 11 : 1؛ 20 : 19 = 22 : 2؛ 21: 37 = 22 : 39؛ 20 : 25 = 23 : 2؛ 9 : 9 = 23 : 8؛ 8 : 1 ـ 3 = 23: 49 و55؛ 18 : 31 = 24 : 25) . هذا الأسلوب يربط القصص ربطاً محكماً فيجعله من الأدب الرفيع.

ولوقا يؤرخ لرسالة سماوية، لا لسيرة عادية. فيكتفي، في ذوقه الأدبي، بما قلّ ودلّ. فلا يلتفت إلى النوافل التي قد تثير الفضول كما عند مرقس، والتي نتذوقها عنده؛ بل يهدف لوقا إلى إبراز جوهر أحداث الرسول والرسالة باللقطات الكبيرة والمشاهد المثيرة، التي لا توقف سير القصة عن طريقها إلى غايتها : فيسوع هو الرب المخلص، والخلاص بدم المسيح؛ وانتشار الدعوة يكون من أورشليم إلى رومة، عاصمتي التوحيد والوثنية.

92 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 2

فلوقا مؤرّخ وأديب معاً، يفهم التاريخ على طريقة الأقدمين، كفن أدبي يبغي الحقيقة التاريخية. ولكن يتميز لوقا عن أمثاله، بأنه لا يخلق على لسان المسيح خطباً له لا أصل لها في الواقع، فهو أوجز من زميله متى في نقل خطب يسوع التاريخية. وذلك لأنه إنجيلي يكتب سيرة المسيح ليظهر صحة دعوته.

فأسلوب لوقا التاريخي جمع بعبقريته الأرامية السورية بين إعجاز العبرانيين وحكمة اليونانيين، في وحدة تاريخية فنيّة لسيرة المسيح ودعوته.

 

أسلوب لوقا البيانيّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 93

بحث ثالث

أسلوب لوقا البياني

منذ القديم كان جيروم1 يقول : (( إن لوقا كان أعلم الإنجيليين بلغة اليونانيين. فقد كان طبيباً وأديباً، وكتب الإنجيل لليونانيين )) .

1 ـ ومنذ ذلك الزمان ما زالت التقاريظ تنهال على أسلوب لوقا البياني. قال شاتو بريان2 في كتابه ( عبقرية المسيحية ) : (( لوقا كاتب كبير، يشعّ إنجيله بأنوار العبقرية اليونانية والعبرية )) .

وحديثاً قال لوازي3 المرتد : (( إن الإنجيل بحسب لوقا، مع بعض تعابيره السامية، هو أقرب الأناجيل إلى اليونانية الفصحى4 )) .

فقد أدخل لوقا الإنجيل، بنقله إلى اليونانية، في الأدب العالمي والبيان الرفيع، كما فعل (( السبعينيّون )) بالعهـد القـديم. ويرى العارفـون باليونـانية، أن لوقـا يعـارض الترجمة (( السبعينية )) في بيانها، كلما سمحت له مصادره. فحرصه على

ــــــــــــــــــ

(1) Eist. ad Damasium XX, 4. cf. in Is. VI , 9

(2) Chateaubriand : Le génie du Christiansime, T. IV, ch. II

(3) Loisy : Les Evangiles synotiques, . 63

(4) ونعرف أن اليونانية الفصحى كانت قد اندثرت على عهد المسيح، واستعاض الناس عنها ياليونانية الشائعة المحكية في العالم الهلنستي كله، وبها كتب العهد الجديد كله.

94 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 3

نقل مصادره جعله يحتفظ ببعض التعابير العبرية والأرامية في اليونانية تعبيراً وتفكيراً. لكنه قد ألبسها في ترجمتها لغة يونانية من الأدب الرفيع الذي يليق بلغة المسيح الأصلية.

2 ـ ومما يزيد أسلوب لوقا البياني رونقاً نظمه الذي احتفظ بنظم المسيح في خطبه. نرى ذلك ساطعاً في خطب المسيح بحسب متى. ويرى لوازي أيضاً أن الإنجيل أقرب إلى النثر المنظوم منه إلى النثر المرسل. والنظرية صحيحة، كما يؤيدها الواقع الإنجيلي؛ فالسيد المسيح جرياً على أسلوب الأنبياء والمزامير الذي ألفه الشعب، سكب أقواله، وصاغ خطبه، بأسلوب الرباعيات، بحسب التعبير الآري والأرامي، أو بأسلوب الثنائيات بحسب طريقة النظم العربية. فالسيد المسيح، كخطب شعبي، في قوم يعتمدون على الذاكرة أكثر من الكتابة، كان يألف هذا الأسلوب الشعبي ـ الذي ظل رائجاً حتى اليوم في الأناشيد الشعبية ـ ليطبع تعليمه في أذهان السامعين.

وقد لاحظ ذلك الأديب الكبير المرحوم العقاد1 ، قال : (( لقد كانت لغة المسيح التي حملت بشائر الدعوة الأولى لغة صاحبها بغير مشابهة ولا مناظرة في القوة والنفاذ. كانت لغة فذة في تركيب كلماتها ومفرداتها، فذة في بلاغتها وتصريف معانيها، فذة في طابعها الذي لا يشبهه طابع آخر في الكلام المسموع أو المكتوب. ولولا ذلك، لما أُخِذ السامعون بها ذلك المأخذ المحبوب، مع غلبته القوية على الأذهان والقلوب. كانت في نمطها، بين النثر المرسل والشعر المنظوم، فكانت فنّاً خاصّاً، ملائماً لدروس التعليم والتشويق وحفز الذاكرة والخيال. هو نمط من النظم لا يشبه نظم الأعاريض والتفعيلات التي نعرفها في اللغة العربية لأن هذا النمط من النظم غير معروف في اللغة الأرامية ولا في اللغة العبرية. ولكنه أشبه ما يكون بأسلوب الفواصل المتقابلة، والتصريعات

ــــــــــــــــــ

(1) عباس محمود العقاد : حياة المسيح 170 الخ.

أسلوب لوقا البيانيّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 95

المرددة، التي ينتظرها السامع انتظاره للقافية، وإن كانت لا تتكرر بلفظها المعاد. وكان أسلوبه في إيقاع الكلام يكثر فيه الترديد والتقرير ... )) .

وهذا النظم الإنجيلي يزيد الإنجيل روعة وإعجازاً.

3 ـ وميزة لوقا البيانية في نقل الإنجيل، هو تأليفه بين القَصَص والخطب. فلا يجمع خطب المسيح مجموعات مستقلة كأنها مكتوبة للتلقين والدعوة، بل يوزعها على أحداث السيرة بحسب تاريخها، فيخلق من السيرة والدعوة وحدة فنية بيانية تأسر كل مَن يأسره ذوق الجمال البياني. فينتقل بك من المشاهد إلى أناشيد الفرح، من معجزات المسيح إلى كلماته المعجزات، ومن القصص إلى التعليم، فتصير السيرة دعوة، والدعوة سيرة، والدعوة والسيرة الإنجيل.

4 ـ فلوقا فنّان خبير في الإنشاء البياني. قال أحد مفسريه1 . (( كل تلك الروائع يقصها لنا فنَّان خبير. فلوقا يكتب بلغة العصر الهلنستي، بدون أناقة مقصودة، ولا فصحى غابرة. إِنشاؤه تصويري رائع. وقصصه مقتضب متّزن بدون تفاصيل زائدة. وإشارته لطيفة بليغة. يعرف كيف يختم قصة أو مثلاً أو حواراً، كأفضل كاتب في العالم ( 4 : 30؛ 10 : 37 و42؛ 15 : 32؛ 16 : 31؛ 24 : 32 و35 ). ويغشاك خصوصاً بخفة نفسه فيسبيك. فقراءة إنجيله من سحر البيان )) .

5 ـ يبلغ الفنّ القصصي عند لوقا، جملة وتفصيلاً، حدّ الإعجاز. وهو يعرف أن يسلك إلى ذلك كل الأساليب، وأن ينشد جميع الألحان. وفي الجملة، كما في التفصيل، يقصر همه، مثل الكتبة العظام، على التأثير العام الذي يبغيه من القصة أو المثل. فتشعر أنه يقود روايته لخلق فكرة عامة ونشوه عارمة. خذ مثل الابن الشاطر الضال الذي يصور رحمة الله بالخاطئ أفضل تصوير. فلو لم ينقل لنا عن المسيح غير هذا المثل المعجز، لجعل القارئ يشعر أن قائله أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء وأحكم الحكماء. ففي آداب الدين والدنيا قاطبة،

ــــــــــــــــــ

(1) Osty : Evangile selon Saint Luc, . 24

96 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 3

لم يُصوّر لطف الله وحنانه على الخاطئ الموغل في الضلال، كما صوّره المسيح في هذا المثل من الإنجيل بحسب لوقا. وكم من خاطئ بكى وتاب عند تلاوته! إنه الفن الكامل، والبيان الشامل، إيجازاً وإعجازاً.

6 ـ قلنا إِن أسلوب لوقا في تاريخ المسيح والمسيحية أسلوب تاريخي بياني أكثر منه علميّاً بحسب مفهوم عصرنا. فجاء فيه التاريخ والبيان، صنوين لا يفترقان. فكان التاريخ الصحيح عند لوقا، كما قال أحدهم، من (( البيان والتبيين )) 1. فسيرة المسيح وتاريخ دعوته يظهران صحة الدعوة الرسولية للمسيحية؛ وهذا هدف لوقا : (( رأيت أنا أيضاً أن أكتبها إليك بحسب ترتيبها، لتكون على بيّنة من صحة التعليم الذي اهتديت إليه )) ( لو 1 : 4 ). فالتاريخ بيان، والبيان تبيين لصحة السيرة وصحة الدعوة. ففي الإنجيل بحسب لوقا اقترن العلم بالأدب، والتاريخ بالبيان. فجاءت حقيقة الإنجيل رائعة الكمال، ناصعة الجمال.

7 ـ وبلغ الاقتدار الفني مداه عند لوقا في بيان وحدة التخطيط والترتيب والتأليف. فقصة سيرة المسيح في الإنجيل بحسب لوقا، محورها احتلال المسيح لأورشليم، عاصمة الدين المنزل، بالكلمة والمعجزة والسلطان الشخصي، ليطلق المدى. فسر رسالة المسيح هو خلاص العالم بالاستشهاد لا بالجهاد. فإِن ما يظهر ضعفاً في عين الناس هو القدرة في نظر الله. ففي الاستشهاد في أورشليم، (( قاتلة النبيّين وراجمة المرسلين )) ، وانتشار الدعوة المسيحية منها إلى العالم، يتم قصد الله من إسرائيل والنبوة والكتاب. فيكون استشهاد المسيح، وانتشار الإنجيل منه؛ وبه ختم الله على تاريخ النبوة والكتاب بالإنجيل والدعوة المسيحية.

فالتركيز على أورشليم، في الإنجيل لوقا، تاريخ وبيان.

ــــــــــــــــــ

(1) اسم كتاب للجاحظ .

أسلوب لوقا البيانيّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 97

بعد الرسالة المعجزة في الجليل ـ وقد اقتصرها لوقا على ما قلَّ ودلّ ـ وأهمل فيها رحلات المسيح إلى أطراف البلاد، لئلا يُلهي الفكر في توجهه إلى أورشليم ـ أخذ السيد المسيح الاتجاه الذي يريده الله نحو عاصمة الصليب : (( وإذ كان زمن ارتفاعه قد اقترب، صمم أن ينطلق إلى أورشليم )) ( لوقا 9 : 51 قابل يوحنا 13 : 1 )، كما كتب عنه أشعيا (50 : 6). وفي طريقه لم يقبله بعض السامريين، (( لأنه كان متوجهاً نحو أورشليم )) ( 9 : 53 ). ويشرك معه في زحفه على أورشليم بعثة أولى من الرسل ( 9 : 52 )، وبعثة أخرى (( من اثنين وسبعين تلميذاً، أرسلهم اثنين اثنين، أمام وجهه، إلى كل مدينة وكل موضع كان مزمعاً أن يقدم إليه )) ( 10 : 1 ). وكانوا ينادون أمامه : (( إن ملكوت الله قريب )) ( 10 : 9 و11 ). وفيما يسوع يجتاز أراضي هيرود الصغير (( تقدم إليه نفر من الفريسيين وقالوا له : انطلق! اذهب من ههنا! فإِن هيرود يريد أن يقتلك! فقال لهم: اذهبوا وقولوا لهذا الثعلب: (( ... لا يليق أن يهلك نبي خارج أورشليم! )) ( 13 : 31 ـ 33 ). نشعر بالعاصفة تقترب كلما اقتربنا من أورشليم، (( قاتلة النبيين وراجمة المرسلين )) ( 13 : 34 ).

وقرب أريحا يعطينا مثل السامري مع اليهودي، حيث أوجز المسيح وأعجز في التعريف بالقريب ( 10 : 25 ـ 37 ). ويصل إلى بيت عنيا، قرية لعازر وأختيه مريم ومرتا، فلا يسميها لوقا لئلا يحول الأنظار عن أورشليم ( 10 : 38 )، ويعطينا صلاة البشرية في تعليم (( أبانا )) ( 11 : 1 ) دون تحديد المكان، للسبب عينه. (( وكان يجتاز في المدن والقرى، وهو يعلّم، قاصداً في طريقه إلى أورشليم )) ( 13 : 22 ). ويمكث أياماً ما بين بيت عنيا وجبل الزيتون، يحشر فيها الإنجيلي لوحات رائعة من الإنجيل الأورشليمي في الدعوة للملكوت ( ف 14 ) التي تشمل الخاطئين قبل الصديقين ( ف 15 ). وكأن الإنجيلي يرجع بنا إلى الوراء فيقول : (( وفيما هو شاخص إلى أورشليم، جاز ما بين السامرة والجليل )) ( 17 : 11 )، حتى لا يتحول النظر والفكر عن

98 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 3

أورشليم. ويعلن حينئذٍ لتلاميذه : (( إن يوم ابن البشر قد حضر! )) ( 17 : 20 ـ 37 ). أخيراً يصرّح لهم : (( ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وجميع ما كتبه الأنبياء عن ابن البشر سيتم! )) ( 18 : 31 ). وكأنه يرجع بنا إلى أريحا ( 18 : 35 ) ويدخلها ليعطينا في زكا العشار أي الجابي، مثال توبة الخاطئ الصادقة ( 19 : 1 )، لكن يظل التركيز على أورشليم قائماً : (( ولما قال هذا ذهب في الامام، صاعداً إلى أورشليم )) ( 19 : 28 ). فيدخل المسيح عاصمة الدين والدولة، وهيكل النبؤة والتوحيد، دخول الفاتحين المسالمين. فيحتلّ الهيكل ويعلّم فيه، ويهزم بسلطان الكلمة والمعجزة السلطات والأحزاب اليهودية، فتقع الواقعة، ويستشهد المسيح في أورشليم. لكنه يقوم في اليوم الثالث! وقبل ارتفاعه إلى السماء، يرسل المسيح رسله من أورشليم إلى فتح العالم للإنجيل.

فذلك التركيز المطرد المتواتر على أورشليم هو أسلوب لوقا التاريخي والبياني، ليجعل من أورشليم، بحسب نبؤات الكتاب كلها، محور الدعوة المسيحية وانتشار ملكوت الله في العالم كله. وفي هذا التخطيط الشامل، من الاقتدار الفني ما يرفع الرواية الإنجيلية إلى فلسفة التاريخ، في الإنجيل بحسب لوقا.

تلك هي بعض الميزات في أسلوب لوقا البياني.

T

أسلوب لوقا اللغويّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 99

بحث رابع

أسلوب لوقا اللغوي

ذاك البيان الساحر، في الإنجيل بحسب لوقا، يخدمه نظم بديع، وإنشاء شيّق مبين، ولغة أنيقة رفيعة.

1 ـ أسلوب لوقا اللغوي أسلوب خبير بلغة الإغريق وبيانها. فهو، في ذوق أدبي جم، يعرف كيف يمزج بين الألفاظ الأرامية الموروثة عن مصادره، والتعابير العبرية المقتبسة عن الترجمة السبعينية التي يعارضها، والتراكيب اليونانية الفصيحة البليغة التي يتقنها ويتفنن فيها كلما خلا لذاته. فلا تشعر في تلاوته بترجمة مصادره.

2 ـ في المقاطع المتوازية ما بين مرقس ولوقا، نرى لوقا يصحح لغة مرقس ويوجز تعبيره بحسب فقه اللغة اليونانية.

فمرقس ينقل الإنجيل كما سمعه من معلمه بطرس بإنشاء سامي لا يهوى الربط بين الجمل. ولوقا على الطريقة الإغريقية يتقن الربط بين التعابير والجمل. فما جاء مقطوعاً عند مرقس نراه موصولاً عند لوقا.

مرقس يربط الأحداث بكلمة متواترة : (( حينئذٍ )) نحو 42 مرة؛ بينما لا نجدها عند لوقا إلاَّ 7 مرات، وربما نقلاً عن مصادره. وقد يصلها مرقس بكلمة : (( أيضاً )) نحو 28 مرة؛ بينما لا يأخذ بها لوقا إلاَّ 3 مرات.

100 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 4

مرقس لا ينوّع الرُبُط، جرياً على الأسلوب الشعبي؛ بينما لوقا ينوّع الربط، حتى الجدلية منها، بحسب الأسلوب الإغريقي الذي يتقنه.

مرقس يستفيض بالتفاصيل الجانبيّة التي تفيض بالحياة الواقعية؛ ولوقا يختار منها ما يكفي اللوحة التاريخية الفنية.

مرقس لا يكره تكرار الكلمات والتعابير؛ بينما لوقا يتحاشى ذلك.

مرقس يكثر من التعابير العبرية والأرامية؛ بينما لوقا يبتعد عنها بقدر ما تسمح له مصادره.

مرقس مولع بالتعابير الشعبية؛ ولوقا يبدلها بتعابير فصيحة قدر المستطاع.

فإنشاء مرقس أقرب إلى الأرامية منه إلى اليونانية؛ بينما إنشاء لوقا، كلما تحرّر من مصادره، أقرب إلى اليونانية؛ وقد يتجاوزاليونانية الهلنستية الشائعة إلى اليونانية الفصحى في أزهى عهودها.

3 ـ وفي مقارنة لوقا بمتى، نجد متى يحافظ على الإنشاء الأرامي قدر المستطاع. بينما لوقا يجنح، في ذوقه الأدبي، إلى فقه اللغة اليونانية، فيبتعد عن الأصل الأرامي في حرفه، لا في معناه.

متى يحافظ على النظم الرباعي في كلمات المسيح وخطبه فتأتي عنده طبق الأصل. بينما لوقا، بحسب الذوق الإغريقي، يحاول أن يتحرر من تبعاته. وفي مقارنة خطاب المسيح على الجبل، في الصيغتين بين متى ولوقا، نرى متى أقرب إلى لغة المسيح الأرامية، ولوقا أقرب على الذوق الإغريقي.

4 ـ ويرى اللغويون أيضاً أن لغة لوقا أقرب الجميع إلى لغة بولس، وهذا أمر بَدَهي بين التلميذ ومعلمه في الدين.

أسلوب لوقا اللغويّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 101

قال الأستاذ الخبير بُوش1 : (( أخيراً إِن لغة لوقا، مع لغة بولس، أغنى الجميع في العهد الجديد. فمن أصل 2677 كلمة، نجد 715 منها لا توجد في غيرهما. فلوقا متنوّع جداً، أنيق عند الحاجة، تكنيكي وموضوعي إذا اقتضى الأمر )) . وقد رأينا أنه أغنى الجميع في التعابير الطبية التي اقتضتها معجزات يسوع في المرضى.

5 ـ فلوقا يجمع إلى صحة التاريخ صحة اللغة. قال أحد العلماء2 : (( لوقا أفضل أديب وأفضل مؤرخ بين الإنجيليين )) .

فقد أجمع اللغويون من مؤمنين وغير مؤمنين على أن أسلوب لوقا في التاريخ والبيان، من الأدب الرفيع.

6 ـ وعلى الجملة، إذا ما قارنا بين الأناجيل وأساليبها اللغوية، نجد أن أسلوب مرقس شعبي، وأسلوب متى ديني طقسي، وأسلوب لوقا أدبي، لكن لكل منهم بيانه الخاص : لمرقس إعجاز (( السهل الممتنع )) ؛ لمتى إعجاز الجلال النبوي الطقسي؛ للوقا إعجاز الأدب الإنساني. وكلها صيغ من (( المؤتلف المختلف )) الذي كان عليه أسلوب السيد المسيح في خطاب الشعب بحسب فئاته المتنوعة، فقد كان يخاطب الناس على قدر عقولهم، حتى الخطاب الصوفي لعلماء الهيكل كما في الإنجيل بحسب يوحنا.

7 ـ فأسلوب لوقا اللغوي والبياني والتاريخي، في تخطيط موزون محكم، مرآة ناصعة للحكمة الأزلية الإنجيلية المنزلة فيه. فهو شهادة معجزة لإنسانية

ــــــــــــــــــ

(1) uch : Histoire de la littérature chrétienne, T. I, . 113-115

(2)

(( Luc est le meillure lettré et le meillure historien armi nos Evangelistes )) S. D. B. , fasc. 26, . 554.

102 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 4

المسيح الإلهية المتجلّية في الرسول والرسالة، تجعل منه (( الرب المخلص )) كما يعني اسم يسوع.

والقول الفصل في أسلوب الإنجيل بحسب لوقا أن لوقا تعلّم من معلمه بولس (( أن اليهود يطلبون معجزات، واليونانيين يبتغون حكمة )) ( 1 كو 1 : 22 ) فأرانا في الإنجيل المعجزة والحكمة، تشهدان (( للرب يسوع )) ، كما يسميه، بأنه رب المعجزة ورب الحكمة.

الفَصْلُ الرّابع

شهَادَةُ الإنجيل بحَسَب لـُوقـَا

توطئة

: شهادة لوقا بين الشهادات الإنجيليّة

بحث أول

: إنجيل الخلاص

بحث ثانٍ

: إنجيل (( المخلص )) ـ أسماء المسيح الحسنى

بحث ثالث

: (( إبن البشر )) لقب المسيح الجامع المانع

بحث رابع

: تحقيق الخلاص بالروح القدس

بحث خامس

: إنجيل (( إنسانيّة )) يسوع

بحث سادس

: إنجيل العدالة الاجتماعيّة

بحث سابع

: الدستور الإنجيلي، في نظمه السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة

بحث ثامن

: أخلاقية الإنجيل بين الواقع والمثاليّة

بحث تاسع

: من إعجاز الإنجيل : الأمثال

بحث عاشر

: نسب يسوع في الإنجيل

بحث حادي عشر

: إنجيل القيامة، كحدث تاريخيّ

بحث ثاني عشر

: إنجيل ارتفاع المسيح حيّاً إلى السماء، كحدث تاريخيّ

بحث ثالث عشر

: يسوع هو (( المخلص، المسيح الرب ))

فصل الخطاب

: الإعجاز المطلق في الشخصيّة

خاتمة الشهادة

: الإنجيل بحسب لوقا صورة للواقع التاريخيّ

توطئة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 105

توطئة

شهادة لوقا بين الشهادات الإنجيلية

إعجاز الإنجيل بحسب لوقا يقوم خصوصاً على ميزات شهادته للرسول والرسالة، للمسيح والمسيحية.

ففيه يسوع هو (( الرب المخلص )) الذي بتعليمه واستشهاده الفدائي أتى بالخلاص العام للعالم كله.

لقد أعطانا مرقس حقيقة المسيح والمسيحية في عرْض واقعي.

وجاء متى فأعطى الواقع المسيحي عرضاً كتابيّاً لبني إسرائيل. أظهر فيه أن يسوع الناصري هو المسيح الموعود من سيرته ورسالته ودعوته؛ وأن المسيح المشهود أفضل الموعود، لأنه (( المسيح ابن الله الحي )) .

ولوقا في عرض الإنجيل على اليونانيين والهلنستيين أعطى الواقع المسيحي عرضاً تاريخيّاً إنسانيّاً أظهر فيه أن يسوع الناصري هو المسيح الرب المخلّص، الذي بإنسانيته وربوبيته هو الأمل الكامل، والخلاص الشامل، للعالم كله. وسنرى أن الإنجيل بحسب يوحنا يعطي الواقع المسيحي عرضاً صوفيّاً رمزيّاً ينبع من واقعه الملموس في سرّ المسيح وسر رسالته.

ففي لوقا الشهادة لإنجيل المسيح أنه إنجيل الخلاص وإنجيل العدالة الاجتماعية المسيحية.

106 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 1

بحث أول

إنجيل الخلاص

رسالة المسيحية، في الإنجيل بحسب لوقا، إن الخلاص من الله للبشرية في المسيح المخلص. فالإنجيل هو رسالة الخلاص، بتعليم المسيح واستشهاده الفدائي، الذي نحصل عليه بالتوبة والإيمان والعماد. فلوقا هو إنجيل الخلاص؛ تلك هي ميزته الخاصة والكبرى.

أولاً : مصدر كلمتي (( خلاص )) أو (( مخلص ))

إن كلمتي (( خلاص )) أو (( مخلّص )) لا توجدان عند مرقس ومتى1 ؛ فمن أين جاء بهما لوقا ؟

إن كلمتي (( خلاص )) و (( مخلص )) شائعتان في تعليم بولس و تلميذه لوقا. وكان التعبيران من الشعارات الرائجة في العالم الهلنستي أي الإغريقي الروماني الشرقي الذي تسيطر عليه رومة. وكان الخلاص من أهداف الديانات السرية المنتشرة في (( المسكونة )) . وقد حيّت رومة وإمبراطوريتها القيصر أوغسطوس بهذا اللقب : المخلص. فاستولت الدعوة المسيحية في الإمبراطورية، بقيادة

ــــــــــــــــــ

(1) D. T. C. Saint Luc, . 996

إنجيل الخلاص ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 107

بولس الرسول، على شعار (( الخلاص والمخلص )) ، وسكبت فيه العقيدة الإنجيلية، لأنها رأت فيه الأسلوب اللغوي الأفضل لعرض الإنجيل على العالم الهلنستي، لإيلافهم. فوضع لوقـا اسم (( المسيح المخلص )) على رأس إنجيله ( 2 : 11 ) ليعلّم العالم كله أن الخلاص ليس في قيصر، بل في يسوع المسيح، المخلص الأوحد للبشرية كلها.

فإذا كانت شعارات (( الخلاص )) و (( المخلص )) قائمة في البيئة الهلنستية، قبل الإنجيل، فإن التعابير والعقيدة لم تكن دخيلة على الإنجيل ولا على الكتاب.

ففي الكتاب كانت الفكرة والتعبير شائعين في الأنبياء والمزامير، كما نقلتهما الترجمة السبعينية بحرفهما الذي كان يُتلى في العالم الإغريقي1 : فأشعيا الثاني ( ف40 ـ 65 ) يُعتبر بحق إنجيل الخلاص النبوي بالمسيح الموعود، (( عبد الله )) ( 49 : 6 ) فمعه الخلاص النهائي ( 45 : 17 ) الأبدي ( 51 : 6 )؛ وطلب الخلاص هو نداء المزامير كلها : (( يا الله خلص شعبك )) (مز 106 : 47)، (( خلصنا، يا الله، إلهنا )) (118 : 25)؛ والله هو (( مخلص إسرائيل )) والعالم بواسطة مسيحه: (( وسيعاين كل جسد خلاص إلهنا )) (أشعيا 40 : 5)؛ (( أنا الله إلهك، قدوس إسرائيل مخلصك )) ( أشعيا 43 : 3 )؛ (( أنا أنا الله، وليس غيري مخلص )) ( أشعيا 43 : 11 ).

ولـم تكن الكلمة والفكرة غريبة عن الإنجيل بحسب مرقس؛ فقد ختم الإنجيل بقـوله: (( من آمـن واعتمد يخلص )) ( 16 : 16 )؛ ولا عن الإنجيل بحسب متى الـذي يترجم اسم (( يسوع )) ـ وهو بالعبرانية : (( ياشوع )) أي الله يخلص ـ باسم المخلص عمل الخلاص، كما فسره الملاك في بشرى الميلاد ليوسف، حاضن مريم : (( وستلد ابناً فتسميه (( يسوع )) لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم )) ( متى

ــــــــــــــــــ

(1) Léon- Dufour : Vocabulaire de théologie biblique, au mot : salut . 987- 990

108 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 1

1 : 21 ). فاسم يسوع نفسه يعني المخلص؛ ورسالته هي الخلاص والفداء، بحسب قول المسيح نفسه عند متى : (( إن ابن البشر لـم يأتِ ليُخدَم، بل ليَخدُم ويبذل نفسه فداءً عن الجميع )) ( متى 20 : 28 ).

فالخلاص نبؤة في الكتاب، وتحقيق في الإنجيل؛ والأمم والرسالة هما من تعليم المسيح نفسه. وقد استخدم بولس، ومن بعده تلميذه لوقا لغة الكتاب في اليونانية، والشعار الرائج في البيئة الهلنستية لعرض الدعوة المسيحية، ثم كتابة الإنجيل، باللغة التي يألفها القوم. لذلك جاء عرض الإنجيل بحسب لوقا على البيئة الهلنستية بلغة (( الخلاص )) واسم (( المخلص )) ، ترجمة حرفية لاسم يسوع ورسالته.

 

ثانياً : ميزة المسيحية الأولى إنها رسالة الخلاص

ففي الإنجيل بحسب لوقا، ميزة المسيحية الأولى أنها رسالة الخلاص. وقد انتقى لوقا من سيرة المسيح ودعوته كل ما يظهر هذه الحقيقة للمسكونة كلها.

فالسماء، منذ مولد المسيح، تبشر أهل الأرض بمولد المخلص؛ فالملائكة يقولون للرعاة بفم أحدهم : (( أبشركم بفرح عظيم : اليوم وُلد لكم المخلص! وهو المسيح الرب )) (2: 10 ـ 11).

وسمعان الشيخ، بعد تقديم يسوع في الهيكل، ينشد : (( أيها السيد الآن تطلق بسلام عبدك، على حسب قولك، لأن عينيَّ قد شاهدتا خلاصك )) ( 2 : 29 ـ 30 ).

وفي مطلع رسالة المسيح، ينقل الإنجيلي نبؤة أشعيا الثاني التي تتحقق في دعوة المسيح : (( ويعاين كل بشر خلاص الله )) ( 3 : 6 = أشعيا 4 : 5 ).

إنجيل الخلاص ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 109

ويسوع يعلن، في الناصرة، في بدء دعـوته بالجليل أن رسالته تتميم نبـؤة أشـعيا: (( اليوم تمت هذه الكتابة التي تُليت على مسامعكم ... لأعلن سنة نعمة للرب )) ( 4 : 18 و21 ).

ويسوع يصنع معجزاته حتى في السبت، (( لأنه أفضل أن تخلّص نفس ( في السبت ) من أن تهلك )) ( 6 : 9 ).

وبعد توطيد (( مسيحيته )) في ضمير الرسل، وشهادتهم له بها، على لسان بطرس، أخذ يسوع، في العام الثاني للدعوة، يوضح لرسله أن الخلاص المسيحي باستشهاده على الصليب (9 : 22). وكان يعلم الجموع أن الخلاص يقوم بحمل صليب الحياة مع يسوع، حباً به ( 9 : 23 ).

وكان يسوع يصرّح بعد معجزاته : (( إيمانك قد خلصك )) ! ( 17 : 11 ـ 19؛ 18: 35 ـ 43 ).

وعند زيارة بيت زكا العشار المكروه في أريحا يقول : (( اليوم قد حلَّ الخلاص على هذا البيت، فإنه هو أيضاً ابن إبراهيم! فإِن ابن البشر قد جاءَ ليطلب ما قد هلك ويخلصه )) ! (19 : 9 ـ 10).

وفي هذا الإعلان تعزية البشر أجمعين : إن الله وملائكته (( يفرحون بخلاص واحد يتوب أكثر من التسعة والتسعين صدّيقاً الذين لا يحتاجون إلى توبة )) ( 15 : 7 ).

فإنجيل المسيح هو إنجيل الخلاص.

 

ثالثاً : الخلاص بالمسيح يشمل البشرية جمعاء

ميزة المسيحية الثانية، في الإنجيل بحسب لوقا، إن الخلاص بالمسيح للناس أجمعين.

110 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 1

عند متى عمومية الدعوة المسيحية تتطور من القومية إلى العالمية، مع الإشارات المتوارية والمتواترة إلى عالميتها منذ سجود المجوس للمسيح، حتى إعلان السيد لليهود أنه، بسبب عمى قلوبهم في قتل المسيح، سـوف ينقل ملكوت الله منهم إلى (( أمة أخرى تؤدي ثماره )) . أما عند لوقا فعالمية الدعوة المسيحية تسطع من فاتحة الإنجيل إلى خاتمته، لأنها تدبير الله وتحقيق المسيح.

وفي عرض عمومية الدعوة الإنجيلية في كل مراحلها، يسلك لوقا طريقين، السلبية والإيجابية.

1 ـ فلوقا يهمل الناحية القومية من الدعوة الإنجيلية عقيدة ولغة، لأنها لا تعني الأميّين، بل قد تنفّرهم من الإنجيل.

ففي العقيدة لا ينقل لوقا تكميل للشريعة ( متى ف 5 ) أو تكميل الإنجيل للبِرّ والإحسان ( متى ف 6 )؛ ولا أمر المسيح للرسل في بعثتهم التدريبية ألاَّ يذهبوا إلى السامريين، ولا يسلكوا طريق الأميّين ( متى 10 : 5 ). ولا يذكر تطوير المسيح لشريعة الحلال والحرام في الطعام ( متى 15 : 10 ـ 20 )؛ ولا رجوع إيليّا في شخص المعمدان (متى 17 : 10 ـ 13)؛ ولا يبحث جدالهم للمسيح في أسباب الطلاق (متى 19 : 3 ـ 9). ولا ينقل إنباء المسيح بظهور مسحاء كذبة وأنبياء كذبة من بعده ( متى 24 : 23 ـ 25 )، خصوصاً يسقط تعيير الكنعانية بكلمة اليهود عن الوثنيين : (( كلاب )) ! ( متى 15 : 21 ـ 28 ).

وفي اللغة يُسقط لوقا التعابير الأرامية من كلام يسوع عند مرقس ( 5 : 41؛ 7 : 34؛ 9 : 5؛ 10 : 51؛ 14 : 36 و45؛ 15 : 22 و34 ).

وقد يُهمل كل إشارة إلى الناحية القومية من تعليم المسيح ولغته، فلا يذكر أن المسيح لم يكن (( يعلّم مثل كتبتهم )) بل بسلطانه الخاص ( مر 1 : 22 ). وقد ينقل

إنجيل الخلاص ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 111

التعابير الفلسطينية إلـى تعابير هلنستية : فبدل طين السقف ( مر 2 : 4 ) يقـول (( اللـَبِن )) (لو 5 : 19)؛ وبدل (( الوثنيين )) يقول (( الخاطئين )) (لو 6 : 32 ـ 34). ويذكر (( النعش )) لحمل الميت، ولم يكن عادة إسرائيلية ( لو 7 : 14 )، ويذكر (( النهر )) (لو 6 : 48 ـ 49) بدل السيل ( متى 7 : 25 و27 ) ويتوسّع في أحكام محبة القريب حتى أعداء الدين والقومية ( لو 6 : 27 ـ 38. قابل متى 5 : 39 ـ 48 ).

فلوقا يتجرد في لغته وتعليمه عما يحمل سمة البيئة اليهودية.

2 ـ لكن لوقا يؤكد على الناحية العالمية من الإنجيل لغة وعقيدة. فالمسيح هو (( ابن آدم، ابن الله )) ابن العالمين ( لوقا 3 : 38 )، وليس فقط (( ابن داود، ابن إبراهيم )) ( متى 1: 1 ). ومولد المسيح المخلص هو لكل شعب إسرائيل ( لو 2 : 11 ) لكنه مجد لله في العلى، وسلام على الأرض لأهل الرضى، الذين يُرضون الله ويرضى الله عنهم ( 2 : 14 ). والمسيح (( نور ينجلي للأمم )) قبل أن يكون (( مجداً لشعبك إسرائيل )) ( 2 : 29 ـ 32 ). ورسالة المسيح، كما في نبؤة أشعيا، (( سنة نعمة من الله )) لكل المحرومين في إسرائيل، لكنها أيضاً دعوة (( لكي يعاين أيضاً كل إِنسان خلاص الله )) ( 3 : 6 ).

فلا قومية عنصرية أو دينية في دعوة المسيح.

3 ـ ويمتاز لوقا بسرد المعجزات التي عملها المخلص لغير بني إسرائيل. فهو يشفي عن بعد غلام القائد الروماني في حامية كفرناحوم، ويشيد بإِيمانه الذي لم يجد له مثيلاً في إسرائيل ( 7 : 1 ـ 10 قابل متى 8 : 5 ـ 13 ). ويسوع يشفي مجنون جرش، (( مقابل الجليل )) وهي بلدة أكثرها من الأجانب، ممّا جعل خوف الله يستولي على المنطقة كلها ( لو 8: 26 ـ 37 ).

4 ـ وينقل لوقا من الأمثال ما يعني (( الأمميين )) بنوع خاص. وقد يصوّرهم بأسلوب يرفعهم على بني إسرائيل، مثل السامري عدو الدين والقومية لليهودي

112 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 1

الذي أهمله رجال دينه يموت وحيداً على الطريق، فأنقذه السامري ونقله إلى الخان وصرف على تطبيبه : إنه مثال الرحمة الإنسانية المسيحية التي لا تعرف حدوداً ولا قيوداً ( 10 : 25 ـ 37 ). وقد يمثل الوثنيين بمثل الابن الشاطر الضال الذي ترك بيت أبيه ليعيش على هواه مع الزواني والخنازير، لكن الله، أباه السماوي لم يهمله، بل كان يستجلبه بنعمه الخفية إلى رحمته وبيت نعمته، حتى رجع؛ فذبح له أبوه السماوي العجل المسمّن، على الصليب ثم في القربان؛ ودعـا أهل السماء والأرض للفرح (( لأن ابني هذا كان ضالاً فوُجد، وكان ميتاً فعاش! )) ( 15 : 11 ـ 32 ). وأكثر الأمثال تبدأ عند لوقا بكلمة (( إنسان ... )) ليشير من طرف خفي إلى أن المثل يقصد كل إنسان.

5 ـ ويصوّر فلسفة المسيحية تجاه اليهودية والوثنية بنقل الدعوة من القومية إلى العالمية. إن أهل الملكوت الأوائل، أي اليهود، لا يقبلون دعوة الإنجيل؛ فيرسل رب البيت غلمانه (( إلى الطرق وما حول السياجات، يضطرون الناس إلى الدخول حتى يمتلئ بيتي؛ فإني أقول لكم : إنه لن يذوق عشائي أحد من أولئك المدعوين الأولين )) ( 13 : 15 ـ 24 ).

6 ـ وفي الأيام الأخيرة الحاسمة، وقد تمت المؤامرة لقتل المسيح، يقص في الهيكل على وفد السنهدرين، في مثل الكرامين القتلة، تاريخ النبؤة في إسرائيل، ومكانة يسوع منها، فيظهر لهم جليّاً أن يسوع وارث ملكوت الله، وخاتمة النبوة، وابن رب الكرم الذي يتآمرون على قتله ليصير الميراث لهم وحدهم. حينئذ يهتف بهم المخلص : فماذا يفعل رب الكرم بأولئك الكرامين الخونة ؟ إنه يأتي ويأخذ منهم الكرم، ملكوت الله، ويسلمه إلى قوم آخرين يؤدون ثماره ( 20 : 9 ـ 19 ).

7 ـ وعالمية الدعوة لا تشمل فقط جميع الأمم، بل جميع الناس فيها، في شتى أحوالهم الدينية والاجتماعية. إِنها عالمية وعمومية. فليس الخلاص فقط لمن

إنجيل الخلاص ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 113

يعتبرون أنفسهم (( أخصاء الله )) من دون العالمين كالفريسيين؛ بل يشمل الخلاص الخطأة قبل غيرهم مثل الزانية ( 7 : 36 ـ 50 ) ومثل زكا العشار أي الجابي المكروه من بني قومه (19 : 1 ـ 10)، فقد تكون صلاة العشار أفضل من صلاة الفريسي رجل التقوى الظاهرة (18 : 9 ـ 14). والخلاص بالمسيح يشمل المحرومين في الأرض من كل نوع. فالمسيح يطوبهم في فاتحة خطبته على الجبل ( 6 : 20 ـ 26 )؛ ويشمل المنبوذين من اليهود مثل السامريين ( 9 : 51 ـ 56 )، ومثل الأميّين كالرومان المستعمرين ( 7 : 1 ـ 10 ). فضجَّ الفريسيون أهل التقوى من تصرّف يسوع وعلا تذمرهم منه : (( لأن العشارين والخاطئين جميعاً كانوا يُقبلون إليه ليسمعوه، والفريسيون والكتبة يتذمرون ويقولون : إن هذا يستقبل الخاطئين ويأكل معهم! )) ( 15 : 1 ـ 32 ).

ويختم لوقا الإنجيل ببعثة الرسل إلى العالم أجمع بالرسالة المسيحية الخالدة (( يدعون باسم المسيح إلى التوبة لمغفرة الخطايا، في جميع الأمم، ابتداءً من أورشليم )) ( 24 : 44 ـ 49 ).

فدعوة الخلاص بالمسيح شاملة كاملة، عالمية عمومية، للعالمين أجمعين.

 

رابعاً : الخلاص المسيحي شخصي وجماعي معاً

وميزة الخلاص بالمسيح أيضاً أنه شخصي وجُماعي، يخص الفرد كما يخص الجماعة. فليس الدين في عرْف الإنجيل قضية شخصية فقط؛ إنما هو أيضاً مسألة جُماعية اجتماعية.

فالخلاص المسيحي هو أولاً عمل شخصي. فالإنجيل بحسب لوقا هو إنجيل

114 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

التوبة المبنية على الإيمان والمحبة. والتوبة هي الظاهرة الكبرى في كل الأناجيل. لكن لوقا امتاز في ذكر تعاليمها من دعوة المعمدان (( بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا )) ( 3 : 3 )، إلى دعوة المسيح وبعثه رسله (( يدعون باسمه، بالتوبة لمغفرة الخطايا، في جميع الأمم )) (24: 47). ويتفنن لوقا في تعداد مظاهرها : يسوع يجعل متى العشار أحد الرسل (5 : 27)، ويغفر للمرأة العاهرة التائبة التي تظهر توبتها ومحبتها بالدموع، فيقول لها : (( مغفورة لك خطاياكِ! إيمانك خلَّصك! )) ( 7 : 48 و50 ). ويستغل حادث الجليليين الثائرين الذين خلط بيلاطس دماءَهم بدماء ذبائحهم، فيقول : (( إن لم تتوبوا تهلكوا جميعكم كذلك )) ! وحادث الذين سقط البرج عليهم في سلوام فقتلهم، ويختم بقوله أيضاً : (( إن لم تتوبوا تهلكوا جميعكم كذلك )) ( 13 : 3 و5 ). ويدعو الإنجيل بحسب لوقا دعوة عارمة للتوبة والمحبة البنوية لله بأمثال رحمة الله للخطأة، تلك الأمثال المعجزة التي انفرد بها لوقا، كمثل الابن الشاطر الذي يهجس في نفسه : (( أقوم وأمضي إلى أبي وأقول له : يا أبت قد خطئت إلى السماء وأمامك! )) ( 15 كله ). ويعدّد لوقا بشغف قصص الغفران الذي ينبع من قلب المسيح، كغفرانه للزانية التائبة (7 : 48 ـ 50)، وغفرانه لزكا العشار ( 19 : 1 ـ 10 ). ويعلمنـا أن نصلّي كل يـوم: (( واغفر لنا ذنوبنا )) ، لأن الغفران قوت ضروري للنفس كضرورة الخبز اليومي للجسد. ويختم الإنجيل بأروع مثل للتوبة المبنية على الإيمان والمحبة، كتوبة اللص على الصليب، القائل بإيمان وحب : (( يا رب اذكرني متى جئت في ملكوتك )) ! فيسمع للحال كلمة الخلاص: (( اليوم تكون معي في الفردوس )) ( 23 : 39 ـ 43 ).

والخلاص المسيحي هو أيضاً جماعي واجتماعي معاً. فالأناجيل المؤتلفة الثلاثة كلها دعوة إلى ملكوت الله. لكن ميزة لوقا أنه رأى الخلاص في ملكوت الله، فهو إنجيل الملكوت والخلاص فيه. وبجعله الخلاص في ملكوت الله، أعطى الخلاص بالمسيح صفته الجماعية، وناحيته الاجتماعية. ولوقا يركز تعليم المسيح في

إنجيل الخلاص ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 115

الملكوت على الناحية الروحية منه، وعلى الناحية الأخروية أيضاً أكثر من مرقس ومتى : فالملكوت هو السماء ( 12 : 32 ـ 33 )، حيث يتمتع الخالصون الخالدون بوليمة دائمة (13: 29) هي وليمة العرس السرمدية ( 22 : 30 )، عائشين كالملائكة ( 20 : 36 ) مدى الدهر الآتي ( 20 : 34 ). مع ذلك فالملكوت أرضي، ينشأ في مجتمع بشري : على تساؤل الناس متى يأتي ملكوت الله ( 17 : 20 )، يجيب يسوع : (( إن ملكوت الله بين ظهرانيكم )) (17 : 21). ويرسل رسله. ثم يبعث تلاميذه أمامه يعلنون قيام ملكوت الله في ما بينهم؛ ودليل ذلك المعجزات التي يجرونها من أشفية ( 10 : 9 ) وإخراج شياطين ( 10 : 20 ) وتحطيم قدرة الشيطان نفسه ( 10 : 18 ). فالملكوت أرضي وجُماعي واجتماعي معاً كذلك : جماعة المسيح هم القطيع الصغير الذين رضي الله أن يعطيهم الملكوت على الأرض ( 12 : 32 ). وإلى رعاته يُسلم أسرار الملكوت ( 8 : 10 ). لذلك فهم عرضة على الدوام لحملات الشيطان وبغض العالم ( 22 : 31 )، ولكن لا خوف عليهم فقد أمَّر عليهم بطرس الصخر ( 5 : 10 ) لكي يثبّت أخوته، فقد صلَّى الرب لأجله لكي لا يضعف إيمانه ( 22 : 32 ). فملكوت الله والمسيح قطيع له رعاته ورئيسه، فهو أرضي اجتماعي وجماعي، كما هو شخصي وروحي وسماوي معاً.

فالإنجيل بحسب لوقا هو إنجيل الخلاص لأنه إنجيل الملكوت.

 

خامساً : شروط الخلاص بالمسيح، وبيئته الروحية

في تحليل الإنجيل وجدنا عند لوقا ثلاث مجموعات تعطينا البيئة الروحية للخلاص بالمسيح. في المجموعة الأولى أربعة شروط لاستحقاق الملكوت والخلاص

116 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 1

فيه : التجرّد عن الأهل إذا كانوا معثرة لنا ( 14 : 25 ـ 26 )؛ حمل صليب الحياة على آثار المخلص ( 14 : 27 )؛ التجرد عن المال الذي يلهينا عن الله ( 14 : 28 ـ 32 )؛ تجديد السيرة المتواصل لجعلها كالملح الجيّد ( 14 : 34 ـ 35 ). وفي المجموعة الثانية أربعة شروط لحياة الخلاص في الملكوت : يجب الحيطة من معثرة الضعفاء؛ والمسامحة الأخوية كلما تعرضت المحبة لعارض؛ وذلك بقوة الإيمان، والخدمة لوجه الله ( 17 : 1 ـ 10 ). وفي المجموعة الثالثة، أربعة شروط أخرى استعدادية لدخول الملكوت والخلاص فيه : الصلاة بإلحاح، كصلاة الأرملة المظلومة مع الحاكم الظالم، وليس الله بظلاَّم لعبيده حتى يبطئ في استجابتهم ( 18 : 1 ـ 8 )؛ الصلاة بتواضع، كصلاة العشار، لا كصلاة الفريسي المتجبّر ( 18 : 9 ـ 14 )؛ قبول الملكوت بوداعة الأطفال مع أبيهم السماوي ( 18 : 15 ـ 17 )؛ والتجرّد عن المال والأهل، وهما العائقان الكبيران في سبيل الملكوت والخلاص ( 18: 18 ـ 30 ). تلك هي بيئة الخلاص بالمسيح.

هذه البيئة الروحية للخلاص في ملكوت المسيح تقوم على شروط : التوبة المبنية على الإيمان والمحبة؛ الصلاة؛ قداسة السيرة؛ التجرّد عن المال والأهل.

الشرط الأول : التوبة المبنية على الإيمان والمحبة، كما مرّ بنا. فلوقا هو إنجيل التوبة والإيمان والمحبة.

الشرط الثاني : الصلاة. فالصلاة روح الإنجيل بحسب مرقس ومتى ولوقا. لكن لوقا يشدّد عليها أكثر من سابقيه، فهي ميزة من ميزات إنجيله.

لوقا وحده يذكر صلاة المسيح ثماني مرات : قبل عماده ( 3 : 21 ) وقبل المباشرة برسالته ( 5 : 16 ) وقبل انتخاب الرسل ( 6 : 12 ) وقبل شهادة بطرس، باسم الرسل، بمسيحية يسوع ( 9 : 18 ) وفي مشهد التجلّي ( 9 : 28 )

إنجيل الخلاص ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 117

وعند رجوع الرسل والتلاميذ مـن بعثتهم التدريبية ( 10 : 21 ) وقبل تعليمهم الصلاة الربية (( أبانا الذي في السماوات )) ( 11 : 1 ) وصلاته لتثبيت بطرس في محنته حتى يظل قادراً على تثبيت أخوته في محنهم ( 22 : 32 ) وعلى الصليب لصالبيه ( 23 :34 ) ولنفسه قبل موته ( 23 : 46 ) ومع التلميذين على طريق عماوس قبل الأكل ( 24 : 39 ). كما يشترك مع مرقس ولوقا في ذكر صلاة المسيح قبل تكثير الخبزات ( 9 : 16 ) ورسم القربان ( 22: 17 و19 ) وفي بستان الزيتون استعداداً لاستشهاده ( 22 : 41 و44 ).

ولوقا يعطينا مثل متى صيغة للصلاة في صلاة (( أبانا )) . لكنه ينفرد عن سابقيه بذكر أناشيد الفرح والصلاة، كنشيد زكريا، ونشيد العذراء في سر التجسد، ونشيد الملائكة فوق المهد، ونشيد سمعان الشيخ عند تقدمة يسوع في الهيكل.

فالصلاة روح الدين، وهي فرض واجب ( 11 : 9 ـ 13 ). لكن المسيح لا يقيدها بقيود وحدود. إنما يعدّد لنا صفاتها التي تقرّبنا إلى الله : الإلحاح في الدعاء ( 11 : 5 ـ 8 ) حتى تنفتح القلوب المغلقة ( 18 : 1 ـ 8 )؛ وميزتها التواضع بحضرة الله كصلاة العشار المتواضع ( 18 : 9 ـ 14 )؛ وفاعلية الصلاة على قلب الله لا حدّ لها : (( بالصلاة كل شيء تنالون )) ( 17 : 6 ).

بعد حمد الله على الدوام، يجب أن نصلّي لأجلنا ولأجل كل الناس، حتى مضطهدينا، كما صلى هو لأجل صالبيه ( 6 : 28 )، خصوصاً لأجل حاجات كنيسة المسيح في رسالتها (10 : 2)، وفي ساعات التجربة ( 21 : 36 ). ونحن دائماً متأكدون أن الله لا يمنع روحه عن المصلين ( 11 : 13 ) : فالروح القدس هو روح الصلاة والخلاص ( 1 : 15 و17؛ 3: 21؛ 10 : 21؛ 11 : 13 ).

وعند لوقا ترك لنا الرب هذا الأمر : (( صلوا ولا تملّوا )) ( 21 : 36 ).

118 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 1

فذكر الله هاجس في الإنجيل بحسب لوقا : بينما لا يذكر مرقس اسم الله إلاّ 47 مرة، ومتى 52 مرة يذكره لوقا 122 مرة. إنه إنجيل الصلاة.

الشرط الثالث : الطهارة وقداسة السيرة. يفتتح الإنجيل بأمثال الطهر الذي لم ترَ الأرض له مثيلاً : المعمدان الذي يعيش (( حصوراً )) في البرية إلى ظهوره لإسرائيل. والمسيح يولد من زنبقة البشرية، من أم بتول لـم يمسسها بشر، تحبل بمعجزة وتلد (( قدوس الله )) ( 1 : 26 ـ 38 ). وهو يغبّط الأطفال الأطهار لأن لمثلهم ملكوت الله. ويطوّب مريم أخت لعازر لأنها جلست عند قدميه تسمع كلام الله، فاختارت النصيب الأفضل الذي لا يُنتزع منها ( 10 : 38 ـ 42 ). وفي رده على الصدوقيين الذين يتهكمون بجنة تنقضي بالنكاح والطعام، بمثل حياة الطهر وقداسة السيرة بحياة السماء (( حيث لا يزوجون ولا يتزوجون لأنهم يكونون مثل الملائكة )) ( 20 : 36 ). وهذه الطهارة المطلوبة لا تمنع الزواج لأن للزواج المسيحي حرمته وقداسته : فقداسة السيرة في كل الحالات الاجتماعية شرط للخلاص في ملكوت الله والمسيح. إنه إنجيل الطهارة وقداسة السيرة.

الشرط الرابع : التجرّد عن المال والأهل إذا كانا عائقين في سبيل الملكوت والخلاص. إن لوقا يشدّد أكثر من سابقيه على التجرّد شرطاً لقبول الإنجيل والحصول على الخلاص. فهو يطلب التجرّد الكامل. إن الأناجيل المؤتلفة الثلاثة كلها تنقل جواب المسيح للشاب الغني الذي يطلب أن يتبع يسوع، بأن يبيع (( ما له )) وحينئذ يتبع يسوع؛ أما لوقا فقد أضاف : (( بع كل ما لك )) ( 18 : 22 ). متى يطلب : (( اعط السائل والمحروم )) (5 : 42) ولوقا يضيف (( اعط كل سائل ومحروم )) ( 6 : 30 ). فلا يصح الاتكال على المال، بل على الله وحده ( 12 : 13 ـ 21 )؛ لأن من لا يتجرّد روحاً وقلباً من أملاكه كلها، حتى من امرأََته ومن ذاته ( 18 : 29 ) لا يستحق أن يكون تلميذاً ليسوع ( 14 : 26 و33 ). ويعلن: (( بيعوا ما تملك أيديكم وتصدّقوا ))

إنجيل الخلاص ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 119

( 12 : 32 ) لأن الطوبى للمتجردين كالمساكين : (( طوبى لكم أيها المساكين، فإن لكم ملكوت الله )) ( 6 : 20 )؛ (( فكذلك كل واحد منكم، إِن لم يزهد في جميع أمواله، لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً )) ( 14 : 33 ).

ولوقا وحده يطلب التجرّد الكامل بهذه الكلمة : (( إذا فعلتم ما أمرتم به فقولوا : نحن عبيد بطالون. لقد فعلنا ما وجب علينا! )) ( 17 : 10 ). وهذا التجرد الكامل، شرطاً للخلاص في ملكوت الله والمسيح، يحمل لوقا على الإطلاق في الأحكام، فما جاءَ نسبيّاً عند مرقس ومتى، يأتي مطلقاً عند لوقا : فالرسل (( تركوا كل شيء وتبعوا يسوع )) ( 5 : 11 ) كذلك لاوي، أي متى نفسه، (( ترك كل شيء وقام وتبعه )) ( 5 : 28 ). مرقس ومتى يقولان: (( مَن لا يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحقني )) ؛ أما لوقا فيقول: (( مَن لا يحمل صليبه كل يوم ... )) ( 9 : 23 ). إنه إنجيل التجرّد، كما هو إنجيل العدالة الاجتماعية

فالتجرد، وقداسة السيرة، والصلاة، والتوبة المبنية على الإيمان والمحبة هي شروط الخلاص في الإنجيل بحسب لوقا، إنجيل الخلاص.

120 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

بحث ثان

إنجيل (( المخلص )) ـ أسماء المسيح الحسنى

لقد أوجـز الإنجيل بحسب لوقا أوصـاف المخلص، وأسـماءَه الحسنى بقولـه أنـه (( المخلص، المسيح الرب )) ( 2 : 11 ). وهو يصوّر بهذه الكلمة الرائعة شخصية يسوع أفضل تصوير.

في البيئة الإسرائيلية يقولون : (( المسيح ابن الله الحي )) ( متى 16 : 16 ) فترجمها لوقا إلى بيئته الهلنستية : (( المخلص، المسيح الرب )) . فصفة المسيح الأولى في نظـره أنه (( المخلص ))؛ وتعريفه أنه (( المسيح الرب ))، الذي جمع فيه التعريف الإسرائيلي، (( المسيح )) إلى التعريف الهلنستي، (( الرب )) . فاسم (( المسيح )) على الإطلاق، في البيئة التي دُوّن الإنجيل لها، كان يرداف تعبير (( الرب )) . وبهذه الصفة الجامعة المانعة، استجمع لوقا في مطلع الإنجيل أسماء المسيح الحسنى.

1ـ يسوع

كان اسم يشوع ( بالعبرية : ياشوع ) شائعاً عند بني إسرائيل منذ حملة خليفة موسى، يشوع بن نون، الذي خلد اسمه باحتلال أرض الميعاد.

لكن اسم ابن مريم نزل من السماء، فقد سمي يسوع بأمر من الله. قال الملاك لأمه : وتسمينه يسوع ( 1 : 31 ). ثم قال لحاضن الأم وابنها، يوسف

أسماء المسيح الحسنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 121

الصديق؛ (( وتسمّيه يسوع، لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم )) ( متى 1 : 21 ). فالسماء تسميه يسوع رمزاً إلى صفته الشخصية وإلى رسالته : خلاص الشعب لا الخلاص البشري القومي، بل الخلاص الـروحي الإلهي (( من خطاياهم )) . وهو تفسير حرفي : فاسم (( ياشوع )) يعني بالعبرية (( الله يخلص )) .

والملاك يصف الابن لأمه وصفاً أشمل : (( وتسميته يسوع : لأنه يكون عظيماً، ويكون اسمه (( ابن العلي )) . وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب مدى الدهر، ولا نهاية لملكه )) ( 1 : 31 ـ 33 ).

فيسوع، منذ البشارة به، تصفه السماء : ابن داود، وابن العلي. ويدل الملاك على لقاء الصفتين في يسوع من معجزة ولادته ومن إعجاز اسمه؛ فقال للعذراء : (( الروح القدس يأتي عليك، وقدرة العلي تظللك؛ من أجل ذلك، فالقدوس المولود منك يكون اسمه : ابن الله )) ( لوقا 1 : 35 ). فيسوع المولود من مريم هو (( القدوس )) ـ والقدوس صفة التنزيه في لغة الكتاب. فالملاك يصفه بصفة الله، ويسميه (( ابن الله )) . وليست التسمية مجازية، لأن صفة التنزيه، (( القدوس )) ، تصف حقيقتها.

فيسوع هو (( ابن مريم )) و (( ابن الله )) معاً. ففي بشرى السماء سر المسيح كله.

فاسم (( يسوع )) منزل، وهو يدل على منزلة حامله، صلة الوصل بين السماء والأرض، فهو يستجمع التاريخ والبشرية. وما نشيد بولس لاسم (( يسوع )) سوى صدى البشرى السماوية به :

(( لقـد رفعـه الله عالياً

 

وأنعم عليه بالاسم الأعظم

لكي تجثو لاسم يسوع كل ركبة

ممَّا في السماوات وعلى الأرض وتحت الأرض

122 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

ويشهد كل لسان بأن يسوع المسيح

 

هـو الرب في مجـد الله الآب ))

   

( في 2 : 10 ـ 11 )

2 ـ المسيح

لقب (( المسيح )) صفة لازمة ليسوع في العهد الجديد كله. لكنّ لوقا يقلّل من استعمال اسم (( المسيح )) العبراني في البيئة الهلنستية، ولا يذكره على لسان يسوع إلا في محاكمته أمام السنهدرين، مجلس القضاء اليهودي الأعلى ( 22 : 67 ).

وفي البيئة الهلنستية انتقل تعبير (( المسيح )) من الصفة إلى الموصوف فصار اسم علم ليسوع. لذلك تسمى أتباع يسوع باسمه (( مسيحيين )) ( أع 10 : 26 ).

واسم (( المسيح )) ، في لغة لوقا، يحمل معنى الربوبية بحد ذاته. فمنذ مولده يعلن الملائكة للرعاة : (( اليوم وُلد لكم المخلص، المسيح الرب )) ( 2 : 11 ). فالمسيح هو في ذاته (( الرب )) ، وفي رسالته (( المخلص )) . بهذا المعنى أيضاً يرد في وحي السماء لسمعان الشيخ (( أنه لن يرى الموت حتى يعاين مسيح الرب )) ( 2 : 26 ) وبهذا المعنى أيضاً يأتي في شهادة بطرس، باسم الرسل، وبوحي من السماء : (( أنت مسيح الله )) ( 9 : 20 ).

ويظهر ذلك جلياً في محكمة يسوع : (( وقالوا له : إن كنت أنت المسيح فقله لنا! فقال لهم : إن قلت لكم فلا تصدقون، وإن سألتكم فلا تجيبون. ولكن من الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله. فقالوا جميعاً : أفأنت إذن ابن الله ؟ فقال لهم : أنتم قلتم! أنا هو! فقالوا : ما حاجتنا بعد إلى شهود ؟ ها قد سمعتم من فمه )) ( لوقا 22 : 66 ـ 71 ). ففي الموقف الحاسم

أسماء المسيح الحسنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 123

يجمع يسوع بين صفة المسيح وصفة ابن البشر وصفة ابن الله. ويفهم مجلس القضاء أنه يعترف بإلهيته، فيحكم عليه بالإعدام. وقـد جمع لوقا في جواب المسيح ما جـاء عند متى : (( أنت قلت )) أي الجواب الشرعي؛ وما جاء عند مرقس : (( أنا هو )) أي الجواب الفطري الشخصي.

فاسم (( المسيح )) في لغة لوقا مرادف لاسم (( الرب )) ، ولاسم (( ابن الله )) . لذلك أضاف متى في شهادة بطرس : (( أنت المسيح، ابن الله الحي )) تفسيراً لما اقتصر عليه مرقس ولوقا، لا زيادةً من عنده كما توهم بعضهم، فاقتصار مرقس بالجوب على (( أنت المسيح )) ، واقتصار لوقا على (( أنت مسيح الله )) ليس انتقاصاً من شخصية المسيح، بل اكتفاء بما يدل عليه اسم (( المسيح )) في البيئة الهلنستية، بعد الدعوة الرسولية، من معنى الربوبية والإلهية. فلوقا يأخذ اسم (( المسيح )) على إطلاقه، مرادفاً (( للرب )) و (( ابن الله )) .

هذا هو (( المخلص )) في الإنجيل بحسب لوقا.

 

3 ـ الرب

ينفرد لوقا عن سائر الأناجيل بتسمية يسوع (( الرب )) في الإنجيل كله، حتى في سرد قصص السيرة. فكمـا صار (( المسيح )) اسم علم ليسوع، صار (( الرب )) اسم علم له : فهو (( الرب )) ، منذ أعلن بطرس في بلاغ الرسل الأول للشعب : (( فليعلم إذن يقيناً جميع بني إسرائيل أن الله قد جعل يسوع، هذا الذي صلبتموه أنتم، رباً ومسيحاً )) ( أع 2 : 36 ). فالمرادفة صريحة وقد أخذ بها لوقا في الإنجيل والأعمال فهو شاهد على العادة الرسولية، لا مبتدع لها. نلاحظ أن التعبير (( المسيح الرب )) يرد في اليونانية بدون آل التعريف دليلاً على العلمية.

وهذه الربوبية ليست كتربيب الآلهة الوثنية، أو القياصرة المتألهين. بل

124 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

هي ربوبية الإلـه، بحسب تعبير الترجمة السبعينية للكتـاب، التي ترجمت (( يهـوه )) بتعبير (( الرب )) . فإسناد (( الرب )) ليسوع المسيح اسم علم له هو شهادة متواترة بإلهيته.

واقتران (( المسيح الرب )) ( 2 : 11 ) شهادة أخرى على أن الاسمين لهما في لغة لوقا معنى الألوهية.

قد لا يكون دائماً لكلمة (( رب )) عند مرقس ومتى المعنى السامي الذي لها عند لوقا. فقد تكون عندهما أحياناً ترجمة (( رابي )) العبرانية أي (( يا معلم )) ، كما شاركهما فيها لوقا مرة واحدة ( لوقا 19 : 31 قابل متى 21 : 3، مرقس 11 : 3 ). بينما يعطيها لوقا معناها الإلهي خمس عشرة مرة ( 7 : 13 و19؛ 10 : 1 و3 و9 و41؛ 11 : 39؛ 12 : 42؛ 13 : 15؛ 16 : 8؛ 17 : 5؛ 18 : 6؛ 22 : 61؛ 24 : 3 و43 )

ويمتاز لوقا على مرقس ومتى، وحتى على يوحنا نفسه، باستعمال اسم (( الرب )) اسم علم للمسيح : فقد سمّي (( الرب )) في ( 1 : 76؛ 3 : 4؛ 5 : 8؛ 7 : 27؛ 13 : 15؛ 17 : 5؛ 19 : 31 و34؛ 24 : 3 و34 ). وقيل عنه (( ربي )) ( 1 : 43 ). ويُنادى : (( يا رب )) في (5 : 8؛ 6 : 46؛ 9 : 54؛ 10 : 17 و40؛ 11 : 1؛ 19 : 8؛ 22 : 49؛ 23 : 42). وقيل عنه في نبؤة داود وفي استشهاد المسيح بها : (( ربّ داود )) ( 20 : 42 و44 ). وقال هو نفسه أنه (( رب السبت )) ( 6 : 5 ).

وفي قول المسيح في مطلع دعوته أنه (( ربّ السبت )) ، وفي ختام دعوته أنه (( ابن داود وربه )) معاً، السند الصحيح لأسلوب لوقا في استخدام تعبير (( الرب )) اسم علم للمسيح، مع تحفظ يسوع حتى في الإنجيل بحسب لوقا في إعلان سرّه ( 4 : 35 و41؛ 5 : 14؛ 8 : 56؛ 9 : 21 ). لكن هذا التحفظ يتضاءَل ( 8 : 26 ) حتى الإعلان الحاسم في الأيام الأخيرة الحاسمة أمام الجمهور

أسماء المسيح الحسنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 125

( 20 : 42، 44 ) وأمام مجلس القضاء الأعلى ( 22 : 67 ـ 71 ).

فالرب يسوع هو المخلص الإلهي في الإنجيل بحسب لوقا.

 

4 ـ الملك

المسيح في الكتاب والإنجيل كله هو (( الملك )) بحسبه ونسبه البشري ذاته لأنه (( ابن داود )) . وتعبير (( ابن داود )) في لغة الشعب يعني أنه (( المسيح الملك )) .

إن يسوع تحفظ في حمل اسم (( المسيح )) أو مرادفه الشعبي (( الملك )) بسبب رواسبهما القومية والسياسية والحربية في ضمير الشعب، وفي غيرة السلطان الروماني. لكن السلطات اليهودية التي حكمت عليه بالإعدام لإعلان إلهيته في محاكمته، طلبت إعدامه من الوالي الروماني باعتباره (( المسيح الملك )) ؛ وعلى هذا الأساس حكم بيلاطس بتنفيذ الإعدام. هذا في الإنجيل بأحرفه الأربعة كلها.

لكن الإنجيل بحسب لوقا يمتاز بأنه إنجيل (( المسيح الملك )) .

منذ البشارة يعلن الملاك صفة المسيح الملكية بحسب نسبه وحسبه : (( ها أنت تحبلين وتلدين ابناً وتسمينه : يسوع. إنه يكون عظيماً. ويكون اسمه : (( ابن العلي )) . وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب مدى (( الدهر ولا نهاية لملكه )) ( 1 : 31 ـ 33 ). فملكوت المسيح أرضي وسماوي معاً، بحسب نسبه (( ابن داود )) ( 1 : 32 ) و (( ابن العلي )) . إنه ملك السماء والأرض. تلك هي بشرى السماء للأرض.

ويوحنا المعمدان يصفه باستعارة جميلة أنه الملك، مالك بيدر العالم : (( يأتي

126 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

بعدي من هو أفضل مني ... إن بيده المذرى لينقي بيدره، ويجمع القمح إلى أهرائه. أما التين فيحرقه بنار لا تنطفئ )) ( 3 : 17 )

ولوقا يعطي نسبه الملكي الداودي الإبراهيمي؛ ونسبه الإلهي، فهو أخيراً : (( ابن آدم، ابن الله )) ( 3 : 38 ).

ويسوع يقارب بينه وبين داود : فكما استباح داود (( أن يدخل بيت الله ويأخذ خبز التقدمة ... وهو لا يحل أكله إلاّ للكهنة وحدهم )) ، يسوع يبيح لتلاميذه قطف السنبل يوم السبت (( لأن ابن البشر هو رب السبت )) ( 6 : 1 ـ 5 ). فهو أفضل من أبيه داود في السلطان الملكي : فملكوته إلهي، إنه (( رب السبت )) .

سـلطان المسيح الملكي الإلهي يشمل الطبيعة نفسها. بعد تسكين الريح وهيجان البحر (( قال بعضهم لبعض : من تُرى هذا ؟ فإنه يأمر الرياح والأمواج فتطيعه! )) ( 8 : 25 ).

وفي معجزة شفاء مجنون جرش يتصرف بأملاك القوم، وبسلطانه على الشياطين الذين استأذنوه (( بالدخول في الخنازير، فأَذن لهم )) فدخلوها وأغرقوها في البحيرة ( 8 : 26 ـ 37 ) كأنه ملك الأنس و (( الجن )) .

ويسوع هو ملك ملكوت الله يعطيه لتلاميذه : (( أيها القطيع الصغير، لا تخف فإنه قد ارتضى أبوكم أن يعطيكم الملكوت! )) ( 12 : 32 ).

لكن يسوع رفض أن يظهر بمظهر الملك مدة رسالته حتى الأسبوع الأخير من حياته. حينئذٍ تتميماً للنبوة، دخل أورشليم دخول المسيح الملك. وجعل جمهور التلاميذ ومعهم سائر الشعب (( يقولون : مبارك الملك الآتي باسم الرب )) ( 19 : 38 ). ينادون به ملكاً ويرضى بذلك. فاحتج بعض الفريسيين فقال لهم : (( إن سكت هؤلاء صرخت الحجارة )) (19 : 40).

أسماء المسيح الحسنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 127

وفي مثل الكرامين القتلة ( 20 : 9 ـ 19 ) يمثل إسرائيل بكرم الله، ورؤساء إسرائيل بالكرامين القتلة، ويقدم نفسه ابن رب الكرم ووارثه، بينما الأنبياء أجمعون عبيد الله واجراؤه في كرمه. فهو ملك إسرائيل، ومالكه بحق الوراثة عن الله أبيه.

إنه ملك إسرائيل القديم، وملك إسرائيل الجديد أي المسيحيين، وفيه بصفته ملكاً يعطي الحكم لرسله الاثني عشر؛ وملك الجنة، ملكوت السماء! وملك يوم الدين : (( وأنا أعدّ لكم الملكوت كما أعده لي أبي، لكي تأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على عروش لتحكموا أسباط إسرائيل الاثني عشر )) ( 22 : 29 ـ 30 )

إنه ملك التاريخ، وملك يوم الدين، في جلال الله نفسه : (( عندئذٍ يُشاهد ابن البشر آتياً على السحاب، في جلال القدرة والمجد ... فإذا ما رأيتم أن هذا واقع فاعلموا أن ملكوت الله قد حضر! ... والسماء والأرض تزولان وأما كلامي فلا يزول أبداً )) (21 : 27 و31 و33) .. من يكون كلامه أثبت من السماء والأرض يكون هو ملك السماء والأرض.

كل هذه الإشارات والتصاريح أقنعت اليهود أنه المسيح الملك. لكن زعماءهم رفضوه بسبب مآربهم، (( ليكون الميراث لهم )) ، (( ونهضوا كلهم معاً ومضوا به إلى بيلاطس، وطفقوا يشكونه. قالوا : لقد وجدنا هذا الرجل يثير أمتنا! ويمنع أداء الجزية لقيصر! ويدعي أنه المسيح الملك! )) ( 23 : 1 ـ 2 ).

وبختام التحقيق المتردد الفاشل أسلم بيلاطس يسوع للإعدام صلباً. وعلق على صليبه علة إعدامه : (( هذا هو ملك اليهود )) ! ( 23 : 38 ).

وفي مدة المحاكمة، وعلى الصليب كان يسوع عرضة لاستهزاء القوم والجند من صفته (( الملك )) . الجند يقولون : (( إن كنت أنت ملك اليهود فنج نفسك )) ( 23 : 37 ). فأهل الكتاب والأميّون يشهدون أنه (( المسيح الملك )) .

128 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

والمصلوبان مع يسوع اشتركا في الهزء والسخرية. لكن مشهد المسيح في جلال مجده على الصليب حمل أحد اللصين على الإيمان به والتوبة، فصاح : (( يا يسوع اذكرني متى جئت في ملكوتك! فقال له : الحق أقول لك : إنك اليوم تكون معي في الفردوس! )) ( 23 : 42 ـ 43 ). فيسوع الناصري المصلوب كملك اليهود يظهر ملك الفردوس في الصلب والإعدام، ويعطيه لمن يشاء. إنه أقوى من الموت والحياة، وملك الأرض والسماء، والزمن والخلود.

فالإنجيل بحسب لوقا هو إنجيل الملكوت، وإنجيل (( المسيح الملك )) .

فهو (( المخلص، المسيح الملك )) ( 23 : 2 ) ومنذ ولادته حتى استشهاده.

 

5 ـ ابن الله

إن الإنجيل بحسب لوقا يسمي يسوع المسيح (( ابن الله )) . وهذا هو الاسم الأحسن ليسوع بين أسمائه الحسنى. وهو يأخذه بالمعنى الحقيقي، لا بالمعنى المجازي، كما يظهر من محاكمته ( 22 : 70 ).

وهذا حدث تاريخي عظيم في تاريخ النبوة والكتاب، عند بني إسرائيل أهل التوحيد الخالص. فلا عهد للكتاب بتسمية المسيح الموعود (( ابن الله )) . وهذا واقع كتابي مشهود. أجل قد يسمي الكتاب بعض المخلوقين أبناء الله، لكن على سبيل المجاز الظاهر، لا على سبيل الحقيقة والواقع. والإنجيل بحسب لوقا يسمي المسيح يسوع (( ابن الله )) في كل عهود السيرة والدعوة.

منذ البشارة يعلن الملاك لأمه : (( اسمه ابن العلي )) ( 1 : 32 )، (( اسمه ابن الله )) (1 : 35). لا يوهم الملاك العذراء في حقيقة ابنها، وهو ينقل لها كلام الله! ولا يكلمها كلاماً مجازياً تتيه فيه! فهو (( القدوس )) المولود منها ( 1 : 35 )، والتعبير من صفات الله في لغة الكتاب الدالة على تنزيهه.

أسماء المسيح الحسنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 129

ولوقا في نسب يسوع يرتقي إلى آدم، فيسوع هو (( ابن آدم، ابن الله )) ( 3 : 38 ). وقرائن الإنجيل كلها تدل على أنه يأخذ الاسم (( ابن الله )) بالمعنى المطلق : فكمـا هو (( ابن آدم )) هو أيضاً (( ابن الله )) .

وفي العماد يسميه الله الآب نفسه : (( أنت ابني الحبيب، بك سررت )) ( 3 : 22 ). وقرائن الحادث تدل على أنه محمول على الحقيقة : (( وفيما كان يصلي انفتحت السماء! وانحدر عليه الروح القدس في صورة جسمية، مثل حمامة! وانطلق صوت من السماء يقول : (( أنت ابني الحبيب! بك سررت! )) . فانفتاح السماء ونزول روح القدس عليه، وصوت الله المنادي، وسرور الله الآب به، أربع قرائن تؤيد حقيقة الحال والواقع في التسمية : (( أنت ابني الحبيب )) .

بعد إعلان الله في الأردن، واختبار إبليس حقيقة الإعلان في التجربة بالبرية مدة أربعين يوماً، كان الشيطان في مسكون أولَ مَن أعلن حقيقة بنوة يسوع الإلهية : (( آه ما لنا ولك، يا يسوع الناصريّ ؟ أوَجئت لتهلكنا! لقد عرفتُ من أنت : إنك قدوس الله )) ! (4 : 34)؛ (( كانت الشياطين تخرج من الكثيرين وهي تصرخ قائلة : أنت ابن الله )) ( 4 : 41 ). والقرائن تدل أيضاً على حقيقة الاسم : الشيطان يرتجف أمام يسوع، ولا يفزع إبليس من مخلوق؛ وسلطان يسوع الذي يصرع المسكون والشيطان فيه، والشيطان يمتثل في الحال لأمر يسوع : (( صه! واخرج منه. فصرعه الشيطان في الوسط وخرج منه ولم يؤذِهِ في شيء )) ؛ والذعر الذي استحوذ على الجميع فطفقوا يقولون : (( إنه يأمر الأرواح النجسة (أي الشياطين) بسلطان وقدرة، فتخرج! )) والإنجيلي يستنتج : (( فكان ينتهرها ولا يدعها تتكلَّم لأنها كانت تعلم أنه المسيح )) ( 4 : 41 )، وكلمة (( المسيح )) في لغة لوقا مرادف (( لابن الله )) كما رأينا.

130 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

ودليل آخر على أن الشياطين تأخذ اسم (( ابن الله )) على حقيقته المطلقة، أن الشيطان في المسكون (( لما أبصر يسوع أخذ يصيح! وخرّ عند قدميه! وقال بصوت جهير : يا يسوع ابن الله العلي، أبتهل إليك ألاّ تعذبني! فإن يسوع كان يأمر الروح النجس أن يخـرج من الرجل )) في مدينة جرش ( 8 : 28 ـ 29 ). إن الشيطان يفزع من يسوع! ويسجد ليسوع! ويبتهل إلى يسوع! ويمتثل لأمر يسوع! وهذه دلائل على أنه يعني (( ابن الله )) على الإطلاق، لا على المجاز، من مرادفته بتسميته : (( قدوس الله )) ( 4 : 34 ) وهي صفة التنزيه في لغة الكتاب والإنجيل.

ويتدخل الله مرة ثانية في حادث التجلّي الذي فيه شعّ لاهوت المسيح من خلال بشريته، ويحضر على (( غمامة منيرة )) ـ رمز حضور الله في الكتاب ـ (( وانطلق صوت من الغمامة يقول : هذا هو ابني! المصطفى عندي! له فاسمعوا )) ( 9 : 28 ـ 38 ). فالقرائن هنا أيضاً تدل على استعمال الاسم الكريم على الحقيقة والإطلاق : حال يسوع المستنير بنور الله ينبع من ذاته؛ حضور موسى سيد الشريعة، وإيليا سيد النبوة يشهدان له؛ تظليل المشهد بالغمامة المنيرة، رمز حضور الله في الكتاب؛ وصوت الله الشاهد من الغمام المنير، وصراحة التعبير : (( هذا هو ابني )) ؛ وصفة (( المصطفى )) تميزه عن أبناء الله مجازاً.

وفي الجدال الحاسم الأخير في الهيكل، يسوع يعلن للجمهور، في مثل الكرامين القتلة، على لسان الله رب الكرم : (( أرسل ابني الحبيب، لعلهم يهابونه! )) ، فلما رآه الكرامون ائتمروا في ما بينهم قائلين : ها هو ذا الوارث! فلنقتله ليصير الميراث لنا )) (13 : 9 ـ 13). فالمقابلة بين الأنبياء، عبيد الله وبين يسوع الابن الحبيب، وريث كرم الرب، برهان على أن الاسم (( ابني الحبيب )) مأخوذ على حقيقته.

ومحاكمة يسوع ترفع كل شك في حقيقة معنى (( ابن الله )) . فشل التحقيق

أسماء المسيح الحسنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 131

أمام مجلس القضاء الأعلى، السنهدرين، لتجريم يسوع بالكفر والحكم عليه بالإعدام : (( فقالوا له : إِن كنت أنت المسيح فقله لنا ؟ فقال لهم : إن قلت لكم فلا تصدقون، وإن سألتكم فلا تجيبون ... إنما منذ الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله )) . فيسوع يجيب تلميحاً ثم تصريحاً أنه المسيح، بل أعظم مما يظنون : فهذا المسيح المشهود أعظم من المسيح الموعود، واستشهد بنبؤة دانيال الذي يسميه (( ابن البشر الآتي على سحاب السماء )) ، رمز عرش الله ـ ولذلك اتخذ يسوع لنفسه كناية (( ابن البشر )) لأنها أدلّ على شخصيته من لقب المسيح ـ ، وبنبؤة داود ( مز 109 : 1 ) الذي يسميه (( ربّي )) ويجلسه عن يمين (( القدرة )) أي الله. فالأسماء : (( ابن البشر )) ، (( ربي )) ! والحضور على سحاب السماء، والجلوس عن يمين القدرة؛ كلها دلائل على أن يسوع هو المسيح الإله. هكذا فهم الأحبار القضاة، (( فقالوا جميعهم : أفأنت إذن ابن الله ؟ فقال لهم : أنتم تقولون! أنا هو! )) ( 22 : 67 ـ 71 ). فحكموا عليه بالإعدام لتصريحه أمام القضاء الأعلى أنه (( ابن الله )) بما لا يقبل شكاً ولا تأويلاً. وجوابه : (( أنتم تقولون )) ، كما عند متى أيضاً، هو جواب القانون بالإيجاب؛ وقوله الثاني : (( أنا هو )) كما عند مرقس أيضاً، هو جواب البديهة والفطرة. وقد جمع لوقا في صيغة جامعة القولين معاً، في تحقيقه التاريخي. فشهد يسوع أنه (( ابن الله )) في الحقيقة والواقع، وأيّد شهادته بالنبوَّة والزبور، واستشهد على الصليب لصحة شهادته أنه (( ابن الله )) . فإعدام المسيح لشهادته أنه (( ابن الله )) ، هذا الموقف الحاسم يحسم كل جدل في معنى الاسم الكريم في الإنجيل : لوقا يستعمله بالمعنى الحقيقي، لا بالمعنى المجازي.

 

وَهَمَ كثيرون، من بعض تعابير متشابهة، أن لوقا استخدم لقب ابن الله مجازاً، لا على الحقيقة والواقع.

132 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

قالوا : إِنه يسمّي أهل الخير (( أبناء العلي )) ( 6 : 35 ) ـ المعنى المجازي هنا ظاهر من القرائن، كما أن المعنى الحقيقي في إسناد الاسم ليسوع ظاهر من النصوص ومن قرائنها.

وقالوا : إن لوقا يفسّر (( ابن الله )) على لسان الشياطين ( 4 : 3 و9؛ 4 : 41؛ 8 : 29 ) بالمسيح : (( وكانت الشياطين تخرج من الكثيرين وهي تصرخ قائلة : أنت ابن الله! فكان ينتهرها ولا يدعها تتكلَّم لأنها كانت تعلم أنه المسيح )) ( 4 : 41 ). فهذا التفسير يعني أن تعبير (( ابن الله )) مرادف مجازي لاسم المسيح ـ وقد فاتهم أن قرائن هذا النص وسائر النصوص، خصوصاً الموقف الحاسم في محاكمة يسوع والحكم عليه بالإعـدام لاستنتاجهم : (( أفأنت إذن ابن الله ـ أنتم تقولون! أنا هو )) ! ( 23 : 70 )، كلها شواهد قائمة على صحة المعنى الحقيقي، لا المجازي؛ وأن لوقا يأخذ اسم (( المسيح )) نفسه بمعناه الإلهي، لا المجازي؛ فهو يرادف بين (( المسيح )) و (( ابن الله )) على الحقيقة، لا على المجاز.

وقالوا : قد اقتصر لوقا شهادة بطرس في يسوع على قوله : (( أنت مسيح الله )) ( 9 : 20 ) كما اقتصرها مرقس على قوله : (( أنت المسيح )) ( 8 : 29 ) بينما زاد متى : (( أنت المسيح، ابن الله الحي )) ( 16 : 16 ). فهذه الزيادة في متى اليوناني دليل على تأليه المسيح الصاعد في البيئة الهلنستية ـ وفاتهم أن زيادة متى (( ابن الله الحي )) هي زيادة تفسيرية لمعنى (( المسيح )) الكامل في لغة مرقس وخصوصاً في لغة لوقا. فاسم (( المسيح )) في اللغة المسيحية منذ بلاغ الرسل الأول : (( قد جعل يسوع، هذا الذي صلبتموه أنتم، رباً ومسيحاً )) (أع 2 : 36) قد صار اسم علم ليسوع، لذلك يرد في العهد الجديد بدون (( أل )) التعريف! وهو (( المسيح الرب )) فربوبية المسيح في لغتهم دليل إلهيته : وفي قصص الإنجيل بحسب لوقا يفضل استعمال (( الرب )) على (( المسيح )) ويرادف بين (( يسوع )) وبين (( الرب )) . وهذه ميزة لوقا كما رأينا.

أسماء المسيح الحسنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 133

فأصروا وقالوا : إِن ربوبية المسيح وإلهيته قد خلقها بولس في البيئة الهلنستية! وتابعه تلميذه لوقا، فصبغ قصصه بها، كما يظهر من زياداته على مرقس. وقد زاد عليه ست معجزات ليرفع شخصية المسيح إلى رتبة الألوهية : الصيد المعجز في البحر (5 : 1 ـ 11)، إحياء ابن أرملة نائين ( 7 : 11 ـ 17 )، شفاء المرأة المنحنية بكلمة ( 13 : 10 ـ 17 )، شفاء المستسقى ( 14 : 1 ـ 6 )، شفاء البرص العشرة (17 : 12 ـ 19 )، شفاء أذن خادم الحبر الأعظم في بستان الزيتون ( 22 : 51 ). ـ وفاتهم أن بولس وسائر رسل المسيح هم يهود أهل التوحيد الخالص، وما كانوا ليؤمنوا بإلهية ناصري مصلوب لو لم يتيقنوا من سيرته ودعوته أنه ابن الله. ودليلهم من زيادات لوقا، من السهل الجواب عليه أنه أغفل معجزات عظام يوردها مرقس أو متى، مثل السير على الماء ( مر 6 : 48 )، وشفاء ابنة الكنعانية ( مر 7 : 30 )، وشفاء أخرس ( مر 7 : 33 )، وشفاء أعمى بيت صيدا ( مر 8 : 22 ـ 26 ). إن حياة المسيح حافلة بالمعجزات والكلمات الخالدات، ينقل منها كل إنجيلي ما ينسجم مع مخططه في عرض الإنجيل على بيئته.

وقالوا ملحّين : إن لوقا في سبيل تأليه يسوع يهمل مظاهر بشريته ليرفع من شخصيتة الإلهية. فلا ينقل مظاهر الغضب كما فعل مرقس ( مر 1 : 43 = لو 5 : 13؛ مر 3 : 5 = لو 6 : 10 )؛ ولا مظاهر الإشمئزاز ( مر 10 : 14 = لو 18 : 16 ). كما أن لوقا يسقط مظاهر الحنان البشرية ( مر 9 : 36؛ 10 : 16؛ 9 : 47 ) لئلا تبرز بشرية يسوع على حساب إلهيته. ـ وفاتهم أن الإنجيل بحسب لوقا هو إنجيل إنسانية يسوع التي يعطيها لوقا مثالاً للعالم الإغريقي الهلنستي. فيذكر ما لا يذكر مرقس من ولادته ومن تنشئته في الناصرة كسائر الناس؛ ويؤكد لوقا على بشرية يسوع في سيرته وفي استشهاده : وحده يذكر أن ملاكاً شجع يسوع في بستان الزيتون على قبول الاستشهاد ( 22 : 43 ). فيسوع في الإنجيل بحسب لوقا هو (( ابن العذراء ))

134 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

كما هو (( ابن الله )) ؛ فلا تحجب بشريته إلهيته ولا تحجب إلهيته بشريته : إنه (( الابن )) على الإطلاق، كما أن الله هو (( الآب )) على الإطلاق، في المعرفة الواحدة المتبادلة بينهما ( لو 10: 22 )؛ ومن اشترك في صفة من صفات الذات اشترك في الذات عينها.

فما أقوالهم سوى شبهات لا تقوم أمام حقيقة الإنجيل : فيسوع ابن مريم هو أيضاً ابن الله. هذا هو المخلص في الإنجيل بحسب لوقا.

 

6 ـ ابن البشر

إن الأناجيل المؤتلفة الثلاثة تجتمع على الشـهادة أن يسوع كان يسمّي نفسه (( ابن البشر )) .

وكما انفرد لوقا في قصصه بتسميته يسوع (( الرب )) ، امتاز عن سابقيه وعن يوحنا بكثرة ترداد (( ابن البشر )) : فهو يستعمل هذا اللقب 84 مرة، بينما مرقس يستعمله 14 مرة، ومتى 31، ويوحنا 12. وذلك لأن لوقا يرى في لقب (( ابن البشر )) مرادفاً للقب (( الرب )) .

يسوع نفسه فضّل استخدام لقب (( ابن البشر )) المتواتر في الإنجيل بأحرفه الأربعة، على لقب (( المسيح )) لسببين : أولاً لأنه لا يثير رواسب قومية أو سياسة مثل اسم المسيح؛ ثانياً لأنه في مصدره يدل على شخصية يسوع أكثر من لقب (( المسيح )) .

مصدر لقب (( ابن البشر )) هو عند دانيال، آخر أنبياء الكتاب. وابن البشر، عند دانيال، شخص سماوي ينزل على (( سحاب السماء )) ليؤسس على الأرض (( ملكوت الله )) على أكتاف ممالك العالم. ويسوع يسمي نفسه (( ابن

أسماء المسيح الحسنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 135

البشر )) ويدعو (( لملكوت الله )) ، ليشير إلى حقيقة شخصيته السماوية، وإلى سر رسالته، كما سنرى في البحث الآتي.

فابن البشر هو سيد الشريعة التي كانوا يؤلهونها لقدمها مع القديم ( 6 : 7 ). (( وابن البشر هو رب السبت )) ( 6 : 5 )؛ وابن البشر يغفر الخطايا مثل الله ( 5 : 24 )؛ وابن البشر يحيي الموتى بأمره ( 7 : 14 )؛ وابن البشر يعلم الغيب ( 7 : 40؛ 9 : 47؛ 11 : 17 )؛ وابن البشر يعطي تلاميذه السلطان على إخراج الشياطين وشفاء المرضى ( 9 : 1 )؛ وابن البشر هو ملك يوم الدين كما يقول في المثل : (( أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي )) ( 19 : 12 ـ 27 ). وفي محاكمته الدينية يستشهد يسوع على إعلانه أنه (( ابن الله )) بنبؤة دانيال في (( ابن البشر الآتي على سحاب السماء )) ( لوقا 22 : 70 ).

ويجمع يسوع نبؤات العهد القديم كلها في لقب (( ابن البشر )) ويعلن تحقيقها فيه، حتى قتله : (( ثم انفرد بالاثني عشر وقال لهم : ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وجميع ما كتبه الأنبياء عن ابن البشر سيتم )) ( 18 : 31 ).

فالسيد المسيح استخدم لقب (( ابن البشر )) اسماً له، كما ورد عند دانيال، لا للتأكيد على بشريته الظاهرة للعيان فحسب، بل ليُوري به عن حقيقة شخصيته السماوية. فاسم (( ابن البشر )) تورية مرادفة لاسم (( ابن الله )) ، واسم (( الرب )) . هذا هو المخلص بحسب لوقا.

 

7 ـ المخلص

بعد صفة (( الرب )) ، إن صفة (( المخلص )) هي الميزة الثانية في شهادة الإنجيل بحسب لوقا للسيد المسيح.

136 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

وصفة (( المخلص )) هي السمة الغالبة على شخصية يسوع عند لوقا. فالمسيح عنده هو (( الرب المخلص )) .

كان تعبير (( المخلص )) شائعاً في العالم الهلنستي بعد الاسكندر. وكثيرون من ورثاء الإسكندر في مصر وسوريا تسمو باسم مخلص. فكانت البيئة الهلنستية فرصة مثلى لتقديم المسيح يسوع أنه (( المخلص )) الأوحد. وهذا ما فعله لوقا لإيلافهم. فالدعوة المسيحية عنده هي دعوة الخلاص.

لكن هذا العرض للمسيحية في البيئة الهلنستية لم يكن خلقاً من لوقا، إنما هو ينبع من دعوة المسيح نفسها، ومن تراث العهد القديم. ففي الكتاب، كما رأينا، (( يهوه )) هو المخلص. والله قد أعطى هذا الدور لمسيحه.

1) اسم (( يسوع )) نفسه يعني المخلص. وقد أوحت به السماء دليلاً على شخصيته وعلى رسالته. قال الملاك لمريم : (( وتسمينه يسوع )) ( لوقا 1 : 31 )؛ وليوسف حاضن مريم: (( وتسميه يسوع، لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم )) ( متى 1 : 21 ). وهذا التلاقي بين متى ولوقا في صفة المخلص للمسيح برهان أن التعليم من المسيح نفسه، وان تميـّز لوقا بعرض السيرة والدعوة بأسلوب المخلص والخلاص. فصار الإنجيل (( عِلَم الخلاص بمغفرة الخطايا )) ( 1 : 77 ).

عنـد مولـد المسيح تبشر السماء الأرض بالبشرى العظيمة. قال الملائكة للرعـاة : (( اليوم، في مدينة داود، ولد لأجلكم المخلص، وهو المسيح الرب )) ( 2 : 11 ). فالمخلص الحقيقي للبشرية هو (( المسيح الرب )) . فالمخلص الموعود يظهر الرب المشهود.

2) ويفتتح الإنجيلي رسالة المسيح بذكر نبؤة أشعيا ( 40 : 3 ـ 5 ) التي تتم فيه : لقد ظهر يسوع يدعو بالإنجيل لكي (( يعاين كل بشر خلاص الله )) ( 3 : 6 ). فخلاص الله يتم على يد يسوع، والإنجيل هو دعوة الخلاص.

أسماء المسيح الحسنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 137

ويسوع يدعو لاتّباعه، (( لأن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها؛ ومن أهلك نفسه، من أجلي، فإنه يخلصها )) ( 9 : 24 ). والخلاص المسيحي بالإيمان بالمسيح، لذلك يحاول إبليس إبعاد الناس عن يسوع، (( لئلاَّ يؤمنوا فيخلصوا )) ( 8 : 12 ).

والخلاص هـو معنى رسالة المسيح وهدفهـا. لذلك يعلن فرحة بتوبة زكـا العشار: (( اليوم قد حصل الخلاص لهذا البيت، فإنه هو أيضاً ابن لإبراهيم )) ( 19 : 9 ). وللحال يصرّح أن هدف رسالته هو خلاص البشرية : (( فإِن ابن البشر قد جاء ليطلب ما قد هلك، ويخلصه )) ( 19 : 10 ).

3) كان الخلاص الموعود في الكتاب ماديّاً أو قوميّاً أو دينيّاً. وعبقرية المسيحية أن المسيح حصر محور الخلاص الحقيقي في الخلاص من الخطيئة سبب غضب الله، والسبيل إلى الهلاك الأبدي : (( وتسميه يسوع لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم )) ( متى 1 : 21 ). لذلك يجعل المسيح الخلاص في التوبة والإيمان : (( لقد تم الزمان، وأتى ملكوت الله : فتوبوا وآمنوا بالإنجيل )) ( مر 1 : 15 )؛ ويحاول الشيطان أن يمنعهم من الإيمان (( لئلاّ يؤمنوا فيخلصوا )) ( لوقا 8 : 12 ). ومع التوبة والإيمان، طريق الخلاص في انتصار الإنسان على ذاته وميوله المنحرفة : (( فمن أراد أن يخلص نفسه يهلكها؛ ومن أهلكَ نفسَه، من أجلي، فإنه يخلصها )) ( 9 : 24 ).

4) وبما أن الخلاص الأسمى هو من الخطيئة، فقد جعل المسيح رسالته صراعاً خفيّاً مع إبليس لقلبه من سيطرته على العالم بالخطيئة. ومنذ مطلع دعوة المسيح شعر إبليس بذلك، فحاول تحويل المسيح عن رسالته الروحية إلى (( المسيحية القومية )) التي ينشدها إسرائيل للسيطرة على العالم؛ وعند مرقس ولوقا دامت محاولة إبليس أربعين يوماً؛ لكنه فشل.

وما سلطان المسيح على طرد الشياطين وإخراجهم من الناس سوى مشهد دائم لصراع المخلص وإبليس للسيطرة على العالم والنفوس. ويعطي معجزاته

138 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

دليل انتصاراته على إبليس؛ وهذا النصر على الشياطين برهان ظهور ملكوت الله : (( إن كنت باصبع الله أخرج الشياطين فقد حلَّ بين ظهرانيكم ملكوت الله )) ( 11 : 20 ). ويعطي من سلطانه على الشياطين لرسله وتلاميذه : (( ورجع الاثنان والسبعون فرحين، وقالوا : إن الشياطين أنفسهم يخضعون لنا عند ذكر اسمك! فقال لهم : لقد رأيت الشيطان هابطاً من السماء كالبرق! )) ( 10 : 17 ـ 18 ).

5) وما معزات الأشفية التي ينثرها المخلص حوله جملةً وتفصيلاً سوى سبيل إلى الخلاص، (( ودليل عليه، كما حدث للمخلع : شفى النفس من خطاياها، قبل شفاء الجسد، وأعطى شفاء الجسد برهاناً على خلاص النفس، (( لكي تعلموا أن ابن البشر له السلطان على الأرض أن يغفر الخطايا )) ( 5 : 24 ).

6) وسلطان غفران الخطايا الذي يصرح المخلص أنه يملكه مثل الله ـ لأنه لا يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده ـ هو البرهان الأكبر على أن رسالة المسيح هي الغفران، وبرهان أعظم على أن المخلص، سيد الغفران الإلهي، هو ابن الله. كان الغفران في العهد القديم عفواً عن الإِثم، فصار في العهد الجديد إحياءً، كما نرى في مثل الابن الشاطر : (( كان ميتاً فعاش )) ( 15 : 32 ). فالغفران المسيحي انتقال من الموت بالخطيئة إلى الحياة بنعمة المسيح. وهذه إحدى عبقريات المسيحية التي لا مثيل لها.

والغفران هو محور الخلاص؛ لأن الغفران دليل التوبة والإيمان والمحبة؛ ولأن الخلاص نتيجة الغفران. نرى ذلك في مثل المرأة العاهرة التي تكب على قدمي يسوع غارقة في دموعها تطلب منه الخلاص من حالتها. فقال لها يسوع : (( مغفورة لك خطاياك )) ! وأعلن للجمهور : (( إن خطاياها، خطاياها الكثيرة، مغفورة لها، بما أنها أحبت كثيراً )) ؛ فالإيمان بالمسيح، ومحبته، تغفر الخطايا. وهذه ميزته على المرسلين أجمعين : (( إيمانك خلصك اذهبي في سلام )) ( 7 : 36 ـ 50 ). فسلطان المسيح على الغفران، والإيمان به الذي يعطي الخلاص برهان إلهية المخلص.

أسماء المسيح الحسنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 139

7) ولوقـا يركّز رواية السيرة والدعـوة على استشهاد المسيح للخـلاص بواسطته: (( وكان يجتاز المدن والقرى، وهو يعلم، قاصداً إلى أورشليم )) ( 13 : 22 ) لأنها (( قاتلة النبيين وراجمة المرسلين! )) ( 13 : 34 )، (( ولا يليق أن يهلك نبي خارج أورشليم )) ( 13: 33 ). وماذا كان يعلّم في الطريق إلى أورشليم ؟ نعرف ذلك من سؤال أحدهم : (( يا سيدي هل الذين يخلصون قليلون ؟ فقال لهم : اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق )) ، أي الدعوة التي يدعو يسوع إليها ( 13 : 23 ـ 24 ).

وحده لوقا يذكر أن موضوع حديث يسوع مع موسى وإيليا في تجلّيه كان استشهاده، أي (( موته الذي سيقاسيه في أورشليم )) ( 9 : 31 ).

وهذا الاستشهاد يسميه يسوع عماد الدم : (( لقد جئت لألقي على الأرض ناراً؛ وكم أود أن تكون قد اضطرمت! ان لي معمودية اعتمد بها؛ وما أشد تضايقي حتى تتم! )) ( 12 : 49 ـ 50 ). يسوع ينتظر عماد الدم باستشهاده لأن فعالية رسالته تقوم عليه، والخلاص هو بدم المسيح.

فليلة الاستشهاد يفسر يسوع، في العشاء السري، معنى رسالته وامتدادها إلى منتهى الدهر بالقربان المسيحي : (( هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي )) ( 22 : 20 ). فدم المسيح على الصليب وفي القربان المسيحي هو (( العهد الجديد )) لخلاص البشر.

إن لوقا مع تركيزه على معنى الاستشهاد في موت المسيح، يظل أميناً لصحة التاريخ: فلا يضفي على استشهاد المسيح، بصراحة معلمه بولس، صفة الفداء. بل يظل ضمن الإشارات التي وردت على لسان المسيح المخلص.

 

140 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

فأسماء المسيح الحسنى : يسوع، المسيح، الرب، الملك، ابن الله ، ابن البشر، المخلص ـ كلها مترادفات تظهر شخصية (( المخلص )) ، ومعنى رسالة الخلاص به، في الإنجيل بحسب لوقا. فهو إنجيل يسوع المخلص .

d d

(( ابن البشر )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 141

بحث ثالث

(( ابن البشر )) ، لقب المسيح الجامع المانع

ظاهرة كبرى في الأناجيل المؤتلفة المتوازية، ان يسوع يسمّي نفسه في دعوته (( ابن البشر )) 1 وفي العهد الجديد، يسوع وحده يستخدم هذا اللقب. وقد فضّله يسوع للكشف عن سره، على كل الألقاب الكتابية والنبوية، وعلى لقب (( المسيح )) نفسه، لِما في لقب (( المسيح )) من رواسب قومية وآمال بشرية، وخصوصاً لِما في لقب (( ابن البشر )) النبوي من تورية معجزة لشخصية يسوع السامية.

وقد فسّر يسوع، في الأسبوع الحاسم من رسالته ودعوته، تلميحاً للشعب، وتصريحاً لعلمائه ورؤسائه في محاكمته الدينية، المعنى العميق الذي قصده مدى رسالته من توريته.

يتخذ يسوع لقب (( ابن البشر )) في الإنجيل بحسب مرقس 14 مرة؛ وبحسب متى 31 مرة؛ وبحسب يوحنا 12 مرة؛ لكن بحسب لوقا 84 مرة. لذلك أفردنا له هذا البحث، الذي يحملنا فيه واقع الأناجيل المؤتلفة إلى بعض

ــــــــــــــــــ

(1) نفضل ترجمة (( ابن البشر )) على (( ابن الإنسان )) ، لأن هذه ترجمة حرفية لليونانية، بينما تعبير (( ابن البشر )) ترجمة للأصل الأرامي : (( بَرْناشى )) ، أو (( أناشيم )) ، يقابلها في العربية (( الأناسي )) . وعلينا أن نعود دائماً من الحرف اليوناني إلى الأصل الأرامي.

142 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 3

التكرار1 . لكن كل إنجيلي كتب من زاويته بحسب عرض الإنجيل في بيئته.

لقب (( ابن البشر )) كتابي نبوي. نجده خصوصاً في المزامير، وعند حزقيال. كان التعبير العبراني (( ابن آدم ))، فصار في التعبير الأرامي (( ابن الإنس ))، (( ابن الناس ))، (( ابن الأناسي )) أي (( ابن البشر )) . فهو مرادف لغةً لكلمة بشر أو للفظ رجل؛ ويعني حقارة الإنسان.

لكن التعبير أخذ مع دانيال اصطلاحاً جديداً، فصار من ألقاب المسيح الموعود، في صورة له لم نعهدها من قبل في العهد القديم. كان المسيح الموعود حتى دانيال (( ابن داود )) ـ وهكذا سمّى الشعب يسوع اعترافاً منه بمسيحيته ـ لكن، مع النبي دانيال، تطور الوحي والتنزيل، وأعطى المسيح الموعود صورة (( ابن البشر الآتي على سحاب السماء )) ، الـذي (( يأخذ من القديم السلطان والمجد والحكم على كل الشعوب والأمم والألسنة؛ وهذا السلطان أبدي لا يزول ولا نهاية له )) ( دانيال 7 : 13 ـ 14 ). فظهر المسيح الموعود شخصاً سماوياً، ينزل من السماء لإقامة ملكوت الله على الأرض.

ونلاحظ أن اسم (( ابن البشر )) له عند دانيال معنيان : معنى جماعي يعني (( شعب قديسي العلي )) ( 7 : 27 )؛ ومعنى فردي لممثل شعب الله، ورئيسه الذي يأخذ السلطان الأبدي من القديم. فكما تمثل الحيوانات الأربعة، عند دانيال، ملوك الممالك الأربعة، كذلك فإِن (( ابن البشر )) يمثل شعب الله. فهو شخص وجماعة معاً؛ لكن المعنى الشخصي أظهر في الوصف، كما يتضح من صفات (( ابن البشر )) : فمصدره سماوي، إنه ابن البشر الآتي على سحاب السماء )) ( 7 : 17 )؛ وأزليته قائمة عند القديم؛ وأبديته دائمة في سلطانه الخالد فسفر دانيال هو قمة الوحي في المسيح الموعود لتأسيس ملكوت الله.

 

ــــــــــــــــــ

(1) قابل في كتابينا الأولين : ابن البشر عند متى 289 ـ 289؛ وعند مرقس 150 ـ 152.

(( ابن البشر )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 143

وفي الأدب العبراني ( غير الكتاب المقدس )، بعد دانيال، استأثرت صورة (( ابن البشر )) الموعود بمخيلة القوم. وأخذوا يتبسطون في وصف ابن البشر الموعود، ويرسمونه شخصاً لا جماعة؛ وبرزت شخصيته الإلهية.

ففي ( أمثال أخنوخ ) ـ وهو كتاب منحول من القرن الأول لأخنوخ القديم ـ يظهر ابن البشر قديماً منذ الأزل وإلى الأبد. يقول : (( من قبل أن تُخلق الشمس والنيرات، ومن قبل أن تُصنع نجوم السماء، فقد ذكر اسمه ( أي وُجد ) أمـام رب الأرواح )) ( 48 : 3 )؛ فهـو (( المصطفى الذي يحفظه رب الأرواح لديه من قبل خلق الكون، وإلى الأبد )) ( 48 : 6 ). وسيظهر لخلاص الصديقين : (( حكمة رب الأرواح أوحته للقديسين والصديقين ... وباسمه يخلصون، فهو منقذ حياتهم )) ( 48 : 7 ). فهو الرسول الأعظم الموعود : (( إنه يملك البرّ، ويسكن معه البر! إنه يكشف عن كنوز الأسرار كلها، لأنَّ رب الأرواح اصطفاه! وبالبر ينتصر إلى الأبد أمام رب الأرواح )) ( 46 : 3 )؛ (( ويكون سنداً للأبرار يستندون إليه لئلا يسقطوا ويكون نوراً للأمم! ويكون أملاً للذين يتألمون في قلوبهم. وكل الساكنين على اليابسة يسجدون له ويعبدونه، وهم يحمدون ويمجدون وينشدون لرب الأرواح )) ( 48 : 4 ـ 5 ). وهو ملك يوم الدين : (( في ذلك اليوم، كل الملوك والعظماء، وسلاطين الأرض يقفون أمامه، ويرونه ويعرفونه متى جلس على عرش مجده. ويقضي بالعـدل، ويدفعهم إلى الملائكة للعذاب... أما الصديقون والمصطفون فيخلصون في ذلك اليوم ... ورب الأرواح يقيم في ما بينهم، ومع ابن البشر يأكلون ويستريحون ويقومون إلى دهور الدهور )) ( 42 : 3 و11 و13 و14 )، (( وكل الصديقين يصيرون ملائكة في السماء )) ( 51 : 4 ).

فابن البشر في الأدب العبراني شخصية إلهية يتمتع مع القديم بالأزلية

144 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 3

والأبدية. وهو المصطفى الأزلي، والمخلص الأبدي، وملك يوم الدين، وأبو الأبدية : إن سفر أخنوخ هذا يجمع في لقب (( ابن البشر )) أوصاف دانيال، وأوصاف ابن داود في المزامير، وأوصاف عمانوئيل وعبد يهوه عند أشعيا.

وفي سفر ( عزرا ) الرابع ـ وهو أيضاً كتاب منحول إلى عزرا القديم ـ يُطلق أيضاً لقب (( ابن البشر )) على المسيح الموعود، فابن البشر يخرج عنده (( من البحر )) أي من السرّ، ويهزم بجبروت صوته كل أعداء الله، فيذوبون أمامه كالشمع أمام النار. ويصرّح : هذا هو الملك الأعظم الذي حفظه الله عنده لهذه الأوقات، إنه المسيح الأزلي.

تلك هي الصورة التي ارتسمت في مخيلة الشعب الإسرائيلي عن المسيح الموعود، كما طوّرتها كتب الرؤيا عند بني إسرائيل. ونجد لها إشارات في أقوال الشعب للمسيح، في الإنجيل بحسب يوحنا : (( فقال أناس من أورشليم : إن هذا قد عرفنا من أين هو؛ وأما المسيح، فإذا أتى، لا يعلم أحد من أين هو )) ( 7 : 27 )؛ (( فأجابه الجمع : لقد علمنا من الشريعة أن المسيح يثبت إلى الأبد، فكيف تقول أنت : ينبغي أن يُرفع ابن البشر ؟ فمن هو ابن البشر هذا ؟ )) ( 12 : 34 ).

ففي هذا الإيمان الشعبي الموروث سر رفض المسيح المصلوب.

وإن نبؤة دانيال كانت أساس صورة المسيح الموعود على هذا المعنى المعهود. ففي جدال الفيلسوف الشهيد يستين مع العالم اليهودي تريفون1 : (( إن هذه الكتب، وغيرها التي تشبهها، ترغمنا، كما يعترف تريفون نفسه، على أن ننتظر، في المجد والجلال، الذي يقبل من القديم، بصفته ابن البشر، السلطان الأزلي )) .

 

ــــــــــــــــــ

(1) الحوار مع تريفون 32 : 1.

(( ابن البشر )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 145

فصورة المسيح، (( ابن البشر النازل من السماء )) ليؤسس على الأرض ملكوت الله، كانت آخر صور الوحي للمسيح الموعود، وأفضل صورة له. لذلك اعتمدها يسوع للكشف عن سر شخصيته وسر رسالته. وعبقرية يسوع في استخدام ذلك اللقب النبوي الفخيم أنه جمع أيضاً الصورتين المتعارضتين : المسيح الملك، (( ابن داود )) ؛ و (( عبد يهوه )) الذي يفدي شعبه بدمه. ففي اتخاذه لقب (( ابن البشر )) استجمع يسوع في شخصه كل أوصاف الكتاب للمسيح الموعود. أجل إنه المسيح (( ابن داود )) فقد قبل أن يلقبه الشعب به ( مرقس 10 : 47 وما يقابله؛ متى 9 : 27؛ 12 : 23؛ 15 : 22؛ 21 : 9 و15 )؛ لكنه (( ابن داود )) بحسب المزمور (110) أي (( ابن داود وربه معاً )) الذي يجلس عن يمين الله على العرش في السماء ( متى 22 : 41 ـ 46؛ 26 : 64 وما يقابلها عند مرقس ولوقا ). أجل إنه (( عبد يهوه )) الحائز على رضاه كله ( أشعيا 42 : 10 ) لكن بصفته (( الابن )) الذي يتميز عن (( الأنبياء عبيد الله )) ( مرقس 12 : 6؛ متى 21 : 23 ـ 41؛ لوقا 20 : 9 ـ 19 )، (( الابن )) كما أعلنه صوت الآب من السماء يوم عماده ( متى 3 : 17 وما يقابله عند مرقس ولوقا ) ويوم التجلّي ( متى 17 : 5 وما يقابله ). فهو (( ابن البشر )) الموعود الذي يظهر من تصاريحه كملك يوم الدين ( مرقس 8 : 38 وما يقابله؛ متى 10 : 32 مع لوقا 12 : 8؛ متى 13 : 41؛ 25 : 31 ـ 46 مع لوقا 21 : 36 )؛ الذي يتمتع بصفات إلهية كالسلطان على غفران الخطايا ( مرقس 2 : 10 وما يقابله ) والسلطان على تعديل شريعة الله ( متى 5 ـ 7 وما يقابله ) فهو (( رب السبت أيضاً )) ( 2 : 8 وما يقابله )؛ الذي يعلن عن مصدره الإلهي ونزوله، بصفة (( ابن البشر )) السماوي، لخلاص البشر في مثل قوله : (( إن ابن البشر قد أتى ليخلص ما قد هلك )) ( لوقا 19 : 10 )؛ وقوله : (( ما أتيت لأنسخ، بل لأكمل )) ( متى 10 : 17 ) ؛ وقوله : (( لم آتِ لألقي سلاماً بل سيفاً )) (متى 10 : 34 قابل لوقا 12 : 49 ـ 51)؛ وقوله : (( إن ابن البشر لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُم )) (مرقس 10 : 45؛ متى 20 : 28).

146 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 3

فاسم (( ابن البشر )) في الإنجيل لقب جامع مانع، يحمل سر المسيح وسر رسالته.

ويسوع وحده، في الإنجيل بأحرفه الأربعة، والعهد الجديد كله، يستخدم لقب (( ابن البشر )) . فلا يطلقه كتبة الوحي عليه؛ إنما نجده مرة واحدة في سفر (( أعمال الرسل )) على لسان اسطفان أول الشهداء، لكن في رؤيا قبل استشهاده ( أع 7 : 56 )؛ ومرتين في ظهور المسيح في رؤيا يوحنا ( 1 : 13؛ 14 : 14 ). فقد حفظ العهد الجديد ميزة استخدام اللقب العظيم ليسوع وحده.

ويسوع يستخدمه قبل استشهاده تورية لسره في دعوته، إلى أن يكشف عنه نهائيّاً في محاكمته أمام السنهدرين. لكنه بعد قيامته يعدل عنه، ويتخذ صريحاً اسم (( المسيح )) ( لوقا 24 : 26 و46 )، لأن المحاذير القومية والسياسية قد سقطت بالاستشهاد والقيامة. وعلى هذا النهج الجديد بعد القيامة سار الرسل في دعوتهم وتدوين الوحي الإنجيلي.

والإجمـاع، في الأناجيل الأربعة، كامل على انفراد يسوع في استخدام لقب (( ابن البشر )) كناية عن نفسه. وفي ذلك يأتلف يوحنا مع المؤتلفة. ونلاحظ أن كل آية فيها لقب ابن البشر ينقلونها مطابقة أو متقاربة.

واصرار يسوع على الكتابة عن نفسه باسم (( ابن البشر )) هو توكيد على بشريته، وتضمين لإِلهيته، كما يرشح من نبؤة دانيال ونبؤة المزمور (110) اللتين استشهد بهما يسوع في استجوابه في محاكمته لإثبات تصريحه الحاسم أنه (( المسيح ابن الله الحي )) .

وما صرَّح به في محاكمته، وارى به في دعوته باسم (( ابن البشر )) .

أجل لقد قصد يسوع أحياناً بتسمية نفسه (( ابن البشر )) الشهادة ببشريته كما في قوله: (( الثعالب لها أوجرة، وطيور السماء أوكار! أما ابن البشر فليس له

(( ابن البشر )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 147

موضع يسند إليه رأسه )) ( لوقا 9 : 58 قابل متى 8 : 20 )؛ وفي قوله : (( إِن ابن البشر لم يأت ليُخدَم بل ليَخدُم ... )) ( مرقس 10 : 45؛ متى 20 : 28 )؛ وفي قوله : (( وجاء ابن البشر يأكل ويشرب )) كسائر الناس ( لوقا 7 : 34 قابل متى 11 : 19 )؛ أخيراً في نبؤاته المتواترة عن استشهاد ابن البشر1 .

لكن يسوع اتخذ اسم (( ابن البشر )) بحسب نبؤة دانيال، تورية لإِلهيته، في أكثر الأحيان والمواقف.

فيسوع يتخذ اسم (( ابن البشر )) كلما نسب لذاته صفة إلهية كقوله : (( إن ابن البشر هو رب السبت )) ( لوقا 6 : 6 )؛ وقوله : (( وابن البشر له السلطان على الأرض أن يغفر الخطايا )) ( لوقا 5 : 24؛ 9 : 56؛ 19 : 10 ). ويسوع يسمي نفسه (( ابن البشر )) كلما اتخذ صفة ملك يوم الدين (لوقا 9 : 26 قابل مرقس 8 : 38؛ متى 16 : 27؛ كذلك لوقا 12: 9 قابل متى 10 : 33؛ 24 : 31 ومرقس 13 : 26؛ كذلك لوقا 21 : 27؛ 18 : 8 قابل متى 3 : 41 و42؛ 25 : 31). ويسوع يستخدم اللقب في حديثه عن (( يوم ابن البشر )) حين يأتي بالمجد والقدرة خفيّاً بعد قيامته، وعلناً في يوم الدين ( لوقا 18 : 22 و24 و26؛ 12 : 40؛ 21 : 36 ). فقيامته المجيدة، ويوم الدين هما (( يوم ابن البشر )) الذي يظهر فيه على حقيقته التي وارى فيها بذلك اللقب النبوي والإنجيلي.

ولقب (( ابـن البشر )) يسمح ليسوع أن يفهم تلاميذه سـر الصليب، بصفته (( ابن البشر )) . فإِن صورة المسيح الموعود كانت تتعارض ومصير الصلب والاستشهاد، وإِن كانت صورة (( عبد يهوه )) الذي يفدي شعبه باستشهاده واضحة

ــــــــــــــــــ

(1) مرقس 8 : 31 مع لوقا 9 : 22 ـ متى 17 : 12 مع مرقس 9 : 12 ـ متى 17 : 22 مع مرقس 9: 31 ومع لوقا 9 : 44 ـ متى 20 : 18 مع لوقا 18 : 31 ـ كذلك متى 26 : 2 و24 و45 وما يقابله عند مرقس ولوقا ـ كذلك لوقا 24 : 7.

148 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 3

ومعروفة عند أشعيا (53). فكناية (( ابن البشر )) سمحت ليسوع أن يجمع في شخصه صورة المسيح الشهيد وصورة المسيح الخالد معاً. بدأ بالإشارات إلى اضطهاد ابن البشر، ( لوقا 6 : 22؛ 7 : 34؛ 9 : 58؛ 12 : 10 ) ثم كان الإعلان المتواتر لاستشهاد ابن البشر، الذي صدمهم في عقليتهم الموروثة : (( يجب أن يتألم ابن البشر كثيراً )) ( لوقا 9 : 22 و44؛ 17: 24 ـ 26 و31؛ 18 : 31 ـ 32؛ 22 : 48 ). وقد أكثر يسوع استخدام تلك الكناية في السنة الأخيرة من دعوته، حين كان يكشف لتلاميذه سر الصليب.

أخيراً في محاكمته أمام السنهدرين، مجلس القضاء الأعلى، كشف يسوع الغطاء عن سر استخدام لقب (( ابن البشر )) كناية عن بشريته وإلهيته معاً بصفته (( المسيح ابن المبارك )): إِنه المسيح وابن الله معاً؛ إِنه الشهيد على الصليب، والمجيد على عرش الله. (( قالوا له : إِن كنت أنت المسيح فقله لنا! فقال لهم : إِن قلت لكم فلا تصدقون، وإِن سألتكم فلا تجيبون. ولكن منذ الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله )) ( لوقا 22 : 67 ـ 68 ). فيسوع يرى مسيحيته الكاملة في صورة (( ابن البشر )) لدانيال، وفي صورة (( الرب الجالس عن يمين القدرة )) لصاحب المزمور (110). فاستشهد بهاتين النبؤتين لتفسير مسيحيته الإلهية لمجلس اليهود. وهذا الاستشهاد في الموقف الحاسم يصرّح بما كان يكني به يسوع عن نفسه مدى دعوته كلها بلقب (( ابن البشر )) : إنه (( من الآن يكون ابن البشر ( الذي يحاكمون ) جالساً عن يمين قدرة الله )) ـ هذا تصريح بإِلهيته. وقد فهم القضاة ذلك، (( فقالوا له جميعاً : أفأنت إذن ابن الله ؟ فقال لهم : أنتم قلتم! أنا هو! فقالوا : ما حاجتنا بعد إلى شهود ؟ لقد سمعنا نحن من فمه )) ( 22 : 69 ـ 71 ) فالحكم بالإعدام على يسوع برهان على شهادته بإِلهيته في محاكمته.

والجدير بالذكر ان يسوع رأى مسيحيته الإلهية في صورة (( ابن البشر )) .

(( ابن البشر )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 149

فهي جامعة لكل أوصاف المسيح في الكتـاب، حتى الأوصاف المتعارضة بين المسيح الأولي و (( عبد الله )) الشهيد الفادي. فكانت كناية (( ابن البشر )) عن نفسه تصريحاً ببشريته، وتورية بإِلهيته. والحكم عليه لكفره، عند ظنهم، يقطع كل شبهة.

ففي اللقب النبوي، (( ابن البشر )) ، وارى يسوع عن سر شخصيته وعن سر رسالته. فكان عنده اللقب الأفضل الجامع المانع لأوصاف المسيح الموعود في الكتاب، ولصفات المسيح المعهود في الإنجيل.

 

150 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

بحث رابع

تحقيق الخلاص بالروح القدس

إن لوقا هو إِنجيل الروح القدس، كما هو إنجيل المسيح. في الإنجيل يذكر دور الروح القدس في سيرة المسيح ودعوته. وفي سفر الأعمال يصف رسالة الروح القدس في الكنيسة والعالم إلى منتهى الدهر.

فكأن لوقا يقسم الرسالة المسيحية إلى عهدين : في الإنجيل عهد المسيح؛ وفي الأعمال عهد الروح القدس في الكنيسة.

عهد المسيح هو عهد التأسيس. وعهد الروح القدس هو عهد التحقيق؛ وفي كلا العهدين يتم الخلاص المسيحي بالروح القدس.

فكما قاد الروح القدس المسيح نفسه إلى إعلان الخلاص بشخصه، فهو يقود المسيحي في كل زمان ومكان إلى تحقيق الخلاص (( بنعمة سيدنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب، والشركة في الروح القدس )) كما يقول بولس الرسول ( 2 كو 13 : 13 ).

 

يظهر دور الروح القدس في سيرة المسيح ودعوته جليّاً. فالتجسّد، ومولد المسيح المعجز من أم بتول، يتم بقدرة الروح القدس : (( الروح القدس

تحقيق الخلاص بالروح القدس ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 151

ينزل عليك، وقدرة العلي تظللك. لذلك فالقدوس المولود منك اسمه ابن الله )) ( 1 : 35 ).

الروح القدس يستولي على المعمدان، سابق المسيح، وهو جنين؛ والروح القدس يستنبئ أمهُ أليصابات : (( فلما سمعت أليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت أليصابات من الروح القدس )) ( 1 : 41 ). وبالروح القدس، حيَّت أليصابات في مريم أم الله : (( من أين لي هذا أن تأتي إليَّ أم ربّي )) ( 1 : 43 )

بالروح القدس أنشدت العذراء نشيد التجسد ( 1 : 46 ـ 56 )، ذلك الأثر الأدبي الوحيد الذي حفظه الإنجيل لنا من السيدة أمّ المسيح. فيه نرى العذراء، هي ابنة خمس عشرة سنة تقريباً، شاعرة من الطراز الأول، ونبية مطلعة على سرّ الله في خلقه، ومؤرخة تعرف فلسفة تاريخ إسرائيل، ومتكلمة في سر التجسد وسر الفداء بالمسيح. فيحق لها أن تنشد :

(( تعظـم نفسي الـرب!

 

ويبتهج روحـي بـالله مخلصي!

لقد نظر إلى ضعة أمته

 

فها منذ الآن تغبطني الأجيال كلها

     

فإِن القدير، تقدَّس اسمه،

 

صنـع فـيَّ العظـائم

ورحمته إلى جيل فجيل

 

على الـذين يتقـونـه ! ))

بالروح القدس تنبأ زكريا، أبو يوحنا المعمدان، في مصير ابنه ورسالته، فأنشد نشيد المخضرم بين الموسوية والمسيحية ( 1 : 68 ـ 79 ).

الروح القدس كان يقود سمعان الشيخ. وهو الذي أوحى إليه (( أنه لن يرى الموت، ما لم يعاين مسيح الرب )) ( 2 : 26 ). وبالروح القدس أنشد يحيّي المسيح الطفل (( نوراً ينجلي للأمم، ومجداً لشعبك إسرائيل )) ( 2 : 32 ).

152 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

الروح القدس يحل على يسوع في عماده، (( في صور جسمية، مثل حمامة )) ويستولي عليه، ليؤيده في شخصيته ورسالته ( 3 : 21 ـ 22 ).

الروح القدس يقود يسوع إلى الخلوة الاستعدادية لرسالته : (( ورجع يسوع من الأردن، وهو ممتلئ من الروح القدس، واقتاده الروح إلى البرية )) ( 4 : 1 ).

(( بقدرة الروح، رجع يسوع إلى الجليل. وذاع خبره في تلك الناحية كلها )) ( 4 : 14).

وفي بدء دعوته يعلن يسوع تتميم نبؤة أشعيا فيه : (( روح الرب عليَّ ... )) ( 4 : 18 ).

وقبل إعلان الوحدة القائمة بين الآب والابن، لوقا وحده يقول : (( في تلك الساعة تهلـّل يسوع في الروح القدس وقال ... )) ( 10 : 21 ).

وهبة الله الكبرى في الصلاة هي أن أبانا السماوي (( يمنح الروح القدس للسائلين )) (11 : 13 ).

والروح القدس هو (( أصبع الله )) الذي به يخرج الشياطين، دليل ظهور ملكوت الله بين ظهرانيهم ( 11 : 20 ).

وشخصية الروح القدس تبرز في هذه الكلمة : الكفر بالمسيح قد يغفر، أما الكفر بالروح القدس فلا مغفرة له ( 12 : 10 ).

فالروح القدس استولى على المسيح وأيده في سيرتها كلها وفي دعوته.

والروح القدس، بنعمة المسيح، يستولي على المؤمن، وفعله فيه ظاهر من ثماره، وثمار الروح هي الفرح والسلام والحمد في حياة المسيحي.

 

 

تحقيق الخلاص بالروح القدس ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 153

أولاً : لوقا هو إنجيل الفرح، في الروح القدس

مواقف الفرح، وأناشيد الفرح، تملأ الإنجيل بحسب لوقا. وفي هذه النزعة إيلاف للنفس الإغريقية التي تحيتها تمني الفرح، لا تمني السلام كالنفس السامية.

زكريا يفرح بمولد ابنه، كما سيفرح به الكثيرون ( 1 : 14 ).

وزكريا ينشد النشيد الأول للفرح بقرب ظهور المسيح ( 1 : 67 ).

والعذراء مريم تفرح بتجسد ابن الله منها، وتنشد : (( تعظم نفسي الرب! ويبتهج روحي بالله مخلصي! )) ( 1 : 46 ).

والملائكة، في مولد المسيح، يهبطون من الملإ الأعلى، يفرحون وينشدون : (( المجد لله في العلى! والسلام على الأرض لأهل الرضى! )) ( 2 : 14 ).

وسمعان الشيخ ينهي حياته بنشيد الفرح بالخلاص ( 2 : 29 ).

معجزات يسوع تزرع الفرح في أطراف البلاد. والجموع تزدحم حوله فرحة بلقائه والسماع إليه. والرسل يرجعون من رسالة تدريبية فرحين بنجاحهم، فيدلهم على السبب الأكبر للفرح : (( لا تفرحوا بأن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا لأن أسماءَكم مكتوبة في السماوات )) ( 10 : 20 ).

ويسوع نفسه يفرح لانتشار ملكوت الله، خصوصاً بين المحرومين : (( وفي تلك الساعة تهلل يسوع في الروح القدس وقال ... )) ( 10 : 21 ).

وفي توبة الخاطئ تفرح السماء والأرض؛ ورب البيت يدعو مَن عنده : (( افرحوا معي فإني وجدت خروفي الضال! )) ( 15 : 4 ـ 7 ). وهذا الفرح يشبه فرح الفقيرة بوجود درهمها الضائع ( 15 : 8 ـ 10 ).

154 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

والله نفسه يفرح مع ملائكته برجوع الابن الشاطر ( 15 : 22 ـ 24 ).

أخيراً أدخل المسيح الفرح إلى الدنيا بقيامته، كما قال تلميذاه بعد رؤيته والحديث معه على طريق عماوس : (( أوَلم تكن قلوبنا مضطرمة فينا، إذ كان يخاطبنا في الطريق، ويفسر لنا الكتب ؟ )) ( 24 : 32 ). ولما ظهر للرسل، (( أراهم يديه ورجليه. فما كانوا يصدقون من شدة الفرح، وكانوا منذهلين )) ( 24 : 41 )، ولما رأوه صاعداً إلى السماء (( سجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم )) ( 24 : 52 ).

فالإنجيل بحسب لوقا هو إنجيل الفرح بالروح القدس.

 

ثانياً ـ لوقا هو إنجيل السلام في الروح القدس

السلام هو هدف رسالة المسيح، كما يعلنها الملائكة ليلة ميلاده : (( المجد لله في العلى، والسلام على الأرض لأهل الرضى )) ( 2 : 14 ). فالسلام الحقيقي من نصيب الذين يرضون الله، والله يرضى عليهم.

وقد تنبأ بذلك زكريا والد المعمدان وهو يُحيّي رسالة ابنه سابق المسيح الذي يطل على الأرض كالكوكب الشارق من العلاء، (( ليضيء للمقيمين في الظلمة وظل الموت! ويرشد أقدامنا في سبيل السلام )) ( 1 : 78 ـ 79 ).

وهذا هو السلام الذي حصل عليه سمعان الشيخ عندما حمل يسوع بين ذراعيه وأنشد: (( أيها السيد، الآن تطلق في السلام عبدك، على حسب قولك لأن عينيَّ قد شاهدتا خلاصك )) (2 : 29 ـ 30). فالسلام من ثمار الخلاص بالمسيح.

ولوقا يرسم لنا في يسوع المسيح صورة ملك السلام الذي تنبأ عنه أشعيا

تحقيق الخلاص بالروح القدس ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 155

( 9 : 5 و9 )، وزكريا ( 9 : 9 )، وسمّاه ميخا (( السلام )) نفسه ( 5 : 4 ) أحد أسماء الله الحسنى.

ويسوع ينشر السلام بأقواله وأعماله. يغفر للمرأة العاهـرة التائبة ليعطيها السـلام : (( إيمانك خلصك : اذهبي في سلام )) ( 7 : 50 ). يشفي المرأة المدمية التي تلمس خفية هدب ثوبه لتبرأ، فيقول لها : (( يا ابنة، إيمانكِ أبرأكِ : اذهبي في سلام )) ( 8 : 48 ). بسلطانه على الخطيئة، وعلى المرض يُظهر يسوع أنه ملك السلام.

ويبعث رسله وتلاميذه يدعون بالإنجيل للسلام : (( وأي بيت دخلتموه، فقولوا أولاً : السلام لهذا البيت! فإن كان هناك ابن سلام، فسلامكم يستقر عليه، وإلاَّ فيرتد إليكم )) ( 10 : 5 ـ 6 ).

والسلام الذي يدعو إليه المسيح يقوم على الإيمان، والحياة المسيحية في الإيمان؛ لا السلام الخدّاع الذي يحلم به العالم : (( أوَتظنون أني أتيت لأنشر السلام ( الموهوم ) على الأرض ؟ أقول لكم : لا! بل الشقاق! )) ( 12 : 51 ). فالإيمان سوف يفرّق بين الأب والابن، والأم والابنة، والحماة والكنة، حتى يسود على الفرد والعائلة والمجتمع. فلا سلام بدون إيمان. وكلما تدنى الإيمان في العالم زال منه السلام : (( ومتى جاء ابن البشر فهل يجد الإيمان على الأرض ؟ )) ( 18 : 8 ).

والسلام المسيحي مصحوب بركة الله منذ البشارة بالمسيح : (( فلما دخل الملاك إلى عندها قال : السلام عليك، أيتها الممتلئة نعمة؛ الرب معك )) ( 1 : 28 )؛ ولدى الزيارة لأليصابات : (( مباركة أنتِ على النساء )) ( 1 : 42 )؛ ومنذ قيامة المسيح : (( وبينما هم يتحدثون بهذه الأمور، وقف يسوع في وسطهم وقال لهم : السلام عليك! أنا هو، لا تخافوا! )) ( 24 : 36 ).

ويوم الشعانين دخل يسوع أورشليم والهيكل دخول الفاتحين، لكن بالسلام،

156 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

لا بالجهاد، كملك السلام الذي تنبأ عنه الأنبياء؛ وكما حيّته الجماهير : (( مبارك الملك الآتي باسم الرب! السلام في السماء، والمجد في العلى! )) ( 19 : 38 ). فرفضت أورشليم العاتية رسالة السلام؛ فبكى يسوع عليها وقال : (( أواه، لو علمتِ أنتِ أيضاً، في هذا اليوم، رسالة السلام! لكن، وا أسفاه، قد خفي ذلك عن ناظريك! )) . لذلك يتنبأ لها بخرابها (( لأنك لم تعرفي زمن افتقادك )) ( 19 : 41 ـ 44 ). فيظهر المسيح في مجده ملك السلام، ورسالته رسالة السلام.

والمسيح هو (( السلام )) منذ حلَّ عليه الروح القدس، روح السلام، في عماده كما يشهد صوت الآب : (( أنت ابني الحبيب، بك سُررت )) ( 3 : 21 ـ 22 ) وسرور الله سلام وسكينة. وفي قيامته، أهداهم سلام القيامة الذي لا يزول ( 24 : 36 ). وقبل رفعه إلى السماء وعدهم بالروح القدس، قدرة الله التي تسكب السلام في النفوس والمجتمعات : (( وها أنا ذا أرسل إليكم موعد أبي : فامكثوا في المدينة إلى أن تُلبَسوا قوة من العلاء )) ( 24 : 49 ).

بقدرة الروح القدس سينتصر الإنجيل في العالم! وبقدرة الروح القدس سينتصر رسل المسيحية، حتى وسط الاستشهاد : (( متى قادوكم إلى المجامع والحكام وأولي السلطان، فلا تهتموا كيف أو بما تدافعون عن أنفسكم، ولا ما تقولون لهم؛ فإن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما ينبغي أن تقولوا لهم )) ( 12 : 11 ـ 12 ).

فالسيد المسيح حاضر معهم إلى الأبد بروحه القدوس : (( سيلقون الأيدي عليكم ويضطهدونكم، وإلى المجامع والسجون يسوقونكم، وإلى الملوك والولاة يقودونكم، فيؤول لكم ذلك للشهادة. واجعلوا في قلوبكم أن لا تعدّوا من قبل دفاعاً، لأني أنا أوتيكم فماً وحكمة لا يقوى جميع مناصبيكم على مقاومتها ولا مناقضتها )) ( 21 : 12 ـ 15 ). وهذه الحكمة المنزلة القاهرة هي من

تحقيق الخلاص بالروح القدس ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 157

الروح القدس. ففي الاضطهاد، وفي الاستشهاد، روح القدس يسكب في المسيحيين سلام المسيح.

فالإنجيل بحسب لوقا هو إنجيل السلام، بالروح القدس.

 

 

ثالثاً : لوقا هو إنجيل الحمد، في الروح القدس

أناشيد الحمد تتصاعد من تضاعيف الإنجيل كله؛ فكأنه نشيد الأرض إلى السماء، تطلقه سيرة المسيح ودعوته.

يفتتح الإنجيل بنشيد التجسد تترنم به العذراء خادمة التجسد الإلهي : (( تعظم نفسي الرب! ويبتهج روحي بالله مخلصي! )) ( 1 : 46 ).

وزكريا والد المعمدان ينشد لظهور المسيح وسابقه : (( مبارك الله إله إسرائيل، لأنه افتقد شعبه وأجرى لهم فداء، لقد أقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه )) .

الملائكة تنشد فوق مهد المسيح : (( المجد لله في العلى، والسلام على الأرض لأهل الرضى )) ( 2 : 14 ). والتعبير اليوناني، (( ذكصا )) يحمل معنى المجد، ومعنى الحمد.

وسمعان الشيخ يحمد الله ويطلب إليه أن ينطلق بسلام لأنه رأى خلاص الله بعينه ( 2: 26 ).

وحنة النبية الشيخة (( أتت في تلك الساعة، وأخذت تحمد الله وتحدث عن الصبي كل من كان ينتظر فداءً لأورشليم )) ( 2 : 38 ).

تلك الأناشيد تحمد الله لمولد المسيح المخلص.

158 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

ومعجزات المسيح في رسالته تطلق ألسنة الناس بالحمد الجزيل.

مخلع كفرناحوم، (( قام للحال، على مشهد منهم، وحمل ما كان مضطجعاً عليه وانطلق إلى بيته وهو يمجّد الله )) أي يحمده ( 5 : 25 ). والشعب كله يشترك في الحمد : (( فدهشوا جميعهم ومجدوا الله؛ وقالوا، وقد امتلأوا رهبة : لقد رأينا اليوم عظائم! )) ( 5 : 26 ).

وبعد إحياء ابن أرملة نائين، (( استولى على الجميع رهبة، ومجّدوا الله قائلين : قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه! )) ( 7 : 16 ).

والمرأة الحدباء، التي يشفيها يسوع، يوم السبت، في الجامع، (( استقامت في الحال وجعلت تمجّد الله! )) ( 13 : 13 ). (( والجمهور كله فرحوا بجميع المعجزات التي كانت تجري على يديه )) ، تاركين كهَّانهم في ضلالهم يعمهون ( 13 : 17 ).

(( وفيما هو شاخص إلى أورشليم، جاء ما بين السامرة والجليل )) فشفى عشرة برص، كان أحدهم سامريّاً : (( وإذ رأى أنه شفي رجع يمجّد الله بصوت جهير )) (17 : 12 ـ 19).

وعلى مدخل أريحا شفى أعمى جالساً على الطريق يستعطي؛ (( وفي الحال أبصر، وتبع يسوع مشيداً بحمد الله! وإذ رأى جميع الشعب ذلك سبحوا الله )) ( 18 : 35 ـ 43 ).

وفي أحد الشعانين، حين دخول المسيح، ملك السلام، إليها (( استفز الفرح جميع جمهور التلاميذ، فطفقوا يسبّحون الله بصوت جهير على جميع ما عاينوا من الآيات. ويقولون: مبارك الملك الآتي باسم الرب! السلام في السماء، والمجد في العلى! )) ( 19 : 37 ـ 38 ).

تحقيق الخلاص بالروح القدس ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 159

ويسوع يحمد الله قبل رسم القربان : (( أخذ خبزاً وشكر، وكسر، وأعطاهم )) ؛ وجعل كأس الخمر المقدسة (( العهد الجديد بدمه )) ( 22 : 19 ـ 20 ). لذلك يسمي المسيحيون قربانهم (( الافخارستيا )) أي سرّ الشكر، الذي به يشكرون الله أفضل شكر.

ومن صليب المسيح بدأ مع القائد الروماني الحاضر حمد لا ينقطع : (( فلما رأى قائد المئة ما جرى مجّد الله ( أي حمده ) قائلاً : في الحقيقة كان هذا الرجل صدّيقاً )) (23 : 47).

وكما افتـُتح الإنجيل بالحمد، يُختم بالحمد. لما صعد المسيح إلى السماء وهو يباركهم (( سجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم. وكانوا بلا انقطاع في الهيكل يحمدون الله )) (24 : 50 ـ 53). فكلمة الحمد هي كلمة الفاتحة وكلمة الختام في الإنجيل بحسب لوقا. فهو إنجيل الحمد.

وهذه الأناشيد والهتافات بحمد الله يبعثها في النفوس المسيح وروحه القدوس، في مواقف الخلاص ومشاهده.

يسوع المسيح، بسيرته ودعوته واستشهاده، يضع أساس الخلاص. فهو المخلص. لكن تحقيق الخلاص يتم بالروح القدس، كما سنرى ذلك خصوصاً في سفر ( أعمال الرسل ).

فالإنجيل بحسب لوقا هو إنجيل الروح القدس، كما هو إنجيل المسيح.

#

160 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

بحث خامس

إنجيل (( إنسانية )) يسوع

كان ولع العالم الهلنستي، المشبع بالحكمة اليونانية والغنوص الشرقية، كبيراً بالإنسان الكامل. فقدّم لهم لوقا، في عرض الإنجيل عليهم، الصورة الكاملة، للإنسان الكامل، في يسوع المسيح.

وإعجاز الإنجيل بحسب لوقا أنه آلف بين إِلهية يسوع وبشريته، فأعطانا صورة معجزة لما نسميه (( إنسانية يسوع )) . فلوقا، كما سماه ( دانته )، هـو (( إنجيلي إنسانية المسيح )) 1. وقد سبقه إلى ذلك بولس الرسول بقوله : إِنه (( تجلّي لطف الله مخلصنا، ومحبته للبشر )) ( تيطس 3 : 4 ).

 

 

أولاً : إنسانية يسوع العامة

تظهر إنسانية يسوع في أحواله وأقواله وأعماله. فالإنسان الكامل في يسوع يظهر من لطفه وعطفه، فهو المثال المطلق للطف الله وعطفه يتجليان (( على وجه المسيح )) ( 2 كو 4: 6 ).

فالمظاهر العنيفة لا يراها لوقا في يسوع. فالمسيح عنده لا يغضب ( لوقا 5 :

ــــــــــــــــــ

(1) (( Scriba Mansuetudinis Christi ))

إنجيل (( إنسانيّة )) يسوع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 161

13؛ قابل مر 1 : 41 و43 )؛ ولا يثور لعارض الأمور ( قابل مرقس 10 : 14 ). ولمَّا اعترض بطرس على نبؤة يسوع باستشهاده، فلا يعنّقه كما عند مرقس ( 8 : 33 ).

وفي العواطف الحميدة يتصرّف باتزان ومهابة : فلا (( يتحنّن )) بضعف ( لوقا 9 : 11؛ قابل مرقس 6 : 34 )؛ ولا يهزّه شعور خفيف ( لوقا 18 : 22؛ قابل مر 10 : 21 ). فهو يلاطف الأطفال لكن بمهابة ( لوقا 9 : 47؛ قابل مر 9 : 36 ). وفي نزاعه المرير في بستان الزيتون يتصرّف باتزان، فلا يستسلم للخوف واليأس ( لوقا 22 : 40؛ قابل مرقس 14: 33 ). لكن عندما يكون المظهر العنيف رمزاً لحالة خاصة، ينفرد لوقا بذكره كعرق الدم في نزاعه ( 22 : 44 ).

فالمشاهد العنيفة في سيرة المسيح ودعوته تذوب عند لوقا : فلا أحكام قاسية كما عند مرقس ( 4 : 12؛ 9 : 43 ـ 48؛ 14 : 21 ). ولا احداث مثيرة منفّرة، فهو لا يذكر مقتل المعمدان ( 6 : 17 ـ 29 )؛ ولا قبلة يهوذا الخائن ( مر 14 : 45؛ قابل لوقا 22 : 48 )؛ ولا صفعات اليهود ليسوع وهو موقوف في السنهدرين أمام الحبر الأعظم ( مر 14 : 65 )؛ ولا يذكر الجلد، ولا اكليل الشوك في محاكمته عند بيلاطس.

لكن اللطف لا يعني الضعف. فالشدة، حين الشدة، من صفات المسيح، كما تدل حملته على الأغنياء القاسين ( لوقا 6 : 24 ـ 26 )، وحملته على الخاطئين غير التائبين (لوقا 13 : 2 ـ 5)، وحملته على التينة العقيمة، رمز إسرائيل العقيم ( 13 : 9 )، وحملته على الغني الفاجر تجاه لعازر الصابر (لوقا 16 : 19 ـ 31)، وحملته على أورشليم، (( قاتلة النبيين وراجمة المرسلين )) ( لوقا 19 : 41 ـ 44 ). ونبؤَته لنساء أورشليم الباكيات عليه في مصير أبنائهن ( لوقا 23 : 28 ـ 31 ). فيسوع، في تعليمه، يعرف أن يسير ما بين العطف والعنف، كما في خطبته التأسيسية على الجبل، حيث يذكر بعد تطويبات المحرومين الويلات

162 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

للمتجبرين. ولوقا وحده يذكر تلك اللعنات ( 6 : 20 ـ 26 ). فرحمته مثال لرحمة الجبار!

وتظهر إِنسانية يسوع في أعماله ومعجزاته، كما في إحياء ابن أرملة نائين : (( لمَّا رآها الرب تحنّن عليها وقال لها : لا تبك! ثم دنا ولمس النعش فوقف الحاملون. قال : أيها الشاب، لك أقول : قمْ! فاستوى الميت وشرع يتكلم. فسلمه إلى أمه )) ( 7 : 11 ـ 17 ).

وتبرز إِنسانية يسوع أيضاً في تعليمه وأقواله، كما جاء : (( إِذا ما صنعت مأدبة فادْعُ المساكين والجدع والبرص والعميان، فتكون عندئذٍ سعيداً، إذ ليس لهم ما يكافئونك به، وتكون مكافأتك في قيامة الصديقين )) ( لوقا 14 : 12 ـ 14 ). وفي القسم الوسيط الذي انفرد به لوقا لتعليم المسيح في اليهودية وشرق الأردن، صورة معجزة بالأقوال والأعمال لإنسانية يسوع، كما في أمثال السامري واليهودي، والابن الشاطر، والدرهم الضائع، والخروف الضال على الجبال.

والإنجيل بحسب لوقا يمتاز بالحسّ المرهف في تسجيل المناسبات. يقول : (( ورجع يسوع من الأردن، وهو ممتلئ من الروح القدس )) ( 4 : 1 ). وبعد ظهور يسوع الصاعق في السبت الأول بكفرناحوم، أفلت من الجماهير والتلاميذ، (( ومضى إلى موضع قفر. فأخذ الجموع يطلبونه. ولما أفضوا إليه أمسكوه لئلا ينطلق عنهم )) ( 4 : 42 ). وفي شفاء مجنون جرش سأل المسكون الذي به جِنّة : (( ما اسمك ؟ قال : جوقة ـ لأن شياطين كثيرين كانوا قد دخلوا فيه! )) ( 8 : 30 ). وفي إحياء ابنة يائير، رئيس جامع كفرناحوم، (( كان الجموع يبكون عليها وينوحون. فقال لهم : لا تبكوا، إِنها لم تمت، لكنها نائمة! فأخذوا يضحكون منه لعلمهم أنها قد ماتت )) ( 8 : 52 ـ 53 ). هذا وصف سيكولوجي رائع لوداعة المسيح في إعجازه، ولحقيقة موت الابنة. ولمَّا أحياها

إنجيل (( إنسانيّة )) يسوع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 163

(( أخذ بيدها ونادى قائلاً : يا صبيّة قومي! فرجعت روحها إليها، ونهضت في الحال. ثم أمر بأن تعطى طعاماً )) ( 8 : 54 ـ 55 ). لاحظ كلمة الطبيب الأديب في الخاتمة : إن الأكل برهان الحياة، فلا يأكل الأموات. بكلمة معجزة وصف حقيقة المعجزة وجلالها. وهو أيضاً يصف بفن هواجس هيرود قاتل المعمدان، لمَّا سمع بأخبار يسوع : (( إِن يوحنا قد قطعت أنا رأسه! فمن ذا الذي اسمع عنه مثل هذه الأخبار ؟ )) ( 9 : 9 ). وفي نزاع يسوع في بستان الزيتون، انفرد بالثلاثة المقرّبين الذين شاهدوا تجلّي لاهوته من خلال بشريته، لكي يشهدوا صراع بشريته مع الموت، لكنه رئف بهم، (( ثم انفصل عنهم رمية حجر، وخرَّ على ركبتيه وجعل يصلي )) هكذا وحده، لئلا يزيد في همومهم. ( 22 : 41 ).

والإنسانية الكاملة في يسوع تظهر في نزعته إلى الانفراد للصلاة ـ ولوقا وحده يذكر صلاة المسيح ثماني مرات ( 3 : 21؛ 5 : 16؛ 6 : 12؛ 9 : 18؛ 9 : 28؛ 11 : 1؛ 22: 32؛ 23 : 34 و46 ).

كما تظهر في نزعته للحياة الاجتماعية. ومن شواهدها الولائم التي كان يتناولها يسوع، حتى مع العشارين والخاطئين، كما عند لاوي ( 5 : 29 )، وعند سمعان الفريسي (11 : 37)، وعند صديقه لعازر ( 10 : 38 ـ 42 )، وعند سائر الناس ( 5 : 39؛ 14 : 12 ـ 15؛ 15 : 1 ). ولا نذكر تكثير الخبز مرتين، على أرض إسرائيل، ثم عند المشركين. فالخبز والملح عند الشرقيين دليل الصداقة والحياة الاجتماعية. فتنازل يسوع إلى مخالطة الشعب، حتى قال عنه الفريسيون : (( أكول! شروب! )) ( لو 7 : 34 ). فزكوا بذلك شهادة الإنجيل : (( إن العشارين والخاطئين جميعاً كانوا يُقبلون إليه ليسمعوه؛ والفريسيون والكتبة يتذمّرون قائلين : إن هذا يقبل الخاطئين ويأكل معهم )) . ( لوقا 15 : 1 ـ 2 ). وهذا أجمل وصف لإنسانية يسوع في حياته الاجتماعية.

ومن دلائل الذوق الرفيع عند لوقا أنه يلطّف بعض مواقف يسوع من

164 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

تلاميذه ورسله، بينما يذكرها مرقس، ترجمان بطرس، على علاتها1. فهو لا ينقل كلمة يسوع اللاذعة لبطرس عند استنكاره استشهاد المسيح ( مر 11 : 33 ). ولا يحمّل بيلاطس مسؤولية قتل المسيح كما يحملها لليهود : (( فقضى بيلاطس أن يُجرى لهم بحسب مطلبهم. فأطلق مَن طلبوا، ذاك الذي أُلقي في السجن لأجل فتنة وقتل, وأسلم يسوع لإرادتهم )) ( 23 : 24 ـ 25 ). ويتنازل يسوع ويسمّي تلاميذه (( أحبائي )) ( لوقا 12 : 4 )، كما عند يوحنا.

فأعمال يسوع وأقواله وأحواله، في سيرته ودعوته، كلها شواهد على (( إنسانيته )) المطلقة. وقد كانت إنسانيته شدة في غير عنف، وليناً في غير ضعف.

هذا هو الإنسان الكامل الذي لم تحلم الإنسانية بمثله في القول والعمل، في السر والجهر.

 

 

ثانياً : الجوانب الخاصة من إنسانية المسيح

وهناك جوانب خاصة من إنسانية المسيح تظهر عطفه ولطفه.

1 ـ إنجيل الرحمة

تظهر إنسانية يسوع خصوصاً في رحمته وشفقته، في أعماله وأقواله. وقد

ــــــــــــــــــ

(1) قابل مر 4 : 13 مع لو 8 : 11 ـ مر 4 : 38 ـ 40 مع لو 8 : 34 ـ مر 8 : 32 ثم 9 : 28 مع لو 9 : 43 ـ مر 10 : 24 ـ 26 مع لو 18 : 25 ـ مر 10 : 32 مع لو 18 : 18 ـ 21 ـ مر 10 : 35 ـ 40 ثم 14 : 26 ـ 31 مع لو 22 : 31 ـ 34 ـ مر 14 : 37 ـ 41 مع لو 22 : 45 ـ مر 14 : 17 مع لو 22 : 60.

إنجيل (( إنسانيّة )) يسوع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 165

ذكر لوقا مع سابقيه بعض مظاهرها، لكنه انفرد ببعض معالمها التي جعلته إنجيل الرحمة.

ففي أعمال يسوع امتاز لوقا بذكر تلك المرأة الخاطئة التائبة، مثال العاهرات التائبات، اللواتي يمزجن توبتهن بالمحبة والدموع فينلن عطف المسيح ولطفه ( 7 : 36 ـ 50 ). وينفرد بذكر توبة زكا التي يعطيها لوقا مثالاً لعطف المسيح على المنبوذين عند أهل التقوى (19 : 1 ـ 10). ويعطي خبر توبة اللص على الصليب مثالاً لرحمة المسيح على البائسين (23 : 39 ـ 43).

وفي تعليم يسوع، انفرد لوقا بنقل أمثال الرحمة التي لا مثيل لها في كتب العالمين، كمثل الخروف الضال الذي يجدّ الراعي الإلهي في طلبه، وإذا ما وجده حمله على منكبيه فرحاً ( 15 : 1 ـ 7 )؛ ومثل الابن الشاطر الضال العقوق الذي يبذّر مال أبيه مع الزواني، ويعيش مع الخنازير. وأبوه لا ينساه ولا يسلاه، بل ينتظر كل يوم عودته؛ ومتى رجع يهرع إليه ويقبّله قبلة العطف والحنان ( 15 : 11 ـ 32 ). إنها أفضل صورة لرحمة الله بخلقه. وفي مثل صلاة الفريسي والعشار، يرينا كيف تنقلب الموازين في عين الله الذي يعرف خفايا القلوب ويرحم المنبوذين عند أهل التقوى المشبوهة ( 18 : 9 ـ 14 ). وفي مثل الغني ولعازر يعلمنا الرحمة بالمحرومين ( 16 : 19 ـ 31 ). وفي مثل السامري واليهودي يعلمنا الرحمة بالناس، فوق الفوارق الدينية والقومية ( 10 : 25 ـ 37 ).

فإنجيل المسيح هو إنجيل الرحمة؛ هذا هو الذي أتى رحمة للعالمين.

 

2 ـ إنجيل الخاطئين

لطف المسيح بالخاطئين ميزة الإنجيل بحسب لوقا. فرحمة المسيح بالخاطئين يذكرها الإنجيليون كلهم؛ لكن لوقا يمتاز بإعلان مظاهرها. فصفة المخلص

166 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

الروحي هي أولاً عطفه على الخاطئين؛ وهذا هو هدف رسالته : (( إن ابن البشر قد جاء ليطلب ما قد هلك ويخلّصه )) ( 19 : 10 ).

وكان اليهود يسمّون جباة الدولة من اليهود (( خطأة )) . ونرى يسوع يجعل جابي كفرناحوم لاوي = متى من رسله ( 5 : 27 ). وقد أولم متى ليسوع وليمة عظيمة اشترك فيها رفقاؤه الجباة، فأكل يسوع وشرب معهم. فأثار سلوك يسوع نفور الفريسيين وكتبتهم فقالوا لتلاميذه : (( لِمَ تأكلون وتشربون مع العشارين الخاطئين ؟ فأجاب يسوع، قال لهم : ليس الأصحـاء بحاجة إلى توبة بل المرضى! وأنا لم آتِ لأدعو إلى التوبة الصديقين، بل الخاطئين )) ( 5 : 30 ـ 32 ).

وقد اشتهر عطف يسوع على أولئك المنبوذين. فذكر يسوع في حملة على المغرضين الذي يتذمرون من عطفه عليهم : (( تقولون : هوذا إنسان أكول، شروب للخمر، يحب العشارين والخاطئين! )) ( 7 : 34 ).

ودام هذا العطف مدى رسالة المسيح، وفي كل الأوساط. وفي اليهودية أيضاً، (( كان العشارون والخاطئون جميعاً يقبلون إليه ليسمعوه؛ والفريسيون والكتبة يتذمرون قائلين : إن هذا يقبل الخاطئين ويأكل معهم! )) ( 15 : 1 ـ 2 ).

فكان هذا الموقف المتجبّر الذي لا مكان فيه للرحمة فرصة ليسوع ليعلن رحمة الله على الخاطئين بثلاثة أمثال هي لآلئ الإنجيل بحسب لوقا :

مثـَلُ الخروف الضال، الذي، مِثـْل الخاطئ، يشرد عن القطيع، فيتفقّده الراعي الصالح، ويركض وراءه في البرية حتى يجده. (( وإذا ما وجده يحمله على منكبيه فرحاً! )) أجل لم يصوّر عطف الله في آداب الدين والدنيا مثل هذه الصورة المعجزة. وأروع منها كلمة المسيح. (( أقول لكم : هكذا يصير في السماء فرح بخاطئ واحد يتوب أكثر ممّا يكون بتسعة وتسعين صدّيقاً، إلى توبة لا يحتاجون )) ( 15 : 4 ـ 7 ).

إنجيل (( إنسانيّة )) يسوع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 167

ومثل المرأة والدرهم المفقود ( 15 : 8 ـ 10 ) يصور عناية الله بالخاطئ. تلك المرأة (( توقد سراجاً وتكنس البيت وتطلب الدرهم المفقود حتى تجده )) . وتفرح مع صديقاتها بوجوده. هكذا يفرح الله مع ملائكته بتوبة الخاطئ، يا له من عطف إلهي!

وقراءَة مثل الابن الشاطر ( 15 : 11 ـ 32 ) تغني عن التعليق عليه. إِنه أروع صورة ثانية في آداب الدين والدنيا لعطف الله على الخاطئ، وأبلغ صورة لحالته، وأفصح مثل على توبته، وأكمل بلاغ عن حنان الله : (( وإذا كان ( الابن الضال العائد إلى أبيه ) بعيداً بعد، أبصره أبوه، فتحركت أحشاؤه، وبادر إليه، وألقى بنفسه على عنقه وقبّله! الله يقبّل الخاطئ التائب! كم بكت عيون وقلوب لهذا المشهد! فالخاطئ موضوع شفقة الله وملاحقته إياه بنعمته وحنانه حتى يتوب.

ويتجلى لطف المسيح بالخاطئين في غفرانه للمخلع الخاطئ ( 5 : 20 ) والعاهرة التائبة التي تبل قدميه بدموعها وتمسحهما بشعر رأسها، وتدهنهما بالطيب. فبادلها يسوع عطفاً وغفراناً، بمحبتها وتوبتها ( 7 : 36 ـ 50 ). ويتجاوز يسوع المسيح كل حدود الرحمة والعطف واللطف في غفرانه، على الصليب، لصالبيه! ( 23 : 34 ).

كان عطف يسوع على الخاطئين يحمل الرجال والنساء على الارتماء على قدميه. وكان تعليمه في رحمة الله بهم، وسلوك المسيح بعطفه عليهم، بلسماً سماوياً لجروح عقلهم وقلبهم وحسهم. فالتفاتة منه تجعل زكا العشار من الصالحين! ( 19 : 1 ـ 10 ). ونظرة منه تجعل بطرس يبكي بمرارة إلى موته ( 22 : 61 ). وصمت جليل على الصليب يستميل اللص القاتل إلى الإيمان والتوبة ( 23 : 39 ـ 43 )؛ ويجعل الجماهير الشامتة تعود قارعة صدورها حزناً وتوبة ( 23 : 48 ).

168 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

فلا حالة من حالات الخطيئة إلاَّ وجدت في قلب يسوع صدى شفقة وعطف! فإنجيله بحسب لوقا هو إنجيل الخاطئين.

 

3 ـ إنجيل المحرومين

يمتاز الإنجيل بحسب لوقا بعطف المسيح على المحرومين في الأرض.

فهو يستفتح بذكر مولد المعمدان من أبوين طاعنين بالسن، خصوصاً من أُم عجوز عاقر، (( نظر إليها الرب ليصرف عنها العار بين الناس )) ( 1 : 5 ـ 25 ).

والعذراء تنشد نشيد التجسّد، وترى هدف رسالة المسيح أن الله به : (( نظر إلى ضعة أمته ... وشتت أفكار قلوب المتجبرين! حطَّ الأعزاء عن عروشهم ورفع المتواضعين! غمر بالخيرات الجائعين، وأرسل الأغنياء معدمين! )) ( 1 : 51 ـ 53 ).

وزكريا يشيد بعمل ابنه الذي يعد طرق الرب (( الكوكب المشرق من العلاء ليضيء للمتسكعين في الظلمة وظل الموت )) ( 1 : 78 ).

يسوع يبدأ دعوته بالجليل، في جامع الناصرة، بتطبيق نبؤة أشعيا ( 61 : 1 ـ 2 ) على رسالته : (( روح الله عليَّ : فقد مسحني لأبشر المساكين! وأرسلني لأنادي بالحرية للمأسورين وبالبصر للعميان! وأطلق أحرارً المرهقين! وأعلنها سنة نعمة من قبل الله ... وشرع يقول لهم : اليوم تمت هذه الكتابة )) ( 4 : 18 ـ 21 ).

واستفتح خطبته التأسيسية على الجبل بهذه الطوبى المكررة للمحرومين؛ وهي روح الإنجيل كله :

(( طوبى لكم أيها المساكين

 

فإن لكم ملكوت الله

طوبى لكم أيها الجياع الآن

 

فإِنكـم ستشبعـون

إنجيل (( إنسانيّة )) يسوع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 169

طوبى لكم أيها الباكون الآن

 

فإِنكـم ستضحكـون ))

     
   

( 6 : 20 ـ 21 ).

وفي بلدة نائين، (( لما قرب من باب المدينة، إذا ميت يُشيّع! وهو ابن وحيد لأمه، وكانت أرملة! ـ هذا منظر الشقاء المجسّم ـ فلما رآها تحنّن عليها )) . فأحيا ابنها بكلمة منه ( 7 : 11 ـ 17 ). الحرمان يبعث الحنان والإعجاز في المسيح!

وذات يوم تبعته الجماهير إلى البرية مسحورة بكلامه. في آخر النهار تحنّن عليهم لأن الجوع كان قد أخذ منهم مأخذه. فبارك خمسة أرغفة وسمكتين، وأشبع الجماهير ( 9 : 10 ـ 17 ).

وفي مثل السامري واليهودي، الذي يبلغ قمة الإعجاز البياني، يعطينا مثال الرحمة بالمقطوع الغريب الطريح على الطريق يصارع الموت. ويختم بقوله : (( امض أنت أيضاً واصنع كذلك )) ( 10 : 25 ـ 37 ).

ويجسّم الترف والحرمان في مثل الغني ولعازر ( 16 : 19 ـ 31 )، وقلب الموازين في العالم الآخر : (( فقال إبراهيم : تذكَّر يا ابني إنك نلت خيراتك في حياتك، ولعازر بلاياه! والآن فهو ههنا يتعزّى، وأنت هناك تتعذّب )) . فكان المحروم عنده له على الله حق معلوم؛ وله على خلق الله حق مفروض.

ويسوع يسمّي جماعته الناشئة (( هؤلاء الصغار )) ( 10 : 21 ). لكن هذا (( القطيع الصغير )) لا خوف عليهم لأن لهم الملكوت ( 12 : 32 ).

هذا هو نبل النفس! ونبل التعليم! ونبل التحقيق!

فالإنجيل بحسب لوقا هو إنجيل المحرومين.

 

170 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

4 ـ إنجيل الغريب

التوراة تفرض محبة القريب. لكن اليهود حصروا معنى القريب بابن قوميتهم وابن دينهم. وكان ذلك شأن الأمم أجمعين. وجاءَت ثورة الإنجيل تقلب المفاهيم، فإذا بالقريب هو أيضاً عدو الدين والقومية كما نرى في مثل السامري واليهودي، السامري الذي يعطف على اليهودي الذي أَهمله على الطريق رجال دينه ( 10 : 25 ـ 37 ).

وقد يكون هذا الغريب، لاستقامته، أفضل من القريب في نظرنا. ذات يوم شفى يسوع عشرة برص، تسعة منهم كانوا يهوداً، وأَحدهم سامرياً. فلما تحققوا عند الكاهن من شفائهم ونالوا براءَة ليخالطوا الناس، (( لم يرجع يشكر الرب إلاَّ هذا الغريب )) ( 17 : 18 ).

وقد يشيد يسوع بإيمان غير الكتابي بالله. طلب قائد حامية كفرناحوم الروماني من يسوع أن يشفي غلامه. فلبّى الطلب وتوجه إلى بيته. فأسرع إليه القائد وقال له : (( لا أستحق أن تدخل تحت سقفي ... لكن قلْ كلمة فيبرأ غلامي ... فلما سمع يسوع أُعجب جداً، والتفت إلى الجمع الذي يتبعه وقال : أقول لكم إني لم أجد، حتى في إسرائيل، مثل هذا الإيمان )) ! (7: 1 ـ 10).

ويسوع يعلمنا بمثله تفهّم موقف الغريب منا، مهما تجنّى علينا، لنكون أوسع فكراً وأَرحب صدراً. ذات مرة بعث أمامه رسلاً إلى قرية للسامريين ليعدّوا له : (( فلم يقبلوه لأنه كان متوجهاً إلى أورشليم. فلما رأى ذلك التلميذان يعقوب ويوحنا قالا : يا رب، أتريد أن نستنزل النار من السماء لتحرقهم! فالتفت وزجرهما. وانطلقوا إلى مدينة أخرى )) ( 9 : 52 ـ 56 ).

وفي ختام الإنجيل، تتجلى رحمة المسيح بالغرباء، في بعثة الرسل، بالدعـوة بالإنجيل (( في جميع الأمم )) ( 24 : 47 ).

فالإنجيل بحسب لوقا هو إنجيل الغريب.

 

إنجيل (( إنسانيّة )) يسوع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 171

5 ـ إنجيل تحرير المرأة

كانت المرأة قبل المسيح شبه رقيق. وحتى في التوراة ( اللاويّين والعدد ) كانت نَجَساً في بعض أحوالها. للذكَر عندهم مثل حظ الأنثَيين. كان لمسها ينقض الوضوء للصلاة. وكان الطلاق بلا قيد. وكان تعدد الزوجات بلا حدود حتى جاء أهل التلمود فقيدوه بأربع معاً. فحالة المرأة العائلية والزوجية والاجتماعية والدينية كانت عبودية. وكان اليهودي يشكر الله لأنه لم يخلقه امرأة.

وجاء الإنجيل فحرّر المرأة من كل عبودياتها؛ وشرع المساواة العادلة بالرجل.

يكثر الإنجيل بحسب لوقا من الحديث عن المرأة؛ ومن هذا الحديث ما ينفرد به عن سابقيه. فيذكر أليصابات وهذيذها بهمّ عقمها ( 1 : 5 ـ 7 )، وحنة النبيه مثال المرأة المنقطعة للعبادة ( 2 : 36 ـ 38 )، وشفاء حماة بطرس ( 4 : 38 ـ 39 )، وحنان المخلص على أرملة نائين فيُحيي لها ابنها الوحيد ( 7 : 11 )، وتوبة المرأة الخاطئة التي يكتم اسمها حياءً ( 7 : 37 )، وإحياء ابنة يائير رئيس جامع كفرناحوم ( 8 : 41 )، وشفاء المدمية التي تختلس المعجزة اختلاساً ( 8 : 43 )، وقصة مريم ومرتا اللتين تستضيفان مع أخيهما لعازر يسوع ( 10 : 38 )، وشفاء الامرأة الحدباء يوم السبت ( 13 : 10 ـ 17 )، ويعطينا مثال المرأة الحريصة التي تكنّس بيتها لتجد درهماً ضائعاً ( 15 : 8 )، ومثال المرأة الفقيرة التي تتصدّق بفلسها الأخير في بيت الله ( 21 : 1 ).

ولإِصلاح حال المرأة الاجتماعية يستصحب مع صحابته بعض النساء للخدمة والرسالة. وينفرد لوقا بذكر ذلك : (( وبعدئذ أخذ يجول في المدن والقرى يدعو ويبشر بملكوت الله. وكان معه الاثنا عشر؛ وبضع نساء كن قد برئن من أرواح شريرة وأمراض : وهن مريم التي تدعى المجدلية التي خرج منها سبعة شياطين، وحنة امرأة كوزى قيّم هيرود، وسوسنة، وأُخر سواهن، وكن

172 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

يبذلن من أموالهن في خدمته )) ( 8 : 1 ـ 3 ). فكانت هذه الصحبة سُنّة للرسل لإشراك المرأة في الرسالة، كما يشهد بولس الرسول : (( أمّا لنا حق أن نجول مع امرأةٍ أخت كسائر الرسل، وأخوة الرب، وكيفا ؟ )) ( 1 كو 9 : 5 )، فكانت المسيحيات يرافقن الرسل للدعوة المسيحية، كما رافقن المسيح نفسه.

فالمرأة، في الإنجيل، رسولة مثل الرجل الرسول. وقد تنجح هي، حيث يفشل هو. ففي استشهاد المسيح، بينما هرب الرسل صحابته نرى (( النساء اللواتي قد تبعنه من الجليل واقفات ينظرن )) صلب المسيح وموته ودفنه ( 23 : 49 ). ويرجعن مسرعات قبل الغروب يشترين حنوطاً ليعدن بعد السبت يحنطن يسوع تحنيطاً كاملاً. فكنّ أولى الزائرات لقبر المسيح. وكن أولى العالمات ببشرى قيامة المسيح. وجعلهن يسوع رسولات لدى الرسل أنفسهم ( 23 : 55 ـ 24 : 10 ).

وجعل المسيح على أساس تحرير المرأة تحرير شرعة الزواج. فنسخ تعدد الزوجات في التوراة، وأرجع البشرية إلى حال الفطرة : فإن الله في البدء (( خلقهم ذكراً وأنثى )) ؛ ونسخ الطلاق الذي يجعل الزوجة رهينة أمر زوجها، تفقد عائلها وبيتها وبنيها. وشرع : (( ما جمعه الله فلا يفرّقه إنسان )) ! فوحدة الزواج الذي لا ينفكُّ عقده المقدس إلا بالموت، يرفع من قيمة المرأة إلى مستوى الرجل في وحدة الحقوق والواجبات. ولا تحرير للمرأة بدون وحدة الزواج الثابت.

ولا يفوت لوقا أن يذكر لنا وحده إِشادة إحدى النساء بيسوع : (( طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين رضعتهما )) ! ( 11 : 27 ـ 28 ).

يسوع يهتم بالمرأة ليحرّرها. والمرأة تهتم بيسوع لتؤازره. فينفرد لوقا بذكر النساء الأورشليميات اللواتي يعزين يسوع على درب الصليب، بالبكاء والنحيب، وتعزية يسوع لهن مقابل تعزيتهن ( 23 : 27 ـ 31 ).

إنجيل (( إنسانيّة )) يسوع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 173

لقد حرّر المسيح المرأة فأحبته حتى العبادة والاستشهاد. وتاريخ المسيحية حافل بالشهيدات والراهبات.

وأعطانا الإنجيل في العذراء مريم المثال المطلق للمرأة : بنتاً وزوجةً ( بتولاً ) وأماً.

فالإنجيل بحسب لوقا هو إنجيل تحرير المرأة.

 

6 ـ إنجيل العذراء مريم

إن الإنجيل بحسب لوقا يعطينا أجمل صورة للتي اصطفاها الله على نساء العالمين، واختصها بالكمال، لتكون أمّـاً للمسيح. فهي المثـال المطلق للمرأة المخلوقة على (( صورة الله )) .

مرقس الذي يكتب للرومانيين لا يذكر أم المسيح إلاَّ بلقب يسوع، (( ابن مريم )) ( 6 : 3 ) الذي درج من سوريا إلى جزيرة العرب.

ومتى يقص قصة المولد من زاوية يوسف الصديق، حاضن مريم.

أما الإنجيل بحسب لوقا فهو بالحقيقة إنجيل العذراء مريم.

ينفرد لوقا بذكر بشارة العذراء مريم بسر التجسّد الإلهي منها ( 1 : 26 ـ 38 ). جبريل رئيس الملائكة المقربين يهبط من السماء ويحييها باسم الله بلقب (( الممتلئة نعمة )) ، كأن الجمال والكمال، في النفس والتجسد، في العقل والقلب، قد تجسم فيها. ويخبرها أنها ستكون أماً بتولاً للمسيح، (( ابن الله العلي )) . فكان جوابها : (( ها أَنا أَمَةٌ للرب )) !

وتعرف مريم بخبر حبل نسيبتها العجوز أليصابات، فتسرع لتخدم نسيبتها في

174 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

شيخوختها وولادتها. فدخولها، والمسيح في حشاها، على أليصابات طهّر المعمدان وهو في بطن أمه، وحل روح الـرب عليه وعلى أمه. فقالت أليصابات : (( أنّى لي أن تأتي إليَّ أم ربي ! )) فأجابت مريم على تحيتها، وهي عندها، بنشيد التجسّد. وهو الأثر الأدبي الوحيد الذي حفظه الإنجيل لنا منها. وفيه صورة معجزة لأم المسيح، تظهر فيه شاعرة ونبية وصوفية ولاهوتية تعرف سر الله في تاريخ إسرائيل والوحي والخلاص، وهي ابنة خمس عشرة سنة تقريباً ( 1 : 46 ـ 56 ).

ولوقا يقص لنا وحده كيفية مولد المسيح في بيت لحم، وقد أوجز لنا الحادث الجلل (لو 2 : 1 ـ 20). قال لوقا : (( فولدت ابنها البكر. فقمطته وأضجعته في مذود، إذ لم يكن لهما موضع في النزْل )) ( 2 : 7 ). المسيح يولد في مغارة ويوضع في مَعْلَف للحيوانات. ومريم تخضع لحكم الله، وتشاطر ابنها تواضعه.

ثم تستقبل مريم الرعاة وقد أتوا يتحققون بشارة الملائكة لهم بمولد المخلص. (( وأقبلوا مسرعين فوجدوا مريم ويوسف الطفل مضجعاً في مذود )) . فقدموا هداياهم ورجعوا يحمدون الله ( 2 : 8 ـ 20 ).

وبعد ثمانية أيام تصير ختانة الصبي أي (( طهوره )) ، بحسب الشريعة الموسوية وتشرف على تسميته (( يسوع، على حسب ما سماه الملاك قبل أن يُحبل به )) ( 2 : 21 ).

وبعد أربعين يوماً تحمل الطفل إلى هيكل أورشليم، بحسب شريعة موسى، لتقدمه للرب، وتقرّب قربان الفداء عنه. وهناك تسمع نبؤة سمعان الشيخ في مصير ابنها (( موضوع خصام )) لا ينتهي، وموضوع ألم لها يحز في نفسها حزّ السيف، حتى الصلب ( 2 : 22 ـ 35 ).

وينفرد لوقا أيضاً بذكر حداثة يسوع مع أمه ويوسف في الناصرة إلى سن

إنجيل (( إنسانيّة )) يسوع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 175

الثلاثين : (( وكان الصبي ينمو ويتقوى، ويمتلئ من الحكمة. وكانت نعمة الله عليه )) ( 2 : 40 ). والصبي صورة أمه، يمثّل تقوى أُمه وحكمتها ونعمة الله عليها.

ويفسّر لنا لوقا فصلاً لحادث تخلّف يسوع، في سن الثانية عشرة، يوم الحج السنوي إلى هيكل أورشليم، وقد بلغ سن التكليف عندهم ( 2 : 41 ـ 52 ) نرى فيه صورة يسوع النبي وهو صبي يذهل العلماء بعلم الكتاب! ونرى فيه حنان الأم على ابنها.

ثم ينطلق يسوع في دعوته. ويجعل لوقا مطلع دعوة يسوع بالجليل، في جامع الناصرة، حيث يعلن تلميحاً، بنص نبؤة أشعيا فيه، أنه المسيح : (( اليوم تمت هذه الكتابة التي سمعتم! .. وكانوا جميعاً يشهدون له، ويعجبون بالكلام الطلي الذي ينطق به )) ( 4 : 14 ـ 21 ). لا يذكر الإنجيل اسم مريم. لكننا نشعر بشعورها وغبطتها في دعوة الإنجيل، وإعلان مسيحية يسوع.

ويستطرد لوقا إلى زيارة ثانية كانت أقل حماسة لدى مواطني يسوع؛ وقد ملأت الغيرة قلوبهم لتفضيل يسوع الإقامة في كفرناحوم على الناصرة. فأجابهم : (( لا كرامة لنبي في وطنه )) ملمحاً إلى قلة إيمانهم به ( 4 : 22 ـ 27 ). فكم تألمت العذراء من موقف بني قومها.

ويستطرد إلى زيارة ثالثة تمت فيها القطيعة بينه وبين أهل الناصرة، لأنه لم يفعل عندهم من المعجزات ما فعل في كفرناحوم. فأظهر لهم بتورية أن ذلك ناتج عن قلة إيمانهم. فأخذوه إلى قمة جبل الناصرة ليطرحوه منه، (( أما هو فجاز في وسطهم ومضى )) ( 22 : 28 ـ 30 ). لقد بدأَ السيف يحزُّ في نفس الأم.

ومضى يسوع في دعوته. وتفاقم الخلاف بينه وبين زعماء الموسوية. فأطلقوا الإشاعات على يسوع. واتهموه أنه (( شارد العقل )) . وأوعزوا إلى قومه أن يحجزوا رجلهم! فأرغم أهل الناصرة العذراء أن تذهب معهم. (( فلم يتمكنوا من الوصول إليه بسبب الجمع. فأُخبر وقيل له : إن أمك وأخوتك ( أي

176 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

عشيرتك ) قائمون في الخارج يريدون أن يروك. فأجاب وقال لهم : أُمي وأخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها )) ( 8 : 19 ـ 21 ). وهذا تعريض بهم وبكفرهم، لا يمس العذراء التي فرحت بنجاته من مؤامراتهم.

ويختم لوقا ذكر العذراء في الإنجيل بالثناء العاطر الذي كان نساء إسرائيل يثنين به على يسوع وأمه : (( طوبى للبطن الذي حملك! وللثديين اللذين رضعتهما! )) ( 11 : 27 ـ 28 ). والأجيال كلها تردد هذا الثناء بفخر واعتزاز.

فإذا كان الابن صورة أمه، فمريم العذراء، أم المسيح، مثال الكمال. وإذا كانت قيمة الأم من قيمة ابنها، فهي الممتلئة نعمة، المصطفاة على العالمين. فيحق للأجيال كلها أن تسميها مع نسيبتها أليصابات : (( أم الرب )) ( 1 : 43 ).

فالإنجيل بحسب لوقا هو أيضاً إنجيل مريم العذراء.

 

تلك هي بعض النواحي العامة والخاصة من (( إنسانية )) يسوع، يظهر فيها حقيقة المسيح المخلص لكل فئات البشرية.

إنها إنسانية من أَحب أن يسمّي نفسه (( ابن البشر )) أي الإنسان الكامل، دليلاً على سر شخصيته، وصفة دعوته؛ ودليلاً على (( إنسانيته )) صورة شخصيته.

فالمسيح عطف بلا عنف ولا ضعف. إنه مثال الإنسان الكامل.

فالإنجيل بحسب لوقا هو إنجيل إنسانية يسوع.

 

إنجيل العدالة الاجتماعيّة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 177

بحث سادس

إنجيل العدالة الاجتماعية

إن الإنجيل أوصل دعوة الأنبياء للزكاة والصدقة إلى كمالها، بدعوته إلى العدالة الاجتماعية. والإنجيل بأحرفه الأربعة دعوة، وشرعة دستورية للعدالة الاجتماعية. لكن الإنجيل بحسب لوقا يمتاز بهذه الدعـوة. وحملات المسيح على الثراء الفاحش، الـذي يسميه (( المال الظالم )) ( 16 : 9 ) نجدها عند لوقا، هذا السوري المهتدي، ربيب الثقافة الهلنستية الرومانية، الذي بهرته دعوة الإنجيل فاهتدى وهدى.

يستفتح السيد المسيح الدستور الإنجيلي في شِرْعة الملكوت بحملة شديدة على الفوارق الاجتماعية التي لا عدل فيها، ولا رحمة، ولا محبة. ومطلع خطابه التأسيسي على الجبل يحمل روح الإنجيل كله. ولوقا وحده ينقل لنا، بعد التطويبات للمحرومين، لعنات يسوع للظلم والظالمين :

(( طوبى لكم أيهـا المساكين

 

فإِن لكـم ملكـوت الله

طوبى لكم أيها الجيـاع الآن

 

فإِنكـم سـتشبعون

طوبى لكم أيها الباكون الآن

 

فإِنكـم سـتضحون

ولكن، ويل لكم أيها الأغنياء

 

فإِنكـم تتعـزّون

ويل لكـم أيهـا المُشْبَعون

 

فإِنكـم سـتجوعون

ويل لكم أيها الضاحكون الآن

 

فإِنكم ستنوحون وتبكون ))

     
   

( لوقا 6 : 20 ـ 26 )

178 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 6

فالسيد المسيح يلعن الغنى الظالم، ويطوّب الحرمان المظلوم. إن الإنجيل يحمل، لا على الثروة بحدّ ذاتها، بل على (( المال الظالم )) كما يسميه ( 16 : 9 )، هذا المال الظالم الذي لا يحسب للغير حساباً، ولا للعامل حقاً، ولا للخير المفروض واجباً. إنه يلعن الغني الفاسق (( لأنه يستغني لنفسه، لا في سبيل الله )) ( 12 : 21 )، فهو في خطر نسيان الله (12: 13 ـ 20)، وفي خطر نسيان أخوته في البشرية المحرومين ( 16 : 19 ـ 31 ). ويسوع يكره الفريسيين المتظاهرين بالتقوى لصَلَفهم في معاملة الشعب ( 18 : 14 )، ولمحبتهم للمال على حساب الله والناس ( 16 : 14 )، فقال لهم : (( أنتم توهمون الناس أنكم صديقون، لكنَّ الله عليم بقلوبكم : فإن الرفيع عند الناس ( كناية عنهم ) هو رجس عند الله! )) ( 16 : 14 ـ 15 ).

وقد لاقت هذه الدعوة صدى طيّباً في جميع الأوساط، فتبعه كتلميذات رسولات بعض نساء كُن قد برئن من أرواح شريرة وأمراض : وهن مريم التي تدعى المجدلية التي خرج منها سبعة شياطين؛ وحنة امرأة كوزى قيّم هيرود، وسوسنة، وأُخر سواهنَّ، كنَّ يبذلن من أموالهنَّ في خدمته )) ( لوقا 8 : 2 ـ 3 ). وتبعه كتلاميذ بعض الأغنياء والوجهاء مثل زكا العشار الثري في أريحا ( 19 : 2 ـ 9 )، ومثل الوجيه يوسف الرامي ( 23 : 50 ). وينقل لنا لوقا، في سفر الأعمال، كيف وضع المسيحيون الأوائل دعوة المسيح موضع التنفيذ بالحياة الاشتراكية في ما بينهم ( أع 4 : 32 ـ 37 الخ ).

وقد جعل السيد المسيح القاعدة الأولى من الدستور الإنجيلي لتحقيق العدالة الاجتماعية، تحريم عبادة المال : (( لا يمكنكم أن تعبدوا الله والمال )) . والسبب الموجب: (( ما من خادم يستطيع أن يخدم ربين : فإِما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلزم الواحد ويرذل الآخر. فلا يمكنكم أن تعبدوا الله والمال )) ( 16 : 13 ). هذا (( المال الظالم )) الذي يفرّق بين العبد وربه، وبين العبد وأخيه، هو عدو الله والناس.

إنجيل العدالة الاجتماعيّة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 179

وقد جعل السيد المسيح القاعدة الثانية من الدستور الإنجيلي، لكي تستقيم العدالة الاجتماعية : الزهد في عبادة المال، لأن مرض حب المال هو أصل كل بلاء في العالم. والدواء لهذا المرض العضال هو الزهد في حب المال.

والزهد، بحسب روح الإنجيل، لا يعني الكسل في العمل، فالكسول ممقوت عند الله والناس؛ ولا يعني القعود عن طلب الحياة الكريمة. فقد يذهب الإنجيل، في مثل الأمْناء1 والعمال، لحمل الناس على الجهاد في سبيل الحياة الكريمة، إلى حدّ الإباحة بالربى المباح، من قوله للعبد الكسلان : (( أيها العبد الرديء، من فمك أدينك : قد علمتَ إني إنسان قاس، آخذ ما لم أودع، وأحصد ما لم أزرع، فلمَ لم تجعل فضتي في المصرف، حتى إذا ما رجعت استردها مع الربى ؟! )) ( 19 : 22 ـ 23 ). فملك المثل يكافئ العامل الذي عمل على استثمار مَنَاه، بتَولِيَتِه على مدن بقدر ما ربح؛ ويرذل العامل الذي اكتفى بالمحافظة على مال سيده دون استثماره، ويأمر بتحويل مال العامل الكسول إلى العامل المجاهد. فالزهد المسيحي هو تجرد القلب عن حب الدنيا ـ لا الهرب منها ـ ليظل الله سيده، لا المال يستعبده. ففي دعوة الزهد الإنجيلية تحرير للإنسان من عبودية الدنيا، لأن النفس أكبر من الدنيا لا يملأها إلا الله : (( لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض، حيث العث والصدأ يُتلفان، وحيث اللصوص ينقبون ويسرقون! بل اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يتلف عث ولا صدأ، وحيث لا ينقب لصوص ولا يسرقون. فإِنه حيث يكون كنزك، فهناك يكون قلبك أيضاً )) ( متى 6 : 19 ـ 21 ). فليست دعوة الزهد الإنجيلية تحريم الطيبات في الحياة، بل التحرير من قيودها وحدودها للانفتاح على الله الخير الأسمى.

أجل لقد فهم بعض المسيحيين دعوة الزهد الإنجيلية على أنها انقطاع عن

ــــــــــــــــــ

(1) المَنا نحو ماية غرش ذهباً.

180 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 6

الدنيا، فصاروا نسَّاكاً وسائحين ورهباناً. وهذه الرهبانية كمال مرغوب، لا فرض مطلوب؛ فهي ليست شرْعة إنجيلية مفروضة على البشرية، لا تُفهم المسيحية إلاَّ بها؛ إنما هي حالة استثنائية في المجتمع المسيحي، كما أظهر المسيح نفسه ذلك، في سؤال الشاب الغني له: (( يا معلم ماذا عليَّ أن أعمل من الصلاح لأحرز الحياة الأبدية ؟ ـ فقال له : إن شئت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا... وقال له يسوع: إِن شئت أن تكون كاملاً فاذهبْ وبع مالك واعطه للمعوزين، فيكون لك كنز في السماوات، ثم تعالَ اتبعني )) ( متى 19 : 16 ـ 26؛ لوقا 18: 18 ـ 30 ). فطريق الحياة بحفظ الوصايا مفروض، أما طريق الكمال بالتجرّد الكامل فهو استثناء اختياري.

فالمادة الثانية من الدستور الإنجيلي لتحقيق العدالة الاجتماعية هي دعوة الزهد في التكالب على الدنيا، التي تحمل أهل الثروة على الاعتدال في كسب المال، وتحمل المحرومين على الاعتدال في طلب المال؛ فلا تنحرف البشرية إلى حرب الطبقات. فالدعوة الإنجيلية للزهد تقود إلى التوازن في العدالة الاجتماعية.

والقاعدة الثالثة من الدستور الإنجيلي لتحقيق العدالة الاجتماعية هي الدعوة للعطاء والبذل، من فوق الزكاة والصدقة اللتين طالب بهما الكتاب.

والإنجيل لا يعتبر العطاء والبذل حسنة، بقدر ما هما حق وعدل. فتوزيع (( المال الظالم )) ( لوقا 16 : 9 ) عدل لا تبرّع، لأن (( الظالم في القليل ظالم في الكثير أيضاً )) ( لوقا 16 : 10 ).

والإنجيل يُكثر من ذكر العطاء والبذل، مع تعميم يمتاز به أسلوب لوقا : (( كلُّ من سأَلك فأعطه! ومن أخذ مالك ( عن حاجة قصوى إليه ) فلا تطالبه به! ( 6 : 30 ). وفي سبيل التحريض على البذل والعطاء لا يتردّد في هذا الأمر : (( بعْ كل مالك ووزعه على المساكين! )) ( 18 : 22 ). ويعطينا صوفية هذا الأمر : (( بيعوا ما تملك أيديكم وتصدّقوا! اصطنعوا لكم أكياساً لا تبلى، وكنزاً

إنجيل العدالة الاجتماعيّة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 181

في السماوات لا ينفد، لأنه حيث كنزكم فهناك قلبكم )) ( 12 : 33 ـ 34 ). فصوفية الصدقة أنها تزكي الإنسان : (( فتصدقوا بالحري بما في وسعكم، وكل شيء يكون طاهراً لكم )) . أجل، لا يكلّف الله نفساً إلا وُسْعَهَا، حتى لو كان فلس أرملة، فهو في عين الله أعظم من فضلة ثروات الأغنياء ( 21 : 1 ـ 4 ).

فالبذل والعطاء من (( المال الظالم )) المكدّس ضرورة للخلاص : (( اصطنعوا لكم أصدقاء بالمال الظالم، حتى إذا نفذ يقبلونكم في المظال الأبدية )) ( 16 : 9 ). والدعوة الإنجيلية لبذل (( المال الظالم )) هي ما نسميه في لغة العصر توزيع الثروات. وهي سبيل أخرى شرعها الإنجيل لتحقيق العدالة الاجتماعية. فأمر الإنجيل بتوزيع (( المال الظالم )) هو الأساس الديني والحقوقي والاجتماعي في توزيع الثروات للقضاء على مشاكل الإنسانية، كالجوع والمرض والجهل.

فالعدالة الاجتماعية الإنجيلية هي الاشتراكية الصحيحة.

والقاعدة الرابعة من الدستور الإنجيلي لتحقيق العدالة الاجتماعية هي شرعة محبة الغريب. وشرعة المحبة تفرض أكثر مما تطلب العدالة. فالعدالة تكتفي بالحقوق، لكنها لا تقضي على النوازع والمنازعات. فالعدالة أساس لا بد منه؛ لكن المحبة تفعل ما لا تفعله العدالة، فهي تكميل لها وكمال. فالإنجيل يريد أن يرفع العدالة الاجتماعية إلى أقصى أبعادها في تكميلها بشرعة المحبة.

والمحبة الإنجيلية التي تكمّل العدالة الاجتماعية فقد طوّرها السيد المسيح عمَّا في التوراة والنبيين، في موضعها وشمولها.

فلا يكتفي بالمحبة السلبية، التي لا تفعل سوءاً بالقريب، كما في الشرع التوراتي: (( ما تكره لنفسك، لا تفعله لغيرك )) ( طوبيا 4 : 15 ). بل يعطينا هذه القاعدة الذهبية : (( ما تريدون أن يفعل الناس لكم، فافعلوه أنتم أيضاً لهم )) (لوقا 6 : 31)؛ أو كما نقل متى: (( فكل ما تريدون أن يفعل الناس لكم،

182 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 6

فافعلوه أنتم أيضاً لهم : فذلك هو الشريعة والنبيّون )) ( 7 : 12 ). فقد نقل السيد المسيح المحبة من السلبية إلى الإيجابية.

وكان اليهود، مثل غيرهم، يقتصرون القريب على ابن القومية والدين : فالمحبة تقتصر عندهم على اليهودي؛ أما الولاء لغير اليهودي فهو محرم. فجعل الإنجيل محبة القريب تشمل جميع البشر، حتى أعداء القومية والدين. وهذه عبقرية من عبقريات الإنجيل لا مثيل لها من قبل ولا بعد. وقد أظهر ذلك يمثل صارخ، قصة السامري واليهودي الذي تركه أهل دينه وقوميته يموت على قارعة الطريق ( لوقا 10 : 25 ـ 37 ). وفلسفة الإنجيل في ذلك: (( إن أحببتم من يحبكم فأي فضل لكم ؟ فإن (( الخاطئين )) أيضاً يحبون من يحبهم! )) ( 6 : 32 ـ 33 ) ـ وتعبير (( الخاطئين )) في مثل هذه المواطن كناية عن المشركين ـ فلنتمثل بأبينا السماوي، ولله المثل الأعلى: (( لكي تكونوا بني العلي، فإنه يُنعم على الكفار والأشرار )) ( 6: 35 ). فالمحبة الإنجيلية المفروضة هي فوق القوميات والديانات : إنها إنسانية شاملة كاملة.

فتلك المحبة الإنجيلية التي تهب السائل ولا تسترجع ما يأخذه المحروم، التي تقرض مَن لا أمل بالاستيفاء منه، التي تحب العدو فتكسبه باللطف، لا بالعنف ( 6 : 27 ـ 35 )؛ تلك المحبة هي التي تكمّل العدالة الاجتماعية التي يدعو لها.

فالعدالة الاجتماعية حدّ أدنى في شريعة الإنجيل، لا تستقيم إلا بشرعة المحبة. فالعدالة تضمن الحق، لكن المحبة تفرض الإخاء الذي يجعل من جميع الناس (( أبناء العلي )) ( 6 : 35 ).

وما رأيناه في إنجيل المحرومين، وإنجيل الخاطئين، وإنجيل تحرير المرأة، هو أعمدة أخرى من قواعد الدستور الإنجيلي الاجتماعي. فيسوع المخلص يُظهر عطفاً خاصاً على جميع المحرومين في الأرض. وتفضيل المسيح للفقراء والمساكين وسائر المحرومين صريح في الإنجيل، كما أن مقته للأغنياء القاسين الفاسقين ملموس.

إنجيل العدالة الاجتماعيّة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 183

فالسيد المسيح، وهو الغني عن العالمين، أراد أن يظهر على الأرض فقيراً تضامناً مع المحرومين، وأسوة للفقراء والمساكين. وأحداث سيرته قدوة حسنة. ففي مولده يزوره الرعاة، قبل المجوس الأغنياء ( لو 2 : 8 ). وكانت التقدمة لله عنه في الهيكل قربان الفقراء ( 2 : 42 ). ثم يعيش عاملاً في الناصرة، من تعب يديه وعرق جبينه، حتى عرفه الناس (( النجار، ابن مريم )) ( مرقس 6 : 3 ). وفي دعوته، يعطي المحرومين قصة لعازر مثالاً للصبر الجميل ( 16 : 20 )؛ ويقدم للجماهير المحتشدة في الهيكل بعيد الفصح مثل الأرملة الفقيرة التي تتبرّع بفلس لبيت الرب، يفضّله على تبرعات الأغنياء أجمعين، لأنهم هم أعطوا من فضلة ثرواتهم، أما هي فقد أعطت كل ما عندها ( 21 : 3 ). وللمسيح المثل الأعلى في سيرته : (( فابن البشر ليس له موضع يسند إليه رأسه )) ( 9 : 58 ). فصار الفقر المسيحي، بمثل المسيح ودعوته، اكليل نبل وفضيلة. فسيرته مثل للفقراء والأغنياء على السواء، للوصول إلى حلّ صحيح يحفظ كرامة الإنسان في العدالة الاجماعية، المتوّجة بالمحبة الإنسانية، لبناء العدل والإخاء في البشرية.

فالإنجيل هو واضع قواعد العدالة الاجتماعية الصحيحة.

 

f

184 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

بحث سابع

الدستور الإنجيلي

( في نظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية )1

ظهرت المسيحية في ذروة التطور في الوحي و التنزيل، كما تقول الرسالة إلى العبرانيين : (( إن الله، بعد إِذ كلم الآباء، قديماً بالأنبياء، مراراً عديدة وبطرق شتى، كلّمنا نحن أيضاً في هـذه الأيام، وهي الأخيرة، بالابن الذي جعله الوارث لكل الأمور، كما به أنشأ الدهور )) ( 1 : 1 ـ 2 ). وصدّق القرآن هذا بقوله : (( ولقد آتينا موسى الكتاب، وقفّينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى ابن مريم، البيّنات، وأيدناه بروح القدس )) ( البقرة 87 ). فالإنجيل ذروة وحي الله للناس، ففيه القول الفصل.

كانت المسيحية الثورة الكبرى في تاريخ البشرية، في الدين والدنيا، بمبدإِ فصل الدين عن الدولة، في نُظُمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ لأن الدولة، كل دولة، هي قومية، والدين المسيحي عالمي لكل زمان ومكان. وبما أن الوحي الإنجيلي فصل الدين عن الدولة، وهو الداعي لإِنشاء ملكوت الله على الأرض، لا نجد فيه دعوة قومية أو دعوة سياسية تقتضي تأسيس دولة دينية

ــــــــــــــــــ

(1) ننقل هنا عن مجلة المسرة ( حزيران 1965، ص 407 ) مقالة كتبناها بمناسبة محاضرات الندوة اللبنانية للعام 1965 (( المسيحية والإسلام في لبنان )) : (( المسيحية والقضايا الاقتصادية والاجتماعية )) . وذلك في سبيل الحوار بين المسيحية والإسلام. ونعتذر عما ورد في المقالة من مقارنات يفرضها الحوار، وليست من روح هذا الكتاب ولا من موضوعه.

الدستور الإنجيلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 185

ثيوقراطية بنُظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ترتبط ارتباطَ كل دولة بالمكان والزمان. ولكنا نجد في الدستور الإنجيلي مبادئ عامة تُدخل روح الدين إلى كل دولة ونظمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تصلح لكل زمان ومكان في تطوّر البشرية، لعدم ارتباطها بقومية أو سياسة. فسندرس في هذه العجالة الخطوط الرئيسية للدستور في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الوحي الإنجيلي.

تمهيد : المبدأ الإنجيلي في فصل الدين عن الدولة

إن الظاهرة الكبرى في تاريخ البشرية أن الأديان، الكتابية وغير الكتابية، كانت ثيوقراطية تجعل الدين دولةً دينيةً، كما جاء الإسلام والموسوية من قبلُ ديناً ودولة معاً. فكان الإسلام في ذلك عوداً على بدء، بعد المسيحية، إلى (( ملة إبراهيم )) ؛ وكانت المسيحية الثورة الكبرى، في تاريخ الأديان قاطبة، بفصلها الدين عن الدولة لتخليص الدين من ملابسات القومية والسياسية، المرتهنة ضرورة بزمان ومكان، وقد لا تصل لكل زمان ومكان في تطور البشرية الصاعد.

أجل كان الوحي الإنجيلي دعوة إلى إنشاء ملكوت الله على الأرض، كما يظهر من الأناجيل المؤتلفة؛ ولكن (( ملكوت الله )) في دعوة الإنجيل، ليس دولة من هذا العالم، كما صرح السيد المسيح نفسه بشهادته، قبل استشهاده، أمام الوالي الروماني، في محاكمته المدنية على دعـوة المُلك كما اتهمه اليهود؛ فقال: (( أجل أنا ملك! ولكـن مملكتي ليست من هذا العالم )) ( يوحنا 18 : 36 ) إنها مملكة الحقيقة والمحبة على العقول والقلوب.

مع أن السيد المسيح قبل ذلك بأيام قلائل، إذ جابهه اليهود بمشكلة الدين والقومية تجاه الاستعمار الروماني، وعنوانه تأدية الجزية لقيصر، صرّح بلا مواربة : (( اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله )) ( متى 22 : 21 )، فشرع

186 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

بذلك، منذ تلك اللحظة التاريخية الحاسمة، فصل الدين عن الدولة : فالدين لله، سواء كانت الدولة دولة قيصر أم هيرود أو أحد أحفاد داود. وهذا الفصل بين الدين والدولة لا يعني الانفصال، بل التمييز والاعتدال؛ فهو لا يقضي بالسلبية على المسيحي في شؤون القومية والدولة، بل بالإيجابية في الدين والدولة، لكن في كل منهما في قطاعه الخاص : فلا يتلبس الدين بالدولة، ولا الدولة بالدين. وبمبدإِ فصل الدين عن الدولة سنَّ الإنجيل دستوراً تخلق مبادئه الثورية المدينة الفاضلة في الدولة الفاضلة، وتطبّق على كل نظام سياسي واجتماعي واقتصادي يرافق تطور البشرية في كل زمان ومكان.

وهنا نتساءل : كيف عاشت المسيحية في تاريخها مبدأ فصل الدين عن الدولة ؟

في عهدها الأول، وفي صراعها مع الوثنية، عاشت المسيحية معركة الوجود في الدولة الرومانية المسيطرة على المسكونة : فآمنت بالله ومسيحه، واستشهدت في سبيل إيمانها فأروت المسكونة بدماء شهدائها حتى استحقت أن ترث مملكة قيصر. فعاشت هكذا، مبدأ فصل الدين عن الدولة. ولكن لما تنصّرت الدولة الرومانية شرقاً وغرباً وجدت المسيحية نفسها منخرطة في دوامة الدولة الرومانية مع كل مؤسساتها ورواسبها الوثنية من سيطرة قيصر على الدولة والدين. فعاشت المسيحية طول القرون الوسطى تجربتين متعارضتين :

عاشت تجربة الغرب المسيحي بسيطرة الدين والكهنوت على الدولة : فقام صراع متواصل بين السيف والتاج على السلطان في الأمة المسيحية؛ فكان في ذلك أمجاد البابوية في القرون الوسطى ومآسيها، حتى عملت القوميات المختلفة على تفكك المسيحية في الغرب، وما بين الشرق والغرب.

وعاشت المسيحية تجربة الشرق المسيحي بسيطرة الدولة على الدين : فكان تمزيق المسيحية الشرقية، بسبب النزعة القومية الاستقلالية، مما أدى إلى انقراضها في المشرق أو يكاد، وإلى انحسارها في الشمال، وإلى توقف مدّها في الجنوب والشرق.

الدستور الإنجيلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 187

وفي العصور الحديثة أخيراً، بعد التجربة المزدوجة المريرة في مزج الدين بالدولة، وتجاه الواقع المرير الذي وصلت إليه، اضطر التاريخ المسيحية إلى الرجوع إلى الروح الإنجيلية الصحيحة في فصل الدين عن الدولة، لترتفع فوق صراع القوميات، واقتتال السياسات، وانعزال الثقافات المختلفة.

فبرزت المسيحية، بمبدإِ فصل الدين عن الدولة، ديناً يصلح لكل دولة، ولكل قومية وثقافة وسياسة. وذلك منذ سنّ الإنجيل هذا المبدأ الثوري في تاريخ البشرية. وهذا المبدأ هو إحدى عبقرياته.

 

 

أولاً : النظام السياسي في الدستور الإنجيلي

المسيحية أُمـة جديدة، من كل الأمم، بعقيدتها وشريعتها وصوفيتها، ولكـل الـدول، (( لتجمع في الوحدة أبناء الله المتفرّقين )) ( يو 11 : 52 )، (( فقد افتقد الله الأمم ليتّخذ منهم شعباً لاسمه )) ( أعمال 15 : 14 ) كما قال : (( سأعود شعباً مَن ليس بشعبي؛ وفي الموضع الذي يقول لهم فيه : لستم بشعبي، هناك يُدعون أبناءً لله الحيّ )) ( رو 9 : 25 ) (( ليكون للأمم قسمة ميراث مع القديسين )) ( أعمال 26 : 18 ). لذلك تعترف المسيحية بشرعية كل سلطان شرعي، حتى سلطان نيرون المضطهد الأول للمسيحية؛ ولا تقول : لا يلي أمر المسيحيين إلا مسيحي! لأن الدين لله، والوطن والدولة للجميع. يفصّل بولس الوحي الإنجيلي فيقول : (( ليخضع كل واحد للسلطات القائمة، فإنه لا سلطان إلاَّ من الله؛ والسلطات القائمة إِنما قد رتّبها الله : فمن يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمعاندون يجلبون الدينونة على أنفسهم ... لأن السلطان إنّما هو خادم الله للخير )) ( رو 13 : 1 ـ 4 ).

ولكن السلطان الشرعي مقيّد بحدود الله وحقوق الشعب ( متى 20 : 25؛ لو 13 : 32 ). فالمسيحية تنادي بمبدإِ الشخصية الإنسانية المقدس : شخص

188 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

يتجسّد ابن الله لأجله، ويستشهد في سبيل فدائه، هو شخص في نظر الله عظيم؛ فلا يحق لأي نظام بشري أن يمس كرامته، فكل نظام سياسي لا يحترم الشخصية الإنسانية في الفرد والمجتمع ليس من المسيحية في شيء!

ومن تلك الحدود والقيود للسلطان أيً كان، مبدأ الحرية الإنسانية. فالإنسان مكلّف مسؤول أمام ربّه ونفسه ومجتمعه القومي والإنساني، ولا مسؤولية بدون حرية. والإنجيل دعوة إلى الحرية، الحرية الدينية والمدنية معاً، ذلك بأن (( الإنجيل هو الشريعة الكاملة، شريعة الحرية )) ( يعقوب 1 : 25 ). قال السيد المسيح مستشهداً بنبوة أشعيا فيه ( 61 : 1 ـ 2 ) : (( روح الرب عليّ فقد مسحني لأبشر المساكين! أرسلني لأنادي بالحرية للمأسورين وأطلق أحراراً المرهقين! وأعلنها سنة نعمة لله )) ( لو 4 : 18 ). وقال أيضاً : (( تعرفون الحق! والحق يحرّركم! )) ( يو 8 : 32 ). فردّد بولس : (( لقد حرَّرنا المسيح، ودعانا إلى الحرية، فأثبتوا عليها ولا تعودوا ترتبطون بنير العبودية )) ( غلا 5 : 1 ). وما يصح في الدين يصح في الدولة.

هذه الحرية التي تنادي بها الدعوة الإنجيلية شاملة لكل إنسان، فلا تقتصر كما في غير المسيحية على أهل الدين والقومية، بل تشمل كل إنسان من كل دين وقومية ودولة، فلا يقضي الإنجيل عليهم (( أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون )) 1.

والدعوة الإنجيلية تنادي بمبدإِ الأخوّة الإنسانية. ميزة الشريعة المسيحية شرعة المحبة الشاملة، التي تجعل محبة القريب من محبة الله : فالوصية الأولى أحبب الله! والثانية التي تشبهها أحبب قريبك كنفسك! بهاتين الوصيتين تختصر الشريعة والنبيون ( متى 22 : 34 ـ 40 ). وبما أن اليهودية، مثل

ــــــــــــــــــ

(1) وليس الاستعمار الغربي أو الشرقي من المسيحية في شيء، بل هو وليد السياسية المادية التي لا تعرف الإنجيل.

الدستور الإنجيلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 189

غيرها، تقتصر (( القريب )) على أهل الدين والقومية، صرّح المسيح : (( سمعتم أنه قيل : أحببْ قريبك وابغض عدوك! ما أنا فأقول لكم : أحبوا أعداءَكم، وصلوا لأجل مضطهديكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يُطلع شمسه على الأشرار والصالحين، ويُنزل الغيث على الأبرار والظالمين )) ( متى 5 : 43 ـ 45 ). وضرب على ذلك مثل السامري، وكان السامري، في نظر اليهودي، عدوّ الدين والقومية؛ فصار قريباً لليهودي الذي اعتدى عليه قطَّاع الطريق من اليهود، أكثر من اللاوي والكاهن اللذين أبصراه منازعاً فأعرضا عنه وجازا في طريقهما ( لوقا 10 : 25 ـ 37 ). يقولون : (( إنما المسلمون أخوةً! )) . وتقول المسيحية : (( إنما المسيحيون أخوةً )) ؛ وتقول أيضاً : (( وإنما البشر جميعاً أخوة )) ، فلا تحصر الولاء بين أبناء الدين الواحد.

والدعوة الإنجيلية تنادي بمبدإِ المساواة الإنسانية : (( ليس من بعد يهودي وأمي! عبد وحر! ذكر وأنثى! لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع )) ( غلا 3 : 27 ). إنها المساواة المطلوبة بين الرجل والمرأة! بين المؤمن والمشرك! فلا تُقتصَر المساواة على أهل الدين والقومية فيُقال كقول اليهود وغيرهم : (( إنما المشركون نجسٌ )) ؛ بل تقول مع بطرس خليفة المسيح الأول : (( لقد أيقنت حقاً أنه ليس عند الله محاباة وجوه، فمن أتقاه في كل أمة، وعلم البر، ينال رضاه! )) ذلك أن بطرس رأى رؤيا، وسمع صوتاً يناديه : (( ما أعلنه الله طاهراً فلا تدْعُه أنت نجساُ )) ( أع 10 : 15 و35 ). فليس اختلاف العقيدة بنجاسة، بل الخطيئة وحدها نجاسة!

فتلك المبادئ الثلاثة، الحرية والأخوّة والمساواة، التي نادت بها الثورة الفرنسية ثم أخذت تغزو العالم كله، تلك المبادئ الذهبية ليست وليدة الثورة الفرنسية، بل هي من الثورة الإنجيلية كما رأينا بنص الوحي الإنجيلي القاطع. فالإنجيل هو على أساس التكافؤ بين الأفراد والمجتمعات، في الحقوق والواجبات.

190 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

وتقوم أخيراً الحياة الاجتماعية في الدولة الفاضلة، والأمة الفاضلة، على هاتين القاعدتين الذهبيتين اللتين يختم بهما السيد المسيح تصديق وتفصيل شرعة التوحيد في الكلمات العشر لموسى الكليم، ينقلها من الظاهرية إلى الباطنية، ومن السلبية إلى الإيجابية، ومن المادية إلى الروحانية. (( فكونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل! )) (متى 5 : 48)؛ وتصديق وتفصيل أركان الدين والبرّ : (( فكل ما تريدون أن يفعل الناس لكم فافعلوه أنتم أيضاً لهم! ذلك هو الشريعة والنبيون! )) ( متى 7 : 12 ). وعلى ضوء تلك المبادئ الإنجيلية الدستورية تتم الثورة المسيحية الكبرى في العالم، وتصان حقوق الراعي والرعية، في كل نظام سياسي لكل دولة. وهكذا يتنصّر كل نظام سياسي، في استقلاله الذاتي عن الدين، بتأثير الدين فيه. ويقوم ملكوت الله في دول العالم كلها، كما نصلي : (( ليأتِ ملكوتك، على الأرض كما في السماء )) .

 

 

ثانياً : النظام الاجتماعي في الدستور الإنجيلي

ليس الاجتماع عقداً بشريّاً فحسب، بل هو فطرة الله التي فطر الناس عليها: (( تكاثروا واملأوا الأرض واستولوا عليها )) ( التكوين 1 : 28 ). ومحور الاجتماع العائلة القائمة على الزواج المشروع. لذلك يقوم النظام الاجتماعي على الفرد والعائلة والمجتمع، في حقوقهم وواجباتهم :

1) فالفرد أولاً هو الإنسان في الواقع، طفلاً ورجلاً، في شخصيته الإنسانية، خليفة الله في أرضه، خلقه الله على صورته كمثاله، وسلّطه على الأرض والكون. فقدسية الفرد من قدسية الشخصية الإنسانية.

صار المسيح طفلاً ليكون مثال الأطفال في قيمتهم ومعاملتهم : الطفل أمانة السماء بعنق الأهل ليتعهدوه كما تعهدت العائلة المقدسة يسوع الذي طوّب

الدستور الإنجيلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 191

الأطفال كما طوّب الفقراء في رسالته ( متى 18 : 1 ـ 5 ). والطفل في المسيحية يتسلّم دينه بالعماد في الأيام الأولى بعد ولادته، إشعاراً بحقه بالشركة في الدين طفلاً، وضرورة تربيته الدينية، كتربيته المدنية والثقافية. فليس الطفل، سواء كان ذكراً أم أنثى، مقصى عن الدين وشعائره، لا يُسلّم دينه ويجبر على القيام بشعائره إلا متى كبر!

والرجل، ذكراً كان أم أنثى، (( صورة الله )) في خلقه؛ وصورة المسيح في دينه. لقد اختصر علماء الكلام معطيات الوحي الإنجيلي في قيمة الإنسان المسيحي بقولهم إنه (( مسيح آخر )) . فليس الإنسان الفرد في المجتمع آلة أو سلعة أو عدداً نكرة يتصرّف فيه ذوو السلطان على هواهم : إنه له حرمته وله قدسيته، ذكراً أو أنثى.

والمرأة بنظر الإنجيل في مساواة تامة مع الرجل، بنتاً وزوجة وأمّاً. فالمسيح لا يُنسب إلاَّ إلى أمه : إنه (( ابن مريم )) ( مر 6 : 7 ) فقيمة المرأة من قيمة أبيها وزوجها وابنها! وفي المسيحية، المرأة بالنسبة إلى الرجل كالكنيسة بالنسبة إلى المسيح : إِنها جسده (أف 5 : 23). وما الفوارق الطبيعية بينهما بفوارق تقديرية: إنها للتكامل المتبادل جسداً وقلباً وعقلاً. فهي كالرجل مكلفة بدينها وشعائر دينها منذ ولادتها. فليست هي في المسيحية كما في اليهودية وغيرها، (( نَجَساً )) لمسها ينقض الوضوء للصلاة! وليست سجينة في دار للحريم لا تنال من الثقافة ومتاع الحياة إلاَّ ما يقدمه لها بيتُها الأبوي والزوجي. فالسيد المسيح نراه يحتاط بتلميذات، كما يحتاط بتلاميذ، في رسالته ودعوته : (( وبعدئذ أخذ يسوع يجول في المدن والقرى يدعو ويبشر بملكوت الله، وكان معه الاثنا عشر، وبضع نساء ... كنَّ يبذلن من أموالهن في خدمته )) ( لو 8 : 1 ـ 3 ). ولا يسكت الإنجيل عن فضل المرأة: (( الحق أقول لكم: إنه حيثما دُعي بهذا الإنجيل، في العالم كله، يُخبرُ أيضاً بما فعلت هذه المرأة تذكاراً لها )) ( متى 26 : 13 ).

192 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

2) الاجتماع البشري فطرة مبنية على الزواج : فالزواج والعائلة ظاهرتان طبيعيتان اجتماعيتان، اقرتهما المسيحية، ورفعتهما إلى مرتبة سرّ مقدس ديني! ومن ثم فالزواج المسيحي ليس عقداً بشريّاً اجتماعيّاً فحسب، كما في سائر الأديان، بل هو عقد مقدس يقدس الزوجين في عقده وممارسته! فقد رفعت المسيحية فكرة الزواج إلى فكرة الله، في مشاركة المخلوق للخالق في خلق الإنسان، لذلك جعلته سراً مقدساً يقدس الزوجين في حياتهما الزوجية، ويرفعهما من الحيوانية إلى الإنسانية الكاملة المسيحية، على مثال المسيح والكنيسة : (( لذلك يترك الرجل أباه وأُمه، ويلزم امرأته، فيصيران كلاهما جسداً واحداً. إن هذا السر العظيم! أقول هذا بالنسبة للمسيح والكنيسة )) ( أفس 5 : 31 ـ 32 ).

وقد أَرجع السيد المسيح الزواج إلى قدسيته الأولى، بفرض الوحدة الزوجية، وتحريم الطلاق وتعدّد الزوجات، مع أنه أدرى منَّا بالمآسي الزوجية أحياناً، تلك المآسي التي في نظر الناس قد تقتضي الطلاق أو التعدّد : فعند الحاجة يُضحّى بالفرد لمصلحة الجماعة.

فالوحدة الزوجية تحفظ كرامة الرجل والمرأة، وتحفظ كيان العائلة، خليّة المجتمع البشري. والطلاق والتعدد، أيّاً كانت أسبابهما، يهدران كرامة الإنسان في الرجل والمرأة، ويهدمان كيان العائلة والمجتمع. فالطلاق انتهاك للرباط الزوجي المقدس، وإهانة للمرأة التي كرامتها من كرامة زوجها؛ وامتهان لحقوق الأمومة، وحقوق البنوّة الصحيحة. وتعدد الزوجات ابتذال للحب الإنساني، وتبذّل لكرامة الزوجين, وسبيل إلى فقدان الثقة الزوجية، التي هي ركن العائلة. أمّا وحدة الـزواج فصوْن لحرمة وكرامة الأبوة والأمومة والزوجية والبنوّة : فالأبوة ليست عملاً شهوانياً، بل هي قيمة معنوية إنسانية تفقد معناها في الطلاق وتعدد الزوجات. والأمومة ليست حاجة بشرية لا غير عند المرأة، بل هي قيمة إنسانية ترفع المرأة إلى سموّ (( الأم )) ، وتفقد معناها بالطلاق وتعدّد الزوجات. والزوجية ليست معاشرة عابرة، وإنما هي وحدة

الدستور الإنجيلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 193

الجسدين التي هي سبيل ودليل على وحدة القلبين والنفسين، وتفقد هذه الوحدة الجسدية والروحية كل معناها في الطلاق وتعدد الزوجات. والبنوّة حرمة مقدسة يطعنها الطلاق وتعدد الزوجات في الصميم. فتفكيك العائلة بالطلاق وتعدد الزوجات تضييع لكل هذه الحرمات والكرامات والقيم الإنسانية التي أرادها الله في كتاب الخلق وكتاب الوحي الإنجيلي.

3) ونظام العائلة له قدسية لا تمس ( أف 5 : 21 ـ 6 : 4 ) : فمن مسّها مسّ النظام الطبيعي، والاجتماعي المسيحي. فالتفريق بين الولد وأهله يطبعه بطابع غير طبيعي، والتفريق بين الزوجين لسبب من الأسباب، خيانة لسنّة الطبيعة والإنجيل، كما نرى ذلك في بعض الأنظمة الجماعية. ثم ان الزوجين متساويان في الحقوق والواجبات، وإِن ميّزت بينهما الطبيعة للقيام ببعض الأعمال الخاصة المتكاملة : فالرجل هو رب العائلة في الشريعة الإنجيلية، ولكن ليس دكتاتورها أو جلاَّدها! إِنه (( رأس المرأة )) لا سيدها (1 كور 11 : 3)؛ إنه أب للأبناء لا ربهم! فالأبوة الحقة الصحيحة تحترم شخصية الأم والأبناء، لأن الاحترام من الحب الصحيح.

والزوجة هي زوجة ـ والزوجان، لغة، فردان من نوع واحد ـ فلها ما له وعليها ما عليه في كل ما يسمح به تميّز الطبيعة : فليس الهجر في المضاجع، والضرب للزوجة حملاً لها على الطاعة، من كرامة الزوج أو الزوجة! وليست عقدة النكاح بيد الرجل يتصرف فيها على هواه، بل بيد الله الذي وحّد بينهما بالزواج. وليس حظ الذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث، بل لها ما له، لأنها إنسان مثله. وليست شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، لأن المرأة إنسان عاقل كالرجل. وليست رئاسة الأب للعائلة (( قوامة )) الرجل على المرأة كأنها قاصر! فليست المرأة والزوجة في كل هذه الأحوال بقاصر بالنسبة إلى الرجل، لو أتيح لها من التنشئة ما يُتاح له؛ ولا تعتبرها الشريعة الإنجيلية شيئاً تابعاً للرجل، وفي

194 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

بعض الأحوال شيئاً نجساً! بل كرامة الزوجة من كرامة الرجل في الدين والدنيا، مهما طرأ من هنا وهناك عبر التاريخ على هذه المبادئ المسيحية، من انحراف.

ثم إن الزوجة هي أيضاً أمّ، فهي ربة البيت مع الرجل، تشاركه العمل والإنفاق والتمتّع بالحياة العائلية؛ وهي أم البنين لها ما للأب من محبة واحترام وطاعة، والدنيا أُم، والعائلة أُم، إذا ضعف معنى الأم ضعفت الحياة العائلية، وهانت القيم الإنسانية.

وحق الابن على والديه المحبة والرعاية والتنشئة والتربية والاحترام؛ لا الاستعباد والتصرّف به لمصلحة أهله وحدهم. فالتشرد جريمة الأهل والمجتمع والدولة. والجهل أيضاً جريمة عائلية واجتماعية. وفساد الأبناء من فساد الآباء والمجتمعات.

والمسيحية تحرم الفساد على أنواعه في المجتمع : فالزنى هو الجريمة الكبرى بحق العائلة المسيحية. والسكر هو الجريمة الأخرى التي تشبهها. وحدّ السكر كحد الزنى، وهو أعظم في المسيحية منه في غيرها : (( إن السكيرين والزناة لا يدخلون ملكوت الله )) !

والشريعة المسيحية لا تعرف زواج المتعة! وتحرم الزواج الحر! وتحرم التسرّي! وأمَّا ما يسمونه (( الزواج المدني )) فقد يصح في غير المسيحية، ولكن لا وجود له في المسيحية، لأن العقد بالتراضي هو في حدّ ذاته سرّ مقدس، فلا وجود (( لمدنية )) فيه! وقد أباح الوحي الإنجيلي زواج المسيحيين بغير المسيحيين إذا ارتفع الخطر على إيمانهم في ذلك : فهو يبيح زواج المسيحية بغير المسيحي، كما يبيح زواج المسيحي بغير المسيحية : (( لأن الرجل غير المؤمن يقدّس بالمرأة المؤمنة؛ والمرأة غير المؤمنة تقدّس بالأخ المؤمن )) ( 1 كور 7 : 14 ). ففي هذا أيضاً نرى المسيحية أرحب صدراً من الذين يرفضون زواج المؤمنة بالكتابي! ثم إن مشكلة سفور المرأة، لا تبذّلها، ومشكلة اختلاط الجنسين في الحياة

الدستور الإنجيلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 195

المجتمعية، لا تبذّلها في مباذلهما، مشكلتان لا وجود لهما في الشريعة المسيحية. وليس الاحتراز من المفاسد بسبيل صحيح إلى تعقيد القواعد.

5) ونظام الرِقّ في المجتمع حرمه الإنجيل، ولكن لم يعلن عليه ثورة عاجلة، تجنباً للفتن في مجتمعات موبوءة به. حرمه وسنّ في شأنه من السنن ما يؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى محوه؛ قال الرسول مفصلاً شريعة الإنجيل : (( فليستمر كل واحد على الحالة التي دُعي عليها: أَدعيت وأنت عبد، فلا يهمك ذلك، بل إن أمكنك أن تنال الحرية فافعل! لأن من دُعي في الرب، وهو عبدٌ، فهو عتيق الرب؛ وكذلك من دُعي وهو حر فهو عبد للمسيح. لقد اشتريتم بثمن كريم ( دم المسيح ) فلا تصيروا عبيداً للناس! مع ذلك، أيها الأخوة ليستمرّ كل واحد، أمام الله، على ما دُعي عليه )) ( 1 كور 7 : 20 ـ 24 ). فالمبدأ المشروع هو الحرية الإنسانية وتحريم الرقّ؛ ولكن السنّة العملية هي الرضى بالأمر الواقع حتى يحين الأوان. لكن مبدأ الإنجيل المشروع هو : (( ليس من بعد عبد وحر! لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع )) ( غلا 3 : 28 ).

6) ونظام الطبقات أيضاً لا تقره المسيحية. فلا يقول الإنجيل الكريم : (( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً )) ( الزخرف 32 )، (( والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق )) ( النحل 71 )، ولا (( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع؛ فإن خفتم ألاَّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم )) ( النساء 3 )، أي (( من الإماء، إِذ ليس لهنَّ من الحقوق ما للزوجات )) ( الجلالان ). بل يقول: ليس بعد المسيح (( عبدٌ وحرّ )) ! ( غلا 3 : 28 ) (( ليس الختان بشيء! ولا القلف بشيء! بل الخليقة الجديدة )) في المسيح ( غلا 6 : 15 ). والمسيح انتقى أنصاره من العمال والصيادين وأهل الحرَف ( متى 4 : 18 )؛ وبولس يُلاحظ أن المسيحيين الأوائل كانوا من أبناء الشعب أكثر منهم جدّاً من النبلاء! ( 1 كو 1 : 26 ـ 31 )؛ وبولس يعمل بيديه مدى رسالته، في حياكة الشعر، ليعيش هو ومن معه : فالنبل الوحيد في

196 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

المسيحية هو الانتساب لها والعمل الصالح فيها. فنظام (( الخليقة الجديدة )) في المسيح ألغى نظام الطبقات وفرض المساواة الأساسية بين جميع الناس. ولم تخلق المسيحية طبقة ممتازة بين آل بيت المسيح وسائر المسيحيين، ولا بين اليهود المتنصرين بني قوم المسيح وسائر المؤمنين. ولما حاول اليهود المتنصرون ذلك انحسروا على أنفسهم، وانعزلوا، وانقرضوا. وليس الكهنوت المسيحي من نظام الطبقات في شيء فهو مفتوح للجميع. وهكذا فالنظام الاجتماعي المسيحي، المبني على قدسية الزواج والعائلة وعلى الحقوق الإنسانية الشخصية في الأخوّة والحرية والمساواة، هو النظام الاجتماعي الأصلح لكل دولة في كل مكان وكل زمان.

 

 

ثالثاً : النظام الاقتصادي في الدستور الإنجيلي

المبدأ العام في المسيحية أنها ليست ديناً ودنيا معاً، بل هي دين في الدنيا، ليرفع ما في الدنيا إلى قيم الدين والخلود: فالنفس أفضل من الجسد ومن الطعام واللباس ( متى 6 : 25 )، لذلك (( اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، وهذا كله يُزاد لكم )) ( متى 6 : 33 ). هذا في سلّم القيم حيث يقدّر كل شيء حق قدره، لذلك قرر الإنجيل : (( ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان )) . فإن أراد أن يحيا بالخبز وحده، كما في بعض الدعوات الحديثة، صار المال عنده رباً آخر : (( فلا تعبدوا ربين : الله والمال! )) ( متى 6 : 24 ).

ولكن، في الواقع الحياتي، الإنسان روح وجسد، فلا يُضحّى بالروح في سبيل الجسد، كما لا يضحى بالجسد في سبيل الروح؛ وما الرهبانية في المسيحية سوى حالة استثنائية يقتضيها ملكوت الله في أرضه، أو الاستغراق في الله.

الدستور الإنجيلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 197

فمن يفهم دعوة الزهد في الإنجيل أنها تنكر للجسد والحياة فقد أساء الفهم، (( لأن ابن البشر جاء يأكل ويشرب )) ( لوقا 7 : 34 )؛ وعاش في الناصرة كسائر أبناء الشعب، لا يمتاز عنهم إلاَّ بالتقوى. فالمسيحية، وإن لم تكن ديناً ودنيا معاً، فهي دين لهذه الدنيا، كما هي دين للآخرة. لذلك فالمال والرزق والعمل والاقتصاد، كلّها وسيلة لحياة كريمة، لا غايةٌ في حد ذاتها.

1) فمبدأ الملكية الشخصية مقدس في المسيحية. لذلك جدّد الإنجيل وصية الله : لا تسرق! لا تشتهِ مال غيرك! بيد أن الملكية حق نسبيّ لا مطلق؛ تقف حدود الملكية عند حاجة الآخرين، وحاجة الجماعة أيضاً. وما قول القرآن : (( والذين في أَموالهم حقّ معلوم للسائل والمحروم )) ( المعارج 24 ـ 25 ) سوى شعار المسيحية التي تعتبر الثروة أمانة أكثر منها ملكية. ومن ثم فالتأميم الحق لمصلحة الأمة، لا لمصلحة فرد أو جماعة، لا تتنكّر له المسيحية، لأن الثروة العامة ملك الأمة في الأصل قبل أن تكون ملك الأفراد. فهو سبيل إلى العدالة الاجتماعية التي تحدد قيود الملكية الفردية.

2) والمال والرزق نعمة من الله نطلبها في صلاتنا : (( أعطنا خبزنا كفاف يومنا )) . ومتى بلغ المال حدَّ الثراء الفاحش ولا يرحم الغير، صار نقمة، فيسمّيه السيد المسيح : (( المال الظالم )) ( لو 16 : 9 ). والمال الظالم سبيل اللذة الفاسدة، وكلاهما يصدان عن سبيل الله، لذلك يقول السيد المسيح : (( إنه لأسهل أن يدخل جملٌ في سُم الخياط من أن يدخل غني ملكوت الله )) . ومن هنا كان تحبيذ الإنجيل للفقر على الثراء، فقال : (( طوبى للمساكين لأن لهم ملكوت الله )) . ومن هنا كان تقبيحه المتواتر للغنى، (( والمال الظالم )) ، وكانت حملاته على الأغنياء. لا أن الغنى في نظر المسيحية شر في ذاته، بل لأنه خيرٌ يُراد به شرّ، أو هو سبيل إلى الشر أكثر منه إلى الخير. فما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا؛ ولكن قلما يجتمعان!

3) فالعدالة الاجتماعية، في توزيع الثروات، وتهيئة الفرص للجميع في سبيل

198 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

الكسب والعيش الكريم، شرعة مسيحية، نادت بها المسيحية مدى أجيالها. لذلك كانت مشكلة الفقر والحرمان، ومشكلة المال والثروة، اللازمتان في كتب الوحي كله، يرجع الوحي الكتابي والإنجيل إليهما دائماً، لإقامة العدالة الاجتماعية بين الناس. وهذه العدالة الاجتماعية من حق السلطة الحاكمة وواجبها إقامتها، لإنشاء المدينة الفاضلة، في الدولة الفاضلة : (( فبيت المال ليس للسلطان وحده، بل للأمة كلها؛ كما أن الثروة ليست لأفراد وحدهم بل للأمة كلها. فالتشريع العادل لإقامة العدالة الاجتماعية هو من روح الإنجيل الذي يعتبر البذل والعطاء ضرورة للخلاص ( لوقا 16 : 9 ).

ويعتبر الإنجيل الحسنة من أركان الدين والبر، ويطلب أن تكون بلا مَنّ ولا أذى، بحيث (( لا تعلم شمالك ما تصنع يمينك )) ( متى 6 : 1 )، لكي تظل كرامة المعطي والآخذ مصونة. فليست الحسنة عند القادرين منّة، بل هي حق عليهم لأهلها1.

4) والعمل، في سبيل الحياة الكريمة، سنّة طبيعية وإنجيلية، حتى يقول الرسول بولس: (( من لا يعمل، لا يأكل )) ( 2 تسا 3 : 10 ). ثم إن حق العامل في الأجر العادل الذي يكفيه وأهله، مبدأ إنجيلي، حتى أن (( خادم الهيكل، من الهيكل يأكل! )) . فما أجمل قول القديس يعقوب في رسالته الجامعة : (( ها أن أجرة العملة الذين حصدوا حقولكم، تلك التي بخستموهم إياها تصرخ! وصراخ أولئك الحصَّادين قد بلغ إلى أُذني رب الجنود )) ( 5 : 4 ). والعامل الذي لم يبدأ يومه العملي إلاَّ نحو الساعة الحادية عشرة، لا بتقصير منه بل لأنه لم يستأجره أحد، يأخذ أجرة يوم كامل ( متى 20 : 1 ـ 16 ). فأجرة العامل يجب أن تكفيه وعائلته لحياة كريمة.

ــــــــــــــــــ

(1) وقد رأينا في البحث السابق قواعد العدالة الاجتماعية في الدستور الإنجيلي.

الدستور الإنجيلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 199

وكان السيد المسيح مدة ثلاثين سنة مثال العامل الذي يعيش من عمله، والعائلة المقدسة، يسوع ويوسف ومريم، مثال العائلة المسيحية التي تعيش من عملها. ومن كثّر الخبزات الخمس لإطعام الألوف، لم يستعمل سلطان المعجزة في حياته الخاصة، وبين آله وذويه. وإن المشكلة الدائمة بين المال والعمل يرنّ صداها في الكتاب كله : فالإثراء على حساب العمال يسميه الإنجيل (( المال الظالم )) ؛ وحق العامل في إنتاج رأس المال حق مأثور على مثال الله الذي (( يجازي كلاً بحسب عمله )) ( لو 10 : 7؛ يو 4 : 36؛ رو 2 : 6؛ 2 تي 4 : 14 ).

5) الجوع والمرض والجهل أوبئة بشرية تتحسّس بها المسيحية أكثر من سواها، وتعمل المستحيل في سبيل معالجتها. ومعالجتها مسألة دينية ومدنية معاً. والكتاب كله، والإنجيل خصوصاً، يحرّضان دائماً على مداواة تلك الأوبئة الإنسانية، ويجعلان حلَّها من ضرورات الإيمان والمحبة : (( فمن كانت له خيرات هذا العالم، ورأى أخاه في فاقة فحبس عنه أحشاءَه، فكيف تثبت فيه محبة الله ؟ يا أولادي الصغار، لا نحبّن بالكلام واللسان، بل بالعمل وبالحق )) ( 1 يو 3 : 18؛ يع 2 : 24 ).

6) والحديث عن المال والربا حديث ذو شؤون وشجون. لقد حرَّمت التوراة الربا (خر 22 : 25؛ لا 25 : 26؛ تث 23 : 19؛ مز 15 : 5)، لأن المعاملة العادية كانت بالمقايضة. وفي زمن السيد المسيح صار للمال قوة استثمارية فجاءَت إشارة الإنجيل، في التحريض على العمل بمثل الوزنات : (( وكان عليك أن تسلّم فضتي إلى الصيارفة، ومتى قدمت استرد مالي مع ربى ( فائدة ) )) ( متى 25 : 27؛ لو 19 : 23 ). وقد حرمت الكنيسة الربى في النظام الاقتصادي القديم. ولكن في العصر الحديث صار المال يُستثمر مثل الأملاك فأباحت المسيحية الفائدة التي لا تستغل حاجة المعوز. فحق المال في الاستثمار، كحق الملكية، محدود بحاجة الآخرين. من هنا إباحة الفائدة المشروعة، وتحريم الفائدة غير المشروعة.

200 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

7) فالملكية والثروة من حق الفرد وحق الأمة، وحق الدولة معاً، يجمع ويؤالف بين هذه الحقوق المتكاملة، العدالة الاجتماعية. فالعدالة الاجتماعية إذن ليست في الرأسمالية المفرطة: إن الرأسمالية المفرطة ليست من المسيحية في شيء! ولا هي في الشيوعية المطلقة: إن الشيوعية ليست من المسيحية في شيء. وإنما هي في توازن حق الفرد والأمة والدولة بالملكية والثروة. فإِن كانت هذه هي الاشتراكية، شعار العدالة الاجتماعية، فهي من صميم المسيحية، كما عاشتها كنيسة الرسل.

وهكذا فالملكية والعمل، تحت شعار العدالة الاجتماعية، هما ضمان كرامة الإنسان في الفرد والعائلة والمجتمع. فلا سبيل إلى تأليه المادة على حساب الدين! ولا سبيل إلى تأليه قيصر على حساب الله. فالمال والرزق ضرورة الحياة، ولكن (( ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان! )) . هذا هو الدستور الإنجيلي في الملكية والمال والعمل والاقتصاد : إنه دين كل دولة في نظامها الاقتصادي.

وفصل الخطاب في (( المسيحية والقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية )) إن المسيحية دين لا دولة، فقد فصلت بين الدين والدولة. ولكنها دين الدولة، كل دولة في نظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ وفصل الدين عن الدولة يرشحها لذلك في كل دولة. وإن المسيحية دين لا دنيا، ولكن دستورها الإنجيلي أيضاً دين هذه الدنيا. والمسيحية هدفها ملكوت الله قبل ملكوت قيصر، وهي إذ تعمل لإِقامة ملكوت الله على الأرض في ملكوت قيصر، ترفع ملكوت قيصر من الحضيض إلى العلاء. والمسيحية هدفها الآخرة قبل الدنيا، لأنه (( ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله، وخسر نفسه ؟ أو ماذا يعطي الإنسان فديةً عن نفسه في يوم الدين ؟ )) ؛ عمارة الدنيـا لا تغني عن عمارة الآخرة، وعمارة الدنيـا لا تشبع نفس الإنسان: (( فكل الأنهر تجري إلى البحر، والبحر لا يمتلئ! )) ، لا يملأ نفس الإنسان إلاَّ الخير الأسمى.

الدستور الإنجيلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 201

وهكذا فجعلُ الوحي والتنزيل ديناً ودولة معاً، ديناً ودنيا معاً، دنيا وآخرة معاً، ملكوت الله وملكوت قيصر معاً، نقص لا كمال. فالكمال أن يكون الإيمان ديناً لا دولة، ديناً لا دنيا، بل دين الدولة والدنيا ليرفعهما من الحضيض إلى الله.

وعدم التمييز بين الدين والدولة، وبين الدين والقومية، وبين الدين والسياسة، يحوّل مشاكل الإنسانية والتاريخ إلى حروب دينية. وما كان الدين إلاّ لإسعاد البشرية.

هذا هو الدستور الإنجيلي لكل دولة في نظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

 

202 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 8

بحث ثامن

أخلاقية الإنجيل بين الواقع والمثالية

ما من أحد، من المؤمنين وغير المؤمنين، يقرأ الإنجيل ولا يؤخذ بسحر بيانه في أخلاقيته السامية.

لكن بعضهم يجدونها خيالية، لا تصلح لواقع الحياة البشرية.

فدعوته للزهد في المال، عصب الحياة، وحملته المتواصلة على الغنى، تقوّضان، في نظرهم، الحياة الكريمة في الفرد والعائلة والمجتمع والدولة.

ودعوته إلى (( محبة العدو )) هي ضد الفطرة البشرية.

ودعوته إلى الكف عن المطالبة بالمال المقروض؛ وإلى بذل الخدّ الآخر لمن يلطمك على الخدّ الأيمن، يحق فيها قول الشاعر

ومكلّف الأشياء ضد طباعها

 

متطلّب في الماء جذوة نار

فما قولكم، كما يزعمون، في مثل هذه الدعوة :

(( أيها السامعون، إني أقول لكم : احبوا أعداءَكم! احسنوا إلى من يبغضكم! باركوا لاعينكم! صلوا لأجل المفترين عليكم!

(( من ضربك على خدك، فقدم له الآخر أيضاً!

الدستور الإنجيلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 203

ومن أخذ رداءَك، فلا تمنع عنه ثوبك!

كل من سألك فاعطه! ومن أخذ مالك فلا تطالبه به )) ! ( لو 6 : 27 ـ 30 ).

ويقولون : هذه أخلاقية خيالية تليق بعالم الملائكة، لا بعالم البشر. إنها ضد فطرة الإنسان، فلا تصلح للحياة، ولا يمكن أن تُصلَحها. فالإنسان بحاجة إلى أخلاقية عملية تجمع بين مادية التوراة وروحانية الإنجيل.

 

1 ـ لكن فات هؤلاء الفرق بين الخيالية والمثالية. أجل إن أخلاقية الإنجيل مثالية، لكنها ليست خيالية. وقد لحظ منذ القديم علماء المسيحية مثالية الإنجيل. فقال القديس جيروم : (( المسيح يشرع الكمال، لا المستحيل )) 1.

لم تكن المسيحية خيالية في أحكام إنجيلها، هذا الإنجيل الذي سيطر على (( المسكونة )) في ظرف ثلاثة قرون، مع مثاليته، ومع الاضطهاد والاستشهاد، وعاش ملايين المسيحيين أحكامه، وهم حديثو عهد بالوثنية؛ فاحتلال الإنجيل للعالم بالحكمة والموعظة الحسنة، لا بالحروب والفتوحات، شاهد قائم على الصفة العملية والمثالية معاً في أحكام الإنجيل. ونقْل العالم الهلنستي، الإغريقي الروماني والشرقي، ابـن الحكمة اليونانية، والجبروت الـروماني، و (( العلْم )) الشرقي ( الغنوص )، من الوثنية إلى المسيحية، هو برهان الخبرة التاريخية على صحة أحكام الإنجيل ومطابقتها للفطرة البشرية.

2 ـ وليست حكمة الشرع الإلهي أن ينسجم مع الفطرة البشرية، (( والنفس أمَّارة بالسوء )) ، فيجمع بين أهواء الجسد ومتطلبات الروح، بين طيّبات الدنيا ولذات الآخرة، بين أحكام الدين وشؤون الدولة. فالشرع الإلهي سبيل إلى الله فوق الدولة والدنيا والجسد، لكي يرفع الإنسان من حضيض

ــــــــــــــــــ

(1) جيروم : تفسير متى ك 5 ف 44؛ قابل مجموعة الآباء اللاتين ك 26 ص 41.

204 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 8

بشريته إلى التشبّه بربه ـ ولله المثل الأعلى ـ لأن الإنسان خليفة الله على الأرض، وقد خلقه على صورته، كمثاله. فشرع إِلهي لا يحمل مثالية الله ليس من الله. وفي حكمة سامية، تدرج الله بشرع دينه من التوراة، إلى النبيّين، إلى الزبور، إلى الحكمة، إلى الإنجيل لكي يعطينا في الإنجيل الشريعة المثالية : (( فأنتم كونوا كاملين، كما أن أباكم السماوي كامل )) (متى 5 : 48) فمثالية الشريعة الإنجيلية أن ترفع الناس فوق ذواتهم وأهوائهم إلى حالة أبناء الله وأحبائه، لكي يصيروا حقيقةً (( على صورة الله، كمثاله )) ، خلفاء الله في أرضه، وورثاء ملكوته.

3 ـ وأحكام الإنجيل على نوعين : منها ما هو مفروض ومطلوب؛ ومنها ما هو مندوب ومرغوب. والفرْض غير العَرْض. نرى ذلك في تعليم المسيح للشاب الغني. سأل يسوع : (( ماذا عليّ أن أعمل من الصلاح لأرث الحياة الأبدية ؟ ـ إنك تعرف الوصايا : لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أَباك وأمك. وأيضاً : أحبب قريبك كنفسك! فقال له الشاب : كل هذا قد حفظته منذ صباي؛ فماذا ينقصني بعد ؟ ـ قال له يسوع : إِن شئت أن تكوم كاملاً، فاذهبْ وبعْ مالك وأعطه للمعوزين فيكون لك كنز في السماوات، ثم تعالَ اتبعني )) ( متى 19 : 16 ـ 21 قابل لوقا 18 : 18 ـ 22 ). فأحكام الإنجيل تتراوح بين الوصية المفروضة وبين الكمال المعروض. والوصية فرض لدخول الجنة، والكمال عرْض على من يريد الكمال، والتشبه بالمسيح نفسه، والانخراط بين صحابته. والاعراض عن الكمال لا يمنع من دخول السماء، ووراثة الحياة الأبدية. أمَّا سلوك طريق الكمال غير المفروض فيجعل الإنسان من المقربين، في الدنيا والآخرة، ومن الصالحين. وعدم التمييز بين الوصية والنصيحة، في أحكام الإنجيل، جعل بعضهم يظلم نفسه ويظلم علمه بالإنجيل، ويتهمه بعدم الواقعية، وبالخيالية. فالمثالية ليست الخيالية. والمثالية كمال، لا فرض.

أخلاقية الإنجيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 205

4 ـ والحكمة البالغة في دعوة الزهد، ومعاملة الغير بالحسنى، ومحبة الأعداء، ظاهرة تنبع من سيكولوجية الإنسان ومصلحته العليا.

فقول الإنجيل : (( من ضربك على خدك فقدم له الآخر أيضاً )) ( لوقا 6 : 29 ) لا يعني الخنوع والاستذلال كما يتوهمون؛ بل الرد باللطف على العنف، لأن اللطف أربح للخصم من العنيف. فحكم الإنجيل كناية عن معاملة الغير بالحسنى لكسبه. وهي خبرة الدهور. وحكم الإنجيل هذا، مثل قوله : (( ويدرؤن بالحسنة السيئة )) ( الرعد 24 )؛ (( أولئك يؤتون أجرهم مرتين، بما صبروا، ويدرؤن بالحسنة السيئة )) ( القصص 54 )؛ (( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة : ادفعْ بالتي هي أَحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم )) ! (فُصّلت 34). هذا معنى قول الإنجيل : (( من ضربك على خدك فقدم له الآخر أيضاً! من أخذ رداءَك فلا تمنعْه من ثوبك! من أخذ مالك فلا تطالبه به )) ( لوقا 6 : 21 ـ 30 ). هذه حكمة التنزيل وخبرة الحياة. فالمعاملة بالمثل، عينٌ بعين، وسنٌ بسن، تولد البغضاء؛ والمعاملة بالحسنى واللطف تولد الولاء.

5 ـ وشرعة الإنجيل في محبة الأعداء لا مثيل لها في كتب الدين والدنيا. على هذه الشرعة الإنجيلية يثور الثائرون، وبها يتهكّم المتهكمون. وفاتهم، ويحهم، إنهم أغوار الحكمة لا يفقهون. أجل إنها أصعب شريعة على العنفوان الإنساني. وإنه تحدّ للفطرة قوله : (( أحبوا أعداءكم! أحسنوا إلى مبغضيكم! باركوا لاعينكم! صلوا لأجل المفترين عليكم )) ( 6 : 27 ـ 28 ). لكنها الطريق الفضلى لتحويل العداوة إلى صداقة وولاء : (( فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم )) ! هذه أيضاً خبرة التاريخ والحياة، كما قال الشاعر : (( وما قتل الأحرار كالعفو عنهمُ )) ! فالحب أفعل من البغض تجاه العدو نفسه. وسيادة المحبة على البغضاء في العدوان سبيل إلى المودة بين الأفراد، وطريق إلى رفع الحواجز بين الأمم والدول، وسبيل إلى تقليص الحروب وزوالها بين الناس. أجل (( أعلى الممالك ما يُبنى على الأسل )) ! لكن على حساب هذه الممالك وشعوبها!

206 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 8

وحصر الولاء بين أهل الإيمان الواحد1، لا يتعداهم إلى سواهم، شبهة على هذا الإيمان. وهو سبيل إلى تقسيم العالم إلى مؤمنين وغير مؤمنين، إلى (( أهل الكتاب والأميّين ))؛ أي إلى قسمين متعاديين لا تنقطع الحروب بينهما. وهذان الحصر والتقسيم يمنعان انتشار الإيمان عند غير المؤمنين، ويفقد الدين غايته. فمحبة الأعداء، أعداء الدين والقومية، سبيل إلى رفع البغضاء من الدنيا، ونشر السلام في البشرية. وقد أعطانا المسيح على ذلك أروع مثال، في مثل السامري واليهودي ( 10 : 25 ـ 37 ). فاليهودي، صريع اللصوص، أهمله رجال دينه فكاد يموت؛ وخلصه السامري عدو الدين والقومية، فعاش ورجع يحمد الله ويحب عدوه. ومحبة الأعداء لا تعني بحال خيانة الأوطان؛ أو التنازل عن الحق المشروع الشخصي أو الوطني أو القومي.

6 ـ والحكمة في دعوة الزهد لا تُفقر الفرد، ولا المجتمع ولا الدولة. لأن الزهد المطلوب ليس فرض الفقر على الفرد والمجتمع والدولة؛ إنما هو تجرّد النفس من عبودية المال والدنيا. وهذا يتعلق بالإنسان كشخص، لا بالإنسان كرب عائلة، أو رب مؤسسة، أو رب دولة. فقد يكون المرء رئيس أغنى دولة، أو أغنى مؤسسة، أو أغنى عائلة، ويكون في الوقت نفسه زاهداً في غناها، يتعلق قلبه بربه أكثر من ماله، حينئذ يستغل ماله لسعادة الآخرين، لا لاستخدامهم واستعبادهم واستغلالهم. وشرعة الزهد قد فسرها الإنجيل بقوله: (( لا تعبدوا ربين : الله والمال )) ! فالمطلوب بالزهد الإنجيلي تفضيل الله على المال والذات، لا استخدام المال في حب الذات من دون الله والناس. أجل ان الزهد الإنجيلي لا يعني الانصراف عن الدنيا واستثمار المواهب والأموال والأملاك للحياة الكريمة عند الفرد والعائلة والمجتمع والدولة. فالذي يستثمر عطايا الله يقيمه الرب (( على عشر مدن )) ؛ أما الذي يدفن هبة الله في كسله،

ــــــــــــــــــ

(1) كما نقل الإنجيل : سمعتم أنه قيل : (( أحبب قريبك وابغض عدوك )) ( متى 5 : 43 )؛ وكما نقل القرآن: (( ليس علينا في الأميّين سبيل )) ( آل عمران 75 ).

أخلاقية الإنجيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 207

ولا يستثمر مال سيده، حتى لدى الصيارفة ( لوقا 19 : 23 ) فما يظنه له يؤخذ منه، ويُعطى لمن عنده عشر وزنات أو عشر مدن. فالذي يسعى هو العبد الصالح، والذي لا يسعى هو العبد الكسلان الذي يلقى في الظلمة بعيداً.

7 ـ وحكمة التفسير في الإنجيل كما في كل كتاب، تقوم على مقارنة الأحكام فيه فيما بينها، ليتضح إطلاقها من نسبيّتها. والإنجيل أيضاً حكمة منزلة وشعبية تعتمد على المجاز في التعبير للوصول إلى الحقيقة في التفكير : فلا تُؤخذ بحرفية المجاز، لئلاَّ تفوتنا حقيقة الأحكام. فقوله : (( من ضربك على خدك، فقدّم له الآخر أيضاً )) ، هو تعبير مجازي تصويري يجسّم الفكرة المقصودة تجسيماً، فتعلق الصورة بالذاكرة ولا تفارقها. والصورة المجازية ليست الحقيقة الشرعية في الحكم، إنما الحكم في المعنى الحقيقي الكامن في التعبير المجازي.

وهكذا نرى أخلاقية الإنجيل بين الواقع والمثالية، كما شبه ملكوت السماء، أي المسيحية، بحبة خردل تصير شجرة، عروقها في الأرض، وفروعها في السماء ( متى 13 : 31 ـ 32 ). كذلك أخلاقية الإنجيل، واقعها في أعماق النفس البشرية، ومثاليتها تصل إلى السماء، لترفع الإنسان من الحضيض إلى العلاء : (( وأنتم كونوا كاملين، كما أن أباكم السماوي كامل )) ؛ فالله تعالى، أبونا السماوي، هو المثل الأعلى، الذي أظهره المسيح لنا في شخصه.

والمثالية غير الخيالية. فالخيالية وهم قتَّال، والمثالية زخم فعَّال؛ الخيالية تُغري وتُردي؛ أما المثالية فترفع وتحيي. تلك هي أخلاقية الإنجيل بين الواقع والمثالية.

d

208 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 9

بحث تاسع

من إعجاز الإنجيل : الأمثال

الإعجاز في الإنجيل شامل مطلق : من الإعجاز في التنزيل إلى الإعجاز في البلاغ والتبليغ؛ ومن الإعجاز بالعمل إلى الإعجاز بالكلمة؛ ومن الإعجاز بالكشف عن غيب الله والإنسان إلى الإعجاز بالتشريع الدستوري؛ ومن الإعجاز بالموضوع إلى الإعجاز بالأسلوب.

والإعجاز في أساليب الإنجيل وفنونه البيانية على أنواع. نقتصر منها على الإعجاز في أسلوب الأمثال، لأنه، مع التعليم، الفن البياني الذي به تحدّى لوقا البيان الإغريقي المسيطر على (( المسكونة )) .

وفي المثل حكمة للحكيم، وبيان للأديب، وقصة تعليمية لابن الشعب. فهو أسلوب في البيان والتبيين يستأثر باهتمام الأمة كلها. وفيه مجال لتورية ما يشاء المعلم المحبوب.

 

 

أولاً : واقع المثل في الإنجيل

إن الإنجيل يميّز بين القصة والمثل والرمز. فالقصة خبر لحادث وقع. والمثل قصة مختلفة مبنية على التشبيه، لكنه تشبيه متّصل لا منقطع كالتشبيه العادي.

الأمثال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 209

والرمز مبني على الاستعارة، فهو استعارة متواصلة. وقد يدخل المثل الإنجيلي بعض الاستعارة والرمز أو الحكمة والقياس، لكنه يظل في سياقه تشبيهاً متصلاً في القصة كلها.

والمثل شائع في آداب الدين والدنيا. وهو أسلوب موروث في لغة الكتاب المقدس وبيانه.

لكن المثل لم يبلغ الإعجاز كما بلغه في الإنجيل على لسان السيد المسيح. فقد جعله أسلوباً مميّزاً لدعوته. واتخذه أحياناً وسيلة يقرّب فيها الغيب المحجوب؛ وأحياناً طريقة يتحدّى بها في التعليم المطلوب. وبعد يوم مشهود من التعليم بالأمثال في سر الملكوت، (( لمَّا انفرد سأله الذين حوله، مع الاثني عشر، عن الأمثال. فقال : أنتم أوتيتم أن تعرفوا سر ملكوت الله؛ وأما أولئك البعيدون، فكل شيء لهم بأمثال )) ( مرقس 4 : 10 ـ 11 ).

إِن السيد المسيح، بعد الإعلان الصريح بدعوته لتأسيس ملكوت الله على الأرض (مرقس 1 : 15)، أعطى شرعة الملكوت، في الدستور الإنجيلي، بخطابه التأسيسي على الجبل ( متى 5 ـ 7 ). ثم حان الوقت للكشف عن كنه الملكوت الذي يدعو إليه. وفي الكتاب كان الملكوت الآتي مربوطاً بظهور المسيح الموعود. وفي المسيح والملكوت خلاف بين نظرية يسوع ونظرية بني قومه اليهود. فهم كانوا ينتظرون ملكوتاً أرضيّاً ومسيحاً قوميّاً يفرضان سيطرة إسرائيل على العالم. وهو إنما أتى بملكوت روحي ديني ينقل التوحيد الكتابي، بسيطرته على العقول والقلوب، إلى العالم كله، ليكون ملكوت الله على الأرض كما في السماء، هكذا علمنا أن نطلب في صلاة ( أبانا ). لذلك جاء تركيز التعليم بالأمثال ـ وهو مطّرد عنده ـ على فترتين : في أواسط رسالته للكشف عن سر الملكوت؛ وفي أواخر دعوته للكشف عن سرّ سيد الملكوت، المسيح نفسه. وفي الفترتين يكشف لهم الحقيقة بتوريتها في أمثال لإيلافهم،

210 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 9

لئلاَّ تصدمهم صدماً عنيفاً. وما بين الفترتين انفرد لوقا برواية أمثال الرحمة والاستعداد لقبول الملكوت، بدعوة المسيح الثانية في اليهودية.

وهكذا فإننا نجد في الإنجيل من الأمثال العابرة ـ وهي أقرب إلى التشابيه المصوّرة ـ نحو ثمانين. أمَّا الأمثال القصصية فهي نحو ثلاثين.

وأسلوب الأمثال موجود في الأناجيل المؤتلفة الثلاثة. نقل منها مرقس قليلاً لأن غايته إعلان سلطان المسيح الإلهي بالأعمال المعجزة أكثر منه بالأمثال البيانية، بحسب عقلية بيئته الرومانية. ونقل منها متى نحو نصفها في فترتين حرجتين من دعوة المسيح للكشف عن سر الملكوت ثم عن سرّ سيد الملكوت. أمَّا لوقا فقد نقل أكثرها، في أوقاتها، لبيان إعجاز المعلم الإلهي بالكلمة، مثل سلطانه بالمعجزة.

وإن متى، بحسب أسلوبه التنسيقي، نسّقها سبعة فسبعة على الفترتين العصيبتين : سبعة أمثال في سر الملكوت ( متى 13 : 3 ـ 50 )؛ وسبعة في سر سيد الملكوت ( متى 20 : 1 ـ 16؛ 21 : 28 ـ 22 : 14؛ 25 كله ). وانفرد لوقا بذكر أمثال الدعوة الثانية في اليهودية، ما بين تلكما الفترتين.

وهاك ثبْتاً لها، بحسب ورودها في الأناجيل المؤتلفة :

1 ـ أمثال سر الملكوت

1) الزارع ( مرقس 4 : 3 ـ 9؛ متى 13 : 3 ـ 9؛ لوقا 8 : 5 ـ 8 )

2) الحبّ النامي بقوته الذاتية ( مرقس 4 : 26 ـ 29 )

3) الزؤان بين الحنطة ( متى 13 : 24 ـ 30 )

4) حبة الخردل ( مرقس 4 : 30 ـ 32؛ متى 13 : 31 ـ 32؛ لوقا 13 : 18 ـ 19 )

الأمثال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 211

5) الخميرة والعجين ( متى 13 : 33؛ لوقا 13 : 20 ـ 21 )

6) الكنز الدفين ( متى 13 : 44 )

7) اللؤلؤة اليتيمة ( متى 13 : 45 ـ 46 )

8) الشبكة والسمك ( متى 13 : 47 ـ 50 )

2 ـ أمثال الرحمة والغفران ـ والدعوة المسيحية

1) المديونان ( لوقا 7 : 40 ـ 42 )

2) السامري واليهودي ( لوقا 10 : 30 ـ 37 )

3) الصديق اللجوج ( لوقا 11 : 5 ـ 8 )

4) الغني الغبي ( لوقا 12 : 16 ـ 21 )

5) القيّم الأمين ( لوقا 12 : 41 ـ 48 )

6) التينة العقيمة ( لوقا 13 : 6 ـ 9 )

7) الجلوس في العرس ( لوقا 14 : 7 ـ 11 )

8) الدعوة المسيحية والوليمة الكبرى ( لوقا 14 : 15 ـ 24؛ متى 22 : 1 ـ 22 )

9) البرج والحرب ( لوقا 14 : 28 ـ 33 )

10) الخروف الضال ( لوقا 15 : 3 ـ 7 )

11) الدرهم المفقود ( لوقا 15 : 8 ـ 10 )

12) الابن الشاطر ( لوقا 15 : 11 ـ 32 )

13) القيّم الماكر ( لوقا 16 : 11 ـ 12 )

212 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 9

14) لعازر الصابر والغني الفاجر ( لوقا 16 : 19 ـ 31 )

15) الأرملة والقاضي ( لوقا 18 : 1 ـ 8 )

16) الفريسي والعشار ( لوقا 18 : 9 ـ 14 )

3 ـ أمثال سيد الملكوت

1) السيد والعمال في الكرم ( متى 20 : 1 ـ 16 )

2) الأب والابنان ( متى 21 : 28 ـ 32 )

3) الكرامون القتلة وتاريخ النبوة والملكوت ( مرقس 12 : 1 ـ 11؛ متى 21 : 33 ـ 44؛ لوقا 20 : 8 ـ 18 )

4) العرس الملكي والدعوة إلى الملكوت ( متى 22 : 1 ـ 14؛ لوقا 14 : 15 ـ 24 ).

5) العذارى الحكيمات والجاهلات ( متى 25 : 1 ـ 13 )

6) الوزنات واستثمارها ( متى 25 : 14 ـ 30؛ لوقا 19 : 11 ـ 27 )

7) ملك يوم الدين ( متى 25 : 31 ـ 46 )

 

 

ثانياً : ميزات المثل الإنجيلي

المثل الإنجيلي طبيعي، لا يخرج عن حدود الفطرة، فلا يجعل الذئب والحمل يتكلمان؛ وغايته دينيّة، ليس الفن للفن؛ ويهدف للكشف عن حقائق سامية، أو أخلاق إنجيلية معروضة بمثل يطبعها في الذهن طبعاً.

الأمثال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 213

المثل الإنجيلي تصويري، عليه مسحة من الرمزية. ليس كله رمزاً، لكل تفصيل فيه معنى مقصود، بل يرشح الرمز المقصود من المثل جملةً.

المثل الإنجيلي تقريبي، فهو يوضح ولا يفصح، يشير ولا يستثير، يقرّب ولا يُغرب، يشرح ولا يسرح، به ندنو من الحقيقة، ولا نطالها لأنها فوق المطال والمنال. وكيف يمكن لمثل أو كلام بشري أن يستوعب سر الله، وغفران الله، وجنة الله ؟!

ويمتاز المثل الإنجيلي، في أسلوبه، بالإيماء أكثر من التفصيل. فهو يكتفي بما قلَّ ودلّ؛ فهو مثال الذوق الفني الرفيع.

ويمتاز المثل الإنجيلي بسهولة الانتقال من عالم الحس إلى عالم الروح؛ يجول فيه السيد المسيح ما بين العوالم كأنه سيد العالمين، يعرف غيب المخلوق والخالق. خذ مثلاً قصة الابن الشاطر : ليس من تصوير فني معجز لرحمة الله مثلها في آداب الدين والدنيا.

ويمتاز المثل الإنجيلي بالتفصيل والشمول معاً. فهو يوجز المشاهد والمواقف بإيجاز معجز. وقد أوجز موقف إسرائيل، ومنزلة المسيح، من تاريخ النبوة، في كلمات معدودة، في مثل الكرامين القتلة. سلّم الله الملكوت إلى بني إسرائيل، وتعهده ببعثة الأنبياء عبيد الله، فقتلوهم فوجاً فوجاً. فلما جاء (( ابن )) رب الكرم والملكوت و (( وارثه )) الأوحد تآمروا عليه وقتلوه؛ فكان ذلك سبب نقل الملكوت من بني إسرائيل إلى الأمميين المؤمنين بالمسيح. ولخطورة المثل المكشوف نقلته الأناجيل المؤتلفة الثلاثة.

ويمتاز المثل الإنجيلي بالواقعية والمثالية معاً. فهو ينبعث من أعماق البشرية، ليصل إلى أسباب السماء. فالعهد القديم، مثل كل الديانات، يجمع الدين والقومية معاً. فحتى ينتصر المسيح على هذه النظرة القاصرة المتأصلة، التي تسامح

214 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 9

الله بها في العهد القديم، لإنشاء نواة التوحيد المنزل في العالم، وصيانتها من التأثيرات الضارة؛ وحتى ينتقل بمعنى القريب إلى الشمول الإنساني، جعل القريب القائم بالرعاية والمعاملة الحسنى، عدو الدين والقومية نفسه، في مثل السامري واليهودي الذي أهمله ذووه، وأنقذه عدوه. مثل هذه الأمثال الصادقة، تجعل الحقيقة ناطقة.

ويمتاز المثل الإنجيلي بالانسجام التام بين الحقيقة والصورة؛ فتأتي الصورة في المثل تعبيراً شفَّافاً للحقيقة. فما أجمل تصوير الدعوة المسيحية بمثل الزرع المطروش على مختلف الأراضي، التي تستوعبه وتثمر به حسب طاقاتها؛ ويكمله بمثل الزؤان الذي يزرعه عدو الله ما بين الزرع الجيد. وما أوجز وأعجز تمثيل قيمة الملكوت والدعوة المسيحية بمثل الخميرة في العجين، واللؤلؤة اليتيمة التي تفضل اللآلئ كلها. فقد بلغ السيد المسيح في الأمثال الإعجاز في التصوير الفني.

وميزة المثل الإنجيلي الكبرى، الانسجام لفظاً بين المجاز والتصوير الفني، ومعنى بين الفطرة الشعرية والصوفية. فالصوفية أعمق أبعاداً من الشعر في تحسّس الوجود، ورب الوجود، وفي ذوق الجمال والكمال في الكون وعند رب الكون. يرتكز الشعر على المجاز والتصوير الفني للتعبير عن الجمال والكمال في الكائنات، لكنه يبقى عند ظواهرها؛ أما الصوفية الحقّة، فهي تحلّق على أجنحة المجاز والتصوير الفني إلى أعماق الكائنات للتعبير أحسن تعبير عن صلة الإنسان بها، وعن صلتهما بربهما. ولم تبلغ الفطرة الشعرية والصوفية في أدب من آداب الدين والدنيا ما تبلغه في إعجاز الإنجيل بأمثاله.

نكتفي بشهادة المرحوم الأستاذ عباس محمود العقّاد، يصف في ( حياة المسيح ص 173 ـ 176 ) إعجاز الإنجيل في الأمثال :

(( أمَّا أسلوب المعنى، فقد اشتهر منه نمط الأمثال، في كل قالب من قوالب الأمثال : ومنه القالب الذي يعوّل على الرمز، والقالب الذي يعوّل على

الأمثال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 215

الحكمة، والقالب الذي يعوّل على القياس، والقالب الذي يعوّل على التشبيهات. وكلها تتّسم بطابع واحد هو طابعه الذي انفرد به بين أنبياء الكتب الدينية بغير نظير، وإن كانوا قد اعتمدوا مثله على ضروب شتى من الأمثال.

(( فمن نماذج المثل الذي يعوّل على الرمز، مثل الزارع والبذور ... ومن نماذجه مثل فتيات العرس ... ومنه قوله : (( أنا خبز الحياة : من يقبل إليَّ لا يجوع! )) .

(( ومن نماذج المثل الذي يعوّل على الحكمة : (( لا تطرحوا الدرّ أمام الخنازير! .. )) (( بالكيل الذي تكيلون يكاد لكم! .. )) (( خمر جديدة في زقاق جديدة! )) (( من ثمارهم تعرفونهم! .. ))

(( ومن نماذج المثل الذي يعوّل على القياس : (( إن كنتم تحبون من يحبونكم فأي فضل لكم ؟ أليس ذلك شأن العشارين ؟ .. )) ومنه : (( إن كان النور الذي فيك ظلاماً، فالظلام كم يكون! ))

(( ومن نماذج المثل الذي يعوّل على التشبيهات خطابه لتلاميذه : (( أنتم ملح الأرض، فإِن فسد الملح، فبماذا يُصلح ؟ إِنه لا يصلح إذن إلاَّ لأن يلقى على التراب ويُداس! أنتم نور العالم : ولا خفاءَ بمدينة قائمة على رأس جبل! وما من سراج يوقد ليوضح تحت المكيال، ولكنه يُرفع على المنار، يستضيء به جميع مَن في الدار ... ))

(( وقد أُثر عن السيد المسيح في جميع الأمثال حب المقابلة بين الأضداد، لجلاء المعاني، وتوضيح الفوارق من وراء هذه المقابلة : (( يرون القذى في أعين غيرهم ولا يرون الخشبة في أعينهم! .. )) ؛ (( يحاسبون على البعوضة، ويبلعون

216 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 9

الجمل! .. )) ؛ (( في الظاهر جدران مبيّضة، وفي الباطن عظام نخرة! )) ؛ (( غني يدخل باب السماء كحبل غليظ يدخل في سم الخياط! ))

(( ومعظم هذه الأمثلة تأتي في مناسباتها عفو الخاطر ... فيندر أن يسترسل فيها المعلم البصير إلى غير المناسبة التي توحيها ...

(( فلم يكن المسيح مبدعاً للأمثال ولا لقوالبها التي تعوّل على الرموز أو الحِكَم أو التشبيهات أو منطق القياس. ولكن الأمر المحقق أن سامعي ذلك العصر لم يعرفوا قط أريحية كتلك الأريحية التي كانت تشيع في أطوائهم، وهم يصغون بأسماعهم وقلوبهم إلى ذلك المعلم المحبوب الذي كان يناجيهم بالغرائب والغيبيات مأنوسة حية، يحسبون أنها حاضرة في أعماقهم لم تفارقهم ساعة أو بعض ساعة، لفرط ما كان يغمرهم من حضوره المشرق، ويستولي عليهم من عطفه الطيّب وحنانه الطهور ... لقد كان لبّ الرسالة المسيحية، في لبّ رسولها المسيح )) .

 

نسَب يسوع في الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 217

بحث عاشر

نسب يسوع في الإنجيل

إن المسيح الموعود، في الكتاب كله هو (( ابن داود )) أي من (( نسله )) و (( ذريته )) . وتحقيقاً للنبؤات المتواترة، إِذا لم يكن المسيح المعهود (( ابن داود )) فليس هو بالمسيح على الإطلاق. فنسبه الداودي هو البرهان القومي على صحة (( مسيحيته )) .

لذلك كانت فاتحة الإنجيل بحسب متى، الموجّه في الأصل إلى بني إسرائيل، الإعلان الكاشف عن نسب (( يسوع، ابن داود )) ( 1 : 1 ). وختم لوقا قصة المولد أيضاً بنسب يسوع: ابن داود، ابن إبراهيم، ابن نوح، ابن آدم.

وهناك أيضاً سبب تاريخي لضرورة إعلان نسب يسوع في مطلع الإنجيل: لقد عُرف يسوع أثناء دعوته، وأثناء دعوة الرسل له في أورشليم واليهودية، (( بالناصري )) . وفي ذلك شبهة كبيرة على صحة (( مسيحيته )) كابن داود، وشبهة أيضاً على تحقيق النبوة بأن المسيح ابن داود يولد في بيت لحم ( ميخا 5 : 1 ). فكان لا بدَّ من إعلان نسب يسوع الداودي، وقصة مولده في بيت لحم، لتحقيق النبوة والتاريخ.

وهناك أخيراً سبب كلامي لإبراز صحة نسب يسوع : فقد بدأ المسيحيون يعرفون من مريم العذراء سرَّ مولد المسيح المعجز من أُم بتول، في حماية الزواج

218 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 10

الشرعي البتولي : فهل كانت مريم أُم يسوع من ذرية ؟ وهل كان يسوع وبالتالي (( ابن داود )) شرعاً، أم بحسب الدم أيضاً ؟

لهذه الأسباب الثلاثة مجتمعة صدّر كتبةُ الوحيِ الإنجيلَ بنسب يسوع. فظهر أيضاً حسبُه العظيم من نسبه العظيم.

وهكذا يظهر يسوع من نسبه أنه (( ابن داود )) الموعود أي الملك الأعظم؛ وأنه (( ابن إبراهيم )) أي النبي والرسول الأعظم؛ وما بينهما أنه الكاهن الأعظم. فجمع بشخصه المسحات الثلاث الموزعة في الكتاب : مسحة الملك ومسحة النبوة ومسحة الكهنوت. وتجاوز لوقا نسب يسوع الإسرائيلي إلى نسبه الإنساني حتى آدم، إلى الله نفسه (3: 38). فيسوع هو أيضاً (( ابن آدم )) الأعظم، و (( ابن البشر )) الآتي على سحاب السماء، كما رآه دانيال.

هذا هو نسب يسوع وحسبه : إنه الرسول الأعظم، والملك الأعظم، والكاهن الأعظم، وآدم الجديد الإنسان الكامل؛ وكلها تجتمع في لقب (( ابن البشر )) الذي اتخذه يسوع كناية عن نفسه.

لكن الواقع الإنجيلي، في نسب يسوع، يثير مشاكل ومسائل، نحاول إيجاد الحل السوي لها.

 

 

أولاً : الواقع الإنجيلي

إن الواقع الإنجيلي، في نسب يسوع، يقوم على أربع وقائع :

1 ـ إن الإنجيل بحسب لوقا يعطينا ليسوع نسباً يختلف عن نسبه في الإنجيل بحسب متى. وكانت قبائل بني إسرائيل مثل قبائل العرب تعنى العناية

نسَب يسوع في الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 219

الكبرى في حفظ الأنساب وعلم الأنساب. قال جيروم : إنهم كانوا يعرفون أنسابهم من آدم إلى زربابل معرفة المرء اسمه الشخصي. فلا يُعقل أن يعطينا الإنجيل ليسوع نسبتين مختلفتين. ومتى ولوقا يجزمان بمولد يسوع المعجز من أُم بتول، وكلاهما يعطيان نسب يسوع عن طريق يوسف : (( ويعقوب ولد يوسف زوج مريم التي منها وُلد يسوع الذي يدعى المسيح )) (متى 1 : 16)؛ (( وهو، على ما يُظن، ابن يوسف، بن هالي، بن ماثان )) ( لوقا 3 : 23 ). فلا ذكر، في الظاهر، لنسب مريم الأم البتول ليسوع.

وقد وجد أحدهم1، فـوق ذلك، ستة اختلافات بين النسبتين عند متى وعند لوقا. قال: (( (1) يُعلم من متى أن يوسف هو ابن يعقوب، ومن لوقا أنه ابن هالي. (2) يُعلم من متى أن عيسى من أولاد سليمان ابن داود عليهم السلام، ومن لوقا أنه من أولاد ناثان بن داود. (3) يُعلم من متى أن جميع آباء المسيح من داود إلى جلاء بابل سلاطين مشهورون، ومن لوقا أنهم ليسوا بسلاطين ولا مشهورين، غير داود وناثان. (4) يُعلم من متى أن شلتائيل بن يوخانيا، ويعلم من لوقا أنه ابن نيري. (5) يُعلم من متى أن اسم زربابل أبيهود، ومن لوقا أن اسمه ريصا. والعجب أن أسماء بن زربابل مكتوبة في الباب الثالث من السفر الأول من ( أخبار الأيام ) وليس فيها أبيهود ولا ريصا. (6) من داود إلى المسيح عليهما السلام ستة وعشرون جيلاً على ما بيّن متى، وواحد وأربعون جيلاً على ما بيّن لوقا؛ ولما كان بين داود والمسيح مدة ألف سنة، فعلى الأول يكون في مقابلة كل جيل أربعون سنة، وعلى الثاني خمس وعشرون )) .

ونزيد عليه أن متى يذكر ما بين إبراهيم ويوسف نحو أربعين جيلاً، ولوقا سبعة وسبعين جيلاً. وما بين داود ويوسف لا نجد في سلسلتي النسب سوى

ــــــــــــــــــ

(1) رحمة الله بن خليل الرحمان الهندي، في كتابه ( إظهار الحق ) ص 96، تحقيق عمر الدسوقي.

220 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 10

اسمين مؤتلفين هما شلتائيل وزربابل، وسائر الأسماء تختلف. ومما لا شك فيه أن نسب داود الصحيح، ونسب يوسف الصحيح، ونسب مريم الصحيح كان محفوظاً ومعروفاً : فمن أين جاء هذا الاختلاف الظاهر كله ؟

2 ـ لكن هناك واقع آخر قد يلقي ضوءاً. إن نسب يسوع الداودي كان شائعاً في الأوساط الشعبية على حياة يسوع بين ظهرانيهم. فلو لم يكن يسوع من نسل داود، لما ناداه الأفراد، ولمَّا حيّته الجماهير في أحد الشعانين باسم (( ابن داود )) ، دون اعتراض من أحد (مر 10 : 47 وما يقابله عند متى ولوقا؛ متى 9 : 27؛ 12 : 23؛ 15 : 22؛ 21 : 9 و15).

لكن هذا النداء لا يقطع بصحة نسب يسوع من داود، لأن يسوع في نظر الشعب كان، كما يقول لوقا، (( على ما يُظن ابن يوسف )) ( 3 : 23 ). وبما أنه طبيعيّاً (( ابن مريم )) فقط، فلا يقطع النداء وحده، (( يا ابن داود )) ، بصحة نسب يسوع الداودي، بحسب الدم. فهذا الوهم الشعبي، هل ينقضه المولد المعجز من أُم بتول، لا يعطينا الإنجيل نسبها ؟

3 ـ والواقع الثالث أربعة تصاريح في نسبة يسوع إلى داود. ففي البشرى بمولده يقول الملاك لأمه : (( وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه )) ( لوقا 1 : 32 ). وقول بولس الأول : يسوع (( المولود بحسب الجسد من ذرية داود )) ( رو 1 : 3 ). وقول بولس الثاني : (( يسوع المسيح المنحدر من نسل داود )) ( 2 تيم 2 : 8 ). وقول صاحب الرسالة إلى العبرانيين : (( وإنه لواضح أن ربنا قد أشرق من يهوذا، من السبط الذي لم يصفه موسى بشيء من الكهنوت )) ( عبر 7 : 14 ). ويهوذا هو الجد الأعلى في الأسباط لداود، ثم ليوسف.

لكن هذه التصاريح الأربعة لا تقطع بصحة النسب الدموي. يكفي لصحة النسب الداودي النسب الشرعي الذي اكتسبه يسوع بزواج مريم البتولي من يوسف، ابن داود.

نسَب يسوع في الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 221

ويبقى المشكل الأكبر قائماً : إن يوسف هو (( ابن يعقوب )) من نسل سليمان بن داود، بحسب متى؛ وهو (( ابن هالي )) من نسل ناثان بن داود بحسب لوقا. ولا يُعقل أن يكون ليوسف نسلين مختلفين في سلسلتين متوازيتين : فيوسف هو إِما من فرع سليمان، وإما من فرع ناثان؛ وليس لرجل من أبوين : فيوسف هو إِما (( ابن يعقوب )) وإِما (( ابن هالي )) . فما السر في هذا كله ؟

4 ـ ومما يزيد الأمر تعقيداً أننا لا نجد في مصادر الوحي الإنجيلي تصريحاً جازماً عن نسب مريم أُم المسيح. ونعرف أن اليهود، مثل العرب، كانوا لا يكترثون بحفظ نسب البنات والنساء. وهناك إشارة في الإنجيل بحسب لوقا تضع شبهة على نسب مريم العذراء من داود : فقد كان مريم العذراء (( قريبة أليصابات )) زوج زكريا وأم المعمدان (لوقا 1 : 26)، وهذه كانت (( من بنات هارون )) ( 1 : 5 ). وبالتالي تكون مريم العذراء قريبتها من نسل لاوي، لا من نسل داود. يؤيد ذلك أن الشريعة الموسوية تأمر بزواج بنات إسرائيل في أسباطهن، لئلاّ ينتقل الميراث من سبط إلى سبط : (( هذا ما أمر به الرب ... كل بنت ترث ميراثاً من أسباط بني إسرائيل، فلتكن زوجة لواحد من عشيرة سبط آبائها، لكي يرث بنو إسرائيل، كلٌ منهم، ميراث آبائه، ولا يتحوّل ميراث من سبط إلى سبط آخر، بل يحافظ كل سبط من بني إسرائيل على ميراثه )) ( العدد 36 : 5 ـ 8 ). ولا يشك أحد في محافظة يوسف ومريم على شريعة الرب، وإن خالفها غيرهما. وعليه، فهل كانت مريم من نسل لاوي بسبب قرابتها لأليصابات، (( من بنات هارون )) ـ وتؤكد بعض المصادر المنحولة أن مريم العذراء كانت من سبط لاوي، كما نقل اوغسطينوس ـ أم من نسل داود كما يظهر من زواجها البتولي من يوسف ابن داود ؟

هذا هو الواقع الإنجيلي في مسائله ومشاكله. فأين هي الحقيقة في هذا كله ؟

 

 

222 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 10

ثانياً : صحة نسب يسوع ومريم ويوسف من داود

1ـ المشكلة الأولى : نسب مريم العذراء

يجب أن نجزم بأن مريم العذراء هي من بنات داود، أولاً بسبب الشريعة الموسوية التي كانت تأمر بنات إسرائيل من الزواج في سبطهنَّ ( العدد 36 : 5 ـ 8 ) ـ ولا يُعقل أن يخالف يوسف ومريم الشريعة؛ وثانياً بسبب زواج مريم البتولي من يوسف ابن داود ( لوقا 2: 27 )، من فرع سليمان بحسب متى، أو من فرع ناثان بحسب لوقا.

هنا يرد الاعتراض من (( قرابة )) مريم لأليصابات، (( من بنات هارون )) . فقد نقل مفسرو القرآن عن النصارى واليهود أن (( عيسى ويحيى كانا ابني خالة )) . وعلى التدقيق يوحنا ومريم أًم يسوع، فقد (( كان زكريا زوجاً لخالة مريم )) . وبما أن أليصابات كانت (( من بنات هارون )) ، فإن حنة أُم مريم كانت أيضاً من بنات هارون ـ لكن كيف تزوجت خلافاً للشريعة، من ( يهوياقيم ) أي ( يواكيم ) من نسل داود ؟ نقول : إِن الشريعة التي تمنع بنات إسرائيل من الزواج في غير سبطهنَّ، كانت مشروطة بنقل الإرث من سبط إلى سبط : فإذا لم يكن من نقل إرث، سقط حكم الشريعة ( العدد 36 ). وهذا ما حصل بزواج حنة من والد مريم العذراء. وهكذا لا تتعارض قرابة مريم من بيت زكريا اللاوي، بقرابة مريم من يوسف الذي هو (( من بيت داود )) ( لوقا 1 : 27 ).

فنحن أمام واقعين تاريخيين : قرابة مريم العذراء من بيت لاوي؛ وقرابتها من بيت داود، ابن يهوذا. وقد يحصل تجاوز على الشريعة في زواج حنة ويواكيم، ولكن لا يمكن أن نتصوّر وقوعه في زواج مريم البتولي من يوسف. وهكذا ينسجم الواقعان.

نسَب يسوع في الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 223

وهذان الواقعان التاريخيان في نسب مريم كانا من حكمة الله. فإنه قد نشأ على هامش الكتاب تيار فكري يقول بالمسيح الهاروني، من نسل هارون، إلى جانب المسيح الداودي. وباجتماع النسل الهاروني والنسل الداودي في مريم، جمع يسوع، (( ابن مريم )) ( مرقس 6 : 3 ) في شخصه المسيح الداودي والمسيح الهاروني.

 

2 ـ المشكلة الكبرى : نسب يوسف الصديق

لكن المشكلة الكبرى تبقى في نسب يوسف.

يجب الإعلان الصريح بأن متى يعطينا، في نسب يسوع، نسب يوسف : (( ويعقوب ولد يوسف، زوج مريم، التي وُلد منها يسوع الذي يُدعى المسيح )) ( متى 1 : 16 )؛ ولوقا كذلك يعطينا نسب يوسف، بحسب ظاهر قوله : (( وهو، على ما يُظن، ابن يوسف، بن هالي )) ( لوقا 3 : 23 ). فليس عند لوقا بحسب ظاهر حرفه نسب مريم، كما توهم كثيرون.

لكن لوقا، في الواقع والحقيقة، يعطينا نسب مريم الداودي وهو يقدم لنا نسب يوسف. وتفصيل ذلك أن زوج الابنة الوحيدة ـ كما كان حال مريم العذراء ـ يصير ابناً شرعيّاً ووارثاً شرعيّاً لأبيها الذي هو حموه. وهكذا بما أنه لم يكن لهالي ابن نُسب يوسف شرعاً إليه. وكان يوسف ومريم أبناء عمومة يجتمع نسبهما في زربابل، فيوسف هو ابن أبيهود، بكر زربابل كما عند متى ( 1 : 13 )، ومريم بنت ريصا، ابن زربابل الأصغر، كما عند لوقا (3: 27).

وهكذا فإن متى يعطينا نسب يوسف الطبيعي، فهو ابن يعقوب من فرع سليمان بن داود؛ ولوقا يعطينا نسب يوسف الشرعي، فهو أيضاً بن هالي من فرع ناثان بن داود.

224 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 10

وهكذا أيضاً فإِن نسب يوسف الشرعي هو في الواقع نسب مريم الطبيعي فظاهر حرف لوقا هو نسب يوسف، وباطنه وواقعه هو أيضاً نسب مريم.

فبزواج يوسف البتولي من مريم اتحد فرعا داود من سليمان وناثان في يسوع؛ كما اتحد من قبل في شلتائيل وفي زربابل؛ ولذلك هما الاسمان الوحيدان المؤتلفان في السلسلتين.

فيسوع إذن هو (( ابن داود )) بحسب الطبيعية من نسل ناثان بن داود؛ وبحسب الشرع من نسل سليمان بن داود.

ولا يتعارض متى الذي يسمي يوسف (( ابن يعقوب )) ، مع لوقا الذي يسميه (( ابن هالي )) . فيوسف هو ابن يعقوب طبيعيّاً، وابن هالي شرعاً. وهكذا يسقط التعارض الموهوم، والازدواجية المشبوهة. ولوقا الذي يصرّح في فاتحته أنه أطلع على ما كتبه الذين سبقوه إلى تدوين الإنجيل، ما كان ليختلف عن الرسول متى في نسب يسوع ويوسف؛ لكنه أكمل متى بإِبراز نسب يوسف الشرعي، الذي هو أيضاً نسب مريم الطبيعي. فينال يسوع شرف النسب الداودي من طرفيه بفرعيه؛ بل يكتمل شرف النسب الداودي من طرفيه بيسوع.

لكن الاعتراض الوحيد على هذا التخريج : هل هالي، أبو يوسف الشرعي، وأبو مريم الطبيعي هو (( هاليا قيم )) أو كما يعربونه (( يواكيم )) ؟ من الظاهر أن الاسم في صيغتيه مركب في العبرية، من (( هالي )) و (( يو )) ـ وهو اسم الجلالة ـ ومن (( قيم )) أو (( كيم )) بحسب القراءَة. ومن المعروف أن (( يو )) هو اسم الجلالة المرخّم في العبرية؛ وأن (( أَليَا )) ـ في (( أَلياقيم )) ـ هو اسم الجلالة المركب من مرادفين لاسم الجلالة: (( أل )) و(( يا )) و(( يو ))، ومعناه : (( أل )) هو (( يو )) ، كما تدل عليه أداة التعريف عندهم (( ها )) . فيكون هالي ترخيم هالياقيم أو يواكيم.

نسَب يسوع في الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 225

والترادف بين (( ألياقيم )) و (( يواكيم )) وارد عندهم، كما يدلّ فرعون مصر، نيكادو، اسم (( الياقيم )) باسم (( يواكيم )) .

وهكذا يتضح لنا أن اسم (( هالي )) هو ترخيم لاسم (( ألياقيم )) أو (( يواكيم )) ، مع زيادة (( هـا )) التعريف. فاسم والد مريم العذراء هـو إذن هالي، المرخم من (( هالياقيم )) أو (( يواكيم )) . وهو في الوقت نفسه الاسم الشرعي لأبي يوسف، فيكون ليوسف أبوّة طبيعية، فهو (( ابن يعقوب )) ، وأبوّة شرعية فهو أيضاً (( ابن هالي1 )) .

وهكذا تسقط كل الاعتراضات التي اشتبهوا بها على نسب يوسف ما بين متى ولوقا. فيوسف هو (( ابن يعقوب )) بحسب الطبيعة، كما عند متى؛ و (( ابن هالي )) بحسب الشريعة كما عند لوقا. ولوقا يعطينا، كما قلنا، نسب يوسف الشرعي، ونسب مريم الطبيعي معاً. ويسوع هو (( ابن داود )) بحسب الطبيعة وبحسب الشريعة. فقد نال بشريّاً الحسب والنسب من أطرافه كلها.

فالسر كل السر، أن يوسف هو (( ابن يعقوب )) بحسب الطبيعة، و (( ابن هالي )) بحسب الشريعة، بسبب زواجه البتولي من مريم وحيدة هالي. فدخلت مريم مع يسوع شرعاً في نسب يوسف من يعقوب وسليمان؛ ودخل يوسف شرعاً في نسب مريم من هالي وناثان. وهكذا تنسجم معطيات الإنجيل كلها، في سلسلتي

ــــــــــــــــــ

(1) ولنا على ذلك أمثلة عديدة في التوراة، وفي ذرية داود نفسها :

يائير كان ابن منسى شرعاً، ولكن يهوذا هو الذي ولد يائير

عتـّاي كان ابن شيشان شرعاً، ولكن يرجُع المصري هو الذي ولد عتاي

استير كانت بنت مردخاي شرعاً، ولكن ابيحائل هو الذي ولد استير

ابن موسى كان ابناً لابنة فرعون شرعاً، ولكن عمرام هو الذي ولد موسى

عوبيد كان ابن نعمى شرعاً، ولكن راعوت هو الذي ولد عوبيد

صدقيا كان ابن يوشيا شرعاً، ولكن يهويا قيم هو الذي ولد صدقيا

226 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 10

النسب؛ وفي تصريح الإنجيل : (( يعطيه عرش داود أبيه )) ؛ وفي تأكيد بولس ان يسوع، بحسب الجسد هو (( من ذرية داود )) ( رو1 : 3؛ 2 تيم 2 : 8 ) ومن (( سبط يهوذا )) ( عبر 7 : 14 )؛ وفي نداء الأفراد والجماهير (( يا ابن داود )) ، بدون اعتراض من أحد، خصوصاً في أحد الشعانين، وقد بلغ الصراع ذروته بين يسوع وأحزاب اليهود وسلطاتهم. فليس من غلط أو تعارض في مصادر الوحي الإنجيلي، متى فُهمت على حقيقتها.

 

3 ـ والشبهات الأخرى في نسب يسوع تزول تجاه الواقع التاريخي

1) إن يوسف هو ابن يعقوب طبيعيّاً كما يقول متى، وابن هالي شرعاً كما يقول لوقا.

2) إِن يسوع المسيح هو من ذرية سليمان ابن داود، بحسب الشريعة كما يقول متى، ومن ذرية ناثان بن داود بحسب الطبيعة، كما يقول لوقا.

3) فآباء المسيح، بحسب الشرع، من داود إلى جلاء بابل كانوا مشهورين، بحسب متى؛ وآباء المسيح بحسب الطبيعة، من داود إلى جلاء بابل، حتى إلى يوسف، لم يكونوا سلاطين، لأنهم لم يملكوا.

4) وليس من شبهة حيث يجعل متى شلتائيل ابن يكنيا؛ وحيث يجعله لوقا ابن نيري. فإِن شلتائيل ابن يكنيا، بحسب متى، تزوج ابنة نيري الذي مات بلا عقب ذكر، فصار أيضاً ابنه بحسب الشرع. فشلتائيل هو ابن يكنيا طبيعيّاً، وابن نيري شرعاً. وهكذا اتحد فرعا داود، من سليمان ومن ناثان، في زربابل؛ كما سيتّحدان في يسوع.

5) إِن ابني زربابل المذكورين في سفر الأيام الأول ( 3 : 19 ) بقيا في

نسَب يسوع في الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 227

الجلاء لتسهيله؛ وابني زربابل المذكورين في الإنجيل هما من الذين رجعوا من الجلاء إلى أورشليم. ومتى يذكر ابيهود بن زربابل الرئيس بعد أبيه؛ ولوقا يذكر ريصا الذي أكمل فرع ناثان.

6) والشبهة الأخيرة في عدد الأجيال ما بين داود والمسيح : إن متى يعدّها 14 + 14 + 14؛ وعند لوقا نجدها 41.

إِن لوقا يفصّل تاريخ ذرية داود غير المالكة، وهي فرع ناثان الذي اتحد بالزواج والإرث مع فرع سليمان في شلتائيل ثم في يوسف.

أمَّا متى فيظهر من أسلوبه أن تفصيله كلامي تنسيقي. يريد أن يبرهن أن نسب المسيح الشرعي الملكي هو النسب الكامل، في لغة العدد الرمزية. فالأجيال من إبراهيم إلى المسيح هي 14 × 3؛ والعدد 14 هو 7 + 7 أي العدد الكامل المطلق جمعاً ثم ضرباً. ولكي يستقيم له ذلك فقد أسقط ثلاثة ملوك بين يورام وعزيّا؛ لأن العائلة المالكة كانت تتنكّر لهم بسبب كفرهم؛ فكأنهم سقطوا من بني داود حافظي التوحيد والشريعة، وحاملي الوعد بالمسيح الآتي. وفي حساب الجمل أن (( دَود )) ، الملك الأمثل، يحمل العدد 14 أي ( 4 + 6 + 4 )، رمز الملك الأعظم في نسبه وحسبه. لكن يأخذون على متى أن الجمع عنده غلط. قيل1 : (( إن بيان نسب المسيح يشتمل على ثلاث أقسام، وكل قسم منها مشتمل على أربعة عشر جيلاً. وهو غلط صريح : لأن القسم الأول يتم على داود، وإذا كان داود عليه السلام داخلاً في هذا القسم يكون خارجاً من القسم الثاني لا محالة. ويبتدئ القسم الثاني لا محالة من سليمان ويتم على يوخانيا ( يكنيا )؛ وإذا دخل يوخانيا في هذا القسم كان خارجاً من القسم الثالث. ويبتدئ القسم الثالث من شلتائيل لا محالة ويتم على المسيح، وفي هذا القسم لا يوجد إلاَّ

228 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 10

ثلاثة عشر جيلاً. واعتُرض عليه سلفاً وخلفاً، وكان ﭙرفيرس قد اعترض عليه منذ القرن الثالث. ولعلماء المسيحية اعتذارات باردة غير قابلة للالتفات )) .

وفـات حضـرة المعترض الأديب أن الاسـم (( يوخانيـا )) منقـول عن اليونـانية (( يوخانياس1 )) ؛ وهـذا اللفظ اليوناني يصـح أن يكـون ترجمة اللفظ العبراني (( يواكين )) و (( يواكيم )) ابنه. وبالفعل أن يواكين بن يوشيا في جلاء بابل هو غير يواكيم من بعد جلاء بابل. فعندما يقول متى بالحرف اليوناني : (( ويوشيا ولد يوخانياس وأخوته في جلاء بابل؛ ومن بعد جلاء بابل، يوخانياس ولد شلتائيل )) ( متى 1 : 11 و12 ) : فالاسم باليونانية ترجمة اسمين مختلفين في الحرف الأخير بالعبرية : يواكين ثم يواكيم ابنه؛ وفارق زمن الجلاء، سبعون سنة، يؤيد ذلك. وهكذا فإِن يوخانيا ( يكنيا ) الذي يختم القسم الثاني هو غير يوخانيا ( يكنيا ) الذي يبدأ القسم الثالث. فيكون تقسيم متى، وتعداده صحيحين.

وفي تفصيل متى التنسيقي والكلامي لنسب المسيح يسوع أظهر أيضاً بلغة الأعداد الرمزية أنه النسب الكامل المطلق. فهو بنسبه الشرعي من يوسف ابن يعقوب، ابن سليمان؛ وبنسبه الطبيعي (( ابن مريم )) ، ابن هالي، ابن ناثان؛ فهو بحسب الشريعة وبحسب الدم (( ابن داود، ابن إبراهيم )) سليل الملك والنبوة والكهنوت، والوارث الأعظم للوعد الإبراهيمي، والعهد الداودي.

فالنسبان عند متى وعند لوقا يأتلفان ولا يختلفان. متى أبرز لنا نسب يوسف الدموي، ولوقا نسب يوسف الشرعي بزواجه البتولي من مريم بنت هالي، ترخيم اليعاقيم أو يواكيم. ولوقا أعطانا مع نسب يوسف الشرعي نسب مريم الدموي؛ وإذ تخطى النسب من إبراهيم إلى آدم، صوَّر لنا يسوع (( ابن آدم، ابن الله )) .

ــــــــــــــــــ

(1) نرى أن لوقا قد نحت الأسماء العبرية نحتاً يونانياً ينقلها من عجمتها العبرية إلى اليونانية.

نسَب يسوع في الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 229

فقد استجمع يسوع في نسبه الشرعي والدموي مكارم الحسب والنسب كلها : فهو وريث المواعيد والبركات كلها، الوعد والعهد، الشريعة والكهنوت، الملك والنبوة. فهو النبي الأعظم، والملك الأعظم، والكاهن الأعظم، والمشترع الأعظم، ومحقق العهد التوراتي الأعظم، والوعد الآدمي الأعظم. إن يسوع هو (( ابن داود، ابن إبراهيم )) فهـو المسيح الموعود؛ وإنه (( ابن نوح، ابن آدم )) فهو الإنسان الكامل المعهود. هذا هو النسب الكامل المطلق. وهو البرهان القومي والتاريخي والكلامي والرمزي لصحة (( مسيحية )) يسوع، (( ابن البشر الآتي على سحاب السماء )) ، لتأسيس ملكوت الله.

هذا هو نسب يسوع في الإنجيل.

d d

d

230 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

بحث حادي عشر

إنجيل القيامة : كحدث تاريخي

إن قيامة المسيح يسوع من الموت والقبر، بعد الإعدام صلباً، حدث الأحداث في سيرة المسيح، وفي بعث الإيمان بدعوته وإِلهيته، وفي تأسيس المسيحية على تلكما السيرة والدعوة. هذا ما كان يعلنه بولس للعالم الوثني : (( إن لم تكن قيامة أموات، فالمسيح لم يقم! وإن كان المسيح لم يقم فدعوتنا باطلة، وإيمانكم باطل! ونحن أضحينا شهود زور على الله، لأنا شهدنا باسم الله أنه أقام المسيح وهو لم يقمه! )) ( 1 كو 15 : 13 ـ 15 ).

 

 

أولاً : حالة الرسل قبل رؤية المسيح حياً

ولم تكن فكرة قيامة المسيح، مع إِنباء المسيح بها مراراً، لتراود عقلهم ووجدانهم، كما يظهر من يأسهم وخوفهم وتكذيبهم.

فقد انتهت سيرة المسيح بإعدامه صلباً. فانهارت أحلام أتباعه كلها. وخيّم اليأس القتَّال عليهم، كما صرح التلميذان على طريق عماوس : (( أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا للإعدام وصلبوه. وكنَّا نؤمّل نحن أنه هو الذي يفتدي إسرائيل )) أي يخلصه من المستعمر الروماني (لو 24 : 20 ـ 21). ما كانوا

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 231

ينتظرون قيامته، بل استحوذ عليهم الخوف، من أن يلاحقهم اليهود كما فعلوا بالمعلم، فهرب بعضهم إلى مناطقهم، وبعضهم بقي في المدينة، متخفين في البيوت : (( فيما أبواب المنزل الذي كان التلاميذ فيه موصدة، خوفاً من اليهود )) ( بو 20 : 19 ). وزيادة الموتى عادة مألوفة في الشرق. فغدت المجدلية، التلميذة المحبة لتزور القبر، فوجدته مفتوحاً، خالياً من الجثمان الكريم، فهرعت إلى بطرس ويوحنا، (( وقالت لهما : لقد أُخِذ الرب من القبر! ولا نعلم أين وُضع! )) ( يو 20 : 1 ـ 2 ). لم يراود ضميرهم وخيالهم أبداً فكرة القيامة، إنها أمر مستحيل في نظرهم؛ ولم يفهموا معناها لمَّا أخبرهم المسيح ( مر 9 : 10 ). فحالة الرسل والتلاميذ والتلميذات جميعاً النفسية كانت اليأس بعد صلبه، والخوف من ملاحقتهم بسببه، واستحالة القيامة؛ حتى كان خبر القيامة، قبل رؤية المسيح، (( بمنزلة الهذيان )) (لو 24 : 11). فليس عند الرسل والتلاميذ من استعداد نفساني لقبول أو تصوّر قيامة يسوع.

ولمّا بدأ خبر القيامة يسري لم يصدق الرسل الخبر : رجعت المجدلية باكراً من زيارة القبر للمرة الثانية تدّعي أنها رأته حيّاً، (( فأبوا أن يصدقوها )) ( مر 16 : 11 )؛ وبعد الظهر رجع تلميذاً عماوس يخبران فريقاً من الرسل أنهما شاهداه حيّاً ومشى معهما وحدثهما وجلس إلى المائدة معهما، (( فلم يصدقوهما )) في بادئ الأمر ( مر 16 : 13 ). وقاموا ومضوا إلى حيث سمعان بطرس مع نفر آخرين مجتمعين، (( وهم يقولون : لقد قام الرب حقاً وظهر لسمعان )) ( لو 24 : 34 ). وفيما هم جميعاً مجتمعون (( في عشية ذلك اليوم عينه، وأبواب المنزل الذي كان التلاميذ فيه موصدة، خوفاً من اليهود، أتى يسوع ووقف في الوسط وقال لهم: السلام عليكم )) ( يو 20 : 19 ). (( فأخذهم الدهش والذعر، وظنوا أنهم يرون شبحاً! فقال لهم : لِمَ هذا الاضطراب ؟ ولِمَ الهواجس تنبعث في قلوبكم ؟ انظروا يديَّ ورجليَّ! إني أنا هو! جسّوني وانظروا، فإِن الروح لا لحم له ولا عظم، كما ترون لي! وإذ قال هذا أراهم يديه ورجليه ( مكان

232 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

المسامير ). وإذ كانوا بعد غير مصدقين من الفرح، منذهلين، قال لهم : هل عندكم هنا طعام ؟ فقدموا له قطعة من السمك المشوي. فأخذ وأكل أمامهم )) ( لو 24 : 36 ـ 43 ). روى مرقس : (( وأخيراً ظهر للأحد عشر، هم أنفسهم، فيما كانوا متكئين، ولامهم على عدم إيمانهم، وعلى عنادهم في عدم تصديقهم لمن رأوه قد قام من الأموات )) ( مر 16 : 14 ). (( حينئذٍ أراهم يديه وجنيه، ففرح التلاميذ إذا أبصروا الرب )) ( يو 20 : 20 ).

لم يستسلم الرسل للإيمان بقيامة المسيح، حتى رأوه بعيونهم حيّاً وتفحصوا يديه ورجليه وجنبه. ونلاحظ دقة الطبيب لوقا : إنهم بعد رؤيته لم يتيقنوا حتى (( أخذ قطعة من السمك المشوي وأكل أمامهم )) !

 

 

ثانياً : الواقع الإنجيلي

وتوالت الظهورات مدة أربعين يوماً ( الأعمال 1 : 3 )، نقل لنا الرسل بعضها، كل منهم حسب هدف روايته. لكن بولس الذي كتب قبل الجميع، جمع لنا بعضها في قوله : (( أيها الأخوة، اذكركم الإنجيل الذي بشرتكم به وقبلتموه وأنتم ثابتون عليه، وبه تخلصون، إن حافظتم عليه كما بشرتكم به ... ما لم يكن إيمانكم باطلاً! فإِني قد سلمت إليكم قبل كل شيء ما قد تسلمت أنا نفسي : إن المسيح قد مات لأجل خطايانا على ما في الكتب؛ وإنه قُبر؛ وإنه قام في اليوم الثالث على ما في الكتب. وإنه تراءَى لكيفا ( بطرس ) ثم للاثني عشر. ثم تراءى لأكثر من خمس مئة أخ معاً ـ أكثرهم باقٍ حتى الآن، وبعضهم رقدوا ـ ثم تراءى ليعقوب، ثم لجميع الرسل (غير الاثني عشر). وآخر الكل تراءى لي أنا أيضاً، كأنما للسِّقط! )) ( 1 كو 15 : 1 ـ 8 ). هذا هو إنجيل القيامة الذي يبشر به الرسل كلهم. والدعوة الرسولية تقوم على إنجيل

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 233

القيامة، فهو الأساس، لذلك يقول : (( سلمت إليكم قبل كل شيء )) . وإنجيل القيامة واحد عند بولس وعند سائر الرسل؛ وهو ليس عنده إنجيل للقيامة غير الذي تسلمه من الرسل.

هذا هو الواقع الإنجيلي العام، في الدعوة الرسولية. لكن كل إنجيلي، في عرض الإنجيل على بيئته، اكتفى من ظهورات المسيح، بما قلَّ ودلّ، ويناسب بيئته.

فمتى الذي يكتب لبني إسرائيل، يحافظ على تخطيط الرسل بالسكوت موقتاً عن الإنجيل الأورشليمي. لذلك يقـول على لسان الملاك للنساء اللواتي حضـرن لزيـارة القبر: (( إِمضين في سرعة وقلن لتلاميذه : إنه قد قام من الأموات! وإنه يسبقكم إلى الجليل، فهناك ترونه )) ( متى 28 : 7 )؛ وعلى لسان المسيح لمَّا ظهر لهن : (( السلام عليكن! فدنون وأخذن بقدميه وسجدْن له. حينئذٍ قال لهن: امضين وقلن لأخوتي ليذهبوا إلى الجليل، وهناك يرونني )) ( 28 : 10 ). (( فمضوا إلى الجليل، إلى الجبل الذي عيّنه يسوع لهم. فلمَّا رأوه سجدوا له، هم الذي كانوا من قبل قد ارتابوا )) ( متى 28 : 16 ـ 17 ). فمتى ينقل لنا ظهورين : الأول للتلميذات، حاملات الخبر للرسل؛ والثاني للرسل أنفسهم لكن في الجليل : فلا يذكر ظهور المسيح للرسل في أورشليم حفاظاً على مخطط الرسل الأولي. ونلاحظ أن في إشارة الإنجيل للرسل، (( ليذهبوا إلى الجليل، وهناك يرونني )) تلميحاً سيكولوجيّاً لطيفاً يدفع عن الرسل كل وهم لرؤيته في أورشليم، زيادةً على اليأس والخوف والعناد في استحالة القيامة. فرواية متى التي تكتفي بظهور المسيح في الجليل، إنما هي صورة عن الدعوة الرسولية الأولى في أورشليم التي خطط فيها الرسل ( أع 1 : 22 ) السكوت عن الإنجيل الأورشليمي في الدعوة الأولى.

ومرقس ولوقا، اللذان يقصَّان ظهور المسيح في أورشليم، إنما هما يمثلان

234 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

الفترة الثانية من الدعوة الرسولية التي كانت لدى الأمميين، ولا يعد فيها من محاذير لرواية ظهور المسيح في أورشليم.

إن مرقس، في روايته المبتورة ( 16 : 8 ) لا يذكر شيئاً عن ظهور المسيح نفسه؛ إنما ينقل خبر الملائكة بقيامته. لكنه في الخاتمة القانونية الملحقة بالإنجيل ينقل لنا ثلاثة ظهورات في أورشليم : الأول لمريم المجدلية التي صارت البشيرة الأولى بالقيامة ( 16 : 9 ـ 11 )؛ والثاني لتلميذين في طريقهما إلى البريّة ( 16 : 12 ـ 13 )؛ والثالث للأحد عشر ( 16 : 14 ). فمرقس لا يذكر شيئاً عن ظهور المسيح في الجليل، لأنه اكتفى بما قاله متى من قبله، فأكمله. وما ذكره من ظهورات المسيح في أورشليم، مسرح الأحداث، يكفي لغرضه، في بيئته.

ولوقا يذكر أيضاً أربع ظهورات، كلها في أورشليم، مسرح الأحداث : الأول لتلميذي عمَّاوس ( 24 : 13 ـ 35 )؛ والثاني لسمعان بطرس ( 24 : 34 )، وهو يذكره عرضاً بلا تفصيل؛ ونلمس هنا أسلوب بطرس ذاته الذي كان يأبى أن يتحدث عن نفسه؛ والثالث للرسل الأحد عشر، وقد اجتمعوا عند بطرس لسماع خبر الظهور له، ففاجأهم تلميذا عمَّاوس ( 24 : 36 ـ 43 )؛ والرابع الأخير، في يوم الصعود إلى السماء، في أورشليم ثم (( نحو بيت عنيا )) ( 24 : 44 ـ 53 ) وإن كنَّا لا نلحظ الفاصل الزماني، كأن تلك الظهورات، مع الصعود إلى السماء قد تمت كلها يوم القيامة؛ لكـن لوقا يشير من طرف خفي إلى الفاصل الزماني بقوله: (( ثم قال لهم )) ( 24 : 44 ). فلوقا لا يذكر هو أيضاً ظهور المسيح في الجليل، فقد اكتفى بما ذكره متى، ولأن تخطيطه في كتابيه يجعل من أورشليم محور الدعوة المسيحية في العالم : احتلالاً وانتشاراً.

ويوحنا الذي هدفه تكميل الإنجيل الجليلي بالإنجيل الأورشليمي ـ وقد زالت المحاذير للسكوت عنه ـ يذكر وحده ظهور المسيح في أورشليم ثم في الجليل. أولاً في أورشليم، للمجدلية ( 20 : 11 ـ 18 )؛ ثم للرسل بغياب توما، مساء يوم القيامة (20 : 19 ـ 23)؛ أخيراً للرسل بحضور توما، بعد

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 235

ثمانية أيام ( 20 : 24 ـ 29 ). ويختم الإنجيل بخاتمته الأولى ( 20 : 30 ـ 31 ). ثم ألحق بالإنجيل ملحقاً يروي فيه ظهور المسيح لبعض رسله في الجليل، عند بحيرة طبريا، تفسيراً لكلمة يسوع ليوحنا التي فهمها بعضهم بأن يوحنا لا يموت ( 21 كله ). وجاءَت فيه الخاتمة الثانية توقيعاً من تلاميذه حَفَظة إنجيله، وشهادة منهم لصحة الإنجيل بحسب يوحنا (21: 24).

 

 

ثالثاً : تفصيل ظهورات المسيح بعد قيامته

يختلف المفسرون في عدد ظهورات المسيح لرسله وتلاميذه بعد قيامته. فمنهم من وحّد بين بعضها للقرابة الظاهرة عليها؛ ومنهم مَن ميّز بينها لاختلاف الظروف بينها. ونحن نرى أن الواقع الإنجيلي، مع شهادة بولس (1 كو 15 : 1 ـ 8) يفصّل لنا عشرة ظهورات.

لا يذكر الإنجيل ظهور يسوع لأمه، قبل الجميع، لأن إيمانها لم يكن بحاجة إلى برهان. لكن القلب المؤمن يحدثنا بأن أول ظهور، صباح القيامة، كان لأمه : لقد اشتركت معه أكثر من الجميع في مأساة الاستشهاد والصلب، فأشركها معه في أفراح القيامة. وهنا نترك للقلب المؤمن فرصة التمتّع بالمشهد المحبوب.

 

1 ـ الظهور للمجدلية عند القبر

لقد أجمعت المصادر أن أول ظهور للمسيح بعد قيامته كان للمجدلية ـ ويختلف المفسرون في تمييزه عن الظهور للتلميذات حاملات الحنوط، فيقول

236 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

بعضهم : إن ما ذكره مرقس ويوحنا بالنسبة لها وحدها، ذكره متى ولوقا للتلميذات مجتمعات، ونحن نميّز بين الظهورين.

تركت المجدلية رفيقاتها يكملن أعداد الحنوط، وهرعت صباح الأحد إلى القبر، فوجدته فارغاً. فرجعت على عجل ودبّت الصوت بين الرسل : فأسرع بطرس ويوحنا يتحقّقان خبر القبر الخالي. في هذه الأثناء حضر سائر التلميذات يحملن الحنوط ليحنطن جسد يسوع تحنيطاً كاملاً، أفضل من مساء الجمعة. فرأين عند القبر ملاكاً ( أو ملاكين ) أخبرهن خبر القيامة ليحملنه إلى الرسل. فرجعن بالخبر خائفات. وفي هذا الوقت وصلت المجدلية ثانية إلى القبر، لتعرف حقيقة الأمر، وترى أين وضعوا جسد يسوع ـ فلم تكن تفكر بقيامته. حينئذٍ يظهر لها يسوع عند القبر. وكل المصادر تؤكد أن الظهور الأول المعلن كان لها. ويوحنا يفصله تفصيلاً رائعاً، كأنه يراه بعد سبعين سنة. بهذه الرؤية والرسالة التي سلمها إياها، جعل يسوع المجدلية البشيرة الأولى بقيامته، لدى الرسل أنفسهم، نظراً لتفانيها في خدمته ومحبته.

 

2 ـ الظهور للتلميذات على الطريق

وفيما التلميذات على الطريق، (( وقد غادرن القبر بسرعة، يتنازعهن خوف وفرح عظيمين، وقد هرعن إلى التلاميذ ليُخبرنهم، وإذا يسوع يلاقيهن )) ( متى 28 : 8 ـ 10 ). نحن نرى في ظهور المسيح للمجدلية والتلميذات حدثين، بينما يرى فيهما غيرنا حدثاً واحداً، متى ولوقا قصّوه باسم التلميذات، ومرقس ويوحنا باسم المجدلية.

والدليل على أنهما حدثان أن المجدلية انفردت بزيارة القبر باكراً بينما هنَّ تأخرن لإكمال الحنوط حتى طلعت الشمس. هنَّ رجعن خائفات وقد عزمن

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 237

على ألاَّ يبلغن أحداً ( مر 16 : 8 )، حتى ظهر لهن المسيح على الطريق وغيّر مجرى تفكيرهن. في هذه الأثناء كانت المجدلية لقد أخبرت الرسل وجرى الكشف على القبر الخالي. فانطلق بعض التلاميذ إلى قراهم مثل قلوبا ورفيقه، ولم يعلموا بظهور المسيح لأحد : (( وأما هو فلم يروه )) ( لو 24 : 21 ). وبعد رجوع الرسولين من الكشف على القبر، ورجوع التلميذات على الطريق، كانت المجدلية قد رجعت ثانية إلى القبر ورأت السيد المسيح. فرجعت تخبر الرسل بذلك. وبعد ظهوره للمجدلية، ظهر للتلميذات على الطريق، فأسرعن أيضاً لتبشير الرسل. لكن بطرس ظل معتزلاً، لا يصدق أحداً، حتى رأى بعينيه يسوع في مجد قيامته.

 

3 ـ الظهور لبطرس في أورشليم

إن أول تلميذ ورسول ظهر له يسوع كان بطرس. ظهر له وحده. يؤكد ذلك بولس (1 كو 15 : 3 ـ 5). ويذكره لوقا بكلمة عابرة ( 24 : 34 )، لأن شهادة بطرس في رؤية المسيح ليست بحاجة إلى تفصيل وتزكية.

 

4 ـ الظهور لتلميذين على طريق عماوس، قرب أورشليم

كان تلميذان، أحدهما اسمه قلوبا، قد تركا أورشليم، وذهبا إلى قريتهما في حيرة من القبر الخالي، ومن الإشاعات التي بدأت تنطلق. فرافقهما يسوع إلى البلدة والبيت حيث كشف لهما عن نفسه. فللحال قفلا راجعين إلى أورشليم ليخبرا الرسل والتلاميذ. فوصلوها مساءً وقد اجتمع الرسل عند بطرس يستخبرونه أمر رؤيته للمسيح.

فمن هو هذا قلوبا ؟ ولماذا فضّـله يسوع برؤيته قبل الجميع، مع بطرس ؟

238 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

ينقل إفسابيوس القيصري ( تاريخ الكنيسة ك 3 ف 11؛ ك 4 ف 22 ع 4 ) نقلاً عن العالم الفلسطيني هيجسبَّوس، من مطلع القرن الثاني : إن قلوبا كان أخا القديس يوسف. فهو عم يسوع. ولا نظن يسوع فضّل أحداً على رسله بفرح رؤيته، إلاَّ عمه زعيم آل البيت. وينقل يوحنا ( 19 : 25 ) إن زوجته هي (( أخت أمه، مريم التي لقلوبا )) ، فهي إذن بنت عم العذراء. فكان الأخوان يوسف وقلوبا متزوجين شرعاً من ابنتي عم تحمل كلاهما اسم مريم : مريم العذراء، وابنة عمها مريم. وامرأة عم المسيح هذه كانت مع العذراء حين الاستشهاد. فأراد السيد المسيح أن يكافئ بفرح القيامة ومجدها بيت عمه. فظهر المسيح لعمه قلوبا ليثبت إيمان أهل البيت به.

ومَن هو رفيق قلوبا ؟ وكيف يعرف لوقا اسم الواحد دون الآخر ؟ لا شك أنه يسكت عنه عن قصد وتصميم. ونحن نرى أن هذا الآخر المجهول هو يعقوب بن قلوبا، ابن عم المسيح؛ وقد رافق أباه إلى القرية هرباً من جوّ أورشليم المحموم. وقد أغفل لوقا ذكره، بسبب المنافسة بينه وبين بولس، وذيولها عند قارئي الإنجيل، وبولس يذكر ظهور المسيح الخاص ليعقوب ( 1 كو 15 : 7 ). فهل كان ذلك في مناسبة خاصة ؟ أم بمناسبة ظهوره لقلوبا ؟ نظن أنه ظهر لعمه قلوبا ولابن عمه يعقوب معاً. وهذا الظهور لهما قبل الرسل كرّس زعامة آل البيت، فكانت مكانتهم عند النصارى اليهود تعدل مكانة الرسل أنفسهم، ولذلك امّروا يعقوب أسقفاً على أورشليم من دون الرسل، ومن دون بطرس نفسه. فكان ظهور المسيح لبيت عمه إحياءً نهائيّاً لإيمان آل البيت به، وكانوا قبل القيامة من المترددين ( يو 7 : 3 و5 ).

 

5 ـ الظهور الأول للرسل مجتمعين، مساء يوم القيامة

بينما كان الرسل مجتمعين، والأبواب مغلقة، ربما في العلية الصهيونية، يستمعون إلى خبر بطرس وإلى خبر التلميذين على طريق عماوس ـ وقد نقل لنا

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 239

لوقا هذه الرؤية المجيدة ( 24 : 36 ـ 43 )، وعزّزها يوحنا بتفاصيل أخرى ( 20 : 19 ـ 23 ) ـ أهداهم سلام القيامة. ثم (( أراهم يديه ورجليه )) مكان المسامير (لوقا 24 : 40). (( وأراهم يديه وجنبه، ففرح التلاميذ لأنهم عاينوا الرب )) ( يوحنا 20 : 19 ـ 20 ). ويضيف لوقا، الطبيب الأديب، بسيكولوجية بارعة، إنه (( أكل أمامهم )) ( 24 : 41 ـ 43 ). ففي هذه الرؤية ثلاثة براهين حسية على حقيقة قيامة المسيح : الدخول إليهم والأبواب مغلقة؛ رؤية جروحه، وربما لمسها؛ والأكل أمامهم.

ثم سلمهم سلطان الغفران الذي أيده بنفحة الروح القدس فيهم. فكانت هبة الروح القدس لهم، وسلطان الغفران، ثمرتي الاستشهاد والقيامة، اللتين لا تعدلهما هبة ولا كرامة.

وهبة الروح القدس لهم هنا روحية غير منظورة ـ وستكون يوم العنصرة منظورة محسوسة ـ وهي في يوم القيامة متصلة بسلطان الغفران؛ أما في العنصرة فستكون شاملة لكل سلطانهم. ولا يعطي روح الله، من ذاته، إلاَّ من هو من ذات الله. فبرهن يسوع لرسله وتلاميذه، بنفخ الروح القدس فيهم، وبسلطان الغفران الإلهي الذي يسلمهم إياه، إنه بقيامته رجع إلى (( حالة الله )) ( فيليبي 2 : 6 ) في بشريته المجيدة.

 

6 ـ الظهور الثاني للرسل مجتمعين، وتوما معهم، في أورشليم

أخبر الرسل توما الذي كان غائباً برؤية المسيح. فاستخف بهم، واستنكر، وبعد ثمانية أيام، في الأحد الأول بعد القيامة، ظهر يسوع للرسل، في أورشليم أيضاً، وربما في العلية الصهيونية نفسها، للمرة الثانية، وتوما معهم. وكان بين يسوع وتوما ذلك الحوار المعجز. فيصرخ حينئذٍ من كان أعند الجميع في طلب

240 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

البرهان الحسي : (( ربي! وإِلهي! )) . فكان الرسول العقلاني أول من شهد بعد القيامة ليسوع المسيح أنه الرب الإله ( يو 20 : 24 ـ 29 ).

وانتقل الرسل إلى الجليل بناءً على أمر المسيح لهم.

 

7 ـ الظهور الثالث لبعض الرسل، على شاطئ بحيرة طبرية ( يو 21 )

انتظر الرسل لقاء يسوع في الجليل. وذات صباح خرج بعضهم، بطرس ويوحنا ويعقوب، ابنا زبدى، وأربعة آخرون ( يو 21 : 2 ) يصطادون سمكاً للمعيشة ـ لا للتجارة كما كان شأنهم قبل الدعوة ـ فظهر لهم يسوع على الشاطئ. وقد فصّل يوحنا هذا اللقاء في ملحق الإنجيل ( ف 21 كله ). وأمرهم يسوع بإلقاء الشبكة في مكان عيّنه لهم. فكان صيداً معجزاً، عرف به هؤلاء الرسل يسوع. فتسارعوا إليه. حينئذ جرى استعتاب بطرس مع تصريحه ثلاث مرات بمحبة يسوع أكثر من جميعهم. في هذا الحوار الحميم سلّم يسوع بطرس رعاية نعاجه وخرافه، أي رعاة الكنيسة ورعيتها. ثم تنبأ له يسوع بمصيره ومصير يوحنا الحبيب. وكلها شواهد حسية على حقيقة قيامة المسيح وسر شخصيته.

وقد ألحق يوحنا هذا الفصل بالإنجيل ليذكر فيه نبؤة المسيح في آخرة بطرس، كما حققها الواقـع والتاريخ؛ ومعنى كلمة يسوع في يوحنا نفسه : (( إن أردت أن يبقى إلى أن أرجع )) ، التي فسرها بعض التلاميذ خطأ (( إن ذلك التلميذ لا يموت )) ( 21 : 23 )، كما بدأ يظهر من شيخوخته المتأخرة حتى آخر القرن الأول.

 

8 ـ الظهور الرابع للرسل على جبل في الجليل

يذكر متى هذا الظهور العلني على جبل، لإثبات حقيقة القيامة ( متى 28 :

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 241

16 ـ 20 ). هذه المرة بدأ الإيمان بإلهية المسيح يستحوذ على وجدانهم : (( فلما رأوه سجدوا له، هم الذين كانوا من قبل قد ارتابوا )) .

ويذكر بولس ظهوراً توحي الظروف أنه الظهور نفسه على الجبل : (( ثم تراءى لأكثر من خمس مئة أخ معاً )) ( 1 كو 15 : 6 ). ونفهم هذا الحشد من جماهير المؤمنين، بسبب موضوع الرؤية : إنه إعلان قيامته لجمهور كبير من اتباعه لتوطيدهم في الإيمان. حينئذ سلمهم كلمة السر الأخيرة من وحيه وكشفه، إعلان سر الثالوث الأقدس في ختام التنزيل الإنجيلي، مع تقليدهم سلطانه للرسالة العامة : (( فدنا يسوع وكلمهم. قال : لقد أوتيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض : فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس )) ( متى 28 : 18 ـ 19 )؛ (( اذهبوا في العالم أجمع، وادعوا بالإنجيل الخليقة كلها. فمن آمن واعتمد يخلص، ومَن يخلص، ومَن لا يؤمن يُقضَ عليه )) (مرقس 16: 15 ـ 16).

فسلطان الرسل في دعوتهم من سلطان المسيح، وسلطان المسيح هو سلطان الله (( في السماء وعلى الأرض )) ( متى 28 : 18 )؛ (( كما أن الآب أرسلني، كذلك أنا أرسلكم )) (يوحنا 20 : 21). وهذا السلطان، في العقيدة : (( باسم الآب والابن والروح القدس )) ؛ وفي الشريعة: (( وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به )) ( متى 28 : 20 )؛ وفي الإدارة والقضاء : (( أن يحفظوا )) .

وهذا السلطان المطلق، الشامل الكامل، لا ينحصر في الرسل وحدهم، فهم مائتون، والمسيح يصرّح : (( وها أَنا ذا معكم، كل الأيام، إلى نهاية الدهر )) ( متى 28 : 20 )؛ فسلطان المسيح قائم في كنيسته، طالما هو حاضر فيها، أي (( إلى نهاية الدهر )) . فسلطان المسيح للرسالة العامة، في البشرية كلها، إلى نهاية الدهر، يكون في الرسل وخلفائهم إلى يوم الدين.

242 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

والتعزية الكبرى إنهم يتمتعون، مع سلطان المسيح، بحضوره المعجز معهم : (( ها أنا ذا معكم كل الأيام إلى نهاية الدهر )) .

وبرهان سلطانه وحضوره في كنيسته : (( وها هي ذي المعجزات التي تصحب المؤمنين : باسمي يخرجون الشياطين! وينطقون بألسنة جديدة! ويأخذون الحيَّات بأيديهم، وأن تشربوا سُماً قاتلاً فلا يضرّهم! ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون )) ( مرقس 16 : 17 ـ 18 ).

 

9 ـ الظهور (( لجميع الرسل )) غير (( الاثني عشر ))

يذكر بولس أيضاً ظهـوراً (( لجميع الرسل )) ( 1 كو 15 : 7 )؛ وهو غير ظهـوره (( للاثني عشر )) ( 1 كو 15 : 5 )؛ وغير ظهوره (( لأكثر من خمس مئة أخ معاً )) ( 1 كو 15 : 6 ). هؤلاء (( الرسل جميعهم )) هم الذين قاموا بالدعوة المسيحية مع الرسل (( الاثني عشر )) ؛ وقد استحقوا بظهور المسيح لهم صفة الرسالة. ومنهم الاثنين والسبعين تلميذاً الذين ذكرهم لوقا ( 10 : 1 ـ 30 ).

فقد أكثر يسوع من ظهوره، (( مدة أربعين يوماً؛ وأراهم نفسه حيّاً بعد استشهاده، ببراهين كثيرة )) ( أع 1 : 3 ). ظهر حيّاً لرسله الأخصاء، ولأعوانهم، ولأنسبائهم، ولجمهور التلاميذ والأخـوة الـذين كانوا مرةً (( أكثر من خمسة مئة أخ معـاً )) . لذلك كانت حمـاسة (( الرسل )) المساعدين عظيمة، كحماسة الرسل الاثني عشر أنفسهم.

 

10 ـ الظهور الأخير، في أورشليم، قبل الصعود إلى السماء

ورجع الرسل إلى أورشليم بأمر من يسوع. فظهر لهم، للمرة الأخيرة،

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 243

في بيت، لعله العلية الصهيونية. ومنحهم فهم الكتاب والنبوة. ثم وعدهم بالروح القدس في دعوتهم له. وأمرهم أن ينتظروا حلوله عليهم في أورشليم ( لوقا 24 : 44 ـ 49 )، كما أوضح ذلك في الأعمال ( 1 : 4 ـ 5 ).

ثم خرج بهم إلى جبل الزيتون، باتجاه بيت عنيا. (( ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم انتحى عنهم وصعد إلى السماء )) ( لوقا 24 : 50 )؛ (( ارتفع عنهم على مشهد منهم، وحجبته سحابة عن عيونهم )) ( أع 1 : 9 ـ 12 ). (( ومن بعد ما كلمهم الرب يسوع ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله )) ( مرقس 16 : 19 ). (( أما هم فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم )) ( لو 24 : 52 ).

لا نذكر ظهور المسيح لبولس على طريق دمشق، مع هذه الظهورات العشرة، لأنه جرى بعد رفع المسيح إلى السماء، فهو من نوع آخر، وإِن كان من جنسها، لأن بولس يميّزه عنها، لكنه يلحقه بها، من دون ظهورات المسيح الروحية له.

 

وهكذا، إذا استثنينا ظهور المسيح للمجدلية وللتلميذات ولبولس، فقد ظهر يسوع حيّاً لرسله وتلاميذه (( مدة أربعين يوماً )) ، بنسبة ظهور في كل أسبوع، ما عدا الثلاثة الأولى يوم القيامة.

فالحدث التاريخي لقيامة المسيح ثابت بشهادة شهود العيان؛ ثابت بعدد وأنواع شهود العيان الذين بلغوا مرة، (( خمس مئة أخ معاً )) ؛ ثابت بتعدّد الأمكنة والأزمنة والظروف المختلفة؛ ثابت بالمدة المتطاولة، (( مدة أربعين يوماً )) ؛ ثابت من مشاهدة المؤمنين والمشككين مثـل تومـا، والمترددين مثـل آل البيت! ثابت بصحة البراهين الحسـية، كاللمس والأكل، (( البراهين الكثيرة )) المتنوعة التي

244 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

استخدمها يسوع لإثبات حقيقة قيامته، وحقيقة جسده الحي المجيد بعد الموت والقبر.

فلم يؤمن تلاميذ المسيح به إلا بعد المشاهدة العيان. وكان بطرس يفخر ويقول: (( نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من بين الأموات )) ( أع 10 : 41 ).

وقد أبرز لوقا قيمة هذه الشهادة لتلك التجربة الفريدة بقوله : (( أراهم نفسه حيّاً من بعد استشهاده، ببراهين كثيرة، وهو يظهر لهم مدة أربعين يوماً، ويكلمهم عن شؤون ملكوت الله )) ( أع 1 : 3 ).

فقيامة المسيح كانت الحدث التاريخي الثابت للرسل وسائر التلاميذ، شهود العيان؛ لذلك كانت قيامة المسيح موضوع دعوتهم الأولى، وشهادتهم الكبرى. فإِنه، لولا قيامة المسيح لما آمنوا، وكان إيمانهم قد انهار مع موت المسيح على الصليب. فقيامة المسيح هي البرهان الوحيد ليهوديّ يؤمن بالناصري المصلوب أنه المسيح وأنـه ابن الله . لذلك كان بولس يهتف: (( إِن كان المسيح لم يقم فدعوتنا باطلة، وإيمانكم أيضاً باطل! بل أضحينا شهود زور لله ، لأنا شهدنا على الله بأنه أقام المسيح، وهو لم يقمه )) ( 1 كو 15 : 14 ).

فالدعوة المسيحية قامت على الشهادة بقيامة المسيح. وهي تشهد لحدث القيامة التاريخي إلى يوم يبعثون.

وهذا الحدث التاريخي لا تقوى عليه شبهة.

 

 

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 245

رابعاً : هل من تعارض بين الروايات الإنجيلية ؟

الإيجاز من فنون الإعجاز، لكنه موهم أحياناً للاختلاف.

إِن آخر كتب الوحي الإنجيلي تدويناً هو الإنجيل بحسب يوحنا. وفي خاتمته الأولى يقول : (( وصنع يسوع أمام التلاميذ آيات أخرى كثيرة، لم تدوّن في هذا الكتاب )) (20 : 30). وفي خاتمته الثانية يقول : (( وصنع يسوع أشياء أخرى كثيرة، فلو أنها كُتبت واحداً فواحداً، لمَا خلت إن العالم نفسه يسع الصحف المكتوبة )) ( 21 : 25 ). يشهد بذلك الموجزات المتواترة، في الأناجيل المؤتلفة، لمعجزات بالجملة لا تفصيل لها. فقد اكتفى كتبة الوحي الإنجيلي بما قلَّ ودلّ من دعوة المسيح وسيرته، لبيان شخصيته ورسالته.

وهذا الإيجاز في النقل والتعبير، مع اختلاف في أسلوب العرض، بسبب اختلاف البيئات والأهداف، هو ما يوهم الاختلاف في الظاهر، في بعض الأحداث، كأحداث القيامة، لكنه يزول بالقرائن الظاهرة والباطنة، وبالأحداث المقدرة بين المشاهد المروية.

وهذا الاختلاف الظاهري لائتلاف الأحداث بعضها مع بعض، هو دليل صحتها، لا شبهة عليها. فكل منهم كتب ما قل ودل، مما رآه مناسباً لغايته في عرض الإنجيل على بيئته. فلو كان قصص القيامة موضوعاً، لمَا قامت عليه الدعوة المسيحية كلها، ولأتى مؤتلفاً ائتلافاً كاملاً تظهر الصنعة عليه. لكنهم لثقتهم جميعاً بصحة حدث القيامة وبصحة رؤية المسيح حيّاً بجسده المجيد بعد الموت، فهم يعتمدون على ائتلاف باطني يذوب عنده الاختلاف الظاهري.

وبعد، فهذا الاختلاف الظاهري يقوم على أمور ثانوية.

قيل : هناك اختلاف على مكان ظهور المسيح، أفي اليهودية أم في الجليل ؟

246 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

إن الإنجيل بحسب متى يذكر ظهور المسيح حيّاً أولاً للتلميذات في أورشليم (28 : 8 ـ 10)؛ ثم للرسل في الجليل على جبل ( 28 : 16 ـ 20 ). فهو يذكر المكانين.

والإنجيل بحسب مرقس، في خاتمته المبتورة ( 16 : 1 ـ 8 ) يذكر بشرى الملائكة بقيامته، وتكليف التلميذات بتبليغ الرسل وبطرس أنهم يرونه في الجليل. ووعد المسيح لا يكذب. لكن مرقس في خاتمته الملحقة به ( 16 : 9 ـ 20 ) يذكر ثلاثة ظهورات ( 16 : 9 ـ 14 ) مع رابع ( 16 : 15 ـ 20 )، وكلها في أورشليم. ففيه إشارة إلى ظهور المسيح في الجليل.

والإنجيل بحسب لوقا، لا يذكر إِلاَّ ظهور المسيح في أورشليم، وذلك بحسب مخططه الذي يجعل المدينة المقدسة محور الدعوة المسيحية. لكن قوله في مطلع كتابه الثاني : (( أراهم نفسه حيّاً، من بعد استشهاده، ببراهين كثيرة، وهو يظهر لهم مدة أربعين يوماً، يكلمهم فيها عن شؤون ملكوت الله )) ( أع 1 : 3 )، يدل على سكوته عن ذكر ظهور المسيح في الجليل، وقد ذكره سابقاه متى ومرقس كما يعلم ذلك ( لوقا 1 : 1 ).

أخيراً جاء الإنجيل بحسب يوحنا يذكر بصراحة ظهور المسيح في أورشليم (ف 20)، ثم في الجليل (ف 21).

فالسيد المسيح ظهر حيّاً بعد موته في الجليل وفي اليهودية بأورشليم. وسكوت بعضهم عن ذكر المكانين معاً لا يوهم الخلاف، كما تدل عليه القرائن في تضاعيف روايتهم.

وقيل أيضاً : هناك اختلاف على زمان ظهور المسيح.

فظاهر الإنجيل بحسب مرقس يوهم أن القيامة والظهور والصعود إلى السماء تمّت كلها في يوم واحد، في أحد الفصح. لكن تعابيره تشير من طرف خفي

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 247

إلى أكثر من يوم واحد فهو يقول بعد ظهوره الأول لرسله ( 16 : 14 ) : (( ثم قال لهم )) (16 : 15) مما يدل على زمن آخر؛ ثم يقول : (( ومن بعد ما كلمهم الرب يسوع، ارتفع إلى السماء )) ( 16 : 19 )، مما يوحي بتفاوت الزمن. فالإيجاز هو سبب الإيهام.

والإنجيل بحسب متى صريح في تفاوت الزمن وطوله : (( أما التلاميذ الأحد عشر فمضوا إلى الجليل، إلى الجبل الذي عيّنه يسوع لهم )) ( 28 : 16 ).

لكن الاعتراض ينصب على الإنجيل بحسب لوقا، وعلى تعارضه مع مطلع (( أعمال الرسل )) . ففي الإنجيل يظهر أن القيامة والظهورات والصعود إلى السماء تمت كلها يوم أحد القيامة؛ بينما في مطلع (( الأعمال )) يجعل مدة ظهور المسيح (( أربعين يوماً )) ( 1 : 3 ). مع أنه لا تعارض بين الكتابين، فقد فصّل لوقا في مطلع (( الأعمال )) ما أوجزه في خاتمة الإنجيل. فالإيجاز هو سبب الإيهام. وقد أشار في الإنجيل، من طرف خفي، إلى تفاوت الزمن بين أحداث الظهور. فبعد ظهور يسوع يوم أحد الفصح ( 24 : 36 ـ 43 ) يكتب : (( ثم قال لهم )) ( 24 : 44 ) أي في مناسبة أخرى، هي ظهوره الأخير قبل الصعود إلى السماء (24 : 50). ومما يدل على الإيجاز المقصود في الإنجيل هو الوعد بتنزيل الروح القدس عليهم، والأمر بالبقاء في أورشليم حتى يتحقق الوعد ( 24 : 49 )؛ لكنه في الإنجيل لا يقص تحقيق الوعد، مما يدل على أنه أوجز فيه ليفصّل في سفر (( الأعمال )) .

وجاء الإنجيل بحسب يوحنا ففصّل الأزمان والأماكن في ظهورات المسيح. ونحن مدينون لدقة لوقا المؤرخ في تحديد زمن الظهورات (( بأربعين يوماً )) .

قيل أخيراً : هناك اختلاف في ظروف أحداث القيامة.

ـ إن متى ومرقس لا يذكران عند القبر الخالي سوى ملاك واحد، بينما

248 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

لوقا ويوحنا يذكران ملاكين اثنين. وهل في ذلك شبهة على صحة الخبر والرؤية ؟ إنها طريقة تعبير مألوفة1 ينسب فيها أحدهم إلى ملاك ما ينسبه الآخر إلى ملاكين. فهم لا يكترثون بهذا التدقيق العلمي الخارج عن أهدافهم. إنهم ينظرون إلى جوهر الأمور، لا إلى أعراضها.

ـ إن مرقس يقول عن التلميذات اللواتي أخذن خبر القيامة من الملاك أنهم (( لم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات )) ( 16 : 8 ). ومتى يذكر أيضاً أمر الملاك للتلميذات بتبشير الرسل بخبر القيامة ( 27 : 10 ) لكنه لا يقول إذا هن نفذن الأمر، وسكوته إيجاز يدل على أنهن بلّغن الرسل، لأنهم ذهبوا إلى الجليل ( 28 : 16 ) ورأوا يسوع حيّاً. وهذا ما صرّح به لوقا : (( وإذ رجعن من القبر أخبرن الأحد عشر وجميع الآخرين بهذا كله )) . وجاء يوحنا ففصّل الأمر كله على لسان المجدلية. فليس في الإنجيل من تعارض، بل تفاوت بين الإجمال والتفصيل. ومرقس الذي يصرّح (( أنهن لم يقلن لأحد شيئاً )) ( 16 : 8 )، سقطت خاتمته الأصيلة التي استعيض عنها بأخرى؛ مما يوحي بأنهن قرّرن أولا السكوت، ثم تحت ضغط الأحداث تكلمن. وأنّى لبنات الشعب في مثل تلك الأحداث أن يحافظن على السكوت!

ـ إن يوحنا لا يذكر من التلميذات اللواتي زرن القبر صباح القيامة سوى المجدلية؛ بينما الأناجيل المؤتلفة تذكرهن جملةً. أليس في ذلك خلاف بين يوحنا والمؤتلفة ؟ كلاّ، ليس من خلاف، وقد فات القائل أن المصادر كلها تجعل المجدلية على رأس التلميذات في زيارة القبر ( مر 16 : 9؛ متى 28 : 1؛ لوقا 24 : 10 ). فإن يوحنا أراد تفصيل دور المجدلية، توطئة لتفصيل دوره مع بطرس في الكشف على صحة القبر الخالي. وهي التي أسرعت بنقل الخبر إليهما قبل

ــــــــــــــــــ

(1) نجد مثالاً على ذلك في القرآن : ففي سورة مريم ملاك واحد يبشر بمولد عيسى : (( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويّاً )) (16)؛ وفي سورة آل عمران : (( إذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله يبشرك )) (45).

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 249

سائر التلميذات. وفي رواية يوحنا إيضاح لما غمض أو سقط من رواية الأناجيل المؤتلفة، ودور يوحنا في تكميل روايتهم ظاهر مشهور.

وقد يقول أيضاً قائل : ألم يقم خبر القبر الخالي وبشرى رؤيا ملائكة بقيامة المسيح، على امرأَة بلغ منها الهوس بمعلمها المحبوب حتى ظنت أنها رأته عند القبر ؟ وعلى تأييد تلميذات أميَّات لها ؟ كلا، لم تقم صحة قيامة المسيح على خبر المجدلية ورفيقاتها! بل على صحة ظهور المسيح حيّاً (( مدة أربعين يوماً، ببراهين كثيرة )) ( أع 1 : 3 ). وما اختار السيد المسيح بعض النساء بشيرات له بحدث الأحداث في سيرته ودعوته، إنما هو الواقع التاريخي؛ فإِن زيارة النساء لقبر المائت حديثاً عادة شرقية مألوفة حتى اليوم في الأوساط المحافظة. وعند تلميذات يسوع كانت رغبة مبيّتة لتكميل تحنيط يسوع : (( وكانت النساء اللواتي كن قد أتين معه في الجليل يتبعن عن كثب : فنظرن إلى القبر وكيف وُضع فيه جسد يسوع. ثم رجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً، وفي السبت استرحن بمقتضى الوصية. وفي اليوم الأول من الأسبوع، جئن مع الفجر يحملن الحنوط المُعَدّ، فوجدن الحجر قد دُحرج عن القبر )) ( لوقا 23 : 55 ـ 24 : 2 ). فالعادة والحاجة جعلت التلميذات أول مَن عرف أمر القيامة وأول مَن نعِم برؤية المسيح حيّاً. وساعدتهم طبيعتهن على نشر الخبر.

فالأناجيل الأربعة وحدة متكاملة، يتمم بعضها بعضاً؛ وقد تختلف في ظاهر العرض، لكنها تأتلف في باطن الأمور. فهي، كما نقول مراراً، من (( المختلف المؤتلف )) . وهذا الواقع دليل وبرهان على صحتها، لا شبهة عليها؛ لأن اختلافاً ظاهريّاً مع ائتلاف باطني، خير من ائتلاف باطني وظاهري معاً، في روايات متعددة، يكون موضوع ريبة وتواطؤ.

وخبرة الحياة تعلمنا أن شهود العيان لحادث جلل يروونه كل من زاويته، فيذكر أحدهم ما لا يذكره الآخر، ويرى أحدهم ما فات الآخر، وقد يختلفون

250 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

في تفاصيل الرواية؛ لكن إجماعهم على جوهر الرواية للحادث برهان صحته. وهذا ما نراه في الإنجيل بأحرفه الأربعة، في رواية أحداث القيامة. وهذا الإجماع نراه في إنجيل القيامة الذي سلّمه بولس للكورنثيين كما تسلمهُ من الرسل أنفسهم ( 1 كو 15 : 1 ـ 11 ).

 

 

خامساً : هل حادث القيامة معقول، أم هو وهم منقول ؟

رأينا الشبهات الواهية على الوثائق الإنجيلية التي تروي لنا حدث القيامة التاريخي. وهناك شبهات أخرى يقول بها الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا بالبعث والقيامة.

لا نلتفت إلى الذين يقولون باستحالة القيامة مبدئيّاً. هؤلاء لا يؤمنون باليوم الآخر، والعالم الآخر، ويقصرون الوجود الإنساني على هذه الدنيا. إِنهم الدهريون الذين خاطبهم الشاعر بقوله :

زعم المنجم والطبيب كلاهما :

 

لا يُبعث الأموات! قلت : اليكما!

إن صح زعمكما فلست بخاسر!

 

أو صح زعمي فالخسار عليكما!

لكن هناك شبهة يروّجها بعض العلماء الدهريين في عصرنا يقولون : نظراً لاستحالة القيامة، ولبرهان التاريخ الذي لا يروي حادثاً واحداً تاريخيّاً لقيامة أحدهم من الموت، فرؤية الرسل للمسيح حيّاً في بشريته بعد موته هي حالة نفسية سيكولوجية حملتهم على توهم رؤيته الحسية في الواقع. فصار الحادث السيكولوجي واقعاً تاريخياً في روايتهم، فصدقهم الناس.

ـ فما أبسط البشرية التي تصدق موهومين!

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 251

وهؤلاء المدعوين موهومين كانوا أبعد الناس عن الوهم، لذلك اعتبروا خبر القيامة الذي نقلته النساء على لسان الملائكة (( بمنزلة الهذيان )) ( لو 24 : 11 )؛ ولم ينقادوا إلاّ إلى الرؤية الحسية الملموسة، المدعومة بالشواهد الحسية من رؤية موضع المسامير في يدي يسوع ورجليه، وموضع الحرية في جنبه! ولوقا الطبيب يذكر خصيصاً أنه أكل وشرب معهم بعد قيامته؛ وأنه (( أراهم نفسه حياً من بعد استشهاده ببراهين كثيرة، وهو يظهر لهم أربعين يوماً )) ( أع 1 : 3 ). فالوهم لا يدوم أربعين يوماً بين جمهور يبلغ جمهور يبلغ الخمس مئة!

والحالة النفسية الواهمة المتوهمة قد تدوم حيناً لكنها لا تلبث أن تصطدم بواقع الحياة وتسقط. كان الإغريقيون، على الأقل فلاسفتهم، يؤمنون بخلود النفس؛ لكن قيامة الأجساد كانت عندهم هذيان عجائز. نرى ذلك في خطاب بولس أمام ندوة أثينا : سمعوا له يذكر التوحيد بارتياح؛ لكن لما وصل إلى ذكر قيامة المسيح والأموات سخروا منه : (( وطفق بعضهم يستهزئون! وقال آخرون : سنسمع منك عن هذا مرة أخرى! )) ( أع 17 : 32 ). وفي هذه البيئة الإغريقية ينادي الرسل وعلى رأسهم بولس (( قبل كل شيء )) ، (( بإنجيل القيامة )) ( 1 كو 15 : 2 )، وسط الأخطار والشدائد والأتعاب والسجون والجلد والغرق والسيول واللصوص والتعب والكد والجوع والعطش والأصوام والبرد والعري، مما يسقط ويزيل كل وهم، وكل حالة نفسية شاذة ( 2 كو 11 : 23 ـ 29 ). فقيامة المسيح التي توهمها بعض اليهود لا تنطلي على حكماء اليونان، ولا على جبابرة رومة العمليين. والعالم الإغريقي والروماني والشرقي آمن بصحة شهادة الرسل في رؤية المسيح الحسية الملموسة حيّاً بجسده بعد موته. وتكذيب (( مثل هذا السحاب الكثير الكثيف من الشهود )) ( عبر 12 : 1 ) برهان على أن أصحاب هذه الشبهة هم الموهومون، لا المؤمنون. فالزمن كشَّاف لكل شيء، تسقط فيه أمام واقع الحياة الأوهام والأكاذيب. وهنا رسل المسيح وأتباعهم يشهدون بالحادث الجلل مدى ثلاثين، وأربعين, وسبعين سنة،

252 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

ويستشهدون في سبيل شهادتهم، ولا نصدقهم! فمن بعدهم، لن تقوم شهادة بشر على الإطلاق!

وقد تأتيهم صعوبة التصديق بقيامة المسيح من سوء فهمها : يظنون قيامة المسيح رجوعاً إلى الحياة البشرية الجسمية كالتي كانت قبل الموت، كما جرى في معجزات المسيح في إحياء لعازر وسواه. فهؤلاء أرجعهم المسيح إلى الحياة العادية التي في آخرتها ماتوا مرة ثانية كسائر الناس. أمـَّا قيامة المسيح فهي من نوع قيـامة الموتى في اليوم الآخـر للخلود: (( وهكذا قيامة الأموات : يُزرع الجسد بفساد ويقوم بلا فساد؛ يُزرع بهوان ويقوم بمجد؛ يُزرع بضعف ويقوم بقوة؛ يُزرع جسد حيواني، ويقوم جسد روحاني )) ( 1 كو 15 : 42 ـ 43 ) أي جسد يتمتع بميزات الروح، متجرداً من حدود وقيود المادة والزمان والمكان. إنه جسد حقيقي لكنه (( روحاني، لا حيواني )) . هذا هو جسد المسيح الحي بعد موته. إنه مثال وباكورة لقيامة الموتى في اليوم الآخر. فهو حدث فرد في تاريخ البشرية، لا يصح إثباته بتجارب الحياة والطبيعة والتاريخ العام. إنه تجربة تاريخية وحيدة قامت عليها المسيحية بتصديق الرسل وأتباعهم في شهادتهم. شهادتهم ترتكز على دلائل الواقع وبراهين اليقين.

 

 

سادساً : دلائل الواقع وبراهين اليقين

ودلائل الواقع وبراهين اليقين ظاهرة في روايتهم.

1 ـ الواقع الأول : القبر الخالي، والحراس من الجيش حوله. وكان الشرع الروماني يقضي بالإعدام على مَن ينتهك حرمة الأموات. ولم يكتف الرسل بشهادة النساء، بل تحققوا الأمر بأنفسهم، كما روى لوقا ( 24 : 12 ) وفصّل يوحنا ( 20 : 3 ـ 8 ).

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 253

2 ـ الواقع الثاني : الحرس الروماني يشهدون ظروف قيامة المسيح، دون أن يروه: (( وإذا زلزال عظيم قد انبعث، لأن ملاك الرب انحدر من السماء، وأتى دحروج الحجر (عن باب القبر)، وجلي عليه. وكان منظره كالبرق، ولباسه أبيض كالثلج. فارتعد الحراس من الذعر، وصاروا كالأموات )) ( متى 28 : 2 ـ 4 ). ثم صحوا من ذعرهم فرأوا القبر فارغاً، (( وأقبل نفر منهم إلى المدينة وأخبروا رؤساء المدينة بكل ما جرى )) ( 28 : 11 ). فالحرس الروماني شهود بمعجزة القيامة والقبر الخالي.

3 ـ الواقع الثالث : رشوة الأحبار اليهود للحرس الروماني أن يشيع بين الناس أن تلاميذه سرقوه وهم نيام ( متى 28 : 11 ـ 15 ). والقانون الروماني كان يقضي بالإعدام على سارق الأموات، وبالسجن على حارس الأموات الغافل. فالرواية متهافتة من نفسها، لم تصمد أمام الواقع والتاريخ. فرشوة الحرس والإشاعة الكاذبة دليلان على صحة واقع القيامة، من حيث لا يدرون.

4 ـ الواقع الرابع : رؤية الملائكة يخبرون، بعد الزلزال المعجز المحسوس، بقيامة المسيح. أجل يخبرون نساءً قد تطغى فيهن العاطفة على الحقيقة. لكن ظهور المسيح نفسه يؤكّد روايتهن.

5 ـ الواقع الخامس : قيامة بعض الأموات مع المسيح يوم قيامته يشهدون بظهورهم لحقيقة قيامته. هذا الحادث يذكره متى الذي يكتب ليهود فلسطين : (( والقبور تفتحت وكثيرون من القديسيين الراقدة أجسادهم فيها، قاموا وخرجوا من القبور، بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين )) ( متى 27 : 52 ـ 53 ).

6 ـ الواقع السادس : ظهورات المسيح المتعددة المتنوعة، للرجال والنساء، للرسل والتلاميذ، للأفراد ( بطرس ويعقوب )، وللجماعات التي قد تبلغ في بعض الأحيان (( نحو خمسة مئة أخ )) . وهذه الظهورات المتكررة المتنوعة مدة (( أربعين يوماً )) نقل لنا منها الرسل بالتفصيل عشرة ظهورات. فتكذيب (( مثل هذا

254 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

السحاب الكثير الكثيف من الشهود )) طعن في الشهادة المتواترة بين الناس، وهو بالتالي طعن بسيرة الأنبياء كلهم، وما نُقل لنا عنهم بالتواتر والسند الصحيح والإجماع، كما في حادث قيامة المسيح.

7 ـ الواقع السابع : البراهين الكثيرة التي يعطيها يسوع على حقيقة قيامته : (( أراهم نفسه حياً، من بعد استشهاده، ببراهين كثيرة، وهو يظهر لهم مدة أربعين يوماً، ويكلمهم عن شؤون ملكوت الله )) ( أع 1 : 3 ).

من هذه البراهين الحسية الملموسة، اللمس : (( أراهم يديه وجنبه )) ( يو 20 : 20 )، (( انظروا يديَّ ورجليَّ! أنا هو! جسّوني وانظروا : فإن الروح لا لحم له ولا عظم كما ترون لي )) ( لو 24 : 39 )؛ والأكل : (( هل عندكم ههنا طعام ؟ فقدموا له قطعة من السمك المشوي؛ فأخذ وأكل أمامهم )) ( لو 24 : 41 و42 ). ومعرفة سرهم ونجواهم كقوله لتوما : (( هات إصبعك إلى ههنا وانظر إلى يديّ! وهات يدك وضعها في جنبي )) ( يو 20 : 27 ).

ومن هذه البراهين الحسية أيضاً كلامه معهم، يفسر لهم نبؤات الكتاب فيه، (( من موسى إلى جميع الأنبياء )) ( لو 24 : 27 )، (( ويكلمهم في شؤون ملكوت الله )) (أع 1 : 3)؛ يفعل ذلك مع الأفراد، ومع الجماعة كلها : (( ذلك ما قلت لكم، إذ كنت بعد معكم : إنه لا بد ان يتم جميع ما كتب عني في شريعة موسى، وفي النبيين، وفي الزبور. عندئذ فتح أذهانهم ليفهموا الكتب! )) ( لو 24 : 44 ـ 45 ). وبإشارة رمزية (( نفخ فيهم وقال لهم : خذوا الروح القدس )) ( يو 20 : 22 )، فشعروا أنهم صاروا حملة الروح، يفعلون بواسطته المعجزات، ويتمتعون بسلطان الله، حتى على غفران الخطايا ( يو 20 : 23 ).

ومن هذه البراهين أنه يمشي معهم على الطريق، ويجلس معهم على مائدة الطعام : (( ولما اتكأ معهما أخذ الخبز وبارك وكسر وناولهما : فانفتحت أعينهما وعرفاه )) ( لو 24 : 30 )؛ يلاقيهم في أورشليم، وفي الجليل؛ في البيوت، وفي

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 255

السهل، وعلى الجبل وعند شاطئ البحيرة. وقد يهيّئ لهم طعاماً، ويشعرهم بمعجزة صيد أنه هو هو بينهم : (( ولما انحدروا إلى الأرض ابصروا جمراً عليه سمك وخبز ... فتقدم يسوع وأخذ الخبز وأعطاهم، وكذلك السمك )) ( يو 21 : 9 و13 ).

والبرهان الأكبر انقلابهم من أميّين يخشون أن يغتالهم اليهود مع المسيح، إلى مجاهدين يقتحمون اليهودية والوثنية العالمية أو يتحدون الإمبراطورية الرومانية، يشهدون أن لا رب إلاَّ المسيح! وذلك تتميماً للرسالة التي ائتمنهم عليها يسوع القائم من بين الأموات، وبقوة السلطان الإلهي الذي آتاهم إياه : (( فدنا يسوع وكلمهم قائلاً : لقد أوتيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض : فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم! )) ( متى 28 : 18 ـ 19 )، (( إِذهبوا في العالم أجمع وبشروا بالإنجيل الخليقة كلها )) ( مر 16 : 15 )، (( كما أن الآب أرسلني كذلك أنا أُرسلكم )) ( يو 20 : 21 ). وهذا الانقلاب المذهل في رسل المسيح ورسالتهم تم بحلول الروح القدس عليهم كما وعدهم يسوع به. فروح الله شاهد معهم بصحة قيامة المسيح بالجسد من بين الأموات. فبرهان القيامة الأكبر هو نزول روح القدس الموعود على رسل المسيح وتلاميذه؛ فقلبهم لإجراء انقلاب روحي سماوي في الوثنية، وتحويلها إلى المسيحية.

8 ـ الواقع الثامن : يسوع بعد قيامته يجتمع في أماكن شتى مع رسله وتلاميذه يعلمهم كيف يفهمون الكتاب على نور الإنجيل ( لو 24 : 27 و44 و45 )، (( يظهر لهم مدة أربعين يوماً ويكلمهم عن شؤون ملكوت الله )) ( أع 1 : 3 ). ففي هذا الوقت متسع من الزمن ليبينوا الواقع والحقيقة، من الوهم والخيال. فالوهم يزول أمام الوقائع المحسوسة.

9 ـ الواقع التاسع : هو واقع الرسالة المعجزة، نبؤةً وتحقيقاً. (( ثم قال لهم : ها هي ذي المعجزات تصحب المؤمنين : باسمي يخرجون الشياطين!

256 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

وينطقون بألسنة جديدة! ويأخذون الحيَّات بأيديهم! وإن شربوا سماً قاتلاً فلا يضرّهم! ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون! )) . ومن بعد ما كلمهم الرب يسوع ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله. وأما هم فخرجوا وبشروا في كل مكان، والرب يشدّ أزرهم ويؤيّد الدعوة بالمعجزات التي تصحبها )) ( خاتمة مرقس ). وهذا الإعجاز في الدعوة يقوم مع الاضطهاد والاستشهاد. ومع الاضطهاد والاستشهاد لا مجال للوهم، أو التدجيل، أو التضليل؛ لولا حقيقة القيامة، ما آمن الرسل الموحدون بإِلهية المسيح، وما دعوا العالم إلى الإيمان معهم؛ وما ماتوا شهداء لشهادتهم. وشهادة الدم لا تردّ!

10ـ الواقع العاشر : صعود المسيح، بمشهد حسي مشهود أمام أعينهم إلى السماء (خاتمة مرقس، وخاتمة لوقا، وفاتحة الأعمال). وقبل الرفع إلى السماء حياً بجسده المجيد، وعدهم بتنزيل روح الله عليهم : (( وها أنا أرسل إليكم ما وعد به أبي : فامكثوا في المدينة إلى أن تُلبسوا قوة من العلاء )) ( لوقا 24 : 49 ). وهذا ما حدث يوم العنصرة.

11ـ الواقع الحادي عشر : نزول الروح القدس، بصورة حسية، على الرسل والتلاميذ يوم عيد العنصرة، تتميماً لوعد المسيح. فالذي يرسل روح الله على كنيسته، يكون من الله ومع الله، (( قد ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله )) ( خاتمة مرقس ). لا يعطي الروح القدس إلاَّ روح الله وكلمته. فنزول الروح القدس شاهد بقيامة المسيح ورفعه إلى السماء، عن يمين جلال الله، حيّاً خالداً ببشريته وإلهيته.

فهذه الوقائع وثائق على صحة قيامة المسيح وحقيقتها وفعاليتها.

 

 

إنجيل القيامة، كحدَث تاريخيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 257

سابعاً : ما بين القيامة والصعود إلى السماء

فما بين قيامة المسيح من الموت وصعوده حيّاً بجسده المجيد إلى السماء، صلة وشهادة.

بقيامة المسيح من الموت شهد الله للمسيح بصحة رسالته وحقيقة شخصيته كما أعلنها في دعوته وفي محاكمته.

وبرفع المسيح حيّاً خالداً إلى السماء، من دون العالمين والمرسلين أجمعين، شهادة أخرى من الله لسموّ رسالة المسيح على الرسالات كلها، وشهادة لحقيقة شخصية المسيح الإلهية. وبقوله : (( ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله )) ( خاتمة مرقس، وخاتمة لوقا ) شهادة من الله لمساواة المسيح، ابن الله، لأبيه في العرش والسلطان على الكون والخليقة.

وجلوس المسيح (( عن يمين الله )) ، يجعله (( الوسيط الأوحد بين الله والناس )) ( 1 تيم 2 : 5 ). فهو الشفيع المشفع، بشخصيته واستشهاده، للذين يرجون الخلاص بواسطته. إنه المخلص بقدرة الله واستحقاق دمه وجلوسه على عرش السماء.

فقيامة المسيح ورفعه بالجسد حيّاً إلى مجد الله، ميزة لم ينلها أحد من العالمين، ولا من المرسلين أجمعين. فكل الأنبياء والمرسلين ينتظرون يوم يُبعثون؛ والمسيح وحده حي خالد في السماء، بجسده المجيد.

وبجلوس المسيح (( عن يمين الله )) يظهر سلطان المسيح الكوني على الخلائق كلها : (( فقد رفعه الله عالياً، وآتاه الاسم الأعظم، لتجثو لاسم يسوع كل ركبة مما في السماوات وعلى الأرض وتحت الأرض؛ ويشهد كل لسان أن يسوع المسيح هو الرب في مجد الله )) (في 2 : 9 ـ 11).

هذا هو إنجيل القيامة، كحدث تاريخي.

258 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 12

بحث ثاني عشر

إنجيل ارتفاع المسيح حياً إلى السماء، كحدث تاريخي

إن الإنجيل بحسب لوقا هو إنجيل رفع المسيح المشهود إلى السماء.

لوقا أوجز الحدث المعجز المشهود في خاتمة الإنجيل ( 24 : 50 ـ 52 )، وفصّله في مطلع (( أعمال الرسل )) ( 1 : 1 ـ 12 ). فلوقا هو مؤرخ (( مشهد )) ارتفاع المسيح إلى السماء.

إن هذا الحدث المعجز التاريخي قد ذكرته المصادر الإنجيلية كلها : فقد تنبأ يسوع عن رفعه إلى السماء ( يو 6 : 62؛ 20 : 17 ). وشهد الرسل بتتميم النبؤة، وبواقع وجود المسيح حياً ببشريته المجيدة في السماء ( أع 2 : 34؛ رو 2 : 6؛ أفس 4 : 10؛ 1تيم 3 : 6؛ عبر 4 : 4؛ 6 : 19 ـ 20؛ 7 : 26؛ 1 بطر 3 : 22 ). ومرقس ختم الإنجيل بذكر عابر (( لارتفاع المسيح إلى السماء، وجلوسه عن يمين الله )) ( 16 : 19 ). ويوحنا أشار مراراً إلى رفع المسيح، لكنه لم يفصله كمشهد تاريخي. ومتى ختم الإنجيل على مجد القيامة وسلطان الرسالة، ولم يذكر الرفع إلى السماء.

فانفرد لوقا، كمؤرخ للمسيحية، بوصف (( مشهد )) صعود المسيح إلى السماء.

أوجز (( المشهد )) في الإنجيل :

ظهر يسوع لرسله وتلاميذه، لآخر مرة، في المدينة المقدسة. وأفهمهم أنَّ

إنجيل ارتفاع المسيح ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 259

استشهاده كان تحقيقاً للنبؤات في التوراة والنبيين والزبور. (( وحينئذٍ فتح أذهانهم ليفهموا الكتب )) . وركّز الدعوة باسمه، (( في جميع الأمم )) ، على أساس استشهاده وقيامته، بشهادتهم له. وختم حديثه معهم بالوعد بتنزيل روح الله عليهم، الذي يسميه (( وعد أبي )) . وأعطاهم هذا الأمر : (( فامكثوا في المدينة إلى أن تُلبَسوا قوة من العلاء )) ( لوقا 24 : 44 ـ 49 ).

(( ثم خرج بهم نحو بيت عنيا، ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم، انتحى عنهم، وصعد إلى السماء. أمّا هم فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم )) ( 24 : 50 ـ 52 ). فقد افتتح الإنجيل بنزول المسيح من السماء إلى الأرض، يوم البشارة؛ وختمه بارتفاع المسيح، من الأرض إلى السماء، يوم خميس الصعود، فهل من سيرة في العالمين والمرسلين أجمعين أَسمى من هذه السيرة التي تبدأ من السماء، وتنتهي في السماء ؟ وهل من دعوة دينية، بين البداية السماوية والنهاية السماوية، أَسمى من هذه الدعوة ؟ فلا ينزل من السماء، ويصعد إلى السماء، إلاّ ابن السماء!

ولوقا فصّل (( المشهد )) المعجز، في مطلع سفر (( الأعمال )) :

استفتح (( أعمال الرسل )) ، لنشر المسيحية في العالم، بصلة الإنجيل بهذا الكتاب الثاني، في رفع المسيح والوعد بالروح القدس ( 1 : 1 ـ 3 ). ثم يذكر طعام الوداع الذي أَمرهم أثناءَه بالبقاء في أورشليم حتى ينالوا (( موعد الآب الذي سمعتموه مني )) . ويفسّر لهم معنى تنزيل الروح القدس عليهم : إِنه (( عماد بالروح القدس، بعد أيام قليلة )) ؛ وبهذا العماد بحلول الروح القدس عليهم، يصيرون قادرين على الشهادة للمسيح (( في أورشليم، وفي اليهودية كلها، والسامرة، وإلى أقاصي الأرض )) .

ثم يأتي وصف المشهد المحسوس لارتفاع المسيح إلى السماء : (( ولما قال هذا رُفع على مشهد منهم، وحجبته سحابة عن عيونهم )) ( 1 : 9 ). والسحابة المنيرة،

260 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 12

في لغة الكتاب والإنجيل، رمز لمجد الله : فالسحابة المنيرة تحجب المسيح في مجد الله عن عين المخلوق، كما يحتجب الله نفسه فيها عند حضوره ( خر 13 : 21؛ 40 : 34؛ 1 ملوك 13 : 1؛ أشعيا 19 : 1؛ ناحوم 1 : 3 ).

فظلت عيون الشهود معلَّقة بالمشهد المجيد، حتى ظهر لهم ملاكان وقالا لهم : (( أيها الجليلون، ما بالكم واقفين إلى السماء ناظرين ؟ إن يسوع، الذي ارتفع عنكم إلى السماء، هو نفسه سيأتي هكذا كما شاهدتموه منطلقاً إلى السماء )) ( 1 : 11 ). حينئذٍ رجعوا من جبل الزيتون إلى أورشليم ينتظرون نزول روح الله عليهم بالصلاة. وقد اجتمع للصلاة والانتظار صحابة المسيح وآل البيت ونحو مئة من التلاميذ مع مريم أم يسوع ( 1 : 12 ـ 14 ).

هذا هو (( المشهد )) المعجز التاريخي لرفع المسيح حيّاً إلى السماء.

 

قامت على هذا الحدث التاريخي الإنجيلي بعض الشبهات.

شبهة أولى من العقل والعلم. يقول : (( رُفع إلى السماء )) ( لوقا 24 : 51؛ أعمال 1: 11 ) ـ إلى أي سماء صعد المسيح ؟ وهل من سماء خارج الكون ؟ ثم يقول : (( وجلس عن يمين الله )) ( مر 16 : 19 ) ـ فهل لله جسد حتى يجلس ؟ ثم هل لله يمين حتى يجلس المسيح عن يمينه ؟

وفاتهم أن الإنجيل يخاطب البشر، بلغة البشر، لإعلان الحقائق المنزلة. لقد علمنا يسوع نفسه أن نصلّي : (( أبانا الذي في السماوات )) ؛ وعلمنا أيضاً أن المحبة تجعل الله يسكن في نفوسنا ( يو 14 : 23 ). فالسماوات إذن تعبير لكل ما يسمو على الإنسان والأرض؛ وليست القضية قضية (( حال )) . والرفع إلى السماء، أو الصعود إلى السماء، هو تعبير بشري بياني لانتقال المسيح من عالم المخلوق إلى عالم الخالق الموجود في كل مكان مجده ومشاهدته

إنجيل ارتفاع المسيح ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 261

(( وجهاً لوجه )) ( 1 يو 3 : 3 ). إن مجد القيامة رفع بشرية المسيح من قيود المادة وحدود الزمان والمكان، فاكتسبت صفات (( الجسد الروحاني )) ( 1 كو 15 : 44 ) الذي ينطلق مع الروح، كالروح، في عالم الروح.

والإنجيل الذي يعلمنا (( إن الله روح )) ( يو 4 : 24 )، لا جسد له، ولا مادة فيه، يستعير أيضاً التعابير البشرية الحسية لإفهامنا الحقائق الإلهية. فجلوس الله على عرشه، (( والله على العرش استوى )) ، استعارة حسية نفهم منها جلال الله وسلطانه المطلق. كذلك جلوس المسيح (( عن يمين الله )) كناية عن تمتّع المسيح في مجد الله بجلال الله وسلطانه.

فلا نأخذنَّ، نحن أهل العلم التكنيكي، تعابير الوحي بلغة البشر على ظاهرها، إنما هي أسلوب بياني لعرض الحقيقة المجردة كما تفهمها البشرية.

شبهة ثانية. يقولون : هناك تعارض ما بين لوقا وسائر المصادر الإنجيلية. فبينما لوقا يضع ما بين القيامة والرفع إلى السماء (( مدة أربعين يوماً )) ( أع 1 : 3 )، يظهر أن المصادر الأخرى لا تميّز بين القيامة والرفع إلى السماء، فظاهرها يشير إلى أنهما وقعا في يوم واحد، هو أحد الفصح. فالإنجيل بحسب متى لا يذكر الصعود. والإنجيل بحسب مرقس لا يذكر الصعود إلاّ في الملحق ( 16 : 9 ـ 20 )، وهو موجز لخاتمة لوقا ( ف 24 ). والإنجيل بحسب يوحنا يشير في نبؤاته إلى الصعود ( 3 : 13؛ 6 : 62 )، لكن لا يفصّل الحادث في وقته. كذلك بولس في رسائله، فإنه يضع تمجيد يسوع في السماء في صلة مع قيامته، لكن دون ذكر حادث الصعود ذاته ( 1 تس 1 : 10؛ 4 : 16؛ 2 تس 1 : 7؛ 1 كو 4 : 5 )؛ وهناك يلحق به المؤمنون ( 1 تس 4 : 17؛ 2 كو 4 : 14؛ 5 : 1 ـ 10 ). وفي الرسالة الرومانية يذكر جلوس المسيح عن يمين الله ( 8 : 34 ) لكنه لا ينص على حادث الرفع. وفي إنجيل القيامة الذي تسلمه من الرسل وسلمه إلى المسيحيين ( 1 كو 15 : 1 ـ 11 ). لا ذكر أيضاً لحادث الصعود. فبولس يؤكد وجود

262 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 12

المسيح حيّاً في السماء، ولا يفصل بين القيامة والصعود. وفي رسائل الأسر كلها ( كو 1 : 18 ـ 20 و19؛ 3 : 1 ـ 4؛ أفس 1 : 3 و10 و20؛ 2 : 6؛ 6 : 9؛ في 2 : 9 ـ 11؛ 3 : 20 ) يجمع القيامة والرفع إلى السماء في مشهد واحد، دون فاصل زمني، إلا في ( أفس 4 : 8 ). كذلك في الرسائل الراعوية، فهو يجمع القيامة والصعود وسلطان المسيح المطلق على الكون في لوحة واحدة ( 2 تيم 2 : 8؛ 4 : 8؛ 4 : 18 )، فلا ينص على الصعود منفصلاً إلا في ( 1 تيم 3 : 16 ). كذلك في (( الرسائل الكاثوليكية )) ، لا تمييز بين القيامة والصعود، بل التأكيد بتمجيد المسيح في السماء بعد قيامته ( 1 بط 1 : 3 و21 )، في مجد الله ( 1 يو 2 : 1 ) بانتظار تجليه للبشر ( يعقوب 5 : 7 ) ورجوعه لليوم الآخر ( 1 بط 1 : 7 و13؛ 4 : 13؛ 5 : 1 و4؛ 1 يو 2 : 28؛ 3 : 2 ) ـ فلا ذكر فيها لفصل الصعود عن القيامة إِلا في ( 1 بط 3 : 22 ). وسفر الرؤيا نفسه، الذي هو ملحمة المسيح في سلطانه الكوني، لا ذكر فيه لحادث الصعود منفرداً. وهكذا، يقولون، فحادث الصعود التاريخي منفصلاً عن القيامة لا ذكر له في الدعوة الرسولية إِلاَّ عند لوقا في خاتمة الإنجيل ومطلع الأعمال.

أجل لا ذكر في الدعوة الرسولية كلها لتمييز الرفع إلى السماء عن القيامة من الموت والقبر، لأن هدفها إعلان مجد المسيح بعد استشهاده بالقيامة والرفع إلى السماء والجلوس على عرش الله في السلطان المطلق. فالبلاغ إلى الأمميّين يقوم على إنجيل القيامة إلى مجد السماء ( 1 كو 15 : 1 ـ 11 )، دون حاجة إلى تفصيل. فتمييز الصعود عن القيامة أمر ثانوي؛ والأصل في الدعوة وقوعهما، فواقع الرفع إلى السماء قد أجمعت عليه جميع المصادر الإنجيلية، لكن دون تفصيل في الزمان والمكان إِلا عابراً. فهم تحدّوا العالم، في دعوتهم، بإنجيل القيامة وتمجيد المسيح حيّاً في السماء؛ وما كان يعنيهم في البلاغ تمييز الأحداث المجيدة.

مع ذلك، كما رأينا، فهناك إشارات عابرة صريحة تفصل ما بين القيامة

إنجيل ارتفاع المسيح ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 263

والرفع إلى السماء، مما يدل أن الفاصل الزماني بينهما كان حدثاً تاريخيّاً مشهوراً، وإن لم يفصّلوه في البلاغ. فحادث الرفع حيّاً إلى السماء كان مع القيامة مجد الدعوة المسيحية الأولى، كما نرى في بلاغات بطرس. ففي البلاغ للشعب يقول : (( يسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعاً شهود بذلك؛ وإذ قد ارتفع بيمين الله وأخذ من الآب الروحَ القدس الموعود، أفاضه كما تنظرون وتسمعون )) ( أع 2 : 32 : 33 ). وفي البلاغ للسنهدرين يعلن : (( إن إله آبائنا قد أقام يسوع الذي قتلتموه أنتم، إذ علقتموه على خشبة. وهو الذي رفعه الله بيمينه رئيساً ومخلصاً ... ونحن شهود بذلك )) ( أع 5 : 30 ـ 32 ). فالرسل، صحابة المسيح، شهود بالرفع حيّاً إلى السماء، كما هو شهود بالقيامة، لكن دون ذكر لفاصل زماني بين الحدثين التاريخيين.

لكن هذا الفاصل الزماني بين القيامة والرفع حيّاً إلى السماء كان معروفاً وشائعاً قبل لوقا. فبولس في جولاته التبشيرية يؤكد ذلك : (( لكن الله أقامه من بين الأموات، وظهر مدة أيام كثيرة للذين صعدوا معه من الجليل إلى أورشليم، الذين هم شهوده الآن عند الشعب )) (أع 13 : 30 ـ 31). ويصرح بولس بذلك ضمناً في الرسالة الأفسسية حيث يرى في نبؤة المزمور ( 67 : 19 ) شاهداً لعقيدة الرفع إلى السماء وواقعها التاريخي. لذلك يقول : (( لمَّا صعد إلى العلى سبى سبياً وأعطى عطايا )) ؛ فكونه (( صعد هل يعني إلاَّ أنه نزل أولاً إلى أسافل الأرض. فالذي نزل هو نفسه الذي صعد أيضاً إلى ما فوق السماوات كلها، ليملأ كل شيء )) (4 : 8 ـ 10). وفي نشيد التجسد (في 2 : 5 ـ 11) يعلن تنازل المسيح من (( حال الله )) إلى (( حال العبد )) ، ثم رفعُه عالياً إلى مجد الله الآب لكي تسجد له جميع الخلائق. وينقل لنا بولس نشيداً آخر يميّز ضمناً بين القيامة والرفع : (( إنه لعظيم، ولا مراء، سر التقوى الذين تجلّى في الجسد ... وارتفع إلى المجد )) ( 1 تيم 3 : 16 ).

وبطرس، شاهد العيان الأول، يميّز بين القيامة والرفع : (( إن الله يخلصكم

264 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 12

الآن بقيامة المسيح، الذي هو عن يمين الله، قد ارتفع إلى السماء، وأُخضعت له الملائكة والسلاطين والقوات )) ( 1 بط 3 : 21 ـ 22 ). والرسالة العبرية أصرح في الحديث عن الصعود منفصلاً، فقد اجتاز يسوع السماوات إلى عرش الجلالة، قدس الأقداس في السماء العليا ( 4 : 14؛ 6 : 19؛ 9 : 24 )، حيث جلس عن يمين الله فوق طغمات الملائكة كلها (1 : 3 و13؛ 2 : 7 ـ 9؛ 8 : 1؛ 10 : 12؛ 12 : 2).

فالقيامة من الموت والقبر والرفع حيّاً إلى السماء هما مرحلتان تاريخيتان من تمجيد المسيح بعد استشهاده؛ تعلن الدعوة الرسولية هذا التمجيد الإلهي دون تفصيل أو فصل بين المراحل التاريخية، إلاّّ عابراً كأمر مشهور. ولما انتقل الرسل من البلاغ إلى تدوين الإنجيل، نقلوا لنا واقع القيامة وواقع الرفع حيّاً إلى السماء، دون تفصيل زماني. وجاء لوقا، مؤرخ المسيحية الملهم، فأوجز الأحداث في خاتمة الإنجيل، ثم في مطلع (( الأعمال )) فصّلها تفصيلاً تاريخيّاً مع تحديد الزمان والمكان. فليس من تعارض بين لوقا وسائر المصادر الإنجيلية التي توجز الحقيقة بدون تفصيل تاريخي.

شبهة ثالثة. يقولون أيضاً : إن التعارض قائم عند لوقا نفسه ما بين خاتمة الإنجيل وفاتحة (( الأعمال )) . فظاهر الإنجيل أن القيامة والظهور للتلاميذ والرفع إلى السماء قد تمت في يوم واحد، يوم الفصح والقيامة ( 24 : 1 و13 و35 و36 و43 و44 و50 و51 ). وفاتحة (( الأعمال )) تنص أنه (( أراهم نفسه حيّاً بعد استشهاده، وهو يظهر لهم مدة أربعين يوماً ... ولما قال هذا ارتفع على مشهد منهم )) ( أع 1 : 1 ـ 12 ). فمن أين جاء لوقا بهذا الفاصل الزماني ما بين القيامة والصعود ؟ ثم يظهر أن لوقا جسّد كمشهد محسوس واقعاً روحيّاً في قصة الصعود.

أجل إن لوقا لم يكن شاهد عيان لحوادث القيامة والظهور والصعود. لكنه

إنجيل ارتفاع المسيح ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 265

جاءَ مؤرخاً يبني صحة العقيدة المسيحية على صحة تاريخ السيرة والدعوة، في نقلهما إلى البيئة الهلنستية. فكان عليه أن يدقّق في تفصيل الأحداث العظام التي تبني الحقيقة المسيحية. وهذا ما اعتمده ( 1 : 1 ـ 4 ) وهذا ما حقّقه. فإن تعيين المدة بين القيامة والصعود هو من معطيات الدعوة الرسولية، كما يشهد بولس قبل تدوين الإنجيل : (( وتراءى أياماً عديدة للذين صعدوا معه من الجليل إلى أورشليم، الذين هم شهوده الآن عند الشعب )) ( أع 13 : 30 ). وهذه المدة التي تفصل ما بين القيامة والصعود ناتجة صريحاً من الظهورات المتفاوتة في الزمان والمكان كما فصّلها بولس في بلاغ إنجيل القيامة (1 كو 15: 1 ـ 11)؛ وكما فصّلها الإنجيل بأحرفه الأربعة. وهذا كله يترك مجالاً لمؤرخ المسيحية كي يحدّد المدة (( بأربعين يوماً )) كما تحققها من شهود العيان.

ثم إن مصادر الوحي الإنجيلي كلها تعلن حقيقة رفع المسيح حيّاً إلى السماء، لكن دون وصف المشهد التاريخي. فكان على لوقا، مؤرخ المسيحية، أن يصف الحدث التاريخي العظيم ومشاهده وزمانه ومكانه، كما يليق بمؤرخ.

وليس من تعارض عند لوقا ما بين الإنجيل (( والأعمال )) ، إلاَّ في الأسلوب، فإن كل مؤرخ يوجز ثم يفصّل، حسبما يقتضيه الموضوع والهدف والأسلوب، دون اتهامه بالتعارض. ففي خاتمة الإنجيل أوجز لوقا حوادث القيامة والظهور والصعود، حتى ليخيّل أنها تمت في يوم واحد؛ وفي فاتحة الأعمال فصّل ما أوجز. فليس من تعارض بين الإيجاز والتفصيل، لأن التفصيل في الأعمال يرفع ما يوهمه الإيجاز في الإنجيل، والكتابان في نظر لوقا تاريخ واحد لنشأة المسيحية.

شبهة رابعة. يقولون أخيراً : إن لوقا يذكر صعود المسيح إلى السماء في ثلاثة أزمنة مختلفة. فالمسيح على الصليب يقول للص التائب : (( الحق أقول لك، إنك اليوم تكون معي في الفردوس )) ( لو 23 : 43 )؛ ولوقا وحده ينقل هذه الكلمة ـ فكان اللص مع المسيح في الفردوس بعد موتهما، يوم الجمعة العظيمة.

266 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 12

وظاهر خاتمة الإنجيل بحسب لوقا أن المسيح ارتفع وحده إلى السماء يوم أحد القيامة. وفي سفر الأعمال صعد يسوع إلى السماء بعد القيامة (( بأربعين يوماً )) ( أع 1 : 1 ـ 12 ) ـ ففي أي يوم صعد المسيح إلى السماء ؟

نقول إن المسيح صعد إلى السماء في الأيام الثلاثة : يوم موته، ويوم قيامته، ويوم رفعه حيّاً؛ لكنه صعد في ثلاث حالات مختلفة. لقد صعد المسيح مع اللص التائب إلى الفردوس حالاً بعد موتهما، الصعود الروحي لكل نفس زكية بعد الموت. ثم صعد إلى السماء بنفسه وجسده المجيد يوم القيامة، صعوداً غير محسوس ولا منظور، بحسب طبيعة (( الجسد الروحاني )) القائم من الموت1 . وهذا ما عناه السيد المسيح بقوله إلى المجدلية في ظهوره لها يوم القيامة : (( امضي إلى أخوتي وقولي لهم : إني صاعد إلى أبي وأبيكم، إلى إلهي وإلهكم )) ( يو 20 : 17 ). لكنه لم ينقطع في وجوده البشري المجيد المنظور على الأرض، كما يشهد بذلك ظهوره المشهود للرسل والتلاميذ في أزمنة شتى وأماكن مختلفة. أخيراً صعد يسوع نهائيّاً، يوم خميس الصعود، بطريقة حسية مشهودة، (( بعد الأربعين يوماً )) من قيامته. وبهذا الرفع المشهود إلى السماء انقطع وجود المسيح الحسي المنظور على الأرض؛ وبقي وجوده الروحاني الحقيقي الذي به يبقى حاضراً مع تلاميذه إلى نهاية الدهر، لأنه أُوتي بقيامته ورفعه (( كل سلطان في السماء وعلى الأرض )) ( متى 28 : 23 ـ 25 ). فلا تعارض ولا تمانع بين هذه الحالات الثلاث المختلفة؛ لأن المسيح بموته وقيامته استرد بشريته (( جسداً روحانياً )) لا يخضع لقيود المادة، ولا لحدود الزمان والمكان، بل يتمتع (( بروحانية )) الأجساد المجيدة يوم البعث ( 1 كو 15 : 43 ـ 44 ).

ــــــــــــــــــ

(1) في الطقس البيزنطي، يوم عيد القيامة، في افتتاح صلاة العيد التي يسمونها شعبياً (( الهجمة )) نجد تمثيلاً محسوساً لحادث الصعود إلى السماء في يوم عيد الفصح نفسه. فتذكر الكنيسة الشرقية واقع الرفع المحجوب يوم الفصح، وواقع الرفع المشهود يوم خميس الصعود.

إنجيل ارتفاع المسيح ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 267

وهذا التمييز الذي تفرضه القرائن الإنجيلية بين الصعود المحجوب يوم القيامة والصعود المشهود بعد (( أربعين يوماً )) يرفع التعارض الموهوم بين النصوص التي تجمع القيامة والصعود معاً، والنصوص التي تفصل بينهما. فليس من تعارض أيضاً بين تصاريح لوقا الثلاثة بصعود يسوع إلى السماء، في حالات ثلاث مختلفة، صعوداً روحيّاً بعد استشهاده، وصعوداً محجوباً يوم قيامته، وصعوداً مشهوداً بعد (( أربعين يوماً )) .

وهكذا وصف لنا لوقا المؤرخ (( مشهد )) ارتفاع المسيح حيّاً إلى السماء، كحدث تاريخي، فأعطانا رؤية الرسل والتلاميذ الحسّية الأخيرة للمسيح على الأرض، حتى رجوعه إليها بطريقة حسية مشهودة لليوم الآخر، كملك يوم الدين : (( سيأتي هكذا كما عاينتموه مرتفعاً إلى السماء )) ( أع 1 : 11 ). فلن يظهر على الأرض بالأسلوب الحسي الحي المشهود، كما ظهر للرسل : (( نحن الذين أكلنا وشربنا معه من بعد قيامته من بين الأموات )) ( أع 10 : 41 ). وبولس نفسه يميّز بين ظهور المسيح لرسله وتلاميذه قبل رفعه، وبين ظهوره لبولس نفسه على طريق دمشق، هذا الظهور الذي جعله رسولاً مثل سائر الرسل، وبين ظهور المسيح الروحي له مراراً. فظهور المسيح لبولس على طريق دمشق في منزلة بين المنزلتين.

والفارق الذي رأيناه بين رفع المسيح المحجوب يوم القيامة، ورفعه المشهود يوم الصعود، نجده أيضاً في نزول الروح القدس على الرسل والتلاميذ، يوم القيامة : (( فنفخ فيهم وقال لهم : خذوا الروح القدس )) ( يو 20 : 42 )، فكان نزولاً روحيّاً؛ ويوم العنصرة نزل عليهم شبه أَلسنة من نار استقرت على كل واحد منهم ( أع 2 : 3 ) فكان نزولاً حسيّاً مشهوداً. وهذا التنزيل الثنائي يدل على مصدر الروح القدس الثنائي : يوم القيامة أنزله المسيح من ذاته، ويوم العنصرة نزل من عند الآب.

268 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 12

وإنجيل رفع المسيح حيّاً إلى السماء، يستوي على عرش الله، ويتمتع بسلطان الله في السماء وعلى الأرض، يكشف الكشف الأخير عن سر شخصيته المسيح، كما صرّح هو نفسه لنيقوديم عالم إسرائيل : (( لم يصعد أحد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن البشر الكائن في السماء )) ( يو 3 : 13 ). هذا ما فسره يسوع لصحابته قبل فراقهم (( لقد خرجت من الآب وأتيت إلى العالم، والآن اترك العالم وارجع إلى الآب )) ( يو 16 : 28 ).

هذا هو إنجيل الصعود في الحدث المشهود والمعنى المقصود.

?

(( المخلص، المسيح الربّ )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 269

بحث ثالث عشر

يسوع هو (( المخلص، المسيح الرب ))

لوقا، مثل كاتب عظيم، يستفتح سيرة المسيح ودعوته، بأسمائه الحسنى المنزلة من السماء في البشارة به، والمعلنة يوم ميلاده. (( فقال لهم الملاك : لا تخافوا! فها أنا ذا أبشرّكم بفرح عظيم يشمل الشعب كله : اليوم، في مدينة داود، وُلد لأجلكم المخلص، المسيح الرب )) ( لو 2 : 10 ـ 11 ).

لقد استجمع الملاك والإنجيلي، في هذا التعريف بيسوع، أوصافه الثلاثة :

يسوع هو المخلص.

يسوع هو المسيح.

يسوع هو الرب.

ويسوع هو المخلّص الأوحد، بسبب (( مسيحيته )) وربوبيته.

يبدأ الإنجيل إعلان (( مسيحية )) يسوع منذ عماده، حتى شهادة صحابته بها، بفم بطرس زعيمهم، في قيصرية فيلبس ( بانياس الحالية ) عند سفح جبل الشيخ إلى الغرب.

ويبدأ إعلان إلهية يسوع منذ التجلي على جبل الشيخ، حتى التصريح الصريح بها في محاكمته، فكان ذلك سبب إعدامه واستشهاده.

270 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

لكن لوقا، كمؤرخ ملهم، يرجع إلى الأصول والأوائل، في سيرة المسيح. فيرى الإعلان الخفي لمسيحية يسوع وإلهيته منذ حداثته.

والظاهرة الكبرى، في الإنجيل بحسب لوقا، أنه في روايته يسمّي يسوع (( الرب )) على الإطلاق، و (( الرب يسوع )) على التخصيص. فهو كناية عَلَم له. وفي هذه التسمية المتواترة برهان إلهية يسوع المسيح، في الإنجيل بحسب لوقا.

ففي الإنجيل بحسب لوقا، تظهر إِلهية المسيح من لغته التي تطلق على المسيح ما تخصه بالله؛ ومن الأسماء الحسنى المتبادلة بين الله ومسيحه؛ ومن الأعمال والصفات الإلهية التي ينسبها المسيح لنفسه، وهي من أعمال الله وصفاته.

 

 

(( المخلص، المسيح الربّ )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 271

أولاً : إلهية المسيح في لغة الإنجيل

ينفرد لوقا بتسمية يسوع في روايته (( الرب )) على الإطلاق، أو (( الرب يسوع )) على التخصيص. وتعبير (( الرب )) هو ترجمة اسم الجلالة العبراني (( يهوه )) في الترجمة السبعينية الشائعة في العالم الهلنستي، منذ مئتي سنة قبل المسيح؛ وقد بدأت ترجمتها عام 250 في الإسكندرية. ففي تدوين الإنجيل للعالم الهلنستي العالم بالترجمة السبعينية، إن إطلاق اسم الجلالة (( الرب )) على يسوع هو إعلان العقيدة المسيحية بإِلهيته.

لقد أوجزت الدعوة الرسولية إيمانها، في بلاغها، بشعار (( الرب يسوع )) كما نرى في سفر الأعمال، وفي الرسائل. وشعار الإيمان المسيحي، (( الرب يسوع )) ، يعني إلهيته، كما يصر بولس : (( أعلن لكم أنه ما من أحد ينطق بروح الله ويقول (( يسوع مبسل! )) وما من أحد يستطيع أن يقول (( الرب يسوع )) ، إلاَّ بالروح القدس )) ( 1 كور 12 : 3 ـ 4 ). فوحدة الاسم بين الله والمسيح : (( الرب )) ، دليل على إلهية المسيح في الإنجيل بحسب لوقا (1 : 76؛ 3 : 4؛ 5 : 8؛ 7 : 27؛ 13 : 15؛ 17 : 5؛ 19 : 31 و34؛ 24 : 3 و34). وهكذا ينسب الإنجيل، في لغته، إلى المسيح اسم الجلالة الذي ينسبه إلى الله نفسه.

يؤيد ذلك صفة التنزيه، في لغة الكتاب والإنجيل، (( القدوس )) التي يصفه بها الملاك يوم البشارة : (( فالقدوس المولود منك، اسمه ابن الله )) ( 1 : 35 )؛ والتي يصفه بها الشياطين عندما يستخدمون أمامه : (( آه، ما لنا ولك يا يسوع الناصري، أوَجئتَ لتهلكنا ؟ لقد عرفتُ مَن أنت : إنك قدوس الله )) ( 4 : 34 )، (( وكانت الشياطين تخرج من كثيرين وهي تقول : أنت ابن الله )) ( 4 : 41 ). وهذا الترادف بين (( قدوس الله )) وبين (( ابن الله )) يظهر المعنى الحقيقي السامي.

272 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

ويؤيد ذلك أيضاً سلطان المسيح المطلق.

فالمسيح هو سيد التاريخ : (( يملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا نهاية لملكه )) ( 1: 33 ). فهو ملك الدهور كما (( يجلس الله ملكاً إلى الأبد )) ( مز 29 : 10 ).

والمسيح هو سيد البشر، يشفي أمراضهم بأمر منه (( يا رب، إن شئت، فأنت قادر أن تطهّرني! ـ فمدّ يده ولمسه، وهو يقول : قد شئت فاطهرْ! وللوقت ذهب عنه البرص )) ( 5 : 12 ـ 13 ). كذلك يشفي الأعمى بكلمة منه ( 18 : 41 ـ 42 ). فمن له هذه الإرادة المعجزة النافذة في الكون سوى الله ؟

والمسيح هو سيد الطبيعة، (( فإنه يأمر الرياح والمياه فتطيعه )) ( 8 : 25 )، مثل الله (( رب الجنود المتسلّط على عنفوان البحر! أنت، عند ارتفاع لججه، أنت تسكّنها )) ( مز 89 : 8 ـ 9 ).

والمسيح هو سيد الموت والحياة : (( ثم تقدّم ولمس النعش، فوقف الحاملون. فقال : أيها الشاب، لك أقول : قم! ـ فاستوى الميت وبدأ يتكلم )) ( 7 : 14 ). وفي الكتاب، يصف الله نفسه مراراً : (( أنا أحيي وأميت )) .

والمسيح هو سيد الشياطين التي تستخذي أمـامه: (( أوَجئت لتهلكنا! )) ( 4 : 34 )؛ (( ما لي ولك، يا يسوع ابن الله العلي، أبتهل إليك ألا تعذبني )) ( 8 : 28 ). وقد صعق الناس أمام هذا السلطان : (( فاستحوذ الذعر على الجماهير وطفقوا يقولون في ما بينهم : ما هذا الكلام! إنه يأمر حتى الأرواح النجسة، بسلطان وقدرة، فتخرج )) ( 4 : 36 ). ومن ملء سلطانه على الشياطين أعطى رسله سلطاناً عليهم ( 9 : 1 ).

والمسيح هو سيد الملائكة، تخدمه في مولده، وتخدمه في صراعه مع إبليس

(( المخلص، المسيح الربّ )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 273

على سلطان العالم، وتخدمه في رسالته، وتخدمه في استشهاده، وتخدمه في قيامته، وتخدمه في يوم الدين.

والمسيح هـو سيد الجنة والخلود يعطيهما لمن يشاء، كاللص التـائب على الصليب: (( اليوم تكون معي في الفردوس )) ( 23 : 42 ـ 43 ).

والمسيح هو ملك يوم الدين، كما يظهر من الكناية في مثل الأمْناء (19: 12 ـ 27): (( أمَّا أعدائي، أولئك الذين لا يريدون أن أملك عليهم، فأتوا بهم إلى ههنا، واذبحوهم أمامي ))؛ وكما يظهر من وصف اليوم الآخر ( 21 : 36 ).

فسلطان المسيح المطلق في الكون كله هو، في الإنجيل بنصوصه الأربعة، برهان إلهية المسيح. لكن لوقا يُظهر ذلك في لغة الإنجيل نفسها.

سنفصّل ذلك موضوعيّاً في البحث الآتي.

 

 

ثانياً : أحداث السيرة الخفية بوادر إلهية المسيح

إلهية المسيح تظهر تدريجيّاً في مراحل سيرته المنزلة. نرى بوادرها منذ حداثة المسيح. فسيرة المسيح، قبل مباشرة الدعوة، كانت خفية عن أعين الناس، لم يشهد مشاهدها إلا الذين اشتركوا فيها. وعنهم، خصوصاً عن السيدة أُم المسيح، أخذ لوقا تاريخ السيرة الخفية.

ففي بشارة السماء للأرض بمولـد المسيح، يعلن رئيس الملائكة لأمـه مسيحية ابنها: (( أنه يكون عظيماً، ويُدعى ابن العلي. وسيعطيه الرب الإله عرش

274 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا نهاية لملكه )) ( 1 : 32 ـ 33 ). ثم إِلهية ابنها : (( أجاب الملاك، قال لها : الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظلّلك؛ من أجل ذلك، فالقدوس المولود منك، اسمه ابن الله )) (1: 35). فالمسيح هو (( ابن الله )) لأنه (( القدوس ))، وهي صفة التنزيه في لغة الكتاب. ومولده المعجز دليل إِلهيته. فالاسم، والصفة، والعمل إشارات ناطقة، في سفارة السماء إلى العذراء التي اصطفاها على نساء العالمين.

ويوم مولده، ملائكة السماء يبشرون به أهل الأرض، ويعلنون لهم صفته : (( قال لهم الملاك : لا تخافوا، فها أنا ذا أبشركم بفرح عظيم يشمل الشعب كله : اليوم، في مدينة داود، وُلد لأجلكم المخلص، المسيح الرب )) ( 2 : 11 ). يسوع الطفل هو المخلص، وهو المسيح، وهو الرب. يدل على ذلك نشيد الملائكة فوق مهده :

(( المجـد لله فـي العـلى

 

والسلام على الأرض لأهل الرضى ))

والكلمة التي ينقلها الإنجيل للمسيح، وهو صبي، هي كلمته لأمه ولحاضنه يوسف الصديق، لمَّا تخلَّف عنهم في هيكل أورشليم، في سن الثانية عشرة : (( أما تعلمان أنه ينبغي لي أن أهتم بشؤون أبي )) ( 2 : 49 ). فمنذ صبـاه، يسوع يسمّي الله تعالى على التخصيص (( أبي )) . وقرائن الإنجيل كلها توضح أن الإنجيل يأخذ التعبير على الحقيقة، لا على المجاز.

وكان عماد المسيح بدء رسالته العلنية. وفي عماده يبدأ الإعلان بمسيحيته يسوع وإلهيته معاً : فقد حلَّ عليه الروح القدس شبه حمامة، (( وانطلق صوت من السماء يقول : أنت ابني الحبيب، فيك رضاي )) ( 3 : 22 ). كان المشهد السماوي موجهاً ليسوع، إيذاناً ببدء رسالته؛ وموجهاً للشعب الحاضر لإظهار صفة الرسول الأعظم؛ وموجهاً خصوصاً للمعمدان، للكشف له عن المسيح الذي

(( المخلص، المسيح الربّ )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 275

يدعو له، وهو لا يعرفه شخصيّاً، ولتعريفه بحقيقة شخصية المسيح. ونرى في الإنجيل بحسب يوحنا أن المعمدان فهم هذا الكشف الخاص. فالله الآب يسمّي يسوع (( ابني الحبيب )) أي الوحيد المحبوب على الإطلاق، وذلك على سبيل الحقيقة والواقع لا على سبيل المجاز، كما تشهد القرائن كلها.

وقبل بدء الدعوة، يعطينا الإنجيلي نسب يسوع : فهو ابن داود، سليل الملك النبوي؛ وهو ابن إبراهيم، سليل النبوة الإبراهيمية؛ وهو ابن نوح، ابن آدم، وارث العهود والمواعيد منذ آدم. إنه (( ابن آدم )) ، أي كما سيُظهر هو عن نفسه أنه (( ابن البشر )) ، أي آدم الجديد للبشرية الجديدة بالمسيح. إنه أيضاً (( ابن آدم )) و (( ابن الله )) ( 3: 38 )؛ فهو بالحقيقة (( ابن الله )) وإن تسلسل، بحسب بشريته، من آدم.

وأول من عرف حقيقة المسيح وأعلنها كان إبليس وشياطينه. سمع إبليس صوت الله في الأردن ينادي يسوع (( ابني الحبيب )) ، ورأى يسوع في القفر يقضي خلوة صوم وصلاة لم يعهد مثلها عند بني البشر. فأراد أن يستوضح أمر المسيح، وإن يحوّله، إن أمكن عن رسالته الروحية التي يستعد لها، إلى الرسالة القومية التي ينتظرها اليهود من المسيح الموعود. وكان الصراع الخفي مدة أربعين يوماً بين المسيح وإبليس، لم ينقل لنا منه الإنجيل سوى ثلاث مشاهد. وفي كل واحد منها يبدأ إبليس : (( إِن كنت ابن الله ... )) ( 4 : 3 و9 ). يريد أن يسبر غور سرّه وسر رسالته. ففشل وخزي. لكنه أدرك أنه (( ابن الله )) كما يصرح به الشياطين فيما بعد : (( قد عرفت مَن أنت! )) ( لوقا 4 : 34؛ 4 : 41؛ 8 : 28 ).

فأحداث السيرة، حتى مطلع الرسالة، تدل، وإن في نطاق محدود، على إلهية المسيح.

 

 

276 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

ثالثاً : الدعوة الأولى، من العماد حتى شهادة بطرس باسم الرسل

1 ـ لوقا وحده بين المؤتلفة ينقل دعوة المسيح الأولى في اليهودية مدة سنة، في القسم الوسيط من الإنجيل ( 9 : 51 ـ 19 : 27 )، بأسلوب رحلة المسيح الكبرى إلى أورشليم. فكان بذلك صلة الوصل بين المؤتلفة والإنجيل بحسب يوحنا.

يفتتح بذكر بعثة التلاميذ الاثنين والسبعين، (( أمام وجهه، إلى كل مدينة وكل موضع كان مزمعاً أن يقدم إليه )) يبشرون (( إن ملكوت الله قريب )) . ولتأييد بعثتهم بسلطان المعجزة، أعطاهم الأمر والسلطان لشفاء المرضى. إنها معجزة الإبراء ( 10 : 9 ). كما سيعطي السلطان مضاعفاً في بعثة الرسل التدريبية : الإبراء، وإخراج الشياطين ( 9 : 1 ). فمن يعطي تلاميذه سلطان الإبراء المعجز يكون سيد المعجزة : والإعجاز أكبر في إعطاء السلطان على الشياطين : (( إن الشياطين أنفسهم يخضعون لنا، عند ذكر اسمك )) ( 10 : 17 ).

يرجع التلاميذ فرحين من نجاح بعثتهم. فيعدهم بفرح أكبر : (( لا تفرحوا بأن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بأن أسماءَكم مكتوبة في السماوات )) ( 10 : 20 ). هذه لمحة من علم الغيب الذي يتمتع به السيد المسيح.

فإن السيد المسيح يعلم غيب المخلوق وغيب الخالق. إنه يرى سرّ الله نفسه في قوله : (( لقد آتاني أبي كل شيء : وما من أحد يعلم مَن الابن إلا الآب، ولا مَن الآب إلا الابن، ومن يريد الابن أن يكشف له ذلك )) ( 10 : 22 ). لاحظ تعبير (( الآب والابن )) على الإطلاق، وهذا الإطلاق يرفعهما فوق المخلوق. إنها بين الآب والابن، في ذات الله، صلة مصدرية ذاتية تقوم على الوحدة في الكيان والوحدة في السلطان، والوحدة في المعرفة المتبادلة. فالسيد المسيح هو

(( المخلص، المسيح الربّ )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 277

(( الابن )) على الإطلاق، وسره من سر أبيه. والسلطان المطلق واحد بين الله الآب وابنه يسوع الذي (( آتاه كل شيء )) . والعلم المطلق لغيب الله واحد : فسر الآب لا يطّلع عليه إلا الابن؛ وسر الابن لا يطّلع عليه إلاّ الآب. فالمسيح يشترك بالسلطان ومعرفة غيب الله اشتراك الابن مع الآب في الكيان الواحد : فالكيان الإلهي واحد، والسلطان واحد، والعلم الغيبي واحد. ومعرفة الناس لسر الله، في الأبوة والبنوة، محفوظة للمسيح الابن، فهو وحده يستطيع أن يكشف عنه، لأنه وحده يعرف غيب الله، معرفة الله الآب لذاته. بهذا الكشف لسر الله، في المسيح، كان المسيح التنزيل عينه بغيب الله. بتلك الكلمة المعجزة كشف المسيح لرسله سرّ شخصيته، وبذلك كشف أيضاً سر الله في ذاته، بالأبوة والبنوة اللتين فيه، بما يسمو على تصوّر المخلوق.

على هذا الكشف لسر الله، يبني السيد المسيح الصلة الجديدة في الدين بين الخالق والمخلوق. فهو يعلم تلاميذه، في صلاتهم، أن ينادوا الله (( أيها الآب )) ، (( أبانا الذي في السماوات )) ( 11 : 2 ). إنه يطوّر الدين من علاقة عبد بربه، كما في الأديان قاطبة، إلى علاقة ابن بأبيه السماوي. وهذه ميزة المسيحية على الدين كله. فقد نزل المسيح، (( الابن )) ، إلى الإنسان لكي يرفعه إلى مشاركته ـ بدون شرك ولا إشراك ـ في البنوة لله. وهذا العمل فوق طاقة المخلوق، لا يقدر عليه إلا (( الابن )) وحده.

ويتحدّى السيد المسيح اليهود، في هذا الكشف، بمعجزاته، خصوصاً بسلطانه على الشيطان. (( بيد أن بعضهم قالوا : إنه ببعل زبول، رئيس الشياطين، يُخرج الشياطين )) ( 11: 15 )، فأفحمهم بردّه ( 11 : 16 ـ 19 ). واستنتج من سلطانه القاهر على الشياطين البرهان على حضور ملكوت الله بين ظهرانيهم، بشخصه : (( ولكن إذا كنت بإصبع الله أخرج الشياطين فقد حلَّ بينكم ملكوت الله )) ( 11 : 20 ). إن في السيد المسيح (( إصبع الله )) ، كناية

278 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

عن سلطان الله؛ ومن يتمتع في ذاته بسلطان الله فهو من ذات الله. ودليل آخر بشخصه حلَّ ملكوت الله بين ظهرانينهم. انهما إشارتان إلى برهان الذات وإلى برهان العمل على حقيقة شخصيته.

لكن السيد المسيح يجعل معجزته الكبرى لأهل زمانه، ولكل زمان، في قيامته من الموت والقبر. فكما مكث النبي يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وخرج حيّاً، هكذا يمكث المسيح في الموت والقبر ثلاثة أيام ويقوم في اليوم الثالث ( 11 : 29 ـ 30 ). وهذا هو البرهان الأكبر على أنه أكبر من الملوك وأعظم من الأنبياء ( 11 : 31 ـ 32 ). وكلها ولا شك دلائل على سرّ شخصيته.

2 ـ وانتقلت الدعوة إلى الجليل. فقضى فيها سنة وتسعة أشهر. استفتح يسوع دعوته بخطاب في جامع الناصرة، يوم السبت. تلا نبؤة أشعيا في أَوصاف المسيح الموعود ( 61 : 1 ـ 2 )، وعلّق عليها بهذا التصريح : (( اليوم تمت هذه النبؤة )) ( لوقا 4 : 21 ). هذا بلاغ للناس أنه هو المسيح الموعود.

ثم استوطن كفرناحوم، على شاطئ بحيرة طبريا، وجعل منها (( مدينته )) ( متى 9 : 1 )، في رسالته. وكان السبت الأول فيها يوماً مشهوداً نقله المؤتلفة كلهم. صلّى يسوع في الجامع وخطب فيه. وما إن انتهى حتى صاح شيطان يسكن رجلاً : (( آه، ما لنا ولك يا يسوع الناصري، أوَجئت لتهلكنا ؟ لقد عرفتُ مَن أنت : إنك قدوس الله )) ( لوقا 4 : 34 )، وهي صفة التنزيه في لغة الكتاب. ثم توالت حملة المسيح على الشياطين، فكانت تخرج من المسكونين وهي تصرخ (( أنت ابن الله )) ( 4 : 41 ). وقرائن المشهد، من سلطان المسيح القهار، إلى استخذاء الشياطين بحضرته، إلى خوفهم من الهلاك على يده، إلى إعلانهم بصوت جهير (( إنك قدوس الله )) ، (( أنت ابن الله )) ـ تدل كلها على صحة ما يعلنون.

فسلطان المسيح على إبليس وزبانيته برهان على أنه أكبر من بشر. وفي

(( المخلص، المسيح الربّ )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 279

شفاء مُقعد كفرناحوم، ينسب يسوع لنفسه سلطان الله على غفران الخطايا ـ وهو في عرْف الناس كلهم سلطان محفوظ لله وحده (5 : 21) ـ ويؤكده بمعجز إبراء المُقعد بأمر منه (( لكي تعلموا أن ابن البشر له السلطان على الأرض أن يغفر الخطايا )) . وهذا دليل صريح على إلهية المسيح.

ودخل يسوع في جدالات مع الفقهاء والعلماء، خصوصاً في حرمة السبت. فختمها يسوع بهذا الإعلان : (( إن ابن البشر هو رب السبت )) ( 6 : 5 ). وهذه أيضاً إشارة صريحة إلى إلهيته، لأن رب السبت هو الله نفسه.

وفي الخطاب التأسيسي على الجبل أعلن شرعة الملكوت في الدستور الإنجيلي. لا ينقل لوقا تحديات المسيح : (( سمعتم إنه قيل للأولين ... أما أنا فأقول لكم )) ، حيث يظهر المشترع الأعظم على مثال الله ( متى 5 كله ). لكن يسوع، في الإنجيل بحسب لوقا، يوجه أفكار الناس إلى إعلان أبوة الله للبشر. وهدفه من إعلانها الانطلاق منها إلى التصريح عن أبوة الله الخاصة ليسوع، وعن بنوة يسوع الخاصة لله الآب. ويظهر ذلك من طريقة يسوع في التعبير، حيث يميّز بين صلته بالله وصلتهم بالله، بالتركيز على قوله : (( أبي )) و (( أبيكم )) ، فلا يضع نفسه معهم في منزلة واحدة من هذه البنوة الإلهية ( 12 : 29؛ 24 : 49 ).

ثم ينقل لوقا معجزة إحياء أرملة نائين الوحيد، في تشييع جنازته ( 7 : 11 ـ 17 )، ومعجزة إحياء ابنة يائير رئيس الجامع في كفرناحوم ( 8 : 40 ـ 56 ). وفي كلتا الحالتين لا تتم المعجزة بدعاء المسيح إلى الله، بل بسلطانه الشخصي : (( أيها الشاب لك أقول : قم )) ( 7 : 14 )؛ (( فأخذ بيدها ونادى : يا صبية قومي! فرجعت روحها ونهضت في الحال )) (8: 54). وبما أن إِحياء الموتى سلطان إِلهي، فتمتع المسيح الشخصي بهذا السلطان برهان إلهيته.

وفي أواخر الدعوة بالجليل اختلى يسوع بصحابته، في أقصى الشمال، على

280 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

أرض الشرك، وسألهم رأي الناس ثم رأيهم الخاص به. فأعلن بطرس، باسم الجميع : (( أنت مسيح الله )) ( 9 : 20 ). فقد رسخت عقيدة (( مسيحية )) يسوع في وجدانهم وضميرهم.

لكن المسيح المشهود أسمى من المسيح الموعود. فقد أعطاهم حتى الآن إِشارات ودلائل على إِلهيته. وحان الأوان للتصريح عنها بأمان.

 

 

رابعاً : من التجلي إلى الاستشهاد

في هذه الفترة يسير الوحي الإنجيلي على خطين متوازيين : من جهة يؤكد المسيح على صحة بشريته بنبؤاته المتواترة عن موته وصلبه واستشهاده؛ ومن جهة أخرى أخذت الإعلانات تتعاقب تترى عن إِلهيته؛ بدأ بالتدرج من حلقة صغيرة، الثلاثة المقربين من صحابته، حتى الإعلان المكشوف للجماهير، حتى البلاغ المبين، في محاكمته بالسنهدرين.

يوم التجلّي، على جبل الشيخ، أمام الثلاثة المقربين من رسله، بطرس ويعقوب ويوحنا، أظهر لهم سر شخصيته. ففي المشهد الأول يرون نور لاهوته يشع من خلال بشريته: (( وفيما هو يصلي، تغيّر منظر وجهه، وصارت ثيابه بيضاء منوّرة )) ( 9 : 29 ). وفي المشهد الثاني، تظلله مع الشاهدين موسى، سيد الشريعة، وإيليا سيد النبوة، غمامة منيرة؛ وهي في لغة الكتاب دليل حضور الله. وفي المشهد الثالث (( انطلق صوت من الغمامة يقول : هذا هو ابني، المصطفى عندي، له فاسمعوا )) ( 9 : 35 ). فالصوت المنبعث من الغمامة المنيرة هو صوت الله الآب؛ وهذا الصوت يعلن معنى مشهد المسيح المستنير

(( المخلص، المسيح الربّ )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 281

بنور اللاهوت المنبعث منه. فصوت الله، ولسان حال المسيح، وحضور سيدي الشريعة والنبوة، كلها تشهد أن المسيح (( ابن الله )) .

وعادت الدعوة إلى أورشليم واليهودية. فيقص لنا يوحنا تصاريح المسيح للعلماء في هيكل أورشليم بمناسبة أعياد الخيام، والتجديد، والفصح الأخير. ويروي لنا لوقا الدعوة الشعبية في اليهودية ثم في شرق الأردن، حيث يلتقي مع مرقس ومتى في رحلة المسيح الأخيرة إلى أورشليم للاستشهاد.

ففي سؤال عن الخلاص ( 13 : 22 ـ 30 ) يشير يسوع في جوابه أنه ملك يوم الدين، ورب السماء. يقول إن باب الخلاص ضيق، لأن إتّباع المسيح على اليهود عسير، ولذلك فكثير منهم يتهربون. لكن (( منذ ينهض رب البيت ( للحساب ) ... تأخذون عندئذ تقولون : إِنـَّا أكلنا وشربنا أمامك! وعلّمتَ في ساحاتنا )) . فحديث يوم الدين يكون مع المسيح، فهو ملك يوم الدين ـ وهذه صفة الله المحفوظة ـ وهو (( رب البيت )) الذي يفتح السماء بوجه الصالحين، ويغلقها بوجه الكافرين. إنها تورية مزدوجة موجهة للجماهير؛ فهي إعلان شعبي بإِلهيته.

وصعد إلى أورشليم للفصح والاستشهاد. فجاء الأسبوع الحاسم والتصاريح الحاسمة للعلماء وللجماهير.

دخل يسوع أورشليم وهيكل الله كالمسيح الموعود. وأظهر سلطانه على بيت الله بتطهيره من تجار الدين. واحتل الهيكل وأخذ يعلّم فيه. فجاء وفد السنهدرين يسأله عن سلطانه بالتعليم في الهيكل. فأجابهم بمثل الكرامين القتلة ( 20 : 9 ـ 19 )، وهو تورية رائعة لتاريخ النبوة عند بني إسرائيل، ومنزلة يسوع منها. إن الله، رب كرم التوحيد والملكوت، غرس كرماً وسلمه إلى كرامين وسافر زماناً طويلاً. وحين جني الثمر من الكرم أرسل غلاماً أول إلى الكرامين فقتلوه. وكذلك فعلوا بالغلام الثاني والثالث. والأنبياء هم أولئك

282 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

العبيد المرسلون على ثلاث مراحل، مع موسى، ومع داود، وبعد الجلاء. (( فقال رب الكرم : ماذا أفعل ؟ أرسل إليهم ابني الحبيب فلعلهم يهابونه. فلمَّا رآه الكرامون ائتمروا في ما بينهم وقالوا : هذا هو الوارث، فلنقتله، ليصير الميراث لنا )) . إن الاستعارة صريحة، والتورية مكشوفة. فيسوع هو (( الابن الحبيب )) هو وارث كرم الله وملكوته، بينما الأنبياء كانوا عبيداً لله. وكشف مؤامرتهم لقتله صريح. وقد فهم ذلك وفد مجلس القضاء الأعلى، وهمَّ بتوقيف يسوع لكنه خاف من الجماهير المتعلقة به.

ثم توالت وفود الأحزاب الدينية تجادله في تعليمه ( 20 : 20 ـ 40 ). فأفحمهم علناً وفداً وفداً، حتى (( لم يجرؤوا من بعد أن يسألوه عن شيء )) . فتحدى العلماء من تلك الأحزاب بنبؤة داود ( مز 109 : 1 ). وكشف لهم أمام الجماهير، في زحمة العيد، في الهيكل، إنه ابن داود وربه معاً ( لوقا 20 : 41 ـ 44 ).

ثم اختلى برسله وصحابته على جبل الزيتون، يكشف لهم، في نبؤة ضخمة، مصير إسرائيل، ومصير المسيحية، ومصير مقدسات إسرائيل : الهيكل والمدينة المقدسة. ملكوت المسيح يأتي (( في هذا الجيل )) بعد استشهاد المسيح، وعلى أنقاض العهد القديم. وتأكيداً لنبؤته الكبرى يقول كما يقول الله : (( السماء والأرض تزولان، أما كلامي فلا يزول )) ( 13 : 22 ـ 30 ). فهو أَعظم من السماء والأرض. لا يقول هذا القول إلاَّ إله أو معتوه ـ وحاشا للمسيح، الحكمة عينها، تهمته في عقله أو نطقه ـ : فهو إذن سيد الأرض والسماء.

أخيراً تمكنت السلطات اليهودية، بخيانة أحد أصحابه، من القبض على يسوع. فجرّوه إلى مجلس القضاء الأعلى، السنهدرين. واستجوبوه في مسيحيته وفي إلهيته. ففشل التحقيق. فاستحلف الحبر الأعظم يسوع أن يقول : هل أنت المسيح ؟ فاستجمع نبؤة دانيال ونبؤة داود وأجابهم بهما : (( من الآن

(( المخلص، المسيح الربّ )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 283

يكون ابن البشر جالساً عن يمين القدرة الإلهية! فقالوا جميعهم : أفأنت إذن ابن الله ؟ فقال لهم: أنتم قلتم! أنا هو! )) ( 22 : 66 ـ 70 ). فحكموا عليه بالإعدام (( لكفره )) على حدّ زعمهم. إلا أن الإنجيل بحسب لوقا يفصّل الاستجواب الأكبر إلى سؤالين وجوابين : في مسيحيته، ثم في إِلهيته. فأظهر بصراحة أنهم لم يحكموا عليه بالإعدام للشهادة لنفسه بأنه المسيح، بل للشهادة لنفسه بأنه ابن الله، بشهادة داود ودانيال. فمحاكمة المسيح واستشهاده صلباً هما الحدث التاريخي الأعظم الذي يشهد بإِلهية المسيح. وقد زكى الله الشهادة بأعظم منها، بقيامة المسيح ورفعه حيّاً إلى السماء.

فمن التجلي على الأرض، إلى التجلي في السماء، عن يمين الله، البراهين صريحة بإلهية السيد المسيح.

 

 

خامساً : إلهية المسيح في أسمائه الحسنى

عقدنا بحثاً سابقاً (( في أسماء المسيح الحسنى )) من حيث دلالتها على (( مسيحيته )) . والآن نرى دلالتها على إِلهيته.

1 ـ اسم : المخلص

في الإنجيل بحسب لوقا، صفة يسوع المميزة له أنه (( المخلص )) . هذا اسمه منذ مولده. وصفة المخلص ترجمة اسم (( يسوع )) ، ورمز لرسالة الخلاص معه.

لكن (( المخلص )) في الكتاب هو الله تعالى نفسه : (( أنا، أنا الله، ولا مخلص غيري )) ( أشعيا 43 : 11 )؛ (( أنا الله، إلهكِ، قدوس إسرائيل، مخلصكِ )) ( أشعيا 42 : 8 ).

284 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

والإنجيل، بتعريف الملائكة بيسوع في مولده أنه (( المخلص )) ( 1 : 31 )، ينقل إليه اسماً من أسماء الله؛ وينقل إليه صفة الله نفسه. فهو المخلص مكان الله ( 1 : 31 )، ورسالته رسالة الخلاص (( لكي يعاين كل بشر خلاص إلهنا )) كما وعد أشعيا (لوقا 3 : 6). إنه (( قرن الخلاص )) الموعود ( 1 : 69 ). ومعه خلاص الله ( 2 : 30 ). فهو (( تعزية إسرائيل )) والعالم التي تنبأ عنها أشعيا أيضاً ( ف 40 ـ 61 )، كما ظل بنو إسرائيل ينتظرونه حتى زكريا والد المعمدان الذي رأى فيه (( نوراً للأمميين، ومجداً لإسرائيل )) ( 2 : 32 )، وحنة الشيخة النبية التي رأت فيه (( الفادي )) الذي يصنع (( فداءً لأورشليم )) ( 2 : 38 )، كما أن الله تعالى (( هو الفادي قدوس إسرائيل )) ( أشعيا 43 : 14 ). وهذا ما يعلنه المسيح نفسه في دعوته : (( لأن ابن البشر قد جاء يطلب ما قد هلك ويخلصه )) ( لوقا 19 : 10 ).

ففي الكتاب والإنجيل، عمل الخلاص عمل إلهي. والإنجيل ينسب إلى يسوع صفة الله، وعمل الله، فهو (( ابن الله )) ، كما يظهر من الترادف (( المخلص، المسيح الرب )) .

2 ـ اسم : الرب

إن الإنجيل بحسب لوقا ينسب أيضاً ليسوع اسم (( الرب )) كما في الكتاب بحسب الترجمة السبعينية الشائعة في العالـم الهلنستي، التي ترجمـت اسم الجلالة (( يهـوه )) بتعبير (( الرب )) . ويسوع يُنادَى باسم (( الرب )) في مواطن عديدة ( 5 : 8؛ 6 : 46؛ 9 : 54؛ 10 : 17 و40؛ 11 : 1؛ 19 : 8؛ 22 : 49؛ 23 : 42 ). وفـي لغة لوقـا، ليس اسـم (( الرب )) مرادفاً لكلمة (( يا سيد )) أو (( رابّي ـ يا معلم )) . إنه يعني الربوبية الحقة لاستخدامه على الإطلاق : (( الرب )) ، ولتصاريح يسوع أنه (( رب السبت )) ( 6 : 5 ) مثل الله؛ وملك يوم الدين، مكان الله؛ وللترادف بين الأسماء الثلاثة في التعريف باسمه وشخصيته : (( المخلص، المسيح الرب )) ( 2 : 11 ).

(( المخلص، المسيح الربّ )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 285

واستخدام الاسم على الإطلاق، (( الرب )) دليل على إلهيته.

3 ـ اسم : المسيح

إن اسم المسيح بحد ذاته لا يحمل معنى الألوهية. لكنه في البيئة الهلنستية التي دوّن لوقا الإنجيل لأجلها، فقد صار اسم المسيح مرادفاً لابن الله، في التعبير والتفكير. ويظهر ذلك في مطلع الإنجيل من تعريف الملائكة الجامع : (( المخلص، المسيح الرب )) ( 2 : 11 ) فهو يقرن المسيح بالرب؛ وفي ختام الإنجيل، من شهادة المسيح في السنهدرين : (( إن كنت أنت المسيح فقله لنا ... فقالوا جميعاً : أفأنت إذن ابن الله ؟ )) ( 22 : 67 و70 )، فالترادف صريح. لذلك اقتصر الإنجيل بحسب لوقا، في شهادة بطرس على القول : (( أنت المسيح الله )) ( 9 : 20 ) إيجازاً للإنجيل بحسب متى : (( أنت المسيح، ابن الله الحي )) ( 16 : 16 ). وما زيادة متى (( ابن الله الحي )) سوى تفسير لمعنى (( المسيح )) على الإطلاق عند مرقس ولوقا. أنه (( المسيح الرب )) ، فاسم (( المسيح )) في الواقع والحقيقة دليل شخصيته الإلهية.

4 ـ اسم : ابن البشر

بهذا الاسم وارى يسوع عن حقيقة شخصيته. وكان أفضل لقب في الكتاب يمكن أن يستخدمه دليلاً على شخصيته ورسالته، بسبب مصدره في دانيال الذي يراه (( نازلاً على سحاب السماء )) ( ف 7 ) : وبسبب تفسير يسوع له في مجلس القضاء الأعلى، حيث ابن البشر هو ابن الله ( 22: 66 ـ 70 ). ويسوع ينسب لذاته صفات إلهية باسم ابن البشر: (( إن ابن البشر هو رب السبت )) ؛ (( وابن البشر له لسلطان على الأرض أن يغفر الخطايا )) ؛ وابن البشر هو ملك يوم الدين. فميزات ابن البشر الإلهية، وترادف (( ابن البشر ـ ابن الله )) دلائل على أن اللقب الكريم يحمل معنى الألوهية.

286 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

5 ـ اسم : ابن الله

اسم (( ابن الله )) بحد ذاته لا يحمل معنى الألوهية. وفي الكتاب يُستخدم على المجاز بحق بعض أَصفياء الله. لكنه في الإنجيل فهو مأخوذ على الحقيقة والإطلاق.

1) فيسوع يُسمى (( ابن الله )) ( 1 : 35؛ 3 : 38؛ 4 : 41؛ 22 : 70 ). على الحقيقة، لأنه (( ابني الحبيب )) ، (( المصطفى )) على الإطلاق ( 3 : 22؛ 9 : 35؛ 20 : 9 ـ 19 ).

2) ولأنه يُسمي الله (( أبي )) على الاختصاص (2 : 49؛ 27 : 29؛ 23 : 34 و46).

3) وبسبب صفة التنزيه التي يقترن بها : القدوس. والقدوس صفة التنزيه في الكتاب والنبوة ( أشعيا ف 6 ). الملائكة ترادف بين (( القدوس )) و (( ابن الله )) : (( لذلك فالقدوس المولود منك، اسمه ابن الله )) ( 1 : 35 ). والشياطين يرادفون بين (( قدوس الله )) و (( ابن الله )) ( 4 : 34 و41 ).

4) وبسبب الإطلاق في مقابلة : (( الآب والابن )) (10 : 22) فالمسيح هو (( الابن ))، كما أن الله هو (( الآب )) .

وهكذا ففي توارد هذه الأسماء الحسنى، ما بين الكتاب والإنجيل، بحق الله، وحق المسيح، على السواء؛ وفي ترادف هذه الأسماء الحسنى بين بعضها بعضاً في الإنجيل، البرهان القاطع على معناها الحقيقي، لا المجازي، لإلهية المسيح.

 

 

(( المخلص، المسيح الربّ )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 287

سادساً : يسوع ينسب لنفسه أعمالاً وصفات إلهية

إن الذين يتلون الإنجيل بحسب لوقا لا يرون فيه إلاّ الإعلان عن مسيحية يسوع الإنسانية. وفاتهم الناحية الإلهية منها. نرى مظاهر إلهية المسيح أيضاً في الصفات والأعمال الإلهية التي ينسبها المسيح لنفسه. نعود فنعدّدها، ولو ألجأنا ذلك إلى بعض التكرار.

1 ـ ينسب يسوع لنفسه صفة المشترع الإلهي، مثل الله في التوراة. إنه يشترع مثل الله : (( سمعتم أنه قيل للأولين ... وأنا أقول لكم )) ، ويرددها مراراً بحسب متى (ف 5 كله).

2 ـ ينسب لنفسه سلطان الله في مغفرة الخطايا، مثل الله، وباسمه الشخصي، كما في قصة مقعد كفرناحوم ( لوقا 5 : 20 )، حتى اتهمه الفقهاء والعلماء بالكفر : (( مَن هذا الذي ينطق بالكفر ؟ مَن يقدر أن يغفر الخطايا إِلاَّ الله وحده )) ؟ ( 5 : 21 ). وفي غفرانه للعاهرة التائبة التي تبكي وهي تقبل قدميه، (( أَخذ المتكئون معه يقولون في أنفسهم : مَن هو هذا الذي يغفر الخطايا أيضاً )) ؟ ( 7 : 49 ). لاحظ تطوّر موقفهم منه من التكفير إلى الدهش. فسره من هذا السلطان بدأ يتضح لهم. ويتمادى يسوع في تنفيذ هذا السلطان الإلهي، فيمنح الغفران والخلاص لزكا العشار، والغفران والجنة للص التائب على الصليب. وهذا سلطان إلهي لا مراء فيه، ويمارسه يسوع بسلطانه الشخصي.

3 ـ وسلطان المعجزة ليس عنده سلطاناً من الله، يفعل بإِذن الله، كما عند غيره من الأنبياء والأولياء. إنما هو سلطان الإبراء الإلهي، بقدرته الذاتية، مثل الله نفسه، كما يصرّح بذلك مراراً. هكذا في إبراء الأبرص: (( إن شئت فأنت قادر أن تطهرني ـ قد شئت فاطهرْ )) ( 5 : 24 )، وفي قصة الأعمى : (( ماذا

288 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

تريد أن أفعل لك ؟ فقال: يا رب أن أُبصرْ! فقال له يسوع: أبصرْ! وفي الحال أبصر )) ( 18: 41 ـ 42 ). ولا يقهر سلطان الطبيعة إِلاَّ رب الطبيعة.

4 ـ وسلطان إحياء الموتى هو أيضاً فيه سلطان إلهي ذاتي، بصريح قوله في إحياء ابن أرملة نائين : (( أيها الشاب، لك أقول : قم! فاستوى الميت وشرع يتكلّم، فسلمه إلى أمه )) ( 7 : 14 ـ 15 )؛ وبصريح قوله لابنة يائير، رئيس جامع كفرناحوم : (( فأخذ بيدها ونادى قائلاً : يا صبية قومي! فرجعت روحها إليها ونهضت في الحال، ثم أَمر بأن تُعطى طعاماً )) ، وهذا دليل طبي على حقيقة الإحياء ( 8 : 54 ـ 56 ).

وسلطان الإحياء سلطان إلهي محفوظ لله وحده.

5 ـ ومعرفة غيب الخالق والمخلوق صفة إلهية ينسبها يسوع لنفسه.

إِن معرفة غيب المخلوق سلطان ذاتي فيه. فهو يعلم ما في السرائر والضمائر ( لوقا 7 : 4؛ 9 : 47؛ 11 : 17 ). ويعرف مصير رسله جملة ( 10 : 20؛ 22 : 29 ـ 30 ) وتفصيلاً كمصير يهوذا ( 22 : 21 ـ 22 ) ومصير بطرس ( 22 : 31 ـ 34 ). ويعرف مصيره في بني قومه، ويصف قبل سنة لصحابته تفاصيل استشهاده ( 9 : 22؛ 9 : 44 ـ 45؛ 11 : 29 ـ 30؛ 12 : 50؛ 18؛ 31 ـ 33؛ 22 : 22 ). ويعرف مصير إسرائيل، لرفضه المسيح، من خراب وشتات (( إلى أن تتم أزمنة الأمم )) ( 13 : 28 ـ 29؛ 13 : 34 ـ 35؛ 14 : 24؛ 19 : 41 ـ 44؛ 20 : 16 ). وهذه هي صورة النبؤة الكبرى، قبل أربعين سنة، في مصير أورشليم وإسرائيل : (( وإذا رأيتم أورشليم قد أحاطت بها الجنود، فاعلموا عندئذٍ أن خرابها قد حضر ... يسقطون بحدِ السيف، ويسبون إلى جميع الأمم، ويدوس الأمميون أورشليم حتى تتم أزمنة الأمم )) ( 21 : 20 ـ 24 ). صراحة النبوّة حمل بعضهم على اعتبارها تاريخ

(( المخلص، المسيح الربّ )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 289

واقع أكثر مما هي نبؤَة. فهب أن لوقا أدرك خراب أورشليم عند تدوين الإنجيل، فمسح النبوة بأسلوب الواقع التاريخي، فهل أدرك تحريم أورشليم على اليهود، بعد ثورتهم الثانية على الدولة الرومانية، عام 135 ؟ وكيف يمكن أن يعلم بشر سيطرة الأمميين على أورشليم (( حتى تتم أزمنة الأمم )) ؟ إن السيد المسيح عنده علم غيب المخلوق، وهذه صفة إلهية.

ومعرفة غيب الخالق، المحجوب عن المخلوق، سلطان ذاتي فيه مثل الله : (( لقد آتاني أبي كل شيء. وما من أحد يعرف مَن الابن إِلاَّ الآب، ولا مَن الآب إلاَّ الابن، ومن يريد الابن أن يكشف له )) ( 10 : 22 ). لاحظ الإطلاق في الاسمين الكريمين (( الآب ... الابن )) ، والمعادلة المطلقة في المعرفة الإلهية، فالمسيح وحده يعرف سر الله، ووحده يقدر أن يكشف عنه، (( فإِن الله لم يره أحد قط، إلاَّ الابن القائم في ذات الله، وهو الذي كشف عنه )) كما سيقول يوحنا ( 1 : 18 ). وهذا ما يسمو بالوحي الإنجيلي فوق كل تنزيل، لأنه وحده كشف بالمشاهدة العيان.

6 ـ ويسوع ينسب لنفسه صفات الذات الإلهية

فهو ينسب لنفسه علم الله عينه، كما تقدّم ( 10 : 22 ).

ويسوع ينسب لنفسه قدرة الله عينها. فسلطانه في الكون سلطان الله : (( السماء والأرض تزولان، أما كلامي فلا يزول أبداً )) ( 21 : 33 ). وسلطانه في الناس وتاريخهم سلطان الله : (( اجعلوا في قلوبكم أن لا تعدّوا دفاعاً، لأني أوتيكم فماً وحكمة لا يقوى جميع مناصبيكم على مقاومتها أو مناقضتها ... وشعرة من رؤوسكم لا تهلك )) (21 : 15 ـ 18). فهو سيد التاريخ يتصرف بأحداثه مدى الدهر، وقدرته فيه من قدرة الله، فهو يحفظ كل شعرة في رؤوس صحابته وتلاميذه.

والمبدأ الكلامي معروف : مَن اشترك في صفة من صفات الذات، كالعلم والقدرة، اشترك في الذات عينها.

290 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

7 ـ يسوع ينسب لنفسه واجب المخلوق نحو خالقه

1) يجب الإيمان بالمسيح مثل الله : (( أَقول لكم : من شهد لي أمام الناس، يشهد له ابن البشر أمام ملائكة الله. ومن كفر بي أمام الناس، يُنكر أمام ملائكة الله )) (12 : 8 ـ 9). وسبب ذلك أنه هو ملك يوم الدين يحاسب على الشهادة له : (( فإن مَن يستحيي بي وبكلامي، يستحيي به ابن البشر، متى جاء في مجده ومجد الآب، مع الملائكة القديسين )) ( 9 : 26 ). فمجد المسيح ومجد الله واحد في يوم الدين، وحاشية الله وحاشية المسيح من الملائكة القديسين واحدة.

2) يجب التضحية في سبيل المسيح مثل الله : (( ثم أخذ يقول للجماهير : مَن أراد أن يتبعني فلينكر نفسه، ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني. فإن مَن أَراد أن يخلّص نفسه يهلكها، ومن أهلك نفسه من أجلي فإنه يخلّصها )) ( 9 : 23 ـ 24 ). فالخلاص الأبدي إنما هو في الحياة للمسيح والشهادة له حتى الاستشهاد إذا اقتضى الأمر.

3) يجب تفضيل المسيح على الأهل والذات : (( وكان جموع كثيرون يواكبونه، فالتفت وقال لهم : إذا أتى أحد إليَّ، وهو لا يفضّلني على أبيه وأمه، على امرأته وبنيه، على أخوته وأخواته، وحتى على نفسه، فلا يستطيع أن يكون لي تلميذاً )) ( 14 : 25 ـ 26 ). وعلى الأموال : (( فكذلك كل واحد منكم، إنْ لم يزهد في جميع أمواله، لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً )) ( 14 : 33 ). لا يقدر أن يتطلب من العبد مثل هذا إلا الله وحده؛ وإن طالب به بشر متأله عُد معتوهاً.

8 ـ فالسيد المسيح، مع الدعوة لله، يدعو لنفسه مع الله ومثل الله؛ فهو واسطة رسالته وغايتها معاً؛ وهذا ما يميَّزه عن المرسلين أجمعين. قد يطلب

(( المخلص، المسيح الربّ )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 291

رسول الطاعة لنفسه مع الله، والشهادة لنفسه مع الله : (( أطيعوا الله والرسول )) . لكن لا يجرؤ بشر رسول أن يجعل الشهادة له مثل الشهادة لله، والطاعة له مثل الطاعة لله. فهذه المقابلة في الطاعة والشهادة بين المسيح والله، دليل على شعوره بإلهيته.

9 ـ سلطان المسيح على الملكوت والجنة هو سلطان الله نفسه. فهو يعد بالجنة ورسله : (( أنتم قد ثبتم معي في محنتي، وأنا أعدُّ لكم الملكوت كما أعده لي أبي )) ( 22 : 28 ـ 29 )، فهو سيد الملكوت والسماء مثل الله. وهو يرى في أيام بشريته أسماء رسله مكتوبة في السماء : (( افرحوا بأن أسماءكم مكتوبة في السماوات )) ( 10 : 20 ). ويعلن، وهو يموت على الصليب، للص التائب : (( اليوم تكون معي في الفردوس )) ( 23 : 43 ). فالسيد المسيح يتصرف بالجنة والخلود تصرّف الله بهما.

10 ـ أخيراً يقبل المسيح السجود لذاته مثل السجود لله : سجود بطرس ومن معه (5 : 8)، سجود الأبرص ( 5 : 12 )، سجود الشياطين ( 8 : 28 )، سجود الرسل، وهم يشاهدونه مرتفعاً إلى السماء ( 24 : 52 ). وهذا السجود يرتقي من الاحترام السامي إلى العبادة عينها، مثل الله.

أجل، لا نعرف إلهاً نسب لنفسه أكثر مما نسب لنفسه السيد المسيح. ومن يمكن أن ينسب لذاته تلك الصفات والأعمال الإلهية، سوى الله والمسيح (( ابن الله )) ؟ ولولا شعوره الذاتي بإلهيته، لَمَا تجرّأ أن يفعل. فهو في الحقيقة والواقع ما يقول عن نفسه.

 

 

سابعاً : كلمات المسيح هي كلمات إله، وابن اللّه

إن كلمات السيد المسيح، في معجزاته، تدل على سيادته المطلقة مثل الخالق

292 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

على مخلوقاته. وإن تصريحات السيد المسيح، عن ذاته، تدل على شخصية أقرب إلى الخالق منها إلى المخلوق. فلا يستطيع مخلوق أن يقول مثله :

ـ (( لقد آتاني أبي كل شيء )) ( 10 : 22 ). فهو السيد المطلق مثل الله.

ـ (( إن ابن البشر هو رب السبت )) ( 6 : 5 ). فهو المشترع الأعظم مثل الله.

ـ (( سيبغضكم جميع الناس من أجل اسمي، غير أن شعرة من رؤوسكم لا تهلك )) (21 : 17 ـ 18). فهو سيد التاريخ والمصير مثل الله.

ـ (( فاسهروا إذن وصلّوا في كل حين، لكي يتهيأ لكم أن تنجوا من جميع ما هو مزمع أن يكون، وان تظهروا بين يدي ابن البشر )) ( 21 : 36 ). فهو ملك يوم الدين مثل الله.

ـ (( وأنا أُعدّ لكم الملكوت، كما أأَعده لي أبي )) ( 22 : 29 ). وفي أدنى مظاهر بشريته، وهو معدوم على الصليب، يقول للص التائب : (( الحق أقول لك : إنك اليوم تكون معي في الفردوس )) ( 23 : 42 ). فهو سيد السماء والخلود مثل الله.

ـ (( السماء والأرض تزولان، وأما كلامي فلا يزول أبداً )) ( 21 : 33 ). فهو سيد السماء والأرض مثل الله.

ـ (( ما من أحد يعلم مَن الابن إلاَّ الآب، ولا مَن الآب إلاَّ الابن، ومن يريد الابن أن يكشف له )) ( 10 : 12 ). إنه يعلم غيب الله مثل الله نفسه.

فقائل تلك الكلمات وأمثالها، إمَّا إإِله حقيقي، وإِمَّا مخلوق معتوه. وحاشا للسيد المسيح، الحكمة المطلقة، مثل هذا الكفر. فهو يعني ما يقول. وهو كما يقول عن نفسه. فقد صرح في مجلس القضاء الأعلى، على استغرابهم : (( أفأنت إذن ابن الله ؟ ـ أنتم قلتم! أنا هو! )) ( 22: 70 ) فاعتبروه كافراً وأعدموه. فاستشهد ليشهد الحق. وهذان الشهادة والاستشهاد يرفعان كل مجاز في تفسير كلماته، ويقضيان بفهمها على حقيقتها.

(( المخلص، المسيح الربّ )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 293

أجل إن كلمات السيد المسيح في ذاته، وفي صلته بالله أبيه، وفي سلطانه المطلق على الكون كله، لا ينطق بمثلها مخلوق. إنها كلمات إِله، وابن الله.

فتلك اللوحـات السـبع تدل دلالة جـامعة مانعة كاملة مطلقة، على أن يسـوع هـو (( المخلص، المسيح الرب )) .

 

294 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

فصل الخطاب

الإعجاز المطلق في الشخصية

 

إن يسوع، الناصري المصلوب، هو (( المخلص، المسيح الرب )) . وظاهر بشريته لا يحجب كامن إلهيته. فإِن الإعجاز المطلق في شخصيته، بأحوالها وأعمالها وأقوالها، يجعله أقرب إلى الخالق منه إلى المخلوق.

أولاً : السلطان المطلق في شخصيته1

إن الواقع التاريخي الذي يفصّله الإنجيل بحسب لوقا، يرينا في يسوع المسيح سلطاناً في القول والعمل لا عهد للبشرية، ولا للنبوة، بمثله. إنه الإعجاز المطلق في السلطان على المخلوق.

1 ـ سلطانه على إبليس والشياطين

إن الأولياء والأنبياء يخافون من إبليس وجنوده؛ وكانوا يتعوّذون من حضورهم ومن همزاتهم : (( وقلْ : ربّ أعوذ بك من همزات الشياطين؛ وأعوذ بك، ربِّ، أن يحضرونِ )) (المؤمنون 68). المسيح وحده يخيفهم.

ــــــــــــــــــ

(1) نعتذر عن بعض التكرار. لكنه تكرار يفيدُ في إقامة صور مختلفة متكاملة الجوانب متعددة لشخصية المسيح المعجزة.

الإعجاز المطلق في الشخصيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 295

في مطلع هجرته إلى كفرناحوم، في يوم مشهود، يوم سبت، في الجامع، (( كان في الجامع رجل به روح شيطان نجس. فصاح بصوت جهير، قال : آهِ ، ما لنا ولك، يا يسوع الناصري ؟ أوَجئتَ لتهلكنا ؟ لقد عرفتُ من أنت : إنك قدوس الله؛ فزجره يسوع، قال : صه! واخرج! فصرعه الشيطان في الوسط، وخرج منه ولم يؤذهِ في شيء. فاستحوذ الذعر على الجميع، وطفقوا يقولون في ما بينهم : ما هذا الكلام ؟ انه يأمر الأرواح النجسة، بسلطان وقدرة، فتخرج! )) ( لوقا 4 : 33 ـ 36 ).

وليس ذلك حادثاً فرداً، إنما هي حالة دائمة. كلما لقيه إبليس يستخذي أمامه ويشهد له: (( وكانت الشياطين تخرج من كثيرين وهي تصرخ، وتقول : (( أنت ابن الله )) ! فكان ينتهرها، ولا يدعها تتكلم، لأنها كانت تعلم أنه المسيح ( لوقا 4 : 41 ).

وانطلق يسوع ذات يوم إلى أرض الشرك، في جرش، إلى الشرق من بحيرة طبريـا، (( وما أن خرج إلى البَرّ حتى استقبله رجل من المدينة به شياطين. ومن زمن طويل لم يعد يلبس ثوباً، ولا يأوي إلى بيتٍ، بل يقيم بين القبور. فلما أبصر يسوع أخذ يصيح، ثم خرّ عند قدميه، وقال بصوت جهير : ما لي ولك، يا يسوع ابن الله العلي ؟ ابتهل إليك ألاَّ تعذبني )) (لوقا 8 : 27 ـ 37). وبكلمة أمر جوقة الشياطين أن تخرج من الرجل، فخرجت للحال ذليلة.

البشر والرسل تخاف الشياطين، والسيد المسيح يخيفهم. فسلطانه من سلطان الله.

296 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

2 ـ سلطانه على البشر

يظهر في كل صفحة من صفحات الإنجيل، فهو يشفي كل الأمراض والعاهات، بكلمة من فمه، بسلطانه القهار. ويسرد الإنجيل معجزاته جملة وإفراداً.

ويصل هذا السلطان على الناس إلى إِحياء الموتى. ففي مأتم حافل يمسك بيد صبية في ريعان شبابها، وهي ابنة رئيس جامع كفرناحوم، (( أخذ بيدها، ونادى قائلاً : يا صبية، قومي! فرجعت روحها، ونهضت في الحال. ثم أمر بأن تُعطى طعاماً )) برهاناً على صحة المعجزة (لوقا 8 : 40 ـ 55).

وذات يوم وصل، في غرب الجليل، إلى مدينة نائين، (( وكان تلاميذه وجمع غفير يسيرون معه، ولما قرب من باب المدينة، إذا ميْت يشيّع، وهو ابن وحيد لأمه، التي كانت أرملة. وكان معها جمهور كثير من المدينة. فلما رآها الرب تحنّن عليها، وقال لها : لا تبكي! ثم دنا ولمس النعش، فوقف حاملوه. فقال : أيها الشاب، لك أقول، قم؛ فاستوى الميت، وشرع يتكلم. فسلمه إلى أمه. فاستولى على الجمهور خوف، وأخذوا يحمدون الله )) ( لوقا 7 : 11 ـ 17 ).

نلاحظ أنه يُحيي الموتى بأمره، لا بالدعاء إلى الله. فسلطانه على البشر، هو سلطان على الموت والحياة. وهذا من سلطان الله نفسه.

الإعجاز المطلق في الشخصيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 297

3 ـ سلطانه على دين الله وشريعته

كل نبي يبلّغ عن دين الله ما يأمره الله به. وأنبياء بني إسرائيل جاؤوا كلهم على شريعة موسى.

أمَّا المسيح وحده فقد جاء بسلطان ذاتي على شريعة الله، وشعارها السبت، ورمزها الختان. وكانت الشريعة في عرفهم حكمة الله الأزلية القائمة في ذات الله.

وله سلطان الله على (( يوم الرب )) ، السبت. جادله الفقهاء والعلماء منهم في حرمة يوم السبت، فكان جوابه : (( إن ابن البشر هو رب السبت )) ( لوقا 6 : 5 ).

وله سلطان الله على الختان المفروض، فنسخه بالعماد المسيحي.

وله سلطان الله على هيكل الله. افتتح رسالته بتطهير الهيكل من تجار الدين، واختتمها بالعمل المقدس نفسه. وجاء وفد السنهدرين يجادله في هذا السلطان، وفي سلطان التعليم بالهيكل بدون إِجازة منهم، فردّهم ردّاً غير جميل بتورية من سلطان المعمدان في النبوة. وحين موته (( انشق حجاب الهيكل من وسطه )) ( لوقا 23 : 45 )، رمزاً لنقض اليهودية ونسخها بشخصيته.

أجل (( إِن ابن البشر هو رب السبت )) ورب الشريعة ورب الختان ورب الهيكل. فسلطانه عليها جميعاً من سلطان الله.

4 ـ سلطانه في التعليم، وفي علـْم الغيب

في بني إسرائيل كل نبي أو عالم أو فقيه ينتسب في تعليمه إلى الكتاب والسُنّة الموسوية. أمَّا السيد المسيح فكان لا ينتسب إلاَّ لنفسه. وقد لاحظت الجماهير ذلك، وكانوا يدهشون من تعليمه، لأنه كان بسلطانه الذاتي، لا مثل علمائهم وفقهائهم.

298 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

وكانت كلماته فوق قدرة البشر؛ سيد الكلمات التي لم ينطق بمثلها إنسان. وكل حكيم ينطق بمثل كلمة من كلمات السيد المسيح، يخال للناس أن به مسّاً في عقله ووجدانه.

وكانت له في تعليمه ميزة لا يمكن لمخلوق أن يحلم بمثلها : فقد كان له في علم الغيب سلطان على غيب الخالق وغيب المخلوق. ففي غيب المخلوق يقول : (( لقد آتاني أبي كل شيء )) ( لوقا 10 : 22 ). وفي غيب الخالق يقول : (( لا أحد يعلم مَن الابن إِلاَّ الآب؛ ولا مَن الآب إِلاَّ الابن، ومن يريد الابن أن يكشف له ذلك )) ( لوقا 10 : 23 ). إنه العلم الواحد المتبادل بين الله والمسيح، فوق المخلوق.

لذلك لم يكن تعلميه، كسائر الأنبياء والمرسلين، وحياً وتنزيلاً؛ بل كان كشفاً عن سرّ الله، وسرّ الكون، وسرّ الإنسان.

5 ـ سلطانه على الطبيعة

قد أجرى أنبياء الله، بإذن الله، معجزات في الطبيعة، كما آتي الله موسى تسع آيات بينات.

أما السيد المسيح فكان له، من ذاته، سلطان الله على الطبيعة كلها.

يمخر في بحيرة طبريا. فتهب عاصفة هوجاء تكاد تغرق السفينة. وكان هو، في هذه الأثناء، نائماً وسط الأمواج الهوج. (( فدنوا إليه وأيقظوه قائلين : يا معلم! يا معلّم! لقد هلكنا! فنهض وزجر الرياح وهيجان الماء، فهدأ وساد السكون ثم قال لهم : أين إيمانكم بي ؟ فاستولى عليهم الخوف والدَهَش. وقال بعضهم لبعض : مَن، تُرى، هذا ؟ فإنه يأمر الأمواج والرياح فتطيعه )) ( لوقا 8 : 22 ـ 25 ).

الإعجاز المطلق في الشخصيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 299

ينفرد في عزلة إلى البريّة. فتتبعه الجماهير، وكانوا نحو خمسة آلاف رجل. فيعلمهم حتى المساء. وعند المساء جاعوا. فأخذ خمسة أرغفة وسمكتين (( وباركها، ثم كسرها وجعل يعطيها للتلاميذ ليوزّعوها على الجماهير. فأكلوا كلهم وشبعوا. ثم رفعوا ما فضل عنهم، فكان اثنتي عشرة قفة من الكسر )) ( لوقا 9 : 10 ـ 17 ).

ومعجزات الإبراء، ومعجزات الإحياء، من هذا السلطان القهَّار. وكانت معجزة المعجزات قيامته من القبر والموت، لليوم الثالث، ثم ارتفاعه حيّاً إلى السماء ( لوقا 24 : 50 ـ 53 ).

فسلطانه على الطبيعة كان من سلطان الله نفسه.

6 ـ سلطانه على ملكوت الله

كل الأنبياء والرسل كانوا عبيد الله في دينه، وفي ملكوته. أمَّا السيد المسيح، فقد كان وحده سيّد ملكوت الله.

كانت دعوته كلها إلى ملكوت الله. وجعل صلاة أتباعه الدعاء الدائم إلى (( أبينا الذي في السماوات )) أن يأتي ملكوته على الأرض كما هو في السماء.

أخيراً صرّح لهم أنه هو نفسه ملكوت الله : (( ها أن ملكوت الله بين ظهرانيكم )) (لوقا 17 : 21).

ويصف لهم اليوم الآخر وأهواله؛ ويعرض لهم مشهد يوم الدين؛ ويصف نفسه ملك يوم الدين، وهي صفة من صفات القدرة الإلهية : (( عندئذٍ يشاهدون ابن البشر آتياً على السحاب، في جلال القدرة والمجد ... السماء والأرض تزولان، وأمَّا كلامي فلا يزول )) (لوقا 21 : 27 و33). فمن كان كلامه أثبت من السماء والأرض، فهو سيد السماء والأرض. ومَن يأتي بجلال الله ليوم الدين، فهو مثل الله ملك ومالك يوم الدين.

300 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

وعلى الصليب، يُصلب بين مجرميْن. فشاهد أحدهما هيبة الله على وجه المصلوب، فصاح : (( يا يسوع، اذكرني متى جئت في ملكوتك! فقال له : الحق أقول لك، إنك اليوم تكون معي في الفردوس )) ( لوقا 23 : 42 ـ 43 ). فالمصلوب المعدوم سيد الفردوس يمنحه لمن يشاء. فهو أقوى من الموت، وأعظم من الكون. إِنه سيد ملكوت الله في الدنيا والآخرة. له سلطان الله المطلق على ملكوت الله.

7 ـ سلطانه على الغفران

الإثم هو الشر الأكبر في البشرية والخليقة كلها. والخطيئة إهانة لله لا يغفرها إلاَّ الله وحده. هذا سلطان ذاتي في الله أسمى من المخلوق.

والسيد المسيح، في الإنجيل، ينسب لنفسه هذا السلطان الإلهي.

قدّموا إليه مقعداً ليشفيه. فبدأ بشفاء نفسه من ذنوبها : (( فلما رأى يسوع إيمانهم، قال : يا رجل مغفورة لك خطاياك. فأخذ الفقهاء والفريسيون يفكرون ويقولون : من هذا الرجل الذي ينطق بالكفر! مَن يقدر أن يغفر الخطايا إلاَّ الله وحده ؟ .. فلكي تعلموا أن ابن البشر له السلطان على الأرض أن يغفر الخطايا، حينئذٍ قال للمقعد : لك أقول، قم احمل فراشك وامض إلى بيتك! فقام للحال، على مشهد منهم، وحمل ما كان مضطجعاً عليه، وانطلق إلى بيته، وهو يحمد الله. فدهشوا جميعاً، وحمدوا الله. وقالوا : (( لقد رأينا اليوم معجزات )) ( لوقا 5 : 17 ـ 26 ). لقد نسب يسوع لنفسه سلطان الله على الغفران، وأثبته بمعجزة بنطقه السامي.

الإعجاز المطلق في الشخصيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 301

وكم بكت نفوس خاطئة وهي تقرأ قصة المجدلية، تلك العاهرة التائبة، التي ألان قساوتها عطف يسوع على الخاطئين. فأتت وانطرحت على قدميه باكيةً؛ وأخذت تمسحهما بشعر رأسها وتقبلهما وتدهنهما بالطيب. فالتفت يسوع إلى صاحب الدار والحضور وقال لهم : (( إن خطاياها الكثيرة مغفورة لها بما أَنها أَحبت كثيراً. ثم قال للمرأة : مغفورة لك خطاياك! فأخذ المتكئون معه يقولون في أنفسهم : مَن هو هذا الذي يغفر الخطايا أيضاً ؟! أَما هو فقال للمرأَة : إيمانك خلصك، اذهبي في سلام )) ( لوقا 7 : 36 ـ 50 ). فالإيمان بيسوع ومحبته سبيل لنيل الغفران الإلهي بسلطانه الشخصي. فسلطانه سلطان الله نفسه.

تلك بعض مظاهر سلطان المسيح الإلهي. سلطان بالحكمة والمعجزة. سلطان بالكلمة ولسان الحال. سلطان بالشخصية التي تسمو، بأحوالها وأقوالها وأعمالها، على المخلوق.

هذا هو الإعجاز المطلق في الشخصية.

 

 

302 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

ثانياً : صلة السيد المسيح بالسماء

إن الواقع التاريخي يرينا أيضاً في يسوع صلة بالسماء، لا عهد للبشرية، ولا للنبوة، بمثلها. فهو الوحيد الذي انفتحت له السماء سبع مرات منذ نزل منها حتى ارتفع إليها.

1 ـ السماء تنفتح يوم البشرى بنزوله

رئيس الملائكة، جبريل، يهبط من الملإِ الأعلى، ويبشر مريم العذراء : (( إن الروح القدس يأتي عليك، وقدرة العلي تظلّلك. من أجل ذلك، فالقدوس المولود منك اسمه ابن الله )) (لوقا 1 : 35). فالقدوس صفة التنزيه للذات الإلهية، في لغة الكتاب. فاسمه وصفته تدلاَّن، مع بشرى الملاك، أنه ينزل من السماء، وقد شقّها قدامه، كرئيس جنده، جبريل رئيس الملائكة.

2 ـ السماء تنفتح يوم مولده

وُلد السيد المسيح في مغارة بيت لحم. وحين مولده هبط رهطان من الملائكة يبشرون به. رهط ذهب إلى المجوس العرب. ورهط أتى إلى رعاة بيت لحم؛ (( وبغتة انضمّ إلى الملاك ( الذي بشرهم بمولد المخلص، المسيح الرب ) جمهور من الجند السماويين يسبحون الله. وكانوا يقولون : المجد لله في العلى والسلام على الأرض لأهل الرضى )) ( لوقا 2 : 13 ـ 14 ).

3 ـ السماء تنفتح يوم عماده

اعتمد يسوع في نهر الأردن، على يد يوحنا المعمدان، (( وفيما كان يصلّي انفتحت السماء، وحلّّ عليه الروح القدس، في صورة حسية، مثل حمامة. وانطلق

الإعجاز المطلق في الشخصيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 303

صوت من السماء يقول : أنت ابني الحبيب فيك رضاي )) ( لوقا 3 : 21 ـ 22 ). السماء تنفتح للمسيح، وروح الله يحل عليه، وصوت الله يشهد أنه ابنه الحبيب.

4 ـ السماء تنفتح يوم التجلّي

على مفترق الطرق في رسالة المسيح، ما بين أهل الرِدّة وأهل الإيمان، يعتزل يسوع بصحابته. ثم ينفرد على جبل الشيخ مع الثلاثة المقربين منهم. (( وفيما هو يصلّي، تبدّل منظر وجهه، وصارت ثيابه بيضاء لامعة. وإذا برجلين، موسى وإيليا، يخاطبانه، وقد تراءَيا في مجد )) ( لوقا 9 : 29 ـ 30 ). يسوع يظهر في مجد الله، وموسى سيد الشريعة، وإيليا سيد النبوة يحفان به مثل نجيّين. ويسوع تشع إلهيته الكامنة من خلال بشريته الظاهرة. وغمامة منيرة تلف الجميع، والغمامة المنيرة، في لغة الكتاب، دليل حضور الله. (( وانطلق صوت من الغمامة يقول : (( هذا هو ابني، المصطفى عندي، له فاسمعوا )) ( 9 : 35 ).

5 ـ السماء تنفتح يوم استشهاده

بدأت ليلة الاستشهاد. واعتزل يسوع ورسله في بستان الزيتون. ثم أخذ يسوع الثلاثة المقرَّبين، وانطـرح على الأرض يصلّي أمـامهم. صلّى ثلاث ركعات مـدة ثلاث ساعات. (( حينئذِ ظهر له ملاك من السماء يشدده. وكان قد بلغ منه الجهد ولجّ في الصلاة، حتى صار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض )) ( لوقا 22 : 43 ). ففي أخطر مشهد من مشاهد بشريته، ينزل ملاك من السماء ويحضره.

6 ـ السماء تنفتح يوم قيامته

حضرت التلميذات، حاملات الطيب، إلى القبر، ليكمّلن تحنيط يسوع. فوجدن الحجر قد دُحرج عن القبر. فدخلن، فلم يجدن جسد الرب يسوع.

304 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

وفيما هن في حيرة، وقف بهنَّ رجلان عليهما ثياب منوَّرة. فذعرن وأطرقن بوجوهنَّ إلى الأرض. فقالا لهن : لِمَ تطلبن بين الأموات، من هو حي ؟ إنه ليس ههنا! لقد قام )) ! ( لوقا 24 : 1 ـ 8 ). تنفتح السماء ويهبط منها الملائكة يبشرون بقيامة المسيح.

7 ـ السماء تنفتح يوم رفعه حيّاً إلى السماء

بعد أربعين يوماً من قيامته من الموت والقبر، ظهر لرسله آخر مرة. (( ثم خرج بهم نحو بيت عنيا. ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم انتحى عنهم وارتفع إلى السماء أمَّا هم فسجدوا له، ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم )) ( لوقا 24 : 50 ـ 52 ). تنفتح له السماء فيدخلها حيّاً خالداً.

وهكذا نجد السيد المسيح في صلة فريدة بالسماء، لم تعهدها البشرية لا عند الأولياء، ولا عند الأنبياء. فالتاريخ الإنجيلي يرينا السماء مفتوحة للمسيح وحده، منذ نزل منها، حتى ارتفع حيّاً إليها. (( فإِنه لم يصعد أحد إلى السماء، إلاَّ الذي نزل من السماء، ابن البشر الكائن في السماء )) ( يوحنا 3 : 13 ). إنه سيد السماء مع الله أبيه.

فمن تظل السماء مفتوحة فوق رأسه، منذ نزوله منها حتى ارتفاعه إليها، يكون شخصاً سماويّاً طارئاً على الأرض، ليحمل إليها بركة السماء في شخصه. وتسمع السماء في كل مشهد من المشاهد السبعة تسمية (( ابن الله الحبيب )) .

هذا هو الإعجاز في الشخصية.

 

 

الإعجاز المطلق في الشخصيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 305

ثالثاً : الواقع التاريخي ومعناه في شخصية السيد المسيح

فمن هو يسوع المسيح ؟

يظهر من سيرته ودعوته، وكشفه عن سر شخصيته أنه (( المخلص، المسيح الرب )) كما وصفه الملائكة يوم مولده ( لوقا 2 : 11 ).

يظهر بشراً؛ ولكن ليس كسائر البشر. إنه إنسان الإنسانية.

يظهر نبيّاً رسولاً، ولكن أسمى من الأنبياء والرسل. إنه نبيّ الأنبياء. وسيد المرسلين.

إنه (( ابن البشر )) و (( المسيح الرب )) معاً.

يقول ويعمل، كما يصرّح عن نفسه، مثل ابن البشر وابن الله معاً.

فهو ابن مريم وابن الله معاً.

إنه في سلطانه، وبصلته بالسماء، وفي شخصيته، أقرب إلى الخالق منه إلى المخلوق.

إنه إنسان كامل، وإِله كامل معاً. إِنه صورة الله غير المنظور، بوجه منظور. هذا هو واقع شخصيته الثنائية، كما يتضح من تاريخ سيرته ودعوته، والكشف عن إعجاز شخصيته.

وفي هذه الثنائية المعجزة، القائمة في وحدة الشخصية، سرّ المسيح الذي يذهل المؤمنين والكافرين. فمن أسقط ناحية من هذه الثنائية المعجزة، تنكّر للتاريخ المسجل في الإنجيل، وسلب السيد المسيح حقيقته وحقه، وأنكر التاريخ والإنجيل.

فليس يسوع المسيح بشراً لا غير؛ فأحواله وأعمال وأقواله دلائل إلهيته.

306 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

وليس يسوع المسيح إلهاً لا غير، فمظاهر بشريته تدل عليه. إنه إِله وإنسان معاً، في ثنائية معجزة فريدة قائمة في وحدة شخصيته.

هذا هو الواقع الإنجيلي التاريخي ومعناه الصحيح الذي لا مراء فيه.

فليس هو تربيب مخلوق أو تأليه بشر. هذا كفر محض.

وليس هو تجسيد الخالق أو تأنيس إِله. هذا أيضاً كفر محض.

فلا شبهة ولا تشبيه في دعوة الإنجيل، وشخصيته المسيح.

يسوع يقـول ويفعل كبشر! ويسوع يقـول ويفعل كإِلـه. إنه ابن مريم وابن الله معاً: (( فالقدوس المولود منك، اسمه ابن الله )) ( لـوقا 1 : 35 ). ورسالته المعجزة الفريدة أنـه (( المخلص، المسيح الرب )) ( لوقا 2 : 11 ).

هكذا ظهر في سيرته ودعوته وشخصيته. لذلك يسميه الإنجيل في روايته (( الرب يسوع )) . وكلمة (( الرب يسوع )) هي عقيدة الإنجيل بحسب لوقا، وهي شهادته. مَن شاء فليؤمن، ومَن شاء فليكفر.

افتتح لوقا الإنجيل بعبادة الله على الأرض في هيكله بأورشليم. وختمه بسجود الرسل والتلاميذ (( للرب يسوع )) وهو يدخل هيكل السما.

يوم البشارة نزل من السماء فهو (( القدوس ابن الله )) .

ويوم رفعه إلى السماء، جلس مع الله على عرش الجلالة، فهو الحي الباقي.

فمن النزول إلى الرفع هو (( الرب يسوع )) . تلك كلمة الختام في الإنجيل.

إن لوقا يصف، بوحي الله، هذا الواقع الإنجيلي. وننتظر يوحنا الرسول ليفصّل لنا سرّ هذا الواقع الإنجيلي، وسر تلك الثنائية المعجزة في شخصية (( المسيح الرب )) ؛ ويعلمنا في آخر كلمة من كلمات الوحي والتنزيل أن (( الرب يسوع )) ، (( القدوس المولود من ( مريم ) واسمه ابن الله )) هو (( كلمة الله )) أي نطقه الذاتي، المتأنس من مريم العذراء.

الإعجاز المطلق في الشخصيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 307

ذلك فصل الخطاب في الواقع الإنجيلي وتاريخه.

 

فالإنجيل بحسب لوقا تاريخ وتعليم، سيرة ودعوة.

‘ِنه تعليم في تاريخ، وتاريخ في تعليم.

هذا ما صرح به في فاتحته : إنه كتب تاريخ المسيح في سيرته ودعوته (( لتكون على بيّنة من صحة التعليم الذي اهتديت إليه )) ( 1 : 1 ـ 4 ).

فالإنجيل تاريخ، ولكن ليس كسائر التواريخ : إنه تاريخ دعوة.

والإنجيل تعليم، ولكن ليس كسائر التعاليم : إِنه تعليم سيرة.

إِنه تاريخ وتعليم معـاً. وصحة التعليم فيه تقـوم على صحة التاريخ. وصحة التاريخ (( بيّنة )) على صحة التعليم.

فلا التعليم سخّر التاريخ؛ ولا التاريخ سخّر التعليم. فصحة التعليم وصحة التاريخ صفتان متلازمتان.

فلوقا هو المؤرخ الأول الملهم للمسيح.

ولوقا هو المتكلم الأول الملهم، في تاريخ الخلاص.

تلك هي الشهادة التاريخية، في الإنجيل بحسب لوقا.

 

 

308 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

فالإنجيل بحسب لوقا : صورة معجزة (( للمخلص، المسيح الرب )) .

إِنها معجزة أسلوباً وموضوعاً، تعبيراً وتفكيراً؛ فلم تكتب البشرية كتاباً مثل هذا الكتاب: إنه (( كتاب الله )) في مسيح الله.

يجمع تعبير أهل الكتاب (( المسيح )) ، إلى تعبير الأميّين (( الرب )) ، ويوحّد بينهما بتعبير مشترك بين البشرية كلها (( المخلص )) .

فالمخلص الموعود في الكتاب، والمأمول عند الأمم هو (( المسيح الرب )) :

نبيّ الأنبياء، بحسب تعبير أهل الكتاب وأملهم!

إنسان الإنسانية، بحسب تعبير الأميّين وأملهم!

إِنه (( المسيح )) الذي ينتظره أهل الكتاب منذ إبراهيم، لتتبارك به أمم الأرض كلها.

إنه (( الرب )) الذي يحق له وحده أن يملك على المسكونة كلها.

هذا هو (( المخلص )) النازل، في مولده من مريم العذراء، من السماء!

هذا هو (( المخلص )) الصاعد، بصلبه وموته وقبره وبعثه، إلى السماء!

نشيد الملائكة يختتم سيرته كما افتتحها :

(( المجـد لله فـي العلـى

 

والسلام على الأرض لأهل الرضى ))

كتابٌ مُستقِلّ :

سِيرَة السَّيّد المَسِيح

في الإنجيل

بحَسَب أحرُفهِ ( أي نصُوصِهِ ) الأربعَة

 

سيرة السيّد المسيح ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 311

توطئة : الإنجيل هو العمدة الوحيدة لتاريخ المسيح

تقوم من حين إلى آخر، لعوامل شتى، ضجة على صحة أسفار العهد الجديد من الوجهة التاريخية أو الاسمية الشخصية.

وهذا كله زوبعة في فنجان، لأنهم يضعون المسألة في غير موضعها.

لقد فاتهـم أن الوحي الإنجيلي شخص منزل أكثر منه كتاباً منزلاً؛ وأن (( الكتاب المنير )) ينقل الوحي الإنجيلي بالمعنى أكثر منه بالحرف، خصوصاً لأن كتبة الوحي الإنجيلي دوّ‍نوه باليونانية، (( لغة المسكونة )) في ذلك العصر.

وهذان المبدأان يقضيان على كل شبهة تاريخية عليه.

 

 

أولاً : الوحي الإنجيلي شخص منزل أكثر منه كتاباً منزلاً

هذا هو الفارق العظيم بين الوحي الإنجيلي وسواه. وهذا ما يفوت الناس حين يتعرّضون للإنجيل ووثائقه التاريخية والتعليمية في العهد الجديد.

وليس ما يعنينا، بالدرجة الأولى، في مصادر الوحي الإنجيلي ووثائقه صيغ الشهادة فيها وأساليبها. إِنما يعنينا قبل كل شيء جوهرها. وهذا الجوهر أن المسيح شخص منزل اجتمع فيه الرسول والرسالة معاً. فهو وساطة رسالته وغايتها، للكشف الأخير عن سر الله، وسر علاقة الإنسان والكون بالله وبه.

312 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سيرة السيّد المسيح

وقد أظهر السيد المسيح ذلك بأحواله وأقواله وأعماله التي تنقلها أسفار العهد الجديد أو تفصّلها.

وجوهر أسفار العهد الجديد يقوم على أربعة أحداث تاريخية وشخصية :

1 ـ مولد المسيح المعجز.

2 ـ دعوة المسيح لملكوت الله؛ وأنه هو سيد الملكوت وصراطه إلى الله.

3 ـ استشهاد المسيح صلباً، شهادة لشخصيته ودعوته.

4 ـ بعث المسيح حياً ورفعه إلى الله، في السماء، من دون العالمين والمرسلين.

فتلك الأعمال الأربعة ليست بحاجة إلى كتب وأسفار تفصّلها. إنما هي أحداث معدودات، متى كشف صاحبها عنها الغطاء برح الخفاء.

وهذا ما فعله السيد المسيح للناس عامة، ولتلاميذه ورسله أي صحابته خاصة. فقد كشف لهم، بسيرته ورسالته معنى تلك الأحداث العظام، التي هي في نظره ونظرهم محور النبوة والكتاب، ومحور تاريخ البشرية، ومحور الخليقة كلها.

وأيّ شاهد عيان، مهما كان أميّاً، لا يحفظ جيداً تلك الأحداث الأربعة، ولا يستطيع نقل معناها كما سمعه من المسيح في شهادته ؟ وهذا ما فعله صحابة المسيح في الأناجيل والأعمال والرسائل.

والإنجيل كله، ووثائق الوحي الإنجيلي كلها، في تلك الأحداث الأربعة، وفي معناها المنقول بالإجماع المتواتر، في المصادر كلها، مهما تنوعت وتطورت الأساليب والصيغ في التفكير والتعبير.

فمهما قال التاريخ والنقد القديم والحديث في كيفية تدوين الإنجيل بأحرفه

بحسب أحرف الإنجيل الأربعة ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 313

الأربعة، وكتابة الأعمال والرسائل لتفصيله في الدعوة الرسولية؛ ومهما قالوا في صحة نسبتها لأصحابها، وفي صحة تدوينها، وفي صحة تفاصيلها لتاريخ المسيح الصحيح، وفي صحة تاريخيتها جملةً وتفصيلاً : فهذا كله ثانوي بالنسبة للجوهر القائم في أعمال أربعة معدودات : مولد معجز، ودعوة معجزة، واستشهاد معجز، وبعث فرفع حياً إلى السماء معجز فوق كل إعجاز.

فتلك الأعمال المعجزة الأربعة، مهما ائتلفت أو اختلفت مصادر الوحي الإنجيلي في أساليب تفصيلها، هي الإنجيل كله، وهي أسفار الوحي الإنجيلي كلها. ولا حاجة إلى كتاب منزل بها يرويها ويفصّلها؛ ولا داعي إلى جدل يقوم على صحتها وتاريخيتها. تكفي شهادة المسيح لها، شهادة الكلمة والدم؛ ثم شهادة شهود العيان، رسل المسيح وصحابته، لها بالكلمة والدم؛ وشهادة أتباعهم لها منذ ألفي سنة وحتى قيام الساعة بالكلمة والدم.

فتلك الأعمال الأربعة المعجزة، سواء وصلتنا بكتاب منزل أم بالصوت الحي، تدل دلالة قاطعة، جامعة مانعة، أن الوحي الإنجيلي شخص منزل أكثر منه كتاباً منزلاً. وللشخص المنزل يشهد أيضاً كتاب منزل.

 

 

ثانياً : مصادر الوحي الإنجيلي وثائق تاريخية معاصرة

من الثابت تاريخيّاً أن أول تلميذ للمسيح هو يوحنا الرسول، ابن زبدى. وقد عمّر إلى آخر القرن الأول الميلادي. وكل وثائق العهد الجديد قد صدرت على حياته. وكان هو نفسه آخر كتبة الوحي الإنجيلي في ختام القرن الأول. فلو كان فيها شيئاً غير صحيح في واقعه أو في معناه، لما سكت عنه. لذلك

314 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سيرة السيّد المسيح

يصح لنا أن نجزم بأن أسفار العهد الجديد كلها وثائق تاريخية معاصرة للحدث الأعظم في تاريخ البشرية.

لقد قامت الدعوة الرسولية للسيد المسيح وإنجيله، أولاً، على دعوة شفوية للمشاهدة العيان لتلك الأعمال الأربعة المعجزة، التي لا تحتاج إلى تنزيل ولا إلى تدوين. لذلك لم يكتب السيد المسيح إنجيله، ولا أمر صحابته بتدوينه. إنما أرسلهم بالدعوة الحية له.

ولنا في سفر الأعمال نماذج موجزة لتلك الدعوة الرسولية بالمسيح والإنجيل. عشرة أيام، بعد ارتفاع المسيح إلى السماء، في يوم العنصرة، يوم تنزيل الروح القدس على الرسل والتلاميذ لتأييدهم في الشهادة، يعلن زعيم الرسل، بطرس، باسم شهود العيان جميعهم : (( ألا، فليعلم جميع آل إسرائيل أن الله قد أقام يسوع، هذا الذي صلبتموه أنتم، ربّاً ومسيحاً )) ( سفر الأعمال 2 : 36 ). هذا هو الإنجيل كله في البلاغ الأول لبني إسرائيل، ومَن كان معهم من المهاجرين والمتقين الذين حضروا العيد.

وبولس الرسول، الإسرائيلي العالم المتعصب للتوحيد والتوراة، قد اهتدى إلى المسيحية التي كان يضطهدها، في السنة الثالثة لرفع المسيح إلى السماء. فأخذ الإنجيل في جوهره، عن المسيح نفسه، في رؤية معجزة له؛ ثم من زعماء الرسل صحابة المسيح في أورشليم. فهو يكتب في رسالته الكورنثية التي لا يشك أحد في صحتها وتاريخيتها، موجز الإنجيل الذي يدعو هو والرسل كلهم به :

(( أيها الأخوة، إني أذكركم الإنجيل الذي بشرتكم به، وقبلتموه، وأنتم ثابتون فيه، وبه تخلصون، إن حافظتم عليه كما بشرتكم به ـ ما لم يكن إيمانكم باطلاً.

(( فإني قد سلّمت إليكم أولاً ما قد تسلَّمت أنا نفسي : إن المسيح قد مات

بحسب أحرف الإنجيل الأربعة ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 315

لأجل خطايانا، على ما في الكتب ـ وإنه قـُبر، وإنه قام في اليوم الثالث، على ما في الكتب ـ وإنه تراءى لكيفا ( بطرس ) ثم للاثني عشر ـ ثم تراءى لأكثر من خمس مئة أخ معاً، أكثرهم باق حتى الآن، وبعضهم رقدوا ـ ثم تراءى لجميع الرسل ( غير الاثني عشر ) ـ وآخر الكل تراءى لي، أَنا أيضاً، كأنما للسقط ... فسواءٌ كنت أنا أَم أولئكم، فهكذا ندعو، وهكذا آمنتم )) ( 1 كو 15 : 1 ـ 11 ).

هذا هو الإنجيل كله، الشفوي فالمكتوب. يقوم على أعمال معدودات لا تحتاج إلى تسجيل ولا إلى تدوين.

لكن سرعان ما دعت حاجة الشعب المؤمن إلى تدوين شهادة الرسل؛ فدونت في الإنجيل المكتوب بأحرفه الأربعة، حسب عرضه في بيئات أربع مختلفة، ثم فصّل في أعمال الرسل ورسائلهم.

وكلها وثائق تاريخية، لأنها من عهد الرسل، سواءٌ كتبوها بأنفسهم أم بواسطة تلاميذهم التابعين لهم بإحسان. وكان آخر شهادة مكتوبة، في آخر القرن الأول الميلادي، شهادة يوحنا الرسول في الإنجيل باسمه، الذي قدّم له بفاتحة جمعت روح الوحي الإنجيلي كله، وفي كل أسفاره، فأوجزت وأعجزت. وهي تقول بإِعجاز أبلغ ما نادى به بطرس، زعيم الرسل، منذ اليوم الأول بعد رفع المسيح وتنزيل الروح القدس عليهم لتأييدهم في شهادتهم، وعصمتها دعوةً وكتابةً. وعصمة رسل المسيح ميزة لهم لم ينلها سواهم من كتبة الوحي المنقول في الأديان كلها. فكما أيّد الروح القدس السيد المسيح في دعوته بالإنجيل، أيّد رسل المسيح وكتبة وحيه في نقل الإنجيل وتدوينه وتفصيله.

فمصادر الوحي الإنجيلي كلها وثائق تاريخية وتعليمية معاصرة لعهد الرسل، شهود العيان. وكلها وثائق ثابتة قائمة، مهما كان كاتبوها، تشهد بدعوة رسل المسيح للحدث الأعظم، في أحداثه الأربعة المعجزة.

316 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سيرة السيّد المسيح

وتعدّدها، وتنوّع أساليبها، دليل على صحتها التاريخية، في الجوهر القائم على تلك الأعمال الأربعة المعجزة، بالإجماع المتواتر فيها عليها، صورة للإجماع المتواتر عن الرسل شهود العيان.

وكل المسائل والمشاكل التي قامت، وتقوم، وستقوم، على وثائق الوحي الإنجيلي ومصادره، لا وزن لها، لأنها تعجز عن الطعن في صحة وتاريخية تلك الأعمال الأربعة المعجزة للحدث المسيحي. ولا عبرة بالتفاصيل. يكفي أنها وثائق تاريخية معاصرة، مؤتلفة مختلفة في التفصيل، جامعة مانعة في جوهر الأعمال الأربعة المعجزة، تنقل لها شهادة الرسل، صحابة المسيح، وشهود العيان لسيرته ودعوته، في جوهرها ومعناها، ويكفلها جميعاً، في آخر القرن الأول الميلادي، تلميذ المسيح منذ الساعة الأولى، وشاهد العيان الأول والأخير، يوحنا الرسول.

 

 

ثالثاً : الوحي الإنجيلي تنزيل بالمعنى أكثر منه بالحرف

إن مصادر الوحي الإنجيلي لا تنسب لنفسها أنها تنزيل بالحرف؛ ويشهد واقعها أنها تنزيل بالمعنى أكثر منه بالحرف ـ وإن كان التنزيل بالحرف لكلمات المسيح ظاهر عليها أحياناً، من خلال الترجمة اليونانية التي دوّن فيها الإنجيل.

وهذا الواقع الإنجيلي فات الكثيرين وأوقعهم في شبهات على صحته وتاريخيته في حرفيته.

إن تنزيل الإنجيل بالمعنى أكثر منه بالحرف يدفع عنه ما توهموه من شبهات على أنواعها.

بحسب أحرف الإنجيل الأربعة ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 317

وهذا المبدأ، مع المبدإِ السابق في تركيز جوهر الوحي الإنجيلي على تلك الأحداث الأربعة العظام في شخصية السيد المسيح وسيرته ودعوته، يدفعان بيسر واطمئنان كل ما توهموه من تهم وشبهات.

فمن هاتين الزاويتين، إِن نسبة أسفار العهد الجديد إلى أصحابها، أي صحتها الاسمية، سواء صحّت أو لم تصح، هي ثانوية.

وتاريخية هذه الأسفار، في تفاصيلها، هي أيضاً ثانوية.

واختلاف هذه الأسفار بأساليبها في التعبير أو التفكير، هي أيضاً ثانوية.

فكل المسائل والمشاكل لا تعدّ شيئاً بالنسبة لشهادة المسيح المتواترة بالإجماع، في شهادة الرسل صحابة المسيح والتابعين لهم بإحسان، والقائمة على تنزيل الإنجيل بالمعنى أكثر منه بالحرف، وعلى شهادة مصادر الوحي الإنجيلي كلها لتلك الأحداث الأربعة العظام التي يقوم عليها الحدث المسيحي الأكبر.

فالمولد المعجز، في حقيقة جوهره وواقعه، عليه فيها إجماع متواتر.

والدعوة المعجزة، بالكلمة والخوارق وعلم الغيب والقداسة، لملكوت الله في المسيح والمسيحية، عليها فيها إجماع متواتر.

واستشهاد المسيح، شهادةً لشخصيته ودعوته، عليه فيها إجماع متواتر.

وبعث المسيح من الموت والقبر، ورفعه حيّاً إلى السماء، عليه فيها إجماع متواتر.

وهذا الجوهر، بالتنزيل بالمعنى أكثر منه بالحرف، يكفينا لنطمئن علميّاً ودينيّاً لصحة أسفار العهد الجديد، وتاريخيتها جملةً وتفصيلاً.

318 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سيرة السيّد المسيح

والتفصيل ثانوي بالنسبة للجوهر المتواتر بالإجماع. وهذا التواتر بالإجماع يقوم أيضاً على التنزيل بالمعنى أكثر منه بالحرف. فمبادئ الوحي الإنجيلي تدفع هذه الشبهات.

 

 

رابعاً : شهادة التاريخ المسيحي منذ ألفي سنة

إِن شهادة أسفار العهد الجديد كلها، للحدث المسيحي الأعظم، في أعماله الأربعة المعجزة، تؤيدها بالدعوة والدم شهادة المسيحيين بالإجماع والتواتر منذ ألفي سنة وإلى قيام الساعة، مهما قام على جوانبها من فرق تشذ عن الإجماع المتواتر، كالزبد يطفو على جوانب التيار المنحدر الجارف.

فسواءُ دُوّن الإنجيل الشفوي أم لم يدوّن؛ وسواء صحّت نسبة أسفار الوحي الإنجيلي المكتوب إلى أصحابها أم لم تصح؛ وسواء صحّت تاريخية التفاصيل في العهد الجديد أم لم تصح ـ فإن شهادة المسيحية، بالصوت الحي، وأحياناً بالدم الشهيد المسفوك، في كل زمان ومكان منذ ألفي سنة، وبالإجماع والتواتر، للحدث المسيحي الأعظم في أعماله الأربعة المعجزة، هي شهادة كافية وافية على صحة الدعوة المسيحية وتاريخيتها.

فالإجماع المتواتر بالصوت الحي هو صوت الإنجيل عبر الدهور.

لقد علَّق الرازي على قتل المسيح وصلبه ثم بعثة ورفعه حيّاً إلى السماء ( النساء 156 ـ 157 ) بقوله : (( الإشكال الخامس : إن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها، وشدّة محبتهم للمسيح وغلوّهم في أمره، أخبروا أنهم شاهدو مقتولاً مصلوباً : فلو أنكرنا ذلك، كان طعناً في ما ثبت بالتواتر؛ والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد وعيسى وسائر الأنبياء )) .

بحسب أحرف الإنجيل الأربعة ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 319

تلك هي الشهادة الحية المتواترة، القائمة على القداسة والاستشهاد، منذ ألفي سنة للحدث الأعظم في تاريخ البشرية.

 

 

خامساً : شهادة العقاد في التحقيق التاريخي العلمي

وبعد أجيال وأجيال من النقد العلمي ـ لا عبرة بالطعن السخيف الرخيص ـ فقد ثبت علميّاً وتاريخيّاً أن الإنجيل بأحرفه الأربعة هو العمدة الوحيدة الصحيحة لتاريخ المسيح ودعوته.

نكتفي بنقل رأي المرحوم الأستاذ العقاد في ( عبقرية المسيح ص 194 ـ 195 ) :

(( ليس من الصواب أن يقال : إِن الأناجيل جميعاً عمدة لا يعوّل عليها في تاريخ السيد المسيح، لأنها كُتبت عن سماع بعيد، ولم تُكتب من سماع قريب في الزمان والمكان؛ ولأنها في أصلها مرجع واحد متعدّد النقلة والنسَّاخ؛ ولأنها روت من أخبار الحوادث ما لم يذكره أحد من المؤرخين، كانشقاق القبور وبعث موتاهم وطوفهم بين الناس ـ وما تشابه لك من الخوارق والأهوال1 ...

(( وإنما الصواب إنها العمدة الوحيدة في كتابة ذلك التاريخ، وإذ هي قد تضمنّت أقوالاً في مناسباتها لا يسهل القول باختلافها؛ ومواطن الاختلاف بينها معقولة، مع استقصاء أسبابها، والمقارنة بينها وبين آثارها. ورفضها على الجملة أصعب من قبولها، عند الرجوع إلى أسباب هذا وأسباب ذاك.

ــــــــــــــــــ

(1) الأستاذ العقاد يرد بذلك على القائلين من بني ملـّته بتحريف الإنجيل، والشواهد التي بها يؤيدون مقالتهم.

320 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سيرة السيّد المسيح

فإنجيل متى، مثلاً، ملحوظ فيه أنه يخاطب ( اليهود )، ويحاول أن يزيل نفرتهم من الدعوة الجديدة؛ ويؤدي عباراته أداءً يلائم كنيسة بيت المقدس في منتصف القرن الأول للميلاد ( أي عشرين سنة بعد رفع المسيح، من شاهد عيان ).

وإنجيل مرقس، على خلاف ذلك، ملحوظ فيه أنه يخاطب ( الأمم )، ولا يتحفّظ في سرد الأخبار الإلهية التي كانت تحول بين بني إسرائيل المحافظين والإيمان بإلهية المسيح.

وإنجيل لوقا يكتبه طبيب ويقدمه إلى سريّ كبير، فيورد فيه الأخبار والوصايا من (الوجهة الإنسانية)، ويحضر في ذهنه ثقافة السري الذي أهدى إليه نسخته، وثقافة أمثاله من العلية.

وإنجيل يوحنا غلبت فيه فكرة ( الفلسفة1 )، وبدأ بالكلام عن الكلمة Logos، ووصف فيه التجسد الإلهي على النحو الذي يألفه اليونان، ومَن حضروا محافلهم، ودرجوا معهم على عادات واحدة.

وسواءُ رجعت هذه الأناجيل إلى مصدر واحد، أو أكثر من مصدر، فمن الواجب أن يدخل في الحسبان أنها هي العمدة التي اعتمد عليها قوم، هم أقرب الناس إلى عصر المسيح. وليس لدينا نحن، بعد قرابة ألفي سنة، عمدة أحق منها بالاعتماد )) .

ويضيف الأستاذ الإمام ( ص 21 ) : (( وتسقط دعوى الناقدين ـ المشككين حتى في المسيح نفسه ـ بمجرد الإحاطة بأصول المذاهب التي كانت معروفة في عصر الميلاد، لأن الدعوة المسيحية كانت تعديلاً لكل مذهب من هذه المذاهب، في ناحية من نواحيها، وكانت هذه التعديلات في جملتها تثوب إلى وحدة

ــــــــــــــــــ

(1) الأصح فكرة الصوفية المسيحية.

بحسب أحرف الإنجيل الأربعة ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 321

متماسكة من القواعد والمثل العليا ـ لا بدَّ من شخصية مستقلة عن هذه المذاهب جميعاً، قادرة على عرض شعائرها وعقائدها على محك واحد متناسق الفكر والإيمان )) .

(( فلا مسيحية بلا مسيح )) : هذا منطق العقل والتاريخ.

 

تلك هي النظرة الصحيحة، على الإجمال، في تاريخية الإنجيل لسيرة المسيح ودعوته.

وهي ليست أناجيل أربعة، كما يتوهمون. إنما هي إنجيل واحد بأربعة أحرف أي نصوص، بحسب التعبير اليوناني الأصيل في تسميتها : الإنجيل بحسب متى، الإنجيل بحسب مرقس، الإنجيل بحسب لوقا، الإنجيل بحسب يوحنا.

فالإنجيل واحد، لكنه جاء بأربعة أحرف، بسبب اختلاف البيئات الأربع التي تمَّ فيها عرض الإنجيل وتدوينه.

وحقيقة الإنجيل التاريخية واحدة، باختلاف الألفاظ والأسلوب واتفاق المعاني والموضوع. إنها شهادات أربع، من بيئات مختلفة أربع، للحدث التاريخي الواحد، يكمل بعضها بعضاً، ويؤيد بعضها بعضاً.

وهي، بعد ذلك، القصة المنزلة للحدث الأعظم في تاريخ البشرية. ولا نعلم، في الأديان كلها، أن كتبة الوحي تمتـّعوا بتأييد الروح القدس في التدوين، كما هو حال كتبة الوحي الإنجيلي.

فالإنجيل هو العمدة الوحيدة الصحيحة، تاريخاً وتنزيلاً، لسيرة المسيح.

 

الفَصلُ الأوّل

التزمينُ وَالترتيب في سِيرَة المَسيْح

بحث أول

: الواقع الإنجيليّ من حيث الترتيب الزمنيّ

   

بحث ثانٍ

: بعض الركائز التاريخيّة لسيرة المسيح

   

بحث ثالث

: تقويم لتاريخ رسالة المسيح، بحسب الإنجيل

   

بحث رابع

: الائتلاف والتكميل في الإنجيل بأحرفه الأربعة

 

التزمين والترتيب، في سيرة المسيح ــــــــــــــــــــــــــــــ 325

إن التزمين والترتيب، أي تنسيق الأحداث بحسب أوقاتها، في سيرة المسيح ورسالته، دعامة كبرى لفهمها فهماً صحيحاً.

لكن قضية الترتيب والتزمين مختلف فيها بين العلماء، بعض الاختلاف.

وهذا الاختلاف يأتي من الواقع الإنجيلي نفسه.

فإِن الإنجيل، بأحرفه الأربعة، صورة لعرض الإنجيل الواحد، بأربعة أساليب، في أربع بيئات مختلفة، اتبع فيها عرض الإنجيل طرقاً قد تختلف بعض الاختلاف في التزمين والترتيب.

وإن كتبة الوحي الإنجيلي قد دوّنوه، نقلاً عن الدعوة الرسولية في البيئات الأربع المختلفة، (( بنظرة لاهوتية أكثر منها سِيْروية )) مـن حيث الموضوع؛ ومن حيث الأسـلوب (( بطريقة تنسيقية أكثر منها زمانية )) 1. لكن ذلك لا يمس صحة الأحداث والتعاليم المنقولة في حقيقتها.

بسبب ذلك انفتح باب الاجتهاد في الترتيب والتزمين.

ونحن نحاول وضع مخطط للسيرة المسيحية يأخذ بمعطيات الإنجيل التاريخية في أحرفه الأربعة.

ــــــــــــــــــ

(1) (( Il est certain que la rédication de la communauté rimitive… a exercé une influence considérable sur la comosition des éricoes rassemblées dans nos Evangiles… a commandé leur résentation littéraire lus théologique que biograhique, ainsi que leur grouement lus systématique que chronologique )) . Benoît, O. . : Exégèse et théologie, T. I, . 119.

326 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 1

بحث أول

الواقع الإنجيلي، من حيث الترتيب الزمني

إن المشكل الأكبر، في تزمين سيرة المسيح في دعوته، قائم على الخلاف الظاهر بين الأناجيل الثلاثة المتوازية، بحسب متى ومرقس ولوقا، والإنجيل بحسب يوحنا.

فظاهر المؤتلفة المتوازية يوهم أن رسالة المسيح دامت سنة واحدة؛ وصريح الإنجيل بحسب يوحنا يشير إلى أنها دامت ما بين ثلاثة أو أربعة أعياد فصيحة ( يو 2 : 13؛ ( 5 : 1 ) ؟ 6 : 4؛ 11 : 55 مع 18 : 28 ومع 19 : 31 ).

لكن الإشارات الكثيرة المتواترة، في الأناجيل المؤتلفة الثلاثة، تشير إلى أكثر من سنة. فقد أجمعت على أن يسوع قد بدأ رسالته في الجليل بعد توقيف المعمدان في السجن. يقول مرقس : (( وبعد ما أُلقي يوحنا في السجن، أتى يسوع إلى الجليل يدعو بإِنجيل الله )) ( 1 : 14 ). فأين كان، وماذا فعل، ما بين عماده وتوقيف يوحنا ؟ويقول متى : (( ولمَّا سمع يسوع أن يوحنا قد أُوقف، انطلق إلى الجليل؛ ثم ترك الناصرة، وأتى فسكن كفرناحوم )) ( متى 4 : 12 ـ 13 ). فالإشارة صريحة إلى هجرتين، بعد توقيف المعمدان. كان يسوع في اليهودية، وعند توقيف المعمدان جاء إلى الناصرة، ثم رحل عنها إلى كفرناحوم. فالإشارة عندهما صريحة إلى دعوتين قبل الإقامة في كفرناحوم : الدعوة الأولى في اليهودية، على أيام المعمدان، ودعوة ثانية في الناصرة، قبل

الواقع الإنجيلي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 327

الهجرة النهائية إلى كفرناحوم، التي أمست (( مدينته )) ( 9 : 1 ) للدعوة العارمة في الجليل. وهذا ما يفصله الإنجيل بحسب يوحنا ( 1 : 19 ـ 4 : 3 )، وما سكت عنه المؤتلفة لحكمة رأوها، وقد نستبينها.

ومن مقابلة لوقا بيوحنا، نرى أن بدء الدعوة كان في الناصرة، بمناسبة عرس قانا الجليل، وافتتاح الدعوة العلني كان في هيكل أورشليم بمناسبة عيد الفصح الأول. إن لوقا يستجمع في لوحة واحدة ثلاث زيارات من يسوع لوطنه، الناصرة، ليرينا تطور موقف بني بلدته، وذلك من الإعجاب، إلى التردّد، حتى محاولة الاغتيال. يقول لوقا حالاً بعد خلوة يسوع الاستعدادية لمباشرة دعوته : (( حينئذٍ رجع يسوع، بقدرة الروح، إلى الجليل. وذاع خبره في تلك الناحية كلها ( بسبب معجزة الخمر في قانا الجليل ). وكان يعلم في المجامع، والجميع يشيدون بمجده. وجاءَ إلى الناصرة حيث نشأ، ودخل على عادته الجامع يوم السبت. وقـام ليقرأ )) . فقرأ نبؤة أشعيا في المسيح الموعود ( 61 : 1 ـ 2 ). ثم صرّح : (( اليوم قد تمت هذه الآية المكتوبة، على مسمع منكم! ـ وكانوا جميعاً يشهدون له، ويدهشون للكلام الطلي الذي ينطق به )) ( لوقا 4 : 14 ـ 22 ) فهذا إعلان بتورية أنه المسيح الموعود. ثم يشير لوقا إلى زيارة ثانية كانت فاشلة، قال فيها يسوع المثل المأثور (( لا كرامة لنبي في وطنه )) (لوقا 4 : 23 ـ 24). وهذه الكلمة يرددها يوحنا، بعد دعوة المسيح في اليهودية، وهجرته إلى الجليل ( يو 4 : 44 ). وإليها يشير متى بقوله : (( ثـم ترك الناصرة وأتى فسكن كفرناحوم )) ( متى 4 : 13 ). وهكذا بدأ يسوع سنته الأولى في الناصرة, وقضاها كلها في أورشليم واليهودية. ثم بدأ سنته الثانية، وهي مطلع الدعوة في الجليل، بدعوة ثانية عابرة في الناصرة، قبل الإقامة النهائية في كفرناحوم.

وهناك مشكل آخر. إن الأناجيل المؤتلفة لا تذكر بصراحة تردد يسوع، وهو في الجليل، على أورشليم؛ ولا تذكر سوى رحلة كبرى أخيرة إليها للاستشهاد.

328 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 1

وذلك بخلاف يوحنا الذي يفصّل دعوة يسوع في أورشليم بمناسبة الأعياد الكبرى فيها. لكن المؤتلفة تشير إلى ذلك من طرف خفي؛ بقولها على لسان يسوع : (( يا أورشليم! يا أورشليم! يا قاتلة النبيين، وراجمة المرسلين! كم من مرة أردت أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا! )) ( لو 13 : 34 ). فالاختلاف الظاهري يوضحه الائتلاف الباطني. ولوقا يذكر دعوة المسيح المتواترة في اليهودية، بأسلوب رحلة يسوع الكبرى إلى أورشليم، في القسم الوسيط من إنجيله ( 9 : 51 ـ 19 : 27 )، حيث ينسجم أسلوباً مع المؤتلفة، وموضوعاً مع يوحنا.

إن الحاجة إلى التزمين في رواية الإنجيل جاءت بالتدريج، حسب ظروف الدعوة الرسولية. فإن مخططها الأول ( أع 1 : 22 ) كان يفرض السكوت عن الدعوة في اليهودية، وخصوصاً في أورشليم، لتلافي الاصطدام الدامي مع السلطان والأحزاب اليهودية، كما حصل في استشهاد المسيح، ولإِيلافهم للدعوة الجديدة. لذلك جاء الإنجيل بحسب متى صورة عن الدعوة الرسولية في أورشليم؛ وجاء الإنجيل بحسب مرقس، ترجمان بطرس، صورة للدعوة الرسولية الأولى في العالم الهلنستي الروماني. لكن انتشار المسيحية في العالم الإغريقي الروماني، وحاجة المؤمنين إلى معرفة تاريخ الدعوة، حملت لوقا، وهو من المهتدين في انطاكية، إلى الجمع بين المخطط الرسولي المفروض، والصحة التاريخية التي بدأت تمشي عليها مدرسة يوحنا الرسول. فجاءَ بالقسم الوسيط من إنجيله ( 9 : 51 ـ 19 : 27 ) يذكر دعوة المسيح في اليهودية ويشير من طرف خفي إلى تفاوت أزمانها ( 9 : 51؛ 11 : 53 ـ 54؛ 13 : 22؛ 17 : 11 )؛ ثم يلتقي مع متى ومرقس اللذين يفتحان الرحلة إلى أورشليم بجدالهم في نسخ الطلاق ( مرقس 10 : 1 ـ 12؛ متى 19 : 1 ـ 12 ). فجمع لوقا بين النزعتين، المحافظة على أسلوب المخطط الرسولي الأول والنزعة التاريخية. وبعد خراب الأمة اليهودية في الحرب السبعينية، وتوطيد الدعوة المسيحية في العالم الهلنستي الروماني، جاء يوحنا،

الواقع الإنجيلي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 329

وقد زالت الأسباب الموجبة للسكوت، يفصّل تاريخ الرسالة المسيحية، ويكمّل ما سكت عنه المؤتلفة. وصفة التكميل هذه، هي التي تفسّر الفجوات التاريخية في روايته. إنه يكتفي بتكميل المؤتلفة، وهذا شهادة من الرسول الصحابي الكبير المحبوب، على صحتها وعلى تاريخيتها.

فبناءً على شهادة يوحنا الرسول، الشاهد العيان منذ اللحظة الأولى، والشاهد الأخير للدعوة المسيحية في آخر القرن الأول، أجمع علماء الإنجيل على توقيت رسالة المسيح، فجعلوها مدة سنتين ونصف، أو ثلاث سنين ونيف، بحسب التفسير المختلف للعيد المذكور في قوله : (( وبعد هذا كان عيد لليهود، فصعد يسوع إلى أورشليم )) ( يو 5 : 1 ). على المقصود بهذا العيد يقف الحل بين النظريتين.

فالإنجيل بحسب يوحنا تكميل للأناجيل المؤتلفة فيما سكتت عنه، خصوصاً الدعوة الأولى في اليهودية، ومن بعد الدعوة في الجليل، الدعوة الثانية في أورشليم واليهودية، بمناسبة الأعياد الكبرى.

 

330 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 2

بحث ثان

بعض الركائز التاريخية للسيرة المسيحية

في الإنجيل إشارات إلى تواريخ يجب أن نستوضحها على ضوء التاريخ العام، لتوقيت سيرة المسيح ودعوته.

1 ـ مولد المعمدان والمسيح على أيام هيرود الكبير

كانت البشرى بالمعمدان (( على أيام الملك هيرود )) ( لوقا 1 : 5 )؛ و (( في الشهر السادس )) منها كانت البشرى بمولد المسيح ( لو 1 : 26 ). فوُلد المسيح في بيت لحم اليهودية (( على أيام الملك هيرود )) ( متى 2 : 1 ). ولما قدم المجوس (( من المشرق )) يسألون عن المولود الملك (( اضطرب الملك هيرود وكل أورشليم معه )) ( متى 2 : 3 ). ولما مكر به المجوس (( سخط جدّاً، وأَنفذ فقتل جميع الصبيان في بيت لحم، وفي ضواحيها كلها، من ابن سنتين فما دون على حسب الزمان الذي تحققه من اليهود )) ( متى 2 : 16 ). لكن يسوع مع أمه وحاضنهما كانوا قد هربوا إلى مصر. ولما هلك هيرود ( متى 2 : 19 ) رجعوا إلى (( أرض إسرائيل )) ( متى 2 : 20 ).

ونعرف من المؤرخ اليهودي، يوسيف، إن هيرود الكبير قد مات في العام الرابع قبل الحساب الميلادي الجاري، وقبل الفصح بأيام قلائل1، وبعد أيام قلائل من خسوف القمر2.

ــــــــــــــــــ

(1) يوسيف : العاديات اليهودية ( ك 17 ف 9 ء 3 )؛ الحرب اليهودية ( ك 2 ف 1 ء 3 ).

(2) يوسيف : العاديات اليهودية ( ك 17 ف 6 ء 4 ).

بعض الركائز التاريخيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 331

وقد حسب العلماء زمن هذا الخسوف، فكان بين 12 ـ 13 من آذار من العام الرابع قبل الحساب الميلادي الجاري.

وهكذا فقد ثبت موت هيرود الكبير، في العام الرابع، قبل الحساب الجاري؛ وقبل عيد الفصح بشهر.

وينقل الأسقف المؤرخ أبيفان، وهـو فلسطيني، أن زيارة المجوس للطفل يسوع كانت (( بعد سنتين )) من مولده، وفي اليوم ذاته. فيكون مولد المسيح (( قبل سنتين )) من استشهاد أطفال بيت لحم ( متى 2 : 16 ).

فيكون تاريخ مولد المسيح في مطلع العام السادس قبل الحساب الميلادي الجاري. قضت العائلة المقدسة سنتين في بيت لحم ثم أربع سنوات في مصر.

 

2 ـ بدء دعوة المعمدان، وعماد يسوع

بدأ المعمدان دعوته (( في السنة الخامسة عشرة من ملك القيصر طيباريوس )) ( لوقا 3 : 1 ). بهذا التوقيت أدخل لوقا دعوة المعمدان والمسيح في سلك التاريخ العام. وقد ذكر لوقا معه تواريخ أخرى لتحديد بدء التاريخ المسيحي في العالم ( لو 1 : 1 ـ 3 ).

لكن طيباريوس اشترك مع الملك مع القيصر أغسطوس قبل وفاة هذا بسنتين. فهل يقصد لوقا بدء حكم طيباريوس، أم وقت انفراده بالملك بعد وفاة أغسطوس ؟ يميل العلماء إلى القول الثاني.

ونعرف أن يسوع، يوم عماده، كان له من العمر (( نحو ثلاثين سنة )) (لو 3 : 23). وقوله (( نحو )) يشير إلى أكثر من ثلاثين، لكنه ذكر (( الثلاثين سنة )) ، لأنها السن الشرعية عند اليهود في ذلك الزمان لتولي مهمة في المجتمع.

332 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 2

وهناك إشارة أخرى تاريخية عند يوحنا. ففي الفصح الأول من دعوته، يقول يسوع لليهود : (( انقضوا هذا الهيكل، وأنا أقيمه في ثلاثة أيام! فقال اليهود : في ست وأربعين سنة بُني هذا الهيكل، وأنت تقيمه في ثلاثة أيام! )) ( يو 2 : 19 ـ 20 ).

ونعرف من مقارنة المؤرخ اليهودي يوسيف، بالمؤرخ الروماني كسِّيوس الذي يجعل بناء الهيكل بمناسبة زيارة القيصر أغسطوس لسورية ( وكانت فلسطين من ولايتها )، عام عشرين قبل الحساب الجاري، أن (( ستاً وأربعين سنة )) تنتهي عام 27 ميلادية أي في الفصح الأول من دعوة المسيح ومن تحديه لهم.

فتكون دعوة المعمدان قد بدأت عام 26 ميلادية، على الأقل. وعماد المسيح قد وقع عام 27، والفصح الأول كان في العلم 27 نفسه.

والتقليد الشرقي القديم يجعل عماد المسيح في السادس من كانون الثاني. وعليه تجري الكنائس الشرقية في القدس الشريف حتى اليوم. وقداسة البابا بولس السادس قد جعل زيارته لكنيسة المهد في بيت لحم في السادس من كانون الثاني عام 1964. وكنا من الحاضرين.

وهكذا فإِن عماد المسيح وبدء دعوته كانا في مطلع العام 27 من الحساب الميلادي الجاري.

 

3 ـ مدة دعوة السيد المسيح

إِنها تتراوح بين سنتين ونصف، وثلاث سنوات ونيف، على حسب تفسير قوله: (( عيد اليهود )) ( يوحنا 5 : 1 ).

فإِن يوحنا يحدّد تواريخ الدعوة بأعياد اليهود، ويذكر صريحاً ثلاثة أعياد

بعض الركائز التاريخيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 333

للفصح ( 2 : 13 و23؛ 6 : 4؛ 11 : 55 ). ويذكر أيضاً دعوة في (( عيد اليهود )) بمناسبة شفاء مقعد أورشليم ( يو 5 : 1 ). فما هو هذا العيد ؟

بعضهم يقول : (( عيد اليهود )) يعني عيداً غير الفصح لأن يوحنا لا يحدده بحسب عادته. لكن ترتيب الفصول والأحداث عند يوحنا يحرجهم. لذلك فهم يقترحون تأخير الفصل الخامس من يوحنا، على الفصل السادس؛ فيكون العيد المذكور عيد العنصرة، يليه عيد الخيام ( يو 7 : 2 )، ثم عيد التجديد ( يو 10 : 22 )، ثم عيد الفصح الأخير ( يو 11 : 55 مع 18 : 28 مع 19 : 31 ). فتكون الأعياد التي يذكرها يوحنا، ما عدا الفصح الأول ( يو 2 : 13 و23 )، قد وقعت كلها في السنة الثانية من دعوة المسيح، ما بين الفصح الثاني ( يو 6 : 4 ) وفصح الاستشهاد.

وبعضهم يقول : إن التعبير (( عيد اليهود )) ، يعني الفصح؛ وهو مثل قوله : (( وكان الفصح، عيد اليهود قد اقترب )) ( 6 : 4 ). وحين لا يعني التعبير الفصح، فيوحنا يحدده بقرينة كقوله: (( وكان عيد اليهود، عيد الخيام، قد قرب )) (يو 7 : 2). فالتعبير المطلق (( عيد اليهود )) أو (( عيد لليهود )) يقصد فصحهم أي عيدهم الكبير. وما التنكير في التعبير إلاَّ للتعظيم المعهود؛ وما ( أل ) التعريف في اللغة اليونانية الشائعة بمحتومة في مثل هذه المواطن. وهكذا فهم يحافظون على ترتيب الإنجيل بدون تقديم وتأخير، ويبقى الفصل الخامس من يوحنا في مكانه؛ والمقصود هو عيد الفصح. وهو الفصح الثاني الذي حجّ فيه المسيح إلى أورشليم أثناء دعوته. وكان الفصح الوحيد مدة دعوته في الجليل. فيه اصطدم المسيح بالسلطات والأحزاب اليهودية مباشرة للمرة الأولى. لذلك في الفصح الثالث ( يو 6 : 4 ) لم يشأ أن يصعد إلى أورشليم : (( فكان يسوع يتجول في الجليل ولم يشأ أن يتجول في اليهودية لأن اليهود كانوا يطلبون قتله )) ( يو 7 : 1 ). وهكذا فهم يعتبرون، ونحن معهم، أن دعوة المسيح

334 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 2

دامت ثلاث سنين ونيّفاً، ما بين أربعة أعياد فصيحة. ( يو 2 : 13 و23؛ 5 : 1؛ 6 : 4؛ 11 : 55 ).

ويرد الفريق الأول بأن الأحداث المذكورة في الإنجيل، للسنة الأولى لا تملأ فراغها. فهم لا يجدون فيها سوى أحداث الفصح الأول ( يو 2 : 13 ـ 23 ) ومعجزة قانا، وشفاء ابن قائد حامية كفرناحوم ( يو 4 : 46 ـ 54 )، ودعوة يسوع العابرة في جوار المعمدان قبل توقيفه ( يو 3 : 22 ).

لكن فاتهم أن السيد المسيح ترك المعمدان في الواجهة يشهد له، وهو يعتز بشهادته. وفاتهم أيضاً أن دعوة المسيح، على أيام المعمدان، كانت بالعماد على طريقته ( يو 3 : 22 ـ 24 ). وفاتهم أخيراً ما قاله يوحنا، وهو يصح خصوصاً على هذه الفترة : (( وصنع يسوع أيضاً أشياء أخرى كثيرة، فلو أنها كُتبت واحداً فواحداً، لما خلت العالم نفسه يسع الصحف المكتوبة )) ( يو 21 : 25 ). وسنرى عند التفصيل أن هذه السنة الأولى لم تكن فارغة.

وهكذا فإن الواقع الإنجيلي يشهد بأن دعوة المسيح دامت ثلاث سنين، بين أربعة أعياد فصحية، وبضعة أشهر ما بين العماد والفصح الأول. فإذا صح وهو لدينا صحيح1، أن العماد كان في 6 كانون الثاني من العام 27 م، فإن الزمن ما بين العماد والفصح الأول ( يو 2 : 13 ـ 23 ) كان نحو ثلاثة أشهر.

والشهرستاني في كتابه (الملل والنحل ج 1 ص 201) ينقل عن المسيحيين الشرقيين (( إن دعوة عيسى دامت ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام )) . فتأمل المطابقة التامة ما بين التاريخ الشرقي والواقع الإنجيلي.

 

ــــــــــــــــــ

(1) كان المسيحيون الأوائل يعيّدون لمولد المسيح وعماده في يوم واحد يسمونه (( عيد الظهور الإلهي )) . وفصل عيد الميلاد عن عيد الغطاس لم يكن للتاريخ، بل لردّ المسيحية على الوثنية في تعييدها للإله الشمس، الممثل في قيصر، يوم 25 كانون الأول. لذلك يسمي النشيد المسيح (( شمس العدل )) .

بعض الركائز التاريخيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 335

4 ـ بدء رسالة المسيح ـ السنة الأولى من دعوته

إِن متى ( 3 : 12 ) ومرقس ( 1 : 14 ) يجزمان بأن دعوة المسيح في الجليل قد بدأت بعد توقيف المعمدان في السجن. لكن ما بين عماد المسيح وتوقيف المعمدان زمان.

ولوقا الذي توخّى الدقة في نقل السيرة منذ أوائلها ( 1 : 3 )، ينقل لنا إن بدء دعوة المسيح كان في الناصرة، حالاً بعد العماد وصوم يسوع الاستعدادي. فقد أعلن يسوع بتورية، من استشهاده بنبؤة أشعيا، أنه المسيح الموعود ( لوقا 4 : 14 ـ 22 ). فمطلع رسالة يسوع كان في الناصرة وجوارها.

وهذا التاريخ الصحيح عند لوقا ينسجم مع تكميل يوحنا، شاهد العيان منذ الساعة الأولى. فقد كانت الدعوة الأولى في الناصرة وجوارها، كما يذكر لوقا، بمناسبة عرس قانا الجليل الذي يذكره يوحنا.

كان عماد يسوع في 6 كانون الثاني عام 27 م. ثم اختلى في البرية (( أربعين يوماً، حيث جربه إبليس )) ( لوقا 4 : 1 ـ 2 ). فكانت نهاية هذا الصوم الأربعيني، في 16 شباط عام 27 م.

وينقل لنا يوحنا الأسبوع الأول من ظهور يسوع للدعوة، في الأردن، لدى المعمدان، يوماً فيوماً حتى عرس قانا الجليل ( يو 1 : 19 ـ 2 : 11 ). ففي عرس قانا (( أظهر مجده فآمن به تلاميذه )) ( يو 2 : 11 ). وكان ذلك نحو 23 شباط.

وبمناسبة عرس قانا الجليل كان افتتاح دعوة المسيح في الناصرة، (( وكان يعلّم في الجوامع، والجميع يشيدون بحمده )) ، كما يقص لوقا ( 4 : 14 ـ 22 ).

دامت هذه الدعوة الأولى في الناصرة وجوارها إلى قرب الحج إلى الفصح.

336 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 2

(( وبعد ذلك، انحدر هو وأُمه وأخوته ( أي عشيرته ) وتلاميذه إلى كفرناحوم، حيث أقاموا أياماً قليلة. وكان فصح اليهود قد اقترب، فصعد يسوع إلى أورشليم )) (يو 2 : 12 ـ 13). فتكون الدعوة الأولى في الناصرة، والحج إلى أورشليم، قد شغلا شهر آذار من عام 27 م.

وكان إعلان الدعوة المسيحية الصارخ في عاصمة الدين والدولة، وفي هيكل الله بأورشليم، بعمل رمزي، وهو تطهير الهيكل من تجار الدين ( يو 2 : 13 ـ 22 ). وأكمل يسوع دعوته (( في غضون عيد الفصح، فآمن كثيرون باسمه عند رؤيتهم المعجزات التي كان يجريها )) ( يو 2 : 23 ). وكان سلطان يسوع عظيماً في دعوته بالكلمة والمعجزة حتى أن نيقوديم، العالم الفريسي، وأحد أعضاء السنهدرين، قد وافى إليه ليلاً يباحثه في الدين، ورجع تلميذاً سرّيّاً له ( يو 3 : 1 ـ 21 ). دامت دعوة يسوع في أورشليم شهر نيسان عام 27 م.

(( وبعد ذلك، قدم يسوع وتلاميذه إلى أرض اليهودية. وأقام هناك معهم، وكان يعمد. وكان يوحنا أيضاً يعمد في (( العيون )) ، بقرب ساليم1، لوفرة الماء هناك. وكان الناس يأتون ويعتمدون. لأن يوحنا لم يكن بعد قد أُلقي في السجن )) ( يو 3 : 22 ـ 24 ). وكانت دعوة المسيح بالعماد ناجحة حتى غطت على دعوة المعمدان فاغتاظ تلاميذه ( يو 3 : 25 ـ 36 ).

كم مدة من الزمن دامت هذه الدعوة الأولى في اليهودية ؟ بحسب متى ( 3 : 12 ) وبحسب مرقس ( 1 : 14 )، قد دامت حتى توقيف المعمدان في السجن. وهذا التوقيف متى جرى ؟ نظن أنه جرى في أواخر العام 27 م. فإِن يوحنا يعطي، لهجرة المسيح بدعوته إلى الجليل، سبباً آخر، وهو تخوّف الفريسيين من ازدياد شعبية يسوع ( يو 4 : 1 ـ 3 ). فتوقيف المعمدان، ومضايقة الفريسيين، حملا يسوع على الهجرة إلى الناصرة. وعلى طريق هجرته، كانت دعوته للسامرية والسامريين في سيخار ( 4 : 7 ـ 42 ). وفي حديثه

ــــــــــــــــــ

(1) ساليم والعيون بلدتان في الغور الأردني الغربي تجاه منطقة السامريين.

بعض الركائز التاريخيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 337

حينئذٍ مع التلاميذ يقول لهم : (( أَفلا يقولون : أربعة أشهر أيضاً، ويأتي الحصاد )) ( يسوع 4: 35 ). وهذا يشير إلى أننا في شتاء 27 م.

فتكون دعوة المسيح الأولى في اليهودية قد دامت إلى أواخر السنة الأولى من رسالته، نحو ثمانية أشهر، في ظل المعمدان.

هذه المدة ينقل لنا لوقا أحداثها في الجزء الأول من القسم الوسيط في إنجيله ( لو 9 : 51 ـ 11 : 53 ـ 54 ). وفيها بعثة الاثنين والسبعين تلميذاً إلى أطراف اليهودية، فقد صار له إذن تلاميذ يدعـون له. وضيـافة يسوع في بيت عنيا عند لعـازر وأختيه، وتعليم صلاة (( أبانا )) ، وتهمتهم له بأن به جِنّة، بعل زبول رئيس الشياطين، وجدالهم له بطلب آية من السماء، ودعوة يسوع إلى عند أحد الفريسيين، وحملة يسوع عليهم ( لوقا 11 : 37 ـ 52 ). (( ولما خرج من هناك، أخذ الكتبة والفريسيون يوغرون صدورهم عليه جدّاً، ويتعنتونه بالأسئلة عن شتى الأمور. وهم يكيدون له ليصطادوا كلمة ما من فمه )) ( لوقا 11 : 53 ـ 54 ). وهذا ما يأتلف مع السبب الذي أعطاه يوحنا لهجرة يسوع إلى الجليل ودعوته فيه ( يو 4 : 1 ـ 3 ).

 

5 ـ موت المسيح : اليوم، والشهر، والسنة

نذكر إن اليوم كان يبدأ عند اليهود، من غروب النهار السابق إلى غروب اليوم نفسه. فيوم الجمعة يبدأ مساء الخميس بعد الغروب.

وهكذا يكون استشهاد المسيح دام عشرين ساعة، إذا استثنينا فترة العشاء السري ثم فترة التنزيل عن الصليب والتكفين والدفن قبل حلول يوم السبت مساء الجمعة بعد الغروب.

338 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 2

لقد أجمعت المصادر الإنجيلية على أن السيد المسيح مات شهيداً يوم الجمعة ( متى 27 : 62؛ مرقس 15 : 42؛ لوقا 23 : 54؛ يوحنا 19 : 31 ).

فلم يكن موت المسيح بحال يوم السبت، 15 نيسان عبري أو 8 نيسان الجاري، (( لأن ذلك السبت كان يوماً عظيماً )) ( يو 19 : 31 ) بسبب السبت وبسبب الفصح الواقع فيه، وهما مانعان عظيمان من العمل. وفي الإنجيل إشارة إلى أن يوم موت المسيح كان يوم عمل وشغل: فسمعان القيرواني يُصادر وهو راجع من الحقل، ليحمل الصليب مع المسيح ( متى 27 : 32؛ مرقس 15 : 21؛ لوقا 23 : 36 )؛ وتنزيل المسيح عن الصليب وتكفينه ودفنه عمل لا يحوز يوم السبت (متى 27 : 57 ـ 60؛ مرقس 15 : 42 ـ 46؛ لوقا 23 : 54). ومرقس يصرّح أنه تمَّ (( إِذ كانت التهيئة )) ، أي ليلة السبت ( 15 : 42 ـ 47 ).

والإجماع في الإنجيل بأحرفه الأربعة أن قيامة المسيح تمت يوم الأحد، وهو (( أول الأسبوع )) ( يو 20 : 1؛ متى 28 : 1؛ مرقس 16 : 9؛ لوقـا 24 : 1 )، كمـا تعنيه كلمة (( أَحد )) العبرية الأرامية، أي (( أول )) ، واحد.

والمسيحيون، منذ عهد الرسل، يحتفلون بذكرى استشهاد المسيح يوم الجمعة العظيمة، وذكرى قيامة المسيح، يوم الأحد بعدها، أحد الفصح. وفي كتاب (( تعليم الرسل ـ ف 8 )) ، وهو من بعد العهد الرسولي، نجد وصفاً لعادة المسيحيين بالصوم يوم الجمعة إكراماً لموت المسيح، والتعييد يوم كل أحد، إكراماً لقيامة المسيح.

لكن في أي يوم من الشهر وقع يوم الجمعة العظيمة، يوم موت المسيح ؟

نعرف أن اليهود يقيمون فصحهم في 15 نيسان عبري، فتكون (( تهيئة الفصح )) في 14 نيسان عبري. هذا ما يحدّده مرقس، ساعة دفن المسيح : (( إِذ كانت التهيئة )) ، أي ليلة السبت ( 15 : 42 ). وهذا أيضاً ما يحدده يوحنا

بعض الركائز التاريخيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 339

ثلاث مرات : حين تقديم يسوع إلى بيلاطس لتنفيذ حكم الإعدام، (( لم يدخلوا دار الولاية، خشية أن يتنجسوا فيمتنعوا عن أكل الفصح )) ( 18 : 28 )؛ وحين إصدار بيلاطس حكم الإعدام صلباً، (( كان تهيئة الفصح، وكان نحو السادسة )) ( يو 19 : 14 ) أي عند الظهر؛ وحين دفن المسيح، (( إذ كان يوم التهيئة، فلئلاَّ تبقى الأجساد على الصليب ـ لأن ذلك السبت كان يوماً عظيماً ( لاجتماع السبت والفصح معاً ) ـ سأل اليهود بيلاطس أن تُكسر سوقهم، ويُقضى عليهم )) ( يو 19 : 31 ).

إن (( يوم التهيئة )) هو عندهم على الإطلاق يوم الجمعة من كل أسبوع استعداداً للسبت. وبـما أن (( ذلك السبت كان يومـاً عظيماً )) لاجتماع السبت والفصح فيه معـاً كانت (( التهيئة )) مزدوجة : للسبت وللفصح معاً. فمات المسيح يوم ذبح الحمل الفصحي عندهم، أي يوم الجمعة، ليكون هو الحمل الفصحي المضحّى عن العالم كله.

وهكذا يكون موت المسيح قد وقع نهـار (( تهيئة السبت )) أي كان في تلك السنة نهار (( تهيئة الفصح )) ( يو 19 : 14؛ 19 : 31 )، أي في 14 نيسان عبري. فيكون الفصح اليهودي في تلك السنة، يوم 15 نيسان عبري، أي يوم (( سبت النور )) عند المسيحيين.

والإشارة التاريخية اللطيفة، عند مرقس ويوحنا، التي تجمع السبت والفصح معاً، تحدّد السنة لموت المسيح وقيامته. فإن اجتماع السبت والفصح معاً قد وقع، على الحساب الجاري، في 11 نيسان عام 27؛ وفي 7 نيسان عام 30؛ وفي 3 نيسان عام 33.

وبما أن يوم السبت يبدأ عندهم، بعد غروب نهار الجمعة، فإن القرائن التاريخية والإنجيلية معاً تضطرنا إلى اختيار نهار 7 نيسان عام 30 م لموت المسيح، ونهار 9 نيسان عام 30 م لقيامة المسيح.

340 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 2

وبما أن مولد المسيح كان في بدء العام السادس قبل الحساب الجاري؛ واستشهاده كان في 7 نيسان عام 30 على الحساب الجاري؛ فإن السيد المسيح أنهى دعوته بالاستشهاد، وله من العمر نحو 35 سنة 1.

 

6 ـ متى وقع الفصح الموسوي، يوم استشهاد المسيح ؟

ما بين الأناجيل المؤتلفة ويوحنا خلاف ظاهر على تحديد يوم الفصح : هل كان يوم الجمعة أم يوم السبت ؟

ففي الأناجيل المتوازية نرى الفصح، وهو (( اليوم الأول من الفطير )) ، واقعاً يوم الجمعة؛ بينما يوحنا صريح بأنه كان يوم السبت في تلك السنة. على كل حال يوم 15 نيسان عبري.

فمتى يقول على لسان يسوع يوم الثلاثاء : (( قال لتلاميذه : إن الفصح على ما تعلمون بعد يومين، وابن البشر يُسلم للصلب )) ( 26 : 1 ـ 2 )، فهو يجمع الفصح اليهودي وصلبه معاً. ثم يقول : (( وفي اليوم الأول من الفطير )) ( 26 : 17 ) اتفق يسوع مع رسله على أكل الفصح في المدينة المقدسة نفسها. وهذا اليوم الأول من الفطير يبدأ، على عادتهم، بعد غروب اليوم السابق وهنا مساء الخميس فاتحة الفصح.

هذا ما يقوله أيضاً مرقس مساء الثلاثاء : (( وكان الفصح والفطير بعد يومين ... (أي يوم الجمعة ...) وفي اليوم الأول من الفطير الذي فيه يذبح الفصح، أرسل اثنين إلى أورشليم فأعدّا الفصح ( 14 : 1 و12 و16 ). فمرقس أيضاً يجعل

ــــــــــــــــــ

(1) لا ينقض ذلك قول لوقا في عماده : (( كان له نحو ثلاثين سنة )) ( 3 : 23 )، فإن كلمة (( نحو )) تشير إلى أكثر من ثلاثين؛ وهو إنما اختار سنة (( ثلاثين )) مع الإشارة إلى أكثر دليلاً على بلوغه السن الشرعي لمباشرة رسالته.

بعض الركائز التاريخيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 341

الفصح الموسوي نهار الجمعة، وتهيئة الفصح نهار الخميس، وأكل الفصح يوم الجمعة أي في مطلعه بعد غروب شمس الخميس.

وهذا ما يقوله أيضاً لوقا : (( وكان عيد الفطير، المسمى الفصح، يقترب ... وحل يوم الفطير الذي فيه يجب أن يُذبح الفصح، فأرسل يسوع بطرس ويوحنا ... وأعدا الفصح. ولما أتت الساعة أتكأَ مع الرسل )) ( لوقا 22 : 1 و7 و13 و14 ). لوقا الأجنبي عن إسرائيل يستوضح التفاصيل ويوضحها : فالفصح هو أيضاً عيد الفطير. والتلميذان هما بطرس ويوحنا. لاحظ التطور الملموس في الإيضاح : أأَجمل متى، وأأَفرز مرقس، وسمّى لوقا التلميذين. وإن الساعة لأكل الفصح كانت مساء الخميس.

ففي الأناجيل المؤتلفة وقع الفصح الموسوي يوم الجمعة، فكانت تهيئة الفصح يوم الخميس. (( ولما أتت الساعة اتكأ مع الرسل وقال لهم : لقد اشتهيت جدّاً أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم )) ( لوقا 22 : 14 ـ 15 ). فساعة أكل الفصح تقع في بدء يوم الفصح أي بعد الساعة السادسة، مساء الخميس، على حسابنا.

ثم يأتي يوحنا، الذي هيأ الفصح مع بطرس، ويصرّح : (( وقبل عيد الفصح ... نهض عن العشاء )) وغسل أرجل رسله ( 13 : 1 و4 ). فيظهر أن يوحنا يؤكد أن أكل الفصح الموسوي تمَّ قبل يوم العيد : لأن العيد في نظره وقع تلك السنة يوم السبت ( 19 : 31 ). لذلك، (( لما جاؤوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية ـ وكان الصبح ـ لم يدخلوا إلى دار الولاية خشية أن يتنجسوا، فيمتنعوا عن أكل الفصح )) ( 18 : 28 ). فتم استشهاد المسيح (( إذ كان يوم التهيئة )) ( 19 : 31 )، (( وإذ كانت تهيئة اليهود، وكان القبر قريباً وضعا يسوع هناك )) ( 19 : 42 ). إن يوحنا الرسول الصوفي الكبير يربط بين ذبح الحمل الناموسي نهار الجمعة وبين استشهاد المسيح، (( حمل الله )) كما سماه المعمدان ( 1 : 29 ).

342 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 2

هذا هو الواقع الإنجيلي، وظاهره خلاف بين يوحنا وبين المؤتلفة، على وقوع الفصح اليهودي، هل كان يوم الجمعة أو يوم السبت.

لكن لا خلاف على ليلة العشاء السري، التي كانت مساء الخميس.

أما الخلاف بين يوحنا والمؤتلفة على يوم الفصح، الجمعة أم السبت، فهو خلاف ظاهري، لأن ظروف الاستشهاد عند المؤتلفة أنفسهم تدل على أنه لم يكن يوم الجمعة يوم عطلة عندهم؛ فإِن تنقلات رؤساء اليهود للسعي ما بين بيلاطس وهيرود، وما بين دار الولاية وجبل الجلجلة، توحي بأنهم لم يكونوا في عطلة شرعية مفروضة.

وهذا يشير إلى خلاف بين القوم على يوم الفصح. كانوا يتبعون الحساب القمري؛ ورؤية الهلال هي التي تقرّر يوم الفصح، كما في أيامنا عند المسلمين. فربما حصل خلاف على رؤية الهلال ما بين أورشليم، وأهل الجليل، ورسل المسيح جليليون يتبعون نظام قومهم.

وكان خلاف مستحكم بين الفريسيين وبين الصدوقيين أهل الكهنوت. فلما كان الفريسيون يرون هلال العيد يوماً قبل الصدوقيين كانوا يسبقونهم يوماً بالاحتفال بالفصح. وقد يكون هذا ما وقع تلك السنة. فاحتفل يسوع بأكل الفصح قبل يوم بحسب اجتهاد الفريسيين. فكان المؤتلفة صدى هذا الاجتهاد، وكان يوحنا صدى اعتقاد الكهنوت الرسمي عند الصدوقيين. وكان الفريقان يتساهلان في ذلك ليسمحوا لكهنتهم بالوقت الكافي لذبح الحمل الفصحي لآلاف المواطنين وآلاف الحجاج وآلاف المهاجرين الوافدين للعيد.

ومع الخلاف على رؤية القمر كان بين الفريسيين وبين الصدوقيين خلاف في الاجتهاد إذا وقع الفصح والسبت معاً كما في تلك السنة. فكان الصدوقيون أهل الكهنوت يُفتون بجمع السبت والفصح معاً ـ وهذا ما يذكره يوحنا ـ بينما

بعض الركائز التاريخيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 343

الفريسيون كانوا يفصلون ما بين الفصح والسبت، فيقدمون الفصح إذا وقع مع السبت، وهذا ما نرى صداه في رواية الأناجيل المؤتلفة.

فالخلاف بين يوحنا والأناجيل المؤتلفة في تحديد يوم الفصح، في تلك السنة، ليس خلافاً بين الأناجيل، إنما هو صورة للخلاف الذي وقع بين اليهود، في تلك السنة، على يوم الاحتفال به، الجمعة أم السبت، بسبب الخلاف على رؤية هلال العيد، وبسبب الخلاف على اجتماع الفصح والسبت معاً 1.

إِن يوحنا (( الذي كان معروفاً عند رئيس الكهنة )) ( يو 18 : 15 ) تبع اجتهاد الصدوقيين، أهل الكهنوت، في جمع الفصح والسبت معاً؛ والمؤتلفة اتبعوا اجتهاد الفريسيين، وربما الجليليين أيضاً في فصل الفصح عن السبت.

فالخلاف الظاهر يصلحه ائتلاف باطني قائم.

 

7 ـ إِمامنا في تزمين وترتيب أحداث السيرة المسيحية

إِن إمامنا هو الإنجيل بأحرفه الأربعة. لكن استخدام الإنجيل بأحرفه الأربعة، في تاريخ علمي للسيرة والدعوة، يختلف باختلاف أهداف كتبة الوحي الإنجيلي.

ــــــــــــــــــ

(1) طلعت إحدى العالمات بنظرية جديدة تقول إن يسوع أكل الفصح مع رسله يوم الثلاثاء العظيمة، وأوقف يوم الأربعاء، وتم التحقيق معه يوم الخميس، وصدر قرار السنهدرين بإعدامه صباح الجمعة، كما يقتضي التلمود بفصل الحكـم عن التحقيق، ونفـّذ بيلاطس الإعـدام يوم الجمعة. وتسـتند هـذه النظرية إلى شهادة (( ذيذسكاليا الرسل )) ( ف 21 ) ـ وهي من القرن الثالث ـ وإلى شهادة الأسقف أبيفان، وغيرهما، وكانت هذه عادة الأسينيين ورهبان قمران الذين هم قرابة في التعليم مع الإنجيل.

لكن هذا التصريح ينقضه صريح الإنجيل، كما رأينا؛ وينقضه تصريح علمـاء الكنيسة منذ العام 165 م. الذين يذكرون الاحتفال بالعشاء السري مساء الخميس. أخيراً ما كان يسوع لينحاز إلى فرقة تعادي السلطات اليهودية القائمة ( 23 : 3 ).

344 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 2

فنعرف أن متى يتبع في روايته ترتيباً تنسيقيّاً بيانيّاً، بأسلوب كلامي، أكثر منه ترتيباً تاريخيّاً. وهو يقتصر على الإنجيل الجليلي. ومن تنسيقه جمع تعليم المسيح في خمس خطب طوال.

ونعرف أن لوقا يهدف إلى تاريخ السيرة والدعوة بتدقيق وترتيب ( 1 : 1 ـ 4 ). فتحقق أن يسوع قام بدعوته مرتين في اليهودية، قبل الدعوة في الجليل وبعدها. لكنه انسياقاً مع المخطط الرسولي للدعوة الإنجيلية، حافظ على رحلة واحدة قام بها يسوع إلى أورشليم بعد الدعوة في الجليل، فاتخذها أسلوباً بيانيّاً أورد فيه دعوة يسوع الأولى والثانية في اليهودية، مع إِشارات لطيفة إلى تواترها وتطورها. فهو الشاهد الوحيد لتفصيل تعليم المسيح في اليهودية، لكن بدون تحديد الأمكنة والأزمنة، لينسجم مع أسلوب الرحلة الكبرى إلى أورشليم.

ونعرف أن مرقس يتبع الترتيب التاريخي الواقعي. لكنه بحسب المخطط الرسولي يقتصر على الإنجيل الجليلي، فيقسمه إلى سبع جولات في الجليل، ثم إلى سبع رحلات إلى خارج الجليل خصوصاً. فهو الشاهد الوحيد للتدقيق العلمي في تاريخ السيرة والدعوة في الجليل.

أخيراً يأتي يوحنا، وقد زالت المحاذير للسكوت عن الدعوة في أورشليم، فينقل لنا الإنجيل الأورشليمي. وهو الشاهد الوحيد له في تفاصيله. ويجعل محور روايته الأعياد اليهودية في العاصمة. والتكميل الثاني عند يوحنا هو التفصيل التاريخي للدعوة والسيرة في أورشليم واليهودية والجليل. وهو يكتفي بما نقله سابقوه، لكنه يوضح تطور الدعوة التاريخي عندهم. فيذكر أولاً دعوة المسيح الأولى في أورشليم واليهودية ( 1 : 19 ـ 4 : 3 ). ثانياً ينقل من الدعوة في الجليل فاتحتها ( 4 : 43 ـ 54 )؛ وعقدتها في رحلة خاطفة إلى (( عيد اليهود )) في أورشليم ( 5 كله )، التي غيّر بعدها أسلوب دعوته في الجليل؛ وخاتمتها بخطاب

بعض الركائز التاريخيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 345

يسوع في جامع كفرناحوم، بعد معجزة تكثير الخبز، في (( خبز الحياة النازل من السماء )) ، والذي بعده (( ارتد عنه كثيرون من تلاميذه )) ( 6 كله ). ثالثاً يختص بتفصيل الدعوة في أورشليم، في الأشهر الستة الأخيرة من رسالته ( ف 7 ـ 12 ). ويكتفي بما نقله لوقا عن الدعوة الأولى والثانية في اليهودية. فلوقا ينقل الدعوة في اليهودية وشرق الأردن، ويوحنا يعطينا فاتحتها في عيد الخيام، وعقدتها في عيد التجديد، وخاتمتها في إحياء لعازر وخلوة يسوع في أفرائيم.

فصفة التكميل هي التي تجمع وتؤالف بين يوحنا وبين المؤتلفة.

فالأناجيل الأربعة وحدة متكاملة، يكمّل بعضها بعضاً، ويفصّل أحدها ما أَوجزه الآخرون، كما تدل على ذلك الإشارات المتواترة فيها جميعاً. وليس ما سكت عنه أحدهم بحجة للطعن في صحة ما نقله الآخر أو الآخرون. فالنقل والسكوت فيها جميعاً تابعان لظروف البيئة التي تم فيها التدوين وللأهداف الخاصة بكل إنجيل.

فالإنجيل واحد بأربعة أحرف متكاملة. لكنها تتفاوت بالترتيب والتزمين، بحسب ظروف البيئة والتدوين.

فرائدنا الأول في التزمين والترتيب لسيرة المسيح ودعوته هو أولاً الإنجيل بحسب يوحنا؛ ثم الإنجيل بحسب مرقس؛ ويأتي بعد ذلك الإنجيل بحسب لوقا والإنجيل بحسب متى.

 

346 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 3

بحث ثالث

تقويم لتاريخ الرسالة المسيحية بحسب الإنجيل

 

نعتمد في هذا التقويم على ثلاثة مبادئ :

المبدأ الأول، وهو تاريخ مولد المسيح والمعمدان. وقد رأينا أنه كان في بدء العام السادس قبل الحساب الجاري. وعليه نعتبر أن دعوة المسيح بدأت يوم عماده في السادس من كانون الثاني سنة 27 ميلادية.

المبدأ الثاني، وهو مدة دعوة المسيح. نعتبر أن دعوة المسيح دامت ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، كما يتضح لنا من الواقع الإنجيلي ومن التاريخ الشرقي القديم الذي نقله الشهرستاني.

المبدأ الثالث، وهو رائدنا في تقويم السيرة والدعوة. إِننا نعتمد، في الإطار التاريخي العام، على الإنجيل بحسب يوحنا؛ وعلى الإنجيل بحسب مرقس في تفصيل أحداث الدعوة في الجليل؛ وعلى الإنجيل بحسب لوقا في تفصيل أحداث الدعوة الأولى والثانية في اليهودية وشرق الأردن؛ وعلى الإنجيل بحسب متى في تطور الدعوة إلى ثلاث مراحل تاريخية يفتتحها الإنجيل بتعبير واحد لاستلفات النظر ( متى 4 : 7؛ 11 : 20؛ 16 : 21 ).

 

تقويم لتاريخ رسالة المسيح ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 347

السنة الأولى، عام 27 م. ـ الدعوة الأولى في أورشليم واليهودية

أولاً ـ افتتح المسيح رسالته بعماده، في 6 كانون الثاني عام 27 م.

ثانياً ـ الخلوة الاستعدادية بالصوم والصلاة والتجربة لرسالته مدة (( أربعين يوماً )) ، على جبل قرب أريحا، حتى 16 شباط.

ثالثاً ـ الأسبوع الأول من رسالة المسيح، بجوار المعمدان، في بيت عنيا الأردنية، أوصله إلى قانا الجليل ( يوحنا 1 : 9 ـ 2 : 12 ) في أواخر شباط.

رابعاً ـ افتتاح الدعوة المسيحية في جامع الناصرة وجوارها (لوقا 4 : 16 ـ 22)، وذلك في آذار عام 27 م.

خامساً ـ الحج من الناصرة إلى أورشليم، في أواخر آذار عام 27 م. (( وبعد ذلك انحدر هو وأمه وأخوته ( عشيرته ) وتلاميذه إلى كفرناحوم، حيث أقاموا أياماً قليلة. وكان فصح اليهود قد اقترب فصعد يسوع إلى أورشليم )) ( يوحنا 2 : 12 ـ 13 ).

سادساً ـ إعلان الـدعوة المسيحية في هيكل أورشليم بمناسبة الفصح الأول عام 27 م. ثم الدعوة الأولى في أورشليم مدة شهر نيسان، (( في غضون العيد، فآمن كثيرون باسمه )) ( يو 2 : 23 ). ودليل تأثيرها زيارة نيقوديم العلامة الفريسي وعضو السنهدرين (يو 3 : 1 ـ 21).

سابعاً ـ ثم كانت الدعوة الأولى في اليهودية، على طريقة المعمدان بالعماد ( يو 3 : 22 ـ 24 ). دامت من أيار إلى آخر عام 27 م.

لوقا في الجزء الأول من القسم الوسيط الخاص به ينقل بعض أحداثها ( 9 : 51 ـ 11 : 53 ).

348 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 3

وكانت ناجحة كما تشهد غيرة تلاميذ المعمدان ( يو 3 : 25 ـ 30 ) وغيرة الفريسيين منه ( يو 4 : 1 ـ 3 ).

 

السنة الثانية، وهي الأولى من الدعوة في الجليل، عام 28 م.

أولاً ـ هجرة يسوع من اليهودية إلى الجليل، في أوائل كانون الثاني عام 28م. (( أفلا تقولون : أربعة أشهر أيضاً، ثم يأتي الحصاد )) ( يو 4 : 35 ).

أسبابها : بحسب المؤتلفة، توقيف المعمدان في السجن.

ثم بحسب يوحنا ( 4 : 1 ـ 3 ) وبحسب لوقا ( 11 : 53 ـ 54 )، غيرة الفريسيين ومضايقتهم ليسوع، حتى أحرجوه فأخرجوه.

ثانياً ـ على طريق هجرته، دعوة يومين بين السامريين في سيخار ( يو4 : 4 ـ 42).

ثالثاً ـ العودة الحافلة إلى الجليل ( يو4 : 43 ـ 45 ) ـ الدعوة الثانية في الناصرة وجوارها : كانت محرجة كما تدل عليها كلمة يسوع عند لوقا ( 4 : 24 ). وعند يوحنا معاً (4 : 44) : (( لا كرامة لنبي في وطنه )) .

رابعاً ـ الهجرة الثانية من الناصرة إلى كفرناحوم التي تصير (( مدينته )) ( متى 9 : 1 )؛ (( ولمَّا سمع ( يسوع ) أن يوحنا قد أوقف انطلق إلى الجليل. ثم ترك الناصرة وأتى فسكن في كفرناحوم على شاطئ البحر )) ( متى 4 : 13 ). على طريق هجرته، شفاء ابن قائد الحامية الرومانية في كفرناحوم، عن بعد، من قانا الجليل ( يو 4 : 46 ـ 54 ). فسهلت له هذه المعجزة الإقامة الظافرة في كفرناحوم.

تقويم لتاريخ رسالة المسيح ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 349

خامساً ـ ثلاثة أشهر من الدعوة في كفرناحوم، قبل فصح 28 م.

يوجزها مرقس بثلاث جولات حول كفرناحوم ( 1 : 21 ـ 3 : 35 ).

1 ـ السبت الأول في كفرناحوم يوم مشهود ( مرقس 1 : 21 ـ 34؛ لوقا 4 : 31 ـ 41؛ متى 4 : 13 ـ 16 مع 7 : 28 ـ 29 مع 8 : 14 ـ 17 ).

2 ـ جولة أولى على القرى المجاورة : دعوة ومعجزات ( مرقس 1 : 35 ـ 39 ).

3 ـ جولة ثانية على شاطئ البحيرة الشمالي: خمس جدالات مع الفريسيين. ( مرقس 2 : 1 ـ 3 : 5؛ متى 9 : 1 ـ 12: 13؛ لو 4 : 31 ـ 6 : 10 ).

4 ـ انتهت بمؤامرة أولى لاغتيال يسوع ( مرقس 3 : 6؛ متى 12 : 14؛ لوقا 6 : 11 ).

5 ـ جولة ثالثة إلى جبل (( قرون حطين )) :

اصطفاء الرسل الاثني عشر من بين التلاميذ ( مر 3 : 13 ـ 19؛ متى 10 : 1 ـ 4؛ لو 6 : 12 ـ 16 ).

الخطاب التأسيسي على الجبل : الدستور الإنجيلي، تكميل الشريعة والبِرّ ( متى 5 : 1 ـ 7 : 27؛ لوقا 6 : 17 ـ 49 ).

سادساً ـ الحجّ في الفصح الثاني، إلى أورشليم، عام 28 م.

يفصله يوحنا في الفصل الخامس كله.

كانت زيارة خاطفة، والوحيدة، مدة الرسالة في الجليل؛ فأغفلها المؤتلفة.

وكانت عقدة الصراع في رسالة الجليل : (( فازداد اليهود، لذلك، طلباً لقتله : لا لنقضه السبت فقط، بل لأنه كان يدعو الله أباه، معادلاً نفسه بالله )) ( يو 5 : 18 ).

350 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 3

سابعاً ـ بعد فصح 28 م. سبعة أشهر من الدعوة الكبرى في الجليل

رجع يسوع منفعلاً من أورشليم، فغيّر أسلوب دعوته.

مرقس يوجز هذه الفترة بثلاث جولات في الجليل :

1 ـ جولة إلى الجنوب الغربي حتى نائين ـ لا يذكرها مرقس

في نائين يسوع يُحيي ابن أرملة ( لوقا 7 : 11 ـ 17 )

وفي جولته يسوع يستقبل وفد المعمدان جاء يستطلع أخبار يسوع ثم يثني الثناء العاطر على يوحنا ( لو 7 : 18 ـ 35؛ متى 11 : 2 ـ 19 ).

2 ـ جولة إلى شاطئ البحيرة : الدعوة بالأمثال لكشف سر ملكوت الله ( مرقس 4 : 1 ـ 34؛ متى 13 : 1 ـ 52؛ لوقا 8 : 4 ـ 18 ).

3 ـ جولة إلى أرض المشركين في جرش، شرق البحيرة. في هذا اللقاء الأول، خافوا من سلطانه، فاعتذروا له ( مر 4 : 35 ـ 5 : 20؛ متى 13 : 53 مع 8 : 18 ـ 27؛ لوقا 8 : 22 ـ 39 ).

4 ـ عند عودته إلى كفرناحوم، إحياء ابنة يائير رئيس الجامع

( مرقس 5 : 21 ـ 43؛ متى 9 : 18 ـ 26؛ لوقا 8 : 40 ـ 56 ).

 

السنة الثالثة، وهي الثانية من الدعوة في الجليل، عام 29 م.

أولاً : جولة إلى الناصرة وضواحيها، في شتاء 29 م.

1 ـ الزيارة الثالثة للناصرة : محاولة قتله ( لوقا 4 : 25 ـ 30 مع 44 )

2 ـ بعثة الرسل التدريبية في الجليل، في شتاء 29 م.

تقويم لتاريخ رسالة المسيح ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 351

( مرقس 6 : 7 ـ 13؛ لوقا 9 : 1 ـ 5؛ متى 9 : 35 ـ 38 مع 10 : 5 ـ 16 )

3 ـ استقبال وفد المعمدان جاء يستطلع أخبار يسوع

( لوقا 7 : 18 ـ 35؛ متى 11 : 2 ـ 19 )

4 ـ عودة الرسل من بعثتهم ظافرين، وتجمّعهم في كفرناحوم

( مرقس 6 : 30 ـ 31؛ لوقا 9 : 10 ).

ثانياً : جولة إلى الشمال الشرقي فالجنوب الغربي من البحيرة

1 ـ عند بيت صيدا، تكثير الخبز، أول مرة، لبني إسرائيل

( مر 6 : 32 ـ 44؛ متى 14 : 13 ـ 21؛ لو 9 : 10 ـ 17؛ يو 6 : 1 ـ 15 )

2 ـ على طريق العودة في البحيرة، يسوع وبطرس يمشيان على الماء ( مرقس 6 : 45 ـ 52؛ متى 14 : 22 ـ 33؛ يوحنا 6 : 16 ـ 21 )

3 ـ العبور في الجنوب الغربي عند جنّيسارت ـ أشفية بالجملة

( مرقس 6 : 53 ـ 56؛ متى 14 : 34 ـ 36 )

ثالثاً : أَزمة ورِدّة، بمناسبة الفصح عام 29 م

لم يصعد يسوع إلى الفصح1 ( يوحنا 6 : 4؛ 7 : 1 )، بل قام بجولة إلى بيت صيدا شمالاً ثم جنيسارت جنوباً. وعند رجوعه إلى كفرناحوم كان الخطاب الأزمة.

1 ـ خطاب يسوع الحاسم في جامع كفرناحوم: (( أنا الخبز الحي النازل من السماء )) ( يو 6 : 22 ـ 71 ).

ــــــــــــــــــ

(1) مرّ على المسيح فصحان ( يو 5 : 1 ثم 6 : 4 مع 7 : 1 ) وهو في رسالته بالجليل؛ وبما أن الفصح (5 : 1) كان زيارة عابرة، اعتبر المؤتلفة رسالة الجليل وحدة متواصلة.

352 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 3

2 ـ بسببه ارتد عنه كثيرون من تلاميذه ( يوحنا 6 : 66 ).

3 ـ فقرّر يسوع نقل الدعوة إلى أطراف الجليل، بين المشركين.

رابعاً : ما بين الفصح وعيد الخيام عام 29 م ـ الدعوة في أرض المشركين

مرقس يوجز هذه الفترة من ستة أشهر بخمس رحلات إلى خارج إسرائيل خصوصاً. ويوحنا لا يعرض لأن المؤتلفة استوفوها، ولأنه يعتبر الخطاب في (( خبز الحياة )) نهاية الدعوة في الجليل مبدئيّاً.

1 ـ رحلة أولى غرباً إلى أراضي صور وصيدا المشركة.

مثال رحمته فيها : شفاء ابنة الكنعانية عن بعد (مر 7 : 24 ـ 30؛ متى 15 : 21 ـ 28).

2 ـ رحلة ثانية إلى شرق البحيرة، في أراضي (( المدن العشر )) المشركة1.

معجزته الكبرى فيها، تكثير الخبز مرة ثانية، لصالح المشركين ( مر 8 : 1 ـ 10 )

3 ـ في هذه المرحلة عبر البحيرة من الشرق إلى الغرب في دلمنوثا ( مر 8 : 10 ) أو مغدان ؟ ( متى 15 : 29 )، حيث حاولوا تعجيزه بمعجزة فرفض ( مر 8 : 11 ـ 13 )

(( ثم تركهم وعاد فركب السفينة ومضى إلى العبر )) شرقيّ البحيرة ( مر 8 : 13 )

ثم اتجه شمالاً، (( وجاؤوا إلى بيت صيدا )) إلى الشمال الشرقي من البحيرة ( مرقس 8 : 22 )

4 ـ رحلة ثالثة إلى أقصى الشمال، في بانياس، عند سفح جبل الشيخ

ــــــــــــــــــ

(1) يقول مرقس : (( ثم غادر أرض صور، ومرّ‍ في صيدا إلى بحر الجليل، حتى أرض المدن العشر )) ( 7: 31 ). طريقه المحتملة : خرج من أرض صيدا، واجتاز سفوح لبنان الجنوبية وعبر الأردن على جسر بنات يعقوب، وأفضى إلى شرق البحيرة في أراضي المدن العشر.

تقويم لتاريخ رسالة المسيح ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 353

1) شهادة بطرس، باسم الرسل، بمسيحية يسوع وإلهيته

2) النبؤة الأولى في استشهاد المسيح

3) في 6 آب عام 29 م تجلى المسيح للثلاثة المقربين على جبل الشيخ فرأوا إلهيته من خلال بشريته.

5 ـ رحلة رابعة وداعية متخفيّة في الجليل : (( ومروا في الجليل، ولم يكن يريد أن يدري أحد، لأنه كان يعلّم تلاميذه )) سر المسيح وسر الصليب والاستشهاد ( مر 9 : 30 ـ 32 ).

6 ـ إِقامة أخيرة في كفرناحوم لتوديع الرسالة في الجليل

1) بمناسبة خلافهم على الرئاسة : شرعة أخلاق الملكوت ( متى 18 : 1 ـ 35 ) وما جمعه متى هنا، فرقه لوقا على الجليل ثم على اليهودية

2) أنهى رسالة الجليل بحملة على مدن البحيرة التي لم تؤمن به

( متى 11 : 20 ـ 24؛ لوقا 10 : 13 ـ 15 )

خامساً : عيد الخيام في أورشليم ـ أوائل أيلول عام 29 م.

يسوع يعود إلى الدعوة بقوة في أورشليم ـ يوحنا وحده يفصل الأحداث

1 ـ أَحاديث يسوع في العيد ( 7 : 14 ـ 52 )

2 ـ بعد العيد، التصريح الضخم : (( أنا نور العالم )) ( 7 : 53 ـ 8 : 59 )

3 ـ نور العالم يشفي الأكمه أي الأعمى منذ مولده ( 9 كله )

4 ـ من الدعوة في أورشليم : (( أنا الباب ... أنا الراعي الصالح )) (10 : 1 ـ 18)

5 ـ انقسام الرأي العام فيه ( 10 : 19 ـ 21 ).

354 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 3

سادساً : الدعوة الثانية في اليهودية ـ خريف العام 29م.

لوقا وحده ينقل أحداثها ( 12 : 1 ـ 13 : 22 )

1 ـ ملاحقة الفريسيين يسوع لإحراجه ( 12: 1 ـ 12 )

2 ـ يوم ابن البشر الآتي، والقطيع الصغير ( 12 : 13 ـ 48 )

3 ـ الدعوة الإنجيلية تسير كالنار ـ علامات الأزمنة تدل عليها (12 : 49 ـ 59)

4 ـ شروط أخرى لاستحقاق الملكوت ( 13 : 1 ـ 21 )

سابعاً : عيد التجديد في أورشليم، 22 كانون الأول عام 29 م.

لوقا يشير من طرف خفي إلى هذه الرحلة ( 13 : 22 )

ويوحنا يفصل الحدث الأعظم فيها : يسوع يعلن إلهيته ( 10 : 22 ـ 39 )

 

مطلع السنة الرابعة، حتى الفصح عام 30 م.

أولاً : الرسالة في الأردن، الغور الشرقي ( كانون الثاني ـ شباط 30 م )

لوقا وحده يفصل أحداثها ( 13 : 22 ـ 17 : 11 )

1 ـ الفريسيون يخيفون يسوع عن دعوته بهيرود ( 13 : 31 ـ 35 )

2 ـ تحدي الفريسيين، في وليمة، عند زعيم فريسي ( 14 : 1 ـ 24 )

3 ـ خطاب للجماهير : في شروط الملكوت ( 14 : 25 ـ 35 )

4 ـ عطف يسوع على العشارين والخاطئين ( 15 كله )

5 ـ التمييز بين أبناء النور وأبناء الدهر ( 16 كله )

6 ـ ما بين الشريعة والإنجيل : تصديق الشريعة، ونسخ الطلاق ( 16 : 16 ـ 18؛ قابل متى 19 : 3 ـ 12، مرقس 10 : 2 ـ 12 )

تقويم لتاريخ رسالة المسيح ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 355

7 ـ تعليم الغفران والإيمان ( لوقا 17 : 1 ـ 10 )

ثانياً : الرسالة في الأردن، الغور الغربي ( شباط ـ آذار 30 م )

لوقا وحده أيضاً يفصل أحداثها ( 17 : 11 ـ 18 : 30 )

1 ـ متى يأتي ملكوت الله ؟ ( 17 : 20 ـ 37 )

2 ـ الصلاة الدائمة بإلحاح وتواضع ( 18 : 1 ـ 14 )

3 ـ يسوع يبارك الأولاد ( هنا يلتقي المؤتلفة الثلاثة )

4 ـ طريق الفريضة وطريق الكمال ( مرقس 10 : 17 ـ 23 )

5 ـ خطر الغنى على الخلاص ( مرقس 10 : 23 ـ 27 )

6 ـ مكافأة العاملين مع المسيح في (( عهد التجديد )) ( متى 19 : 27 ـ 20 : 16 )

ثالثاً : إحياء لعازر في بيت عنيا ـ آذار 30 م.

1 ـ المعجزة الكبرى ( يوحنا ف 11 كله )

2 ـ عزلة يسوع الأخيرة في افرائيم، في منتصف آذار عام 30م ( يو 11 : 54 )

رابعاً : الرحلة الأخيرة إلى أورشليم للاستشهاد ـ الأسبوع الأخير من آذار

1 ـ النبؤة الثالثة في استشهاده ( مر 10 : 32 ـ 34 )

2 ـ ابنا زبدى يطلبان المحل الأول ـ الرسالة خدمة وتضحية (مر10: 35 ـ 45)

3 ـ في أريحا: زكا العشار يهتدي ويتصدق ( لوقا 19 : 1 ـ 10 )

4 ـ الحجاج إلى الفصح يتساءَلون : هل يأتي ؟ ( يوحنا 11 : 55 ـ 57 )

5 ـ السبت في 1 نيسان عام 30 م وليمة لعازر ليسوع، في بيت عنيا (يو 12: 1 ـ 11)

356 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 3

خامساً : الأسبوع الأخير الحاسم في رسالة المسيح ( 1 ـ 7 نيسان عام 30 م )

1 ـ في أحد الشعانين ( 2 نيسان ) دخول أورشليم والهيكل كالمسيح الموعود.

2 ـ الاثنين العظيم، في 3 نيسان : تطهير الهيكل، وتعليم فيه.

3 ـ الثلاثاء العظيمة، في 4 نيسان : الجدال الأكبر مع السلطان والأحزاب اليهودية في سلطانه، وفي تعليمه.

عند المساء، على جبل الزيتون : نبؤة المسيح الكبرى في مصير إسرائيل وخراب الهيكل والمدينة والأمة

4 ـ الأربعاء العظيمة في 5 نيسان ـ خلوة في بيت عنيا : وليمة سمعان الأبرص. مؤامرة اليهود الأخيرة لقتل المسيح؛ وخيانة يهوذا.

5 ـ خميس الأسرار، في 6 نيسان عام 30 م.

1) تهيئة الفصح في النهار

2) مساءً : العشاء السري، من السادسة إلى التاسعة ليلاً

3) حديث الوداع مع الوعد بالروح القدس ( يو ف 14 ـ 17 )

4) النزاع في بستان الزيتون، من التاسعة إلى الثانية عشرة ليلاً

5) توقيف المسيح، بخيانة يهوذا، وهرب الرسل

6) التحقيق مع المسيح عند الحبر الأعظم، بعد منتصف الليل؛ جحود بطرس ليسوع في أثناء التحقيق

7) حبس المسيح من الثالثة إلى السادسة صباحاً.

6 ـ الجمعة الحزينة، الاستشهاد الأكبر، في 7 نيسان عام 30 م.

1) صباحاً : المحاكمة الدينية في السنهدرين، والحكم بالإعدام على المسيح

2) انتحار يهوذا لحكمهم على يسوع بالإعدام ( متى 27 : 3 ـ 10 )

تقويم لتاريخ رسالة المسيح ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 357

3) المحاكمة المدنية عند الوالي الروماني ـ التحقيق الأول : المسيح الملك

4) إحالة الدعوة إلى هيرود، نحو الساعة التاسعة صباحاً.

5) التحقيق الثاني عند الوالي : المسيح الإله

6) بعد محاولات ثلاث لتخليص يسوع، بيلاطس يحكم بتنفيذ الإعدام صلباً. وذلك قبيل الظهر في 7 نيسان عام 30 م

7) عند الظهر، درب الصليب، وصلب المسيح

8) من الظهر إلى العصر، النزاع الأكبر على الصليب

9) عند العصر، موت المسيح

10) قبل المغرب تكفين يسوع ودفنه

7 ـ سبت النور في 8 نيسان عام 30 م

1) الراحة الكبرى ( لوقا 23 : 56 )

2) ختم القبر بالختم الإمبراطوري، وحراسته بواسطة الجند الروماني

سادساً : القيامة المجيدة، في 9 نيسان عام 30 م.

1 ـ يسوع يظهر مدة أسبوع، في أورشليم، لأتباعه

2 ـ يسوع يظهر مدة شهر، في الجليل، للأفراد، وجمهور التلاميذ

3 ـ يسوع يظهر من جديد في أورشليم، في ختام (( الأربعين يوماً ))

حديث الوداع الأخير ( يوحنا ف 15 ـ 16 )

سابعاً : الصعود إلى السماء، يوم الخميس، في 18 أيار عام 30 م.

358 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 3

يسوع يرتفع حيّاً إلى السماء، على مشهد من رسله وآل البيت، بحضور أُم المسيح وبعض التلميذات الفاضلات.

إِن قيامة المسيح وارتفاعه حيّاً إلى السماء، معجزة المعجزات في كل الرسالات.

 f

الائتلاف والتكميل في الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 359

بحث رابع

الائتلاف والتكميل في الإنجيل بأحرفه الأربعة

مبدأ التكميل في تدوين الإنجيل :

إن الإنجيل بأحرفه الأربعة وحدة مؤتلفة متكاملة كما يشهد الواقع الإنجيلي. وتاريخ تدوين الإنجيل بأحرفه الأربعة كان مرهوناً بظروف الدعوة الإنجيلية بعد رفع السيد المسيح إلى السماء.

1 ـ فلحكمة اقتضتها ظروف الدعوة الرسولية بالإنجيل، سكت الرسل في دعوتهم الأولى عن (( الإنجيل الأورشليمي )) في اليهودية، الذي كان صراعاً مع السلطات والأحزاب اليهودية في مسيحية يسوع وإلهيته. فسلموا في دعوتهم الأولى (( الإنجيل الجليلي )) ، كما نراه في الأناجيل المؤتلفة المتوازية، متى ومرقس ولوقا.

360 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 4

2 ـ لكن، بعد خراب أورشليم والهيكل، في الحرب السبعينية، زالت تلك الظروف المانعة، وتم انتشار المسيحية في الدولة الرومانية كلها؛ فسلّم الرسل الباقون على قيد الحياة، وعلى رأسهم يوحنا الرسول (( الإنجيل الأورشليمي )) . لذلك جعله يوحنا الرسول محور إنجيله.

والظاهرة الكبرى على الإنجيل بحسب يوحنا أنه اعتمد تكميل المؤتلفة، لا تكرارها. لذلك فهو يذكر ما لا يذكرون؛ وإذ يذكر ما يذكرون فلغاية التكميل.

3 ـ ولوقا ،المحقق التاريخي في مصادر الإنجيل في السيرة والدعوة، اطلع على الدعوة في أورشليم واليهودية، وفي الجليل. وبما أنه كتب قبل الحرب السبعينية، لم يشأ أن يتخطى المخطط الأول، ولم يشأ أن يسكت على الرسالة في اليهودية، خصوصاً وهو يكتب لغير بني إسرائيل، فعمد إلى أسلوب بياني، أسلوب رحلة المسيح الكبرى إلى أورشليم للاستشهاد، ونقل فيها الدعوة في اليهودية وشرق الأردن. ونرى براعته بالتأليف ما بين الواقع التاريخي والأسلوب البياني، من الإشارات المتواترة إلى صعود يسوع إلى أورشليم ( 9 : 51؛ 11 : 53؛ 13 : 22؛ 17 : 11 )؛ فهي ليست بالتذكير بالرحلة التي يقصها، إنما هي إشارات إلى أزمنة مختلفة من الدعوة في اليهودية. والظاهرة على هذا القسم الوسيط ( 19 : 51 ـ 19 : 27 ) من الإنجيل بحسب لوقا، الذي ينقل الدعوة في اليهودية، إنه يخلو من تسجيل ظروف الزمان والمكان، كما في القسم الأول والثالث. وهذه ظاهرة غريبة عند لوقا المؤرخ المدقق ( 1 : 1 ـ 4 ). لكن غرابتها تزول متى عرفنا أنه يقصد إلى ائتلاف الواقع التاريخي مع الأسلوب البياني. فهذه الظواهر دلائل على أن لوقا ينقل الدعوة الإنجيلية في اليهودية، من أزمنة مختلفة. تلك ظاهرة كبرى أولى عند لوقا.

الائتلاف والتكميل في الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 361

والظاهرة الثانية الكبرى عند لوقا أنه يهمل رحلات يسوع إلى خارج إسرائيل في العهد الأخير في الجليل؛ ولا يحفظ منها إلا الرحلة إلى قيصرية فيلبس بسبب شهادة بطرس وبسبب التجلي؛ لكنه لا يشير إلى ظروف زمانية ومكانية تحددها : (( وكان ذات يوم يصلي على انفراد، وكان التلاميذ بحذائه )) ( لو 9 : 18 ).

فهما ظاهرتان تميزانه عن مرقس ومتى : ظاهرة الزيادة، وظاهرة النقص.

فعند لوقا تكميل من طرف خفي، في القسم الوسيط من الإنجيل، غير التكميل الظاهر في التمهيد بنقل حداثة المسيح. وعند يوحنا الرسول تكميل مشهود في الإنجيل كله، لذلك فهو يقتصر على هذا التكميل.

فكان لوقا بتكميله صلة الوصل ما بين المؤتلفة، متى ومرقس، وبين الإنجيل بحسب يوحنا.

هذا التكميل في تدوين الإنجيل، بأحرف أو نصوص أربعة، يجعلها وحدة مؤتلفة متكاملة، فيها القصة الكاملة للسيرة والدعوة، كما نزلت في الوحي الإنجيلي.

وإليك التفصيل في الائتلاف والتكميل.

 

القسم الأول : حداثة المسيح

سيرتها عند متى ( 1 : 18 ـ 2 : 23 ) وعند لوقا ( 1 : 5 ـ 2 : 52 )

القسم الثاني : رسالة المسيح الأولى في أورشليم واليهودية، مدة سنة

تنقل المؤتلفة منها فقط دعوة المعمدان وعماد يسوع

ويوحنا ينقل فاتحتها ( 1 : 19 ـ 3 : 21 ) وخاتمتها ( 3 : 22 ـ 4 : 43 )

362 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 4

ولوقا ينقل الدعوة الأولى في اليهودية ( 9 : 51 ـ 11 : 53 )

القسم الثالث : رسالة المسيح الأولى في الجليل، مدة سنة وثلاثة أشهر

تنقل المؤتلفة فصولها، التي يفصلها مرقس بسبع جولات

يوحنا لا يذكر إِلا مطلعها ( 4 : 43 ـ 54 )، وعقدتها، الفصح الثاني في أورشليم (ف 5 كله)، وخاتمتها، خطاب يسوع الحاسم في جامع كفرناحوم : الخبز الحي النازل من السماء ( ف 6 كله ).

القسم الرابع : رسالة المسيح إلى خارج إسرائيل خصوصاً، مدة ستة أشهر

فصولها في الأناجيل المؤتلفة. ويفصلها مرقس إلى ست رحلات؛ يقتصر لوقا على الرحلة إلى الشمال، في قيصرية فيلبس ( بانياس ) وعلى جبل الشيخ.

ويوحنا يوافق ولا يزيد شيئاً.

القسم الخامس : رسالة المسيح الثانية في أورشليم واليهودية، مدة ستة أشهر

يوحنا يفصل مطلعها في عيد الخيام ( 7 : 2 ـ 9 : 40 )، وعقدتها، في عيد التجديد ( 11 : 1 ـ 42 )، وخاتمتها في إحياء لعازر، وخلوة يسوع الأخيرة في أفرائيم (ف 11 كله).

ولوقا وحده يفصل وقائعها في فصلين : الأول، الرسالة الثانية في اليهودية ما بين عيد الخيام وعيد التجديد؛ والثاني الرسالة في الأردن، الغور الشرقي ( 13 : 22 ـ 17 : 11 ) ثم الغور الغربي ( 17 : 11 ـ 18 : 11 ). كان لوقا قد ترك مرقس في ( مر 9 : 50 ) ويلقاه في ( 18 : 15 = مر10 : 13 )؛ فتجتمع الأناجيل المؤتلفة ـ بعد القسم الخاص بلوقا ـ على بركة الأولاد.

القسم السادس : الأيام الحاسمة في أورشليم، والاستشهاد.

تلتقي الأناجيل الأربعة في وصف وقائعها في وحدة متكاملة.

الائتلاف والتكميل في الإنجيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 363

تنقل المؤتلفة الجدال الحاسم مع السلطان والأحزاب اليهودية في الهيكل يوم الثلاثاء العظيمة، وحديث المسيح مع تلاميذه، على جبل الزيتون في مصير إسرائيل بسبب موقفه من المسيح.

ويكمّل يوحنا بالتعليق على الرسالة كلها ( 12 : 37 ـ 50 )، وينقل أحاديث المسيح الخاصة مع رسله، بعد العشاء السري ( 13 : 31 ـ 17 : 26 ).

القسم السابع : القيامة المجيدة والرفع إلى السماء.

تلتقي الأناجيل الأربعة في وصف أحداث القيامة، وظهور المسيح لتلاميذه، وارتفاعه حيّاً إلى السماء، على مشهد منهم.

لكن كل إنجيلي ينقل من ظهورات المسيح ما يناسب خاتمة الإنجيل في روايته. والمجموع وحدة متناسقة في وصف حياة المسيح مع تلاميذه ما بين قيامته وارتفاعه.

 

f

 

الفَصْلُ الثـَّاني

تَخطيطٌ لِسيرَةِ المَسيح

 

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 367

فاتحة الإنجيل

1 ـ بحسب يوحنا : نسب المسيح الإلهي ( 1 : 1 ـ 18 )

2 ـ بحسب متى : نسب يسوع البشري ( 1 : 1 ـ 17 )

3 ـ بحسب لوقا : هذا هو الإنجيل بحسب شهود العيان ( 1 : 1 ـ 4 )

4 ـ بحسب مرقس : (( بدء إنجيل يسوع، المسيح، ابن الله )) ( 1 : 1 )

 

 

القسم الأول : قصة المولد ، وحداثة المسيح

فصل أول : البشائر بمولد المسيح

1 ـ البشرى لزكريا، في هيكل أورشليم، بمولد ابنه المعمدان ( لو1 : 5 ـ 25 )

2 ـ البشرى لمريم العذراء، في الناصرة، بمولد المسيح منها ( لو1 : 26 ـ 38 )

368 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

3 ـ البشرى بالحبل بالمسيح لأم المعمدان ( لو1 : 39 ـ 45 )

4 ـ نشيد التجسد، للعذراء أُم المسيح ( لو1 : 46 ـ 56 )

 

فصل ثان : قصة المولد

1 ـ التقديم لها بمولد المعمدان، في عين كارم باليهودية ( لو1 : 57 ـ 66 )

2 ـ نشيد الحمد لوالده زكريا، ونبؤته في المسيح وسابقه ( لو1 : 67 ـ 80 )

3 ـ مولد المسيح، في بيت لحم، على عهد أغسطوس وهيرود ( لو2 : 1 ـ 7؛ متى 1 : 18 ـ 25 )

4 ـ نشيد الحمد بمولد المسيح، للملائكة ـ والبشرى للرعاة ( لو2 : 8 ـ 20 )

 

فصل ثالث : طاعة المسيح في طفولته

1 ـ ختانة الطفل الإلهي، وتسميته يسوع أي المخلص ( لو 2 : 21 )

2 ـ في يوم الأربعين، تقدمة الطفل يسوع لله، في هيكل أورشليم (لو 2: 22 ـ 28)

1) نشيد الحمد لرؤية المسيح، لسمعان الكاهن الشيخ ( لو 2 : 29 ـ 32 )

2) نبؤة سمعان في مصير المسيح وأمه ( لو 2 : 33 ـ 35 )

3) نبؤة حنة الشيخة بظهور المسيح ( لو 2 : 36 ـ 38 )

 

فصل رابع : زيارة المجوس ـ هجرة المسيح طفلاً إلى مصر

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 369

1 ـ زيارة المجوس العرب1 للمولود، ملك اليهود، في بيت لحم (متى 2 : 1 ـ 12)

2 ـ هجرة المسيح طفلاً، ابن سنتين، إلى مصر ( متى 2 : 13 ـ 15 )

3 ـ استشهاد أطفال بيت لحم في سبيل الطفل الإلهي ( متى 2 : 16 ـ 18 )

4 ـ عودة العائلة المقدسة من مصر، إلى الناصرة ( متى 2 : 19 ـ 23 )

 

فصل خامس : طاعة المسيح في حداثته

1 ـ حداثة المسيح في الناصرة ( لو 2 : 39 ـ 40 )

2 ـ في سن التكليف، الثانية عشرة، يسوع يحج إلى أورشليم، ويباحث علماءها ( لو 2 : 41 ـ 50 )

 

فصل سادس : طاعة المسيح في شبابه

1 ـ فتوة صامتة عاملة في الناصرة ـ (( ابن النجار )) ( لو 2 : 51 ـ 52 )

2 ـ عشيرة يسوع : (( إخوته وأخواته ))

( مرقس 6 : 3؛ متى 13 : 55 ـ 56؛ لوقا 4 : 22؛ يوحنا 6 : 42 )

 

فصل سابع : نهاية الحياة العادية ـ المثل الأعظم

1 ـ وفاة يوسف حاضن يسوع وأمه، قبل مباشرة الدعوة ( لا يذكرها الإنجيل )

ــــــــــــــــــ

(1) كان هؤلاء المجوس عرباً بحسب التقليد الشرقي ـ قابل (( محاورات )) يستين ( الحوار 78 : 1 ـ 2 ).

370 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

2 ـ يسوع (( ابن يوسف )) ( لو 4 : 22؛ يوحنا 1 : 40 ) ـ يسوع (( ابن مريم )) (مرقس 6 : 3)

خاتمة : يسوع مثال الإنسان الكامل في حياته العادية.

 

 

القسم الثاني : الدعوة الأولى في أورشليم واليهودية

فصل أول : (( ظهور )) المسيح وسابقه

توطئة : لقاء التاريخ والنبوة في ظهور المعمدان، سابق المسيح

( مرقس 1 : 1 ـ 3؛ متى 3 : 1 ـ 3؛ لوقا 3 : 1 ـ 6 )

1 ـ دعوة المعمدان، عام 26 م

( مرقس 1 : 4 ـ 8؛ متى 3 : 4 ـ 12؛ لوقا 3 : 7 ـ 20 )

2 ـ عماد المسيح، في 6 كانون الثاني عام 27 م

( مرقس 1 : 9 ـ 11؛ متى 3 : 13 ـ 17؛ لوقا 3 : 21 ـ 22 )

3 ـ خلوة يسوع الاستعدادية لرسالته : صراعه الأول مع إبليس في (( مسيحيته ))

( مرقس 1 : 12 ـ 13؛ متى 4 : 1 ـ 11؛ لوقا 4 : 1 ـ 13 )

 

فصل ثان : الأسبوع الأول من رسالة المسيح، في آخر شباط إلى آذار عام 27 م

1 ـ شهادة المعمدان لوفد السنهدرين أن المسيح أتى ( يوحنا 1 : 19 ـ 28 )

2 ـ في الغد الأول، المعمدان يدل الشعب على (( حمل الله )) ( يوحنا 1 : 29 ـ 34)

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 371

3 ـ في الغد الثاني، المعمدان يوجه بعض تلاميذه إلى المسيح ( يو1 : 35 ـ 42 )

4 ـ في الغد الثالث، السماء مفتوحة فوق المسيح ( يوحنا 1 : 43 ـ 51 )

5 ـ رحلة المسيح من بيت عنيا الأردنية إلى قانا الجليل، في ثلاثة أيام

معجزة المسيح الأولى في قانا، بطلب من أمه ( يوحنا 2 : 1 ـ 12 )

6 ـ يسوع يفتتح دعوته في جامع الناصرة : اليوم تم الكتاب والنبوة ( لوقا 4 : 16 ـ 22 )

7 ـ على طريق الحج إلى الفصح الأول، إِقامة عابرة في كفرناحوم ( يو 2 : 12 )

 

فصل ثالث : الرسالة الأولى في أورشليم؛ بمناسبة الفصح الأول عام 27 م

1 ـ في الفصح، عيد اليهود الأكبر، إعلان الدعوة، في الهيكل.

وذلك بعمل رمزي عظيم : تطهير الهيكل من تجار الدين ( يو 2 : 13 ـ 22 )

2 ـ الرسالة الأولى في أورشليم، (( في غضون العيد )) ، بالكلمة والمعجزة ( يوحنا 2 : 23 ـ 25 )

3 ـ مثال نجاحها، هداية نيقوديم, علاَّمة إسرائيل، وعضو السنهدرين، سرّاً ( يوحنا 3 : 1 ـ 12 ).

 

فصل رابع : الرسالة الأولى في اليهودية، في صيف وخريف عام 27 م

توطئة : كانت رسالة العماد، على طريقة المعمدان ( يو 3 : 22 ـ 24 )

وتقتصر الدعوة على الجوامع في اليهودية ( يو 4 : 44 )

372 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

لوقا يشير إلى هذه الدعوة بقوله : (( وكان يعلّم في الجوامع، والجميع يشيدون بحمده )) ( 4 : 15 ).

1 ـ شهادة المعمدان ليسوع أمام تلاميذه : هذا عروس الكنيسة ( يو 3: 25 ـ 26 )

2 ـ اللقاء الأول الفاشل مع السامريين ( لوقا 9 : 51 ـ 56 )

3 ـ تلاميذ حائرون ( لوقا 9 : 57 ـ 62؛ متى 8 : 19 ـ 21 )

4 ـ تلاميذ راسخون : الاثنان والسبعون؛ وهم يدعون ليسوع ( لو 10: 1 ـ 20 )

5 ـ إِشارة أولى إلى سر الله والمسيح بصفة كونهما الآب والابن

( لوقا 9 : 57 ـ 62؛ متى 11 : 25 ـ 27 )

6 ـ ميزة التلاميذ على الأنبياء والملوك في رؤيتهم المسيح وسماعه (لو 10: 23 ـ 24)

7 ـ طريق الحياة في محبة القريب، على مثال السامري مع اليهودي (لو10: 25 ـ 37)

8 ـ يسوع في بيت عنيا اليهودية، عند لعازر وأختيه مرتا ومريم :

النصيب الأفضل في سماع يسوع ( لوقا 10 : 38 ـ 42 )

9 ـ على جبل الزيتون، يسوع يعلّم صلاة (( أبانا )) ـ تطوير الدين من علاقة عبد بسيده، إلى ابن بأبيه السماوي ( لو11 : 1 ـ 13؛ متى 6 : 9 ـ 13 )

10 ـ سلطان يسوع على الشياطين، برهان ظهور ملكوت الله (لو11 : 14 ـ 26)

11 ـ الاصطدام الأول مع الفريسيين والفقهاء ـ إطلاق الإشاعة الساحرة :

يسوع يخرج الشياطين بواسطة بعل زبول (متى 12: 22 ـ 28؛ مر 3: 22 ـ 27)

12 ـ بنت الشعب تشيد بالمسيح وأُمه ( لوقا 11 : 27 ـ 28 )

13 ـ آية المسيح الكبرى لأهل زمانه تشبه آية يونان النبي ( لوقا 11 : 29 ـ 32 )

14 ـ الدعوة إلى النور ( لوقا 11 : 33 ـ 36 )

15 ـ في وليمة عند فريسي، حملة على رثاء الفريسيين ( لوقا 11 : 37 ـ 44 )

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 373

16 ـ حملة في ثلاث لعنات على علماء الشريعة المرائين ( لوقا 11 : 45 ـ 52 )

خاتمة : كانت دعوة ناجحة، كما يظهر من غيرة تلاميذ المعمدان (يو3 ، 25 ـ 30)

وغيرة الفريسيين ( يوحنا 4 : 1 ـ 3؛ لوقا 11 : 53 ـ 54 )

 

فصل خامس : هجرة المسيح إلى الجليل، في مطلع العام 28 م

توطئة : أسباب الهجرة :

بحسب المؤتلفة، توقيف المعمدان ( مرقس 1: 14 ـ 15؛ متى 4: 12 ـ 17 )

يضيف يوحنا مضايقة الفريسيين ( 4 : 1 ـ 3 )

لكنها كانت هجرة، بتأييد الروح القدس ( لوقا 4 : 1 )

1 ـ على طريقة الهجرة، دعوة أولى ناجحة بين السامريين

حوار يسوع مع سامرية عند بئر يعقوب يهديها إلى المسيح (يو4: 1 ـ 26)

حوار يسوع مع تلاميذه : المزارع قد ابيضت للحصاد ( يو 4 : 27 ـ 38 )

إيمان أهل سيخار بيسوع أنه مخلص للعالم ( يو 4 : 39 ـ 42 )

2 ـ استقبال يسوع بحفاوة بالغة في الجليل، لرؤيتهم معجزاته في اليهودية

( يوحنا 4 : 43 ـ 45؛ لوقا 4 : 14 ـ 15 )

3 ـ دعوة ثانية في الناصرة فاترة : (( لا كرامة لنبي في وطنه )) !

( يوحنا 4 : 44؛ لوقا 4 : 22 ـ 24 )

4 ـ هجرة يسوع من الناصرة إلى كفرناحوم، فتصير (( مدينته ))

( متى 4 : 13 ـ 17؛ لوقا 4 : 31 ـ 32؛ متى 9 : 1 )

374 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

5 ـ على الطريق، في قانا يسوع يشفي ابن قائد الحامية الرومانية في كفرناحوم

ـ عن بعد : فتنفتح له المدينة بنشوة عامرة ( يوحنا 4 : 46 ـ 54 ).

 

 

القسم الثالث : الرسالة العامة الأولى في الجليل، مدة سنة ونيِّف

فصل أول : الدعوة الظافرة في كفرناحوم ـ قبل الفصح عام 28 م

توطئة : موضوع الدعوة : البشرى بحضور ملكوت الله

( مرقس 1 : 14 ـ 15؛ متى 4 : 12 ـ 17؛ لوقا 4 : 14 )

1 ـ يوم مشهود : السبت الأول في كفرناحوم

1) في الجامع : خطاب يسوع، وإخراج شيطان يصيح : (( أنت قدوس الله ))

( مرقس 1 : 21 ـ 22؛ لوقا 4 : 33 ـ 37 )

2) في بيت بطرس، شفاء حماته ( مر1 : 29 ـ 31؛ لوقا 4 : 38 ـ 39 )

3) بعد المغرب، أشفية بالجملة تثير البلد (مر1: 32 ـ 34؛ لو4: 40 ـ 41)

2 ـ اصطفاء الرسل الأربعة الأولين من بين تلاميذه

1) يسوع ينفرد للصلاة قبل اصطفائهم ( مرقس 1 : 35 ـ 38 )

2) اصطفاؤهم كرسل1 (مرقس 1: 16 ـ 20؛ متى 4: 18 ـ 22؛ لو5: 1 ـ 11)

 

ــــــــــــــــــ

(1) يذكر يوحنا اصطفاءَهم كتلاميذ في السنة الأولى، باليهودية، لذلك كانوا يعودون إلى أشغالهم؛ وتذكر المؤتلفة اصطفاءهم كرسل في مطلع الدعوة بالجليل، ليكونوا (( صيادي الناس )) ، لذلك تركوا عملهم وصحبوه.

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 375

فصل ثان : جولة أولى إلى (( القرى المجاورة )) ( أواخر كانون الثاني ؟ )

1 ـ (( هلموا بنا إلى القرى المجاورة، لأدعو فيها، لأني لأجل هذا قد خرجت ))

( مرقس 1 : 35 ـ 38 )

2 ـ الدعوة العامة، في المجامع، أيام السبت، في كل الجليل

( مرقس 1 : 39؛ متى 4 : 23؛ لوقا 4 : 31 ـ 32 مع 44 )

3 ـ مثال من معجزات يسوع في هذه الجولة الخاطفة :

شفاء أبرص (مرقس 1: 40 ـ 44؛ متى 8: 2 ـ 4؛ لوقا 5: 12 ـ 14)

4 ـ شهرة يسوع تعم الجليل كله ( مرقس 1 : 45؛ لوقا 5 : 15 )

5 ـ انفراد يسوع دائماً للصلاة، أثناء رسالته ( لوقا 5 : 16 )

دامت الجولة (( بضعة أيام )) ( مرقس 2 : 1 )

 

فصل ثالث : جولة ثانية على شاطئ البحيرة، شباط (؟) عام 28 م

كان محور الدعوة خمس جدالات مع الفريسيين والفقهاء

1 ـ جدال أول : في سلطان يسوع على الغفران، بمناسبة شفاء مقعد كفرناحوم

( مرقس 2 : 1 ـ 12؛ متى 9 : 1 ـ 8؛ لوقا 5 : 17 ـ 26 )

2 ـ جدال ثان : في مؤاكلة (( العشارين والخاطئين )) ، بمناسبة دعوة متى ووليمته

( مرقس 2 : 13 ـ 17؛ متى 9 : 9 ـ 13؛ لوقا 5 : 27 ـ 32 )

3 ـ جدال ثالث : في الصوم المطلوب من الأتقياء

( مرقس 2 : 18 ـ 22؛ متى 9 : 14 ـ 17؛ لوقا 5 : 32 ـ 39 )

4 ـ جدال رابع : في حرمة السبت

( مرقس 2 : 23 ـ 28؛ متى 12 : 1 ـ 5؛ لوقا 6 : 1 ـ 5 )

376 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

5 ـ جدال خامس : في حرمة السبت والجامع

( مرقس 2 : 23 ـ 28؛ متى 12 : 9 ـ 13؛ لوقا 6 : 6 ـ 10 )

خاتمة : المؤامرة الأولى لاغتيال يسوع

( مرقس 3 : 6؛ متى 12 : 14؛ لوقا 6 : 11 )

 

فصل رابع : جولة ثالثة إلى الجنوب الغربي من البحيرة، آذار عام 28 م

1 ـ تعليم يسوع على الشاطئ، في زحمة الجماهير من كل المناطق؛ أشفية بالجملة؛ الشياطين تصيح : (( أنت ابن الله )) (مر3: 7 ـ 12؛ متى 10: 1 ـ 4؛ لو6: 17 ـ 19)

2 ـ يسوع ينفرد على الجبل للصلاة؛ ثم يختار (( الاثني عشر )) رسولاً من بين تلاميذه ( مرقس 3 : 13 ـ 19؛ متى 20 : 1 ـ 4؛ لوقا 6 : 12 ـ 16 )

3 ـ تعليم يسوع على الجبل1؛ الجماهير تلحق بيسوع؛ إعلان الدستور الإنجيلي في شرعة الملكوت ( مرقس 3 : 13؛ متى 5 : 1؛ لوقا 6 : 12 )

شرعة الملكوت

مقدمة أولى: التطويبات السبع، واللعنات الأربع (متى 5: 3 ـ 10 لو6: 20 ـ 27)

مقدمة ثانية: المسيحي ملح الأرض ونور العالم ( متى 5 : 13 ـ 16 )

مقدمة ثالثة: المبدأ الإنجيلي العام: الإنجيل تكميل الشريعة والبر (متى 5: 17 ـ 20)

الجزء الأول : الإنجيل تكميل الشريعة ( أي الوصايا العشر ) (متى 5: 21 ـ 48)

الجزء الثاني : الإنجيل تكميل البرّ ( أي أركان الدين والإحسان )

( متى 6 : 10 ـ 7 : 12؛ لوقا 6 : 27 ـ 45 )

ــــــــــــــــــ

(1) ربما هو (( قرون حطين )) في وسط الجليل، إلى جانب البحيرة.

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 377

خاتمة أولى : الطريقان : طريق الخلاص، وطريق الهلاك ( متى 7 : 13 ـ 14 )

خاتمة ثانية : الحذر من دعاة الضلال : من ثمارهم تعرفونهم (متى 7 : 15 ـ 20)

خاتمة ثالثة : المسيحي الصادق كبيت مؤسس على صخر ( متى 7 : 21 ـ 27 )

ملاحظة : سلطان المسيح المعجز في تعليمه يذهل الجماهير ( متى 7 : 28 ـ 29 )

 

فصل خامس : الفصح الثاني، الدعوة الخاطفة في أورشليم، عام 28م

توطئة : في أورشليم يسوع يكشف عن سره للعلماء، بالمعجزة والكلمة

1 ـ المعجزة

1) شفاء مقعد يوم سبت ( يوحنا 5 : 1 ـ 15 )

2) الأزمة تشتعل : ينقض السبت ويدعي أن الله أباه ( يو5 : 16 ـ 18 )

2 ـ الدفاع في ثلاث خطب

1) الدفاع الأول : وحدة العمل والإحياء والسلطان بين الآب والابن ( 5 : 19 ـ 30 )

2) الدفاع الثاني : شهادة الآب ليسوع الابن بالمعجزات ( 5 : 31 ـ 38 )

3) الدفاع الثالث : شهادة الكتاب ليسوع : (( موسى كتب عني )) ( 5 : 39 ـ 47 )

 

فصل سادس : سبعة أشهر من الدعوة الكبرى في الجليل، بعد الفصح عام 28م

توطئة : بدأت حملات الدس والافتراء في الجليل، حيث يلاحقه فقهاء أورشليم

1 ـ يدفعون عشيرته إلى حجزه بحجة أن فيه جِنّة ( مر3 : 20 ـ 21 )

2 ـ يطلقون الإشاعة الساحرة في الجليل أيضاً : إنه رسول بعل زبول

( مر 3 : 22 ـ 30؛ متى 12 : 24 ـ 30 )

378 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

3 ـ يحملون (( أخوته )) وأُمه على حجزه، بحيلة الجنون

( مرقس 3 : 31 ـ 35؛ متى 12 : 46 ـ 50؛ لوقا 8 : 19 ـ 21 )

أولاً : جولة إلى الجنوب الغربي ( نائين ) لا يذكرها مرقس

1 ـ في كفرناحوم : شفاء غلام النقيب الروماني، يسوع يشيد بإيمان هذا المشرك (لوقا 7: 1 ـ 10؛ متى 8: 5 ـ 23)

2 ـ جولة إلى الجنوب الغربي، حتى نائين : إحياء ابن أرملة ( لوقا 7 : 11 ـ 17 )

3 ـ وفد المعمدان يستطلع أخبار يسوع ( 7 : 18 ـ 35؛ متى 11 : 2 ـ 19 )

4 ـ عودة يسوع إلى كفرناحوم : وليمة سمعان وتوبة المجدلية ( لوقا 7 : 36 ـ 50 )

5 ـ يسوع يشرك معه في الرسالة بعض النساء إلى جانب صحابته ( لوقا 8 : 1 ـ 3 )

ثانياً : التعليم بالأمثال في جولة على شاطئ البحيرة، في خريف عام 28 م

توطئة

: يسوع يعلم من جديد على الشاطئ؛ زحمة الجماهير تحمله على التعليم من سفينة؛ يسوع يغيّر أسلوب تعليمه ( مر4 : 1 ـ 2؛ متى 13 : 1 ـ 2؛ لو 8 : 4 )

1 ـ دعوة يسوع : مثل الزارع يزرع زرعه

( مرقس 4 : 3 ـ 20؛ متى 13 : 3 ـ 23؛ لوقا 8 : 5 ـ 15 )

2 ـ الملكوت مثل زرع ينبت بقوته الذاتية ( مرقس 4 : 26 ـ 29 )

3 ـ في الملكوت، إبليس يزرع الزؤان بين القمح ( متى 13 : 24 ـ 30؛ مع 36 ـ 43 )

4 ـ الملكوت ينمو مثل حبة خردل تصير شجرة

( مرقس 4 : 30؛ متى 13 : 31 ـ 32؛ لوقا 13 : 18 ـ 19 )1

5 ـ الملكوت ينمو مثل خميرة في العجين ( متى 13 : 33؛ لوقا 13 : 20 ـ 21 )

ــــــــــــــــــ

(1) لوقا يجعل المثلين، حبة الخردل، والخميرة في العجين، من الدعوة الثانية في اليهودية.

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 379

6 ـ قيمة الملكوت مثل كنز مدفون ( متى 13 : 44 )

7 ـ قيمة الملكوت مثل لؤلؤة يتيمة ( متى 13 : 45 )

8 ـ الملكوت يعمل مثل شبكة في البحر تصطاد الصالح مع الطالح

( متى 13 : 47 ـ 50 )

خاتمة : سبب التعليم بالأمثال

1) الملكوت سر يكشف عنه بأمثال

( مرقس 4 : 10 ـ 11؛ متى 13 : 10 ـ 11؛ لوقا 8 : 9 ـ 10 )

2) أسلوب الأمثال تعجيز للأعداء، وإعجاز للإخصاء

( مرقس 4 : 12؛ متى 13 : 12 ـ 15؛ لوقا 8 : 10 )

3) دعوة الرسل لفهم سر الملكوت

( مرقس 4 : 21 ـ 25؛ متى 13 : 16 ـ 17؛ لوقا 8 : 10 )

4) عظمة سر الملكوت ( متى 13 : 51 ـ 52 )

5) في الخلوة يسوع يفسّر لرسله كل شيء ( مرقس 4 : 33 ـ 34 )

ثالثاً : جولة إلى شرق البحيرة، في أرض المشركين

توطئة

: تصميم يسوع على بدء الدعوة بين المشركين من الأمميين، ما بين جدرة وجرش (مرقس 4 : 35 ـ 36؛ متى 8 : 18 ـ 23؛ لوقا 8 : 22)

1 ـ على الطريق، في البحيرة، تسكين عاصفة هوجاء بأمر من يسوع

( مرقس 4 : 35 ـ 41؛ متى 8 : 23 ـ 27؛ لوقا 8 : 23 ـ 25 )

2 ـ في جرش، شفاء مسكونين بجنّة ـ غرق الخنازير في البحيرة

( مرقس 5 : 1 ـ 20؛ متى 8 : 28 ـ 33؛ لوقا 8 : 26 ـ 39 )

380 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

3 ـ خوف المشركين من سلطان يسوع، فيطلبون إليه أن يبتعد عن أرضهم ( متى 8 : 34 )

4 ـ يسوع يرجع إلى (( مدينته )) ( متى 9 : 1 ). إحياء ابنة يائير؛ وشفاء المدمية (مرقس 5: 21 ـ 43؛ متى 9 : 18 ـ 26 : لو8 : 40 ـ 56).

5 ـ يسوع يشفي أعميين في كفرناحوم ( متى 9 : 27 ـ 31 )

6 ـ يسوع يشفي مجنوناً أخرس في كفرناحوم

( متى 9 : 32 ـ 33 أ مع 12 : 22 ـ 24؛ لوقا 11 : 14 )

خاتمة : الجموع يتعجبون، والفريسيون يدسّون ( متى 9 : 33 ب ـ 34 )

 

فصل سابع : ثلاثة أشهر من الدعوة الكبرى في الجليل، قبل الفصح عام 29 م

أولاً : جولة إلى الناصرة وضواحيها

1 ـ الزيارة الثالثة للناصرة1: بنو وطنه يتبرأون منه ( لوقا 4 : 23 ـ 30 )

2 ـ جولة يسوع في ضواحي الناصرة ( مرقس 6 : 6 )

ثانياً : بعثة الرسل التدريبية في الجليل، في شتاء عام 29 م

( مرقس 6 : 7 ـ 11؛ لوقا 9 : 1 ـ 5 )

1 ـ قبل البعثة : شرعة الرسالة المسيحية

مقدمة أولى : الدعاء إلى الله أن يرسل فعلة إلى حصاده ( متى 9 : 35 ـ 38 )

ــــــــــــــــــ

(1) متى ( 13 : 53 ـ 58 )، ومرقس ( 6 : 1 ـ 6 ) لا يذكران إلا رحلة واحدة إلى الناصرة، ويصفان حيرة أهل الناصرة بابن بلدتهم. أما لوقا فقد جمع ثلاث زيارات للناصرة في لوحة واحدة ( 4 : 16 ـ 30 ).

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 381

مقدمة ثانية : تقليد الرسل سلطان الرسالة ( متى 10 : 1 ـ 4 )

الجزء الأول : سبع وصايا للرسالة الحاضرة ( متى 10 : 5 ـ 16 )

الجزء الثاني : عشر وصايا للرسالة المقبلة ( متى 10 : 17 ـ 39 )

خاتمة أولى : من قبلكم فقد قبلني ( متى 10 : 40 ـ 41 )

خاتمة ثانية : أجر المعروف لأصغر الرسل ( متى 10 : 42 )

2 ـ نجاح بعثة الرسل ( مرقس 6 : 12 ـ 13؛ متى 11 : 1؛ لوقا 9 : 6 )

ثالثاً : العودة إلى كفرناحوم

1 ـ حيرة هيرود الصغير بأمر يسوع

( مرقس 6 : 14 ـ 16؛ متى 14 : 1 ـ 2؛ لوقا 9 : 7 ـ 9 )

2 ـ استشهاد المعمدان، نذير ليسوع

( مرقس 6 : 17 ـ 29؛ متى 14 : 1 ـ 12 )

3 ـ عودة الرسل ظافرين وتجمعهم في كفرناحوم، وسط زحمة الجماهير

( مرقس 6 : 30 ـ 31؛ لو9 : 10 أ )

رابعاً : جولة الربيع حول البحيرة، عام 29م

1 ـ عزلة يسوع مع رسله، عند بيت صيدا، شمالاً

( مرقس 6 : 30 ـ 31؛ متى 14 : 13؛ لوقا 9 : 10 ب؛ يوحنا 6 : 1 )

2 ـ معجزة تكثير الخبز، أول مرة، لبني إسرائيل، عند بيت صيدا

( مر6 : 33 ـ 54؛ متى 14 : 14 ـ 21؛ لو9 : 12 ـ 17؛ يو6 : 2 ـ 13 )

3 ـ الجماهير المتحمسة تحاول أن تعلن يسوع ملكاً

( مرقس 6 : 46 ـ 47؛ متى 14 : 22 ـ 23؛ يوحنا 6 : 14 ـ 15 )

382 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

4

ـ عبور البحيرة كلها من بيت صيدا إلى جنّيسارت ـ يسوع وبطرس يمشيان على الماء ( مرقس 6 : 48 ـ 52؛ متى 14 : 22 ـ 33؛ يو6 : 16 ـ21 )

5 ـ في جنّيصارت1 ( إلى الجنوب الغربي من البحيرة )

1) أشفية بالجملة في الساحات العامة

( مرقس 6 : 53 ـ 56؛ متى 14 : 34 ـ 36 )

2) جدال مع فقهاء من أورشليم : تحرير الشريعة من سنة الفريسيين

( مر 7 : 1 ـ 13؛ متى 15 : 1 ـ 9 )

3) إعلان للشعب : نسخ التحريم في الأطعمة

( مرقس 7 : 14 ـ 23؛ متى 15 : 10 ـ 20 )

6 ـ العودة إلى كفرناحوم، في غضون الفصح عام 28 م

قوم يسوع يستدرجونه لإعلان نفسه في أورشليم؛ فيرفض الذهاب إلى الفصح لأن اليهود كانوا فيها يطلبون قتله ( قابل يوحنا 6 : 4 مع 7 : 1 )

خامساً : في زمن الفصح، عام 29م. الخطاب الحاسم في (( خبز الحياة ))

1 ـ المناسبة :

الجموع التي شاهدت معجزة الخبز تزدحم حول يسوع ( يو6 : 22 ـ 25 )

الأخصام يستصغرون المعجزة تجاه معجزة المن لموسى ( يو6 : 26 ـ 34 )

2 ـ الخطاب في (( خبز الحياة )) ، بجامع كفرناحوم :

ــــــــــــــــــ

(1) بعد معجزة الخبز ومعجزة السير على الماء، أفضوا إلى جنيصارت، بحسب متى ( 14 : 34 ) ومرقس ( 6 : 53 )؛ لكن يوحنا يوجز الرواية فينتقل رأساً إلى كفرناحوم ( 6 : 24 ) لتدوين الخطاب الحاسم وسبب الأزمة في ختام الدعوة الكبرى في الجليل.

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 383

الجزء الأول : (( أنا الخبز الحي النازل من السماء )) ( يو6 : 35 ـ 47 )

الجزء الثاني : جسد المسيح ودمه مأكل وشراب حقيقيّان ( يو6 : 48 ـ 58 )

3 ـ نتائج الخطاب : أزمة إيمان

بوادر خيانة يهوذا ـ تلاميذ كثيرون يرتدون ( 6 : 59 ـ 66 )

التفات الرسل حول يسوع، قدوس الله الذي عنده كلام الحياة ( 6 : 67 ـ 71 )

 

 

القسم الرابع : رحلات المسيح إلى خارج الجليل وإسرائيل1

( ما بين نيسان وتشرين الأول عام 29 م )

فذلكة : مرقس يفصّلها في ست رحلات، ومتى يذكر أيضاً أحداثها. أما لوقا فيهملها بسبب تخطيطه بتوجيه الدعوة نحو أورشليم، محور رسالة المسيح وهدفها؛ لكنه يذكر بدون ظروف الزمان والمكان شهادة بطرس والتجلي. ويوحنا يكتفي ولا يزيد.

فصل أول : رحلة أولى غرباً إلى أرض صور وصيدا

( وهي رسالة ثانية في أرض المشركين )

مثال من رسالته هناك : شفاء ابنة الكنعانية

( مرقس 7 : 24 ـ 30؛ متى 15 : 21 ـ 28 )

 

ــــــــــــــــــ

(1) نلاحظ أنه كلما أمعن إسرائيل في رفض المسيح، أمعن هو في هجرانهم : فكانت هجرة أولى من اليهودية إلى (( جليل الأمم )) حيث يكثر المشركون؛ وبعد أزمة الخطاب في (( خبز الحياة )) والرِدّة، جعل دعوته بين المشركين أكثر من أهل الكتاب. وفي ذلك تخطيط متواصل وتوجيه مركّز لنقل الدعوة من بني إسرائيل إلى المشركين الأميين.

384 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

فصل ثان : رحلة ثانية شرقاً إلى أرض (( المدن العشر )) الوثنية

( وهي رسالة ثالثة في أرض المشركين )

1 ـ شفاء أصم ألكن ( مرقس 7 : 31 ـ 37 )

2 ـ جماهير المشركين تحتشد حول يسوع؛ أشفية بالجملة؛ الشهادة لإله إسرائيل

( متى 15 : 30 ـ 31 )

3 ـ معجزة تكثير الخبز، مرة ثانية، لأجل المشركين

( مرقس 8 : 1 ـ 9؛ متى 15 : 32 ـ 38 )

 

فصل ثالث : رحلة ثالثة، جنوباً إلى مغدان ودلمنوثا

في منطقة دلمنوثا ( مر8 : 10 ) ومغدان ( متى 15 : 39 ) جماعة من الفريسيين والصدوقيين والفقهاء يتحدّون يسوع بآية من السماء.

فكان الجواب : علامات الأزمنة تدل على يسوع أنه المسيح

( مرقس 8 : 11 ـ 13؛ متى 16 : 1 ـ 4 )

 

فصل رابع: رحلة رابعة، شمالاً إلى بيت صيدا1

1 ـ على البحيرة نحو الشمال: التحذير من خمير الفريسيين والصدوقيين وخمير هيرود (مرقس 8 : 14 ـ 21؛ متى 16 : 5 ـ 12).

2 ـ في بيت صيدا، شمال البحيرة، شفاء أعمى تدريجياً (مر 8: 22 ـ 26 ).

 

ــــــــــــــــــ

(1) نلاحظ أنه كلما اشتد الخناق على يسوع يلتجئ إلى بيت صيدا، بلدة نسيبيه يعقوب ويوحنا ابني زبدى، وتلميذيه المقربين بطرس واندراوس ابني يونا.

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 385

فصل خامس : رحلة خامسة إلى أقصى الشمال، في بانياس

( وهي رسالة رابعة في أرض المشركين )

1 ـ في ضواحي قيصرية فيلبس ( بانياس )

1) السؤال الأكبر المحرج : (( مَن أنا )) ؟ شهادة بطرس باسم الرسل : أنت المسيح! (مرقس 8 : 28 ـ 29؛ متى 16 : 13 ـ 16؛ لوقا 9 : 18 ـ 21)

2) الوعد الأكبر : بطرس سيكون صخر الكنيسة، وخازن مفاتيح الملكوت؛ وأَبواب الجحيم لن تصمد أمام الكنيسة ( متى 16 : 17 ـ 20 )

3) النبؤة الأولى في استشهاد المسيح ـ استنكار بطرس

( مرقس 8 : 30 ـ 33؛ متى 16 : 21 ـ 22؛ لوقا 9 : 22 )

هنا، بحسب متى، يبدأ القسم الثالث التاريخي لرسالة المسيح ( 16 : 21 )

2 ـ في أرض الشرك : الدعوة إلى حمل الصليب مع المسيح

( مرقس 8 : 34 ـ 38؛ متى 16 : 24 ـ 28؛ لوقا 9 : 23 ـ 26 )

3 ـ في أرض الشرك : الإنباء بيوم مجيء ملكوت الله بقدرة

( مرقس 9 : 1؛ متى 16 : 28؛ لوقا 9 : 27 )

4

ـ على جبل الشيخ، يسوع يتجلى إلهاً من خلال بشريته؛ موسى سيد الشريعة، وإيليا سيد النبوة يشهدان له بحضورهما. ( كان ذلك في 6 آب عام 29 م؟ ( مر9 : 2 ـ 8؛ متى 17 : 1 ـ 9؛ لوقا 9 : 28 ـ 36 )

5 ـ على طريق العودة من جبل التجلي : إيليا جاء بشخص المعمدان

( مرقس 9 : 9 ـ 13؛ متى 17 : 10 ـ 13 )

6 ـ العودة إلى الرسل : شفاء مصروع في بانياس

( مر 9 : 14 ـ 29؛ متى 17 : 14 ـ 21؛ لوقا 9 : 37 ـ 43 أ )

 

386 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

فصل سادس : جولة سادسة خفية في الجليل

فيها يكشف يسوع لرسله سر المسيح وسر الصليب

( مرقس 9 : 31 ـ 32؛ متى 17 : 22 ـ 23؛ لوقا 9 : 43 ب ـ 45 )

فصل سابع : الإقامة الأخيرة في كفرناحوم والجليل

1 ـ في كفرناحوم، يسوع بمعجزة يؤدي عنه وعن بطرس ضريبة الهيكل

( متى 9 : 24 ـ 27 )

2 ـ خلاف بين الرسل على الزعامة

( مرقس 9 : 33 ـ 35؛ متى 18 : 1 مع 20 : 27 )

3 ـ جواب المسيح : شرعة أخلاق أهل الملكوت

1) الطفولة المسيحية في السلوك والخلق الكريم

( مرقس 9 : 36 ـ 37؛ متى 18 : 2 ـ 5؛ لوقا 9 : 46 ـ 48 )

2) الحذر من المعثرة والشك ( مرقس 9 : 42 ـ 49؛ متى 18 : 6 ـ 11 )

3) السعي وراء الأخ الضال كراع وراء الخروف الضال ( متى 18 : 12 ـ 14 )

4) الإصلاح الأخوي، وسلطان الكنيسة ( متى 18 : 15 ـ 18 )

5) الصلاة الجماعية : إنها لا تُرد لأن المسيح حاضرها ( متى 18 : 19 ـ 20 )

6) واجب المغفرة للغير دائم ـ مثل العبد الذي لا يرحم أخاه

( متى 18 : 21 ـ 35 )

7) ملح التعايش السلمي بين تلاميذ المسيح

( مرقس 9 : 50؛ لوقا 14 : 34 ـ 35 )

4 ـ اسم يسوع، على لسان الناس، يطرد الشياطين ـ اعتراض يوحنا على ذلك

( مرقس 9 : 38 ـ 41؛ لوقا 9 : 49 ـ 50 )

 

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 387

ختام الرسالة كلها في الجليل

1 ـ وداع غاضب لمدن البحيرة التي لم تؤمن

( متى 11 : 20 ـ 24؛ لوقا 10 : 13 ـ 15 )

2 ـ حمد الله على ثبات الرسل

( متى 11 : 25 ـ 27؛ لوقا 10 : 21 ـ 24 )

3 ـ الدعوة الأخيرة لحمل نير المسيح لأنه خفيف ( متى 11 : 28 ـ 30 )

 

 

القسم الخامس : رسالة المسيح الثانية في أورشليم واليهودية والأردن

( ستة أشهر، من تشرين أول إلى نيسان عام 30 م )

فصل أول : عيد الخيام في أورشليم ( أوائل تشرين الأول عام 29 م )

توطئة : ظروف عودة يسوع إلى الدعوة في أورشليم واليهودية ( ويوحنا ف 7 )

1) عشيرة يسوع تدعوه للظهور بأورشليم في العيد؛ فيرفض ( 7 : 2 ـ 10 )

2) جماهير الحجاج في العيد يتساءلون عنه ( يوحنا 7 : 11 ـ 13 )

3) في منتصف العيد يسوع يظهر فجأة في الهيكل ويعلم ( 7 : 14 ـ 15 )

أولاً : أحاديث يسوع في العيد

1 ـ الخطاب الأول في العيد : تعليم يسوع منزل من الله الآب ( 7 : 16 ـ 24 )

2 ـ الخطاب الثاني في العيد : يسوع يكشف عن مصدره الإلهي ( 7 : 25 ـ 29 )

محاولة أولى لتوقيفه ( 7 : 30 )؛ الشرطة تتعقّب يسوع ( 7 : 32 )

388 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

3 ـ الخطاب الثالث في العيد : يسوع يكشف عن رجوعه إلى الآب (7 : 31 و33 ـ 36).

4 ـ الخطاب الرابع في اليوم الأخير من العيد : يسوع ينبوع الماء الحي ( 7 : 37 ـ 39 )

ختام : انقسام الرأي العام بشأنه؛ محاولة ثانية لتوقيفه ( 7 : 40 ـ 44 )

انقسام في السنهدرين بشأنه؛ نيقوديم ينتصر ليسوع ( 7 : 45 ـ 53 )

ثانياً : أحاديث يسوع بعد العيد ( يوحنا ف 8 ـ 9 )

حادث طارئ : الزانية في الجرم المشهود ( 8 : 1 ـ 11 )

1 ـ الخطاب الأول بعد العيد : يسوع نور العالم ـ قيمة شهادته لنفسه ( 8 : 12 ـ 20 )

2 ـ الخطاب الثاني بعد العيد : (( أنا هو )) ، ستعرفوني متى رفعتموني ( 8 : 21 ـ 30 )

3 ـ الخطاب الثالث بعد العيد : يسوع هو القديم من قبل إبراهيم ( 8 : 31 ـ 58 )

محاولة رجم المسيح ( 8 : 59 )

حادث مقصود : نور العالم يشفي الأعمى منذ مولده ( 9 : 1 ـ 38 )

4 ـ الخطاب الرابع بعد العيد : يسوع يُنير ويُعمي ( 9 : 39 ـ 41 )

ثالثاً : مطلع الدعوة في اليهودية، خريف عام 29 م ( يوحنا ف10 )

1 ـ الخطاب الأول : (( أنا الباب )) لحظيرة الخرفان ( 10 : 1 ـ 10 )

2 ـ الخطاب الثاني : (( أنا الراعي الصالح )) ( 10 : 11 ـ 18 )

ختام : اتساع الشقاق العام بشأنه ( 10 : 19 ـ 21 )

 

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 389

فصل ثان : ما بين عيد الخيام وعيد التجديد عام 29 م

وهي الرسالة الثانية في اليهودية ـ يرويها لوقا ( 10 : 51 ـ 13 : 20 )

أولاً : ملاحقة الفريسيين ليسوع لإحراجه ( لوقا ف 12 )

1 ـ تحذير من خمير الفريسيين ( 12 : 1 ـ 3 )

2 ـ الخوف، لا منهم، بل من القتيل الجبار ـ يسوع ( 12 : 4 ـ 7 )

3 ـ الشهادة للمسيح بتأييد الروح القدس ( 12 : 8 ـ 12 )

ثانياً : يوم ابن البشر و (( القطيع الصغير ))

1 ـ التحفظ من الطمع ـ مثل الغني الجاهل ( 12 : 13 ـ 21 )

2 ـ القناعة والتسليم للعناية الإلهية ( 12 : 22 ـ 31 )

3 ـ (( أيها القطيع الصغير، لا تخف )) ( 12 : 32 ـ 34 )

4 ـ الاستعداد الدائم ليوم ابن البشر ( 12 : 35 ـ 40 )

5 ـ على الوكيل الأمين مثل بطرس، التصرف الحكيم، حتى عودة المعلم (12 : 41 ـ 48)

ثالثاً : الدعوة المسيحية فعَّالة كالنار

1 ـ الإنجيل نار يلقيها المسيح على الأرض ( 12 : 49 )

2 ـ يسوع يستعجل عماد الاستشهاد لتثمر دعوته ( 12 : 50 )

3 ـ دعوة المسيح فَيْصل الحق الذي يفرّق بين الناس ( 12 : 51 ـ 53 )

4 ـ الاستدلال بعلامات الأزمنة على صحة الدعوة المسيحية ( 12 : 54 ـ 59 )

رابعاً : ضرورة التوبة والإيمان قبل فوات الأوان ( لوقا ف 13 )

390 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

1 ـ حادثان يحملان على التفكير بالتوبة والإيمان ( 13 : 1 ـ 5 )

2 ـ إسرائيل مثل التينة العقيمة التي حان أوان قطعها ( 13 : 6 ـ 9 )

3 ـ شفاء حدباء مثال على نشأة الإيمان ( 13 : 10 ـ 17 )

خامساً : نموّ الدعوة المسيحية في اليهودية

1 ـ إن ملكوت الله ينمو كحبة خردل تصير شجرة ( لوقا 13 : 18 ـ 19 )

2 ـ إن ملكوت الله ينمو كخميرة في عجين البشرية ( لوقا 13 : 20 ـ 21 )

 

فصل ثالث : عيد التجديد في أورشليم، 22 كانون الأول عام 29 م

1 ـ حوار أول في السؤال المحرج : هل أنت المسيح ـ أنا والآب واحد ( يوحنا 10 : 30 )

ـ محاولة رجم المسيح للمرة الثانية ( يو10 : 31 )

2 ـ حوار ثان : يسوع هو ابن الله لأنه يعمل أعمال أبيه ( يو10 : 32 ـ 38 )

ـ محاولة جديدة لتوقيف المسيح ( يو10 : 39 )

 

فصل رابع : الرسالة في شرق الأردن1، في مطلع العام 30 م

توطئة : ظروف هذه الرسالة :

1 ـ نجد وقائعها عند لوقا في الجزء الثالث من الرحلة الكبرى ( 13 : 22 ـ 17 : 11 )

ــــــــــــــــــ

(1) في (( العيون )) قرب ساليم، حيث كان يوحنا يعمد. قابل ( يو3 : 23؛ 10 : 41؛ لوقا 17 : 11 ).

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 391

2 ـ كانت رسالة ناجحة بسبب شهادة المعمدان الباقية ( يو10 : 40 ـ 42 )

3 ـ كانت رسالة متحركة كما يصفها لوقا ( 13 : 22 )

4 ـ يسوع يوزع فيها تعليمه على الشعب والأحزاب والتلاميذ والرسل

( لوقا 12 : 1 و13 و22 و54؛ 14 : 25؛ 17 : 20 و22 )

5

ـ كان عيد التجديد فاصلاً بين الدعوة في اليهودية والدعوة في الأردن كما يشير لوقا (13: 22)

أولاً : باب الخلاص ( لوقا ف 13 : 22 ـ 35 )

1 ـ الخلاص من الباب الضيق ( 13 : 22 ـ 30 )

2 ـ الفريسيون يخيفون يسوع بالملك هيرود الصغير ( 13 : 31 ـ 35 )

ثانياً : يسوع في وليمة عند فريسي، يوم سبت ( لوقا ف 14 )

1 ـ يسوع يتحداهم بشفاء مستسق يوم سبت ( 14 : 1 ـ 6 )

2 ـ درس في التواضع وأدب المجالس ( 14 : 7 ـ 11 )

3 ـ درس في إيثار المحرومين بالفضل والكرم ( 14 : 12 ـ 14 )

4 ـ مَثَل، في المتخلفين عن وليمة الملكوت ( 14 : 15 ـ 24 )

ثالثاً : خطاب في الجماهير : الشروط لاتباع يسوع في الملكوت

1 ـ التجرّد عن الأهل والمال؛ وحمل الصليب ( 14 : 25 ـ 27 )

2 ـ الاستعداد لبناء برج للدفاع، أو لمواجهة حرب ( 14 : 28 ـ 33 )

3 ـ على أهل الملكوت أن يكونوا في العالم كالملح الصالح ( 14 : 34 ـ 35 )

رابعاً : عطف يسوع على العشارين والخاطئين ( لوقا ف 15 )

المناسبة : تذمّر الفريسيين أهل التقوى، من عطف يسوع عليهم ( 15 : 1 ـ 3 )

392 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

1 ـ معاملتهم مثل الخروف الضال ( 15 : 4 ـ 7 )

2 ـ معاملتهم مثل الدرهم المفقود ( 15 : 8 ـ 10 )

3 ـ معاملتهم معاملة الأب للابن الضال ( 15 : 11 ـ 32 )

خامساً : درس للتلاميذ : أبناء النور وأبناء الدهر

1 ـ أبناء الدهر مثل ذلك القيّم الماكر ( لوقا 16 : 1 ـ 8 )

2 ـ أبناء النور يتصدقون (( بالمال الظالم )) ( 16 : 9 ـ 13 )

3 ـ الفريسيون المستهزئون رجس عند الله ( 16 : 14 ـ 15 )

4 ـ مثـَل لهم : الغني الفاجر ولعازر الصابر ( 16 : 19 ـ 31 )

سادساً : ما بين الشريعة والإنجيل

1 ـ الدعوة للملكوت بدأت مع المعمدان ( 16 : 16 )

2 ـ الإنجيل يصدّق الشريعة والنبيين ( 16 : 17 )

3 ـ لكن الإنجيل ينسخ الطلاق ( 16 : 18؛ متى 19 : 3 ـ 9؛ مر10 : 2 ـ 12 )

4 ـ التضحية بالبتولية لمن يشاء، في سبيل الملكوت ( متى 19 : 10 ـ 12 )

سابعاً : تعليم آخر للتلاميذ

1 ـ ويل للمشككين ( لوقا 17 : 1 ـ 3 )

2 ـ الغفران للأخ التائب حتى سبع مرات في اليوم ( 17 : 4 )

3 ـ الإيمان ينقل توتة من الجبل إلى البحر ( 17 : 5 ـ 6 )

4 ـ الخدمة الصالحة بين الناس لوجه الله ( 17 : 7 ـ 10 )

 

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 393

فصل خامس : الرسالة في غور الأردن الغربي

( ما بين شباط وآذار عام 30 م )

ملاحظة : يسوع يعبر من الغور الشرقي، عند (( العيون )) قرب ساليم، إلى الغور الغربي تجاه الحد الفاصل بين الجليل والسامرة ( قابل يوحنا 3 : 23 مع 10 : 40؛ ولوقا 17 : 11 ).

افتتاح الرسالة : شفاء عشرة برص، الشاكر منهم سامري ( لو17 : 12 ـ 19 )

أولاً : سؤال في ملكوت الله

1 ـ سأله الفريسيون : متى يأتي ملكوت الله ؟ ـ إنه قائم فيما بينكم ( لو17 : 20 ـ 21 )

2 ـ يسوع يكشف لرسله سرّ ظهوره بقوة : بعد استشهاده ( لوقا 17 : 22 ـ 37 )

ثانياً : تعليم في الصلاة الدائمة

1 ـ بإِلحاح مثل الأرملة مع القاضي الظالم ( لوقا 18 : 1 ـ 8 )

2 ـ بتواضع على مثال العشار تجاه الفريسي ( لوقا 18 : 9 ـ 14 )

ثالثاً : أشفية بالجملة ( متى 29 : 1؛ مرقس 10 : 1 )

رابعاً : يسوع يبارك الأولاد ـ لمثلهم ملكوت الله ( هنا يلتقي لوقا مع مرقس ومتى ) ( لو 18 : 15 ـ 17؛ مر10 : 13 ـ 16؛ متى 19 : 13 ـ 15 )

خامساً : شاب يسأل عن طريق الحياة الأبدية

1 ـ طريق الوصية : حفظ وصايا الله

( مرقس 10 : 17 ـ 20؛ متى 19 : 16 ـ 20؛ لوقا 18 : 21 ـ 22 )

2 ـ طريق النصيحة والكمال : الزهد في الدنيا

( مر 10 : 21 ـ 22؛ متى 19 : 21 ـ 22؛ لوقا 18 : 22 ـ 23 )

394 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

3 ـ خطر الغنى على الخلاص

( مرقس 10 : 23 ـ 27؛ متى 19 : 21 ـ 22؛ لوقا 18 : 24 ـ 27 )

سادساً : مكافأة العاملين مع المسيح في (( عهد التجديد )) ، على سؤال من بطرس

1 ـ مكافأة الرسل : الحكم مع المسيح في الكنيسة ( متى 19 : 27 ـ 28 )

2 ـ مكافأة العاملين : مئة ضعف على الأرض، والحياة الأبدية في السماء

( مرقس 10 : 28 ـ 31؛ متى 19 : 29 ـ 30؛ لوقا 18 : 28 ـ 30 )

 

فصل سادس : إحياء لعازر في بيت عنيا ـ آذار 31م

1 ـ استدعاء يسوع لحضور لعازر في موته ( يوحنا 11 : 1 ـ 17 )

2 ـ مرتا ثم مريم تلاقيان يسوع بالنحيب ـ أنا القيامة والحياة ( 11 : 18 ـ 32 )

3 ـ انفعال يسوع من مشهد الأحباء يبكون ( 11 : 33 ـ 38 )

4 ـ المعجزة الكبرى : يسوع بأمر منه يُحيي لعازر ( 11 : 39 ـ 44 )

5 ـ عواقب المعجزة : تصميم السنهدرين، بتدخل الحبر الأعظم، على قتل يسوع (11: 45 ـ 52)

6 ـ عزلة يسوع الأخيرة في افرائيم، بشمال اليهودية ( 11 : 53 ـ 54 )

 

فصل سابع : الرحلة الأخيرة إلى أورشليم للاستشهاد

1 ـ يسوع يمشي بثبات، وحده، في الطليعة، إلى الموت ( مرقس 10 : 32 )

2 ـ النبؤة الثالثة التفصيلية باستشهاده. ( متى ) يذكر الصلب

( مرقس 10 : 32 ـ 34؛ متى 20 : 17 ـ 19؛ لوقا 18 : 31 ـ 34 )

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 395

3 ـ ابنا زبدى، بواسطة أمهما، يطلبان المحل الأول في الملكوت

1) إنه محفوظ من قبل الله لأهله ( مر10 : 35 ـ 40؛ متى 20 : 20 ـ 23 )

2) الرسالة في المسيحية خدمة وتضحية على مثال المسيح

( مرقس 10 : 41 ـ 45؛ متى 20 : 24 ـ 28 )

4 ـ ما بين أريحا القديمة والجديدة1، شفاء أعميين، أشهرهما ابن تيماء

( مرقس 10 : 46 ـ 52؛ متى 20 : 29 ـ 34؛ لوقا 18 : 35 ـ 43 )

5 ـ في أريحا الجديدة، يسوع ينزل عند زكا العشار، فيهتدي ( لوقا 19 : 1 ـ 10 )

في مثل الأمناء العشرة، تورية عن مصير يسوع الوشيك ( لوقا 19 : 11 ـ 27 )

6 ـ الحجاج يتجمعون للعيد، ويتساءَلون : هل يأتي ؟ السنهدرين يأمر بالقبض عليه ( يوحنا 11 : 55 ـ 57 )

7 ـ السبت في أول نيسان عام 30 م، وليمة لعازر ليسوع، في بيت عنيا ( يوحنا 12 : 1 ـ 11 )

 

 

القسم السادس : الأيام الحاسمة والاستشهاد، في أورشليم

استشهاد المسيح مأساة البشرية الكبرى، في سبعة فصول

فصل أول

: أحد الشعانين ـ يسوع يدخل بصفته المسيح الموعود دخول الفاتحين إلى أورشليم ـ في 2 نيسان عام 30 م

ــــــــــــــــــ

(1) مرقس ومتى يقولان : (( وهو خارج من أريحا )) القديمة، ولوقا يقول : (( عند مدخل أريحا )) الجديدة التي بناها هيرود الكبير. وكان فيها مسكن زكا العشار.

396 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

1 ـ عند بيت فاجي : تحضير مركوب النبوة

( مرقس 11 : 1 ـ 7؛ متى 21 : 1 ـ 7؛ لوقا 19 : 18 ـ 35 )

2 ـ جماهير الحجاج تخرج من أورشليم للقاء ابن داود ( يوحنا 12 : 12 ـ 19 )

3 ـ الدخول الظافر كمسيح النبوة

( مرقس 11 : 7 ـ 10؛ متى 21 : 8 ـ 9؛ لوقا 19 : 35 ـ 38 )

4 ـ على الطريق اعتراض الفريسيين لتسميته (( ابن داود )) ( لوقا 19 : 39 ـ 40 )

5 ـ دمعة على أورشليم ( لوقا 19 : 41 ـ 44 )

6 ـ دخول عاصمة الدين والدولة بانتصار ( متى 21 : 10 ـ 11 )

7 ـ احتلال الهيكل بين الأناشيد والهتافات

( مرقس 11 : 11؛ متى 21 : 12 أ؛ لوقا 19 : 45 أ )

8 ـ معجزات بالجملة في الهيكل ( متى 21 : 14 )

9 ـ اعتراض الأحباء والفقهاء على هتافات الأطفال ( متى 21 : 15 ـ 16 )

10 ـ (( شرع يطرد الباعة )) ، تجار الدين ( لو19 : 45 ـ 48؛ متى 21 : 12 ـ 17 )

11 ـ يسوع يستقبل وفداً من الحجاج الهلـّينيين المتقين ( يو12 : 20 ـ 26 )

12 ـ صوت من السماء يشهد ليسوع في الهيكل ( يوحنا 12 : 27 ـ 30 )

13 ـ استشهاد المسيح دينونة، وصلبه هداية ( يوحنا 12 : 31 ـ 33 )

14 ـ خطاب يسوع يوم النصر : الدعوة إلى النور ( يو12 : 34 ـ 36 مع 44 : 50 )

15 ـ مراقبة كل شيء، والعودة إلى بيت عنيا للمنامة ( مرقس 11 : 11 )

16 ـ إجماع الأحبار والفقهاء والأعيان على قتل المسيح؛ وخوفهم من الشعب ( لوقا 19 : 47 ـ 48 )

 

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 397

فصل ثان : الاثنين العظيم ـ في 3 نيسان عام 30 م

1 ـ على الطريق يسوع يلعن التينة العقيمة رمز إسرائيل العقيم

( مرقس 11 : 12 ـ 14؛ متى 21 : 18 ـ 22 )

2 ـ في الهيكل يسوع يكمّل تطهيره من تجار الدين1 ( مر11 : 15 ـ 18 )

3 ـ ثم يعلّم متحديّاً سلطان السنهدرين ( لوقا 19 : 47 ـ 48 )

 

فصل ثالث : الثلاثاء العظيمة ـ الصراع الحاسم ـ في 4 نيسان عام 30 م

صباح الثلاثاء : يتحقق الرسل أن التينة يبست ـ قوة الإيمان تنقل الجبال ـ متى يقول : لما رأى التلاميذ تعجبوا )) ( 21 : 20 )؛ مرقس يحدد الوقت ( 11 : 20 )

أولاً : الجدال الأول مع السنهدرين : في سلطان يسوع

1 ـ جواب أول : سلطانه من سلطان المعمدان في التعميد

( مرقس 11 : 27 ـ 33؛ متى 21 : 23 ـ 27 )

2 ـ جواب ثان : حال إسرائيل والأمميين في مثل الابنين ( متى 21 : 28 ـ 32 )

3

ـ جواب ثالث : حال اليهود، ومنزلة يسوع في تاريخ النبوة والكتاب ـ بمثل الأنبياء والكرامين القتلة، ومثل حجر الزاوية

( مرقس 12 : 1 ـ 11؛ متى 21 : 33 ـ 42؛ لوقا 20 : 9 ـ 18 )

ــــــــــــــــــ

(1) افتتح يسوع دعوته في الفصح الأول بتطهير الهيكل من تجار الدين، بحسب يوحنا ( 2 : 13 ـ 22 ). وختم دعوته في الفصح الرابع بعمل مماثل، بحسب المؤتلفة. يقول لوقا (( شرع يطرد الباعة )) مساء الأحد، وروى القصة مثل متى. لكن مرقس يحدّد أن تكميل التطهير تم يوم الاثنين، فاستغرق نهاره. لذلك لا يروون تعليماً في يوم الاثنين. وهذا يفسر أيضاً انتظار السنهدرين إلى الثلاثاء لاستجواب يسوع في سلطانه بالتعليم في الهيكل.

398 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

4 ـ الإعلان بنقل الملكوت من اليهود إلى أمة المسيح ( متى 21 : 43 )

الخاتمة : محاولة السنهدرين القبض على يسوع

( مرقس 12 : 12؛ متى 21 : 45 ـ 46؛ لوقا 20 : 19 )

ثانياً : ما بين صراعين ـ تعليم للشعب : رسالة المسيح مثل عرس ملك لابنه

( متى 22 : 1 ـ 14 )

ثالثاً : الجدال الثاني مع الأحزاب اليهودية : في تعليم يسوع

1 ـ مع الفريسيين : في جواز تأدية الجزية لقيصر

( مرقس 12 : 13 ـ 17؛ متى 22 : 15 ـ 22؛ لوقا 20 : 20 ـ 26 )

2 ـ مع الصدوقيين : في حقيقة القيامة

( مرقس 12 : 18 ـ 27؛ متى 22 : 23 ـ 33؛ لوقا 20 : 27 ـ 40 )

3 ـ مع علماء الشريعة : في الوصية الكبرى

( مرقس 12 : 28 ـ 34؛ متى 22 ـ 34 ـ 40 )

خاتمة : يسوع يتحداهم بنبؤة داود ـ المسيح ابن داود وربه معاً

( مرقس 12 : 35 ـ 37؛ متى 22 : 41 ـ 46؛ لوقا 20 : 41 ـ 44 )

رابعاً : حملة يسوع في الهيكل على الفريسيين والكتبة ( الفقهاء ) بسبع لعنات

( متى 23 : 1 ـ 36؛ مرقس 12 : 37 ـ 40؛ لوقا 20 : 45 ـ 47 )

خامساً : وداع الهيكل عند المساء

1 ـ رثاء أورشليم وهجرها حتى تقول : (( أتى ))

( متى 23 : 37 ـ 39؛ لوقا 13 : 34 ـ 35 )

2 ـ تبرّع أرملة بفلس لبيت الرب أفضل من تبرع الأغنياء بفضلاتهم الكبيرة

( مرقس 12 : 41 ـ 44؛ لوقا 21 : 1 ـ 4 )

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 399

3 ـ يسوع يتنبأ بخراب الهيكل، وهو خارج منه

( مرقس 13 : 1 ـ 4؛ متى 24 : 1 ـ 3؛ لوقا 21 : 5 ـ 7 )

سادساً : على جبل الزيتون نبؤة يسوع في نهاية إسرائيل، رمز نهاية العالم

1 ـ آخرة إسرائيل ( مر13 : 5 ـ 18؛ متى 24 : 4 ـ 20؛ لوقا 21 : 8 ـ 24 )

2 ـ آخرة العالم ( مر13 : 19 ـ 27؛ متى 24 : 21 ـ 31؛ لوقا 21 : 25 ـ 27 )

3 ـ آخرة إسرائيل في الجيل الحاضر

( مرقس 13 : 28 ـ 31؛ متى 24 : 32 ـ 35؛ لوقا 21 : 28 ـ 33 )

4 ـ آخرة العالم علمها عند الله ( مرقس 13 : 32؛ متى 24 : 36 )

خاتمة : السهر المسؤول ـ مثل القيّم الأمين

( مرقس 13 : 33 ـ 37؛ متى 24 : 37 ـ 51؛ لوقا 21 : 34 ـ 36 )

سابعاً : حديث آخر : الانتظار الدائم لرجوع ابن البشر

1 ـ الانتظار الدائم بالسهر : مثل العذارى العشر ( متى 25 : 1 ـ 13 )

2 ـ الانتظار الدائم بالعمل : مثل الوزنات ( متى 25 : 14 ـ 30 )

3 ـ لأن المسيح سيرجع ملك يوم الدين ( متى 25 : 31 ـ 46 )

ختام دعوة المسيح : اليهود رفضوا النور ( يوحنا 12 : 37 ـ 43 )

 

فصل رابع : الأربعاء العظيمة ـ خلوة استعدادية ـ في 5 نيسان عام 30 م

1 ـ يسوع يحدّد زمن وكيفية استشهاده، بإعلان صريح :

(( الفصح بعد يومين! وابن البشر يُسلم للصلب )) ! ( متى 26 : 1 ـ 2 )

400 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

2 ـ المؤامرة الأخيرة عند الحبر الأعظم : تأجيل التنفيذ إلى ما بعد العيد

( مرقس 14 : 1 ـ 2؛ متى 26 : 3 ـ 5؛ لوقا 22 : 1 ـ 2 )

3 ـ وليمة سمعان الأبرص1، بدون جمهور : الطيب رمز لتحنيط يسوع

( متى 26 : 6 ـ 13؛ مرقس 14 : 3 ـ 9 )

4 ـ خيانة يهوذا تعجّل في استشهاد المسيح في العيد

( مرقس 14 : 10 ـ 11؛ متى 26 : 14 ـ 16؛ لوقا 22 : 3 ـ 6 )

فصل خامس : خميس الأسرار ـ في 6 نيسان عام 30 م

تمهيد : تهيئة الفصح نهار الخميس

( مرقس 14 : 12 ـ 16؛ متى 26 : 17 ـ 19؛ لوقا 22 : 7 ـ 13 )

أولاً : العشاء السري، في (( الهجعة الأولى2 )) من الليل

1 ـ يسوع يعلن معنى هذا العشاء : إنه دليل الحب الأسمى

( يوحنا 13 : 1 ـ 3؛ لوقا 22 : 14 ـ 18؛ مر 14 : 25؛ متى 26 : 29 )

2 ـ التطهير قبل أكل الفصح الموسوي ـ مثال التواضع الأسمى

( يوحنا 13 : 4 ـ 17؛ قابل لوقا 22 : 24 ـ 30 )

ــــــــــــــــــ

(1) يذكر يوحنا وليمة (( قبل الفصح بستة أيام )) أي في ( 1 ) نيسان ( يو12 : 1 ). لوقا لا يذكر عنها شيئاً. ومرقس ومتى يذكران وليمة يوم الأربعاء في ( 5 ) نيسان. كثيرون يعتبرونهما واحدة بسبب تضميخ يسوع بالطيب وذكر يسوع لدفنه. لكن هذه عادة شرقية مألوفة في الولائم مع ضيف الشرف، فلا يُبنى عليها استنتاج. لذلك نحن نرى فيهما وليمتين : في الأولى مرتا تخدم فالوليمة في بيتها وأخوها متكئ مع يسوع، ويحضر جمهور ليرى يسوع؛ في الثانية لا ذكر للعازر ومرتا ومريم، والوليمة عند سمعان الأبرص، ولا جمهور يحضرها وتكثر الولائم في الحج والعيد.

(2) كان اليهود يقسمون الليل إلى أربع هجعات، والنهار إلى أربع ساعات، كل واحدة منها مؤلفة من ثلاث ساعات؛ وتسمى ساعة النهار وهجعة الليل باسم الساعة الزمانية التي تبدأ بها : الأولى، الثالثة، السادسة، التاسعة.

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 401

3 ـ إعلان الخائن وإخراجه، أثناء أكل الفصح الموسوي

(يو13: 18 ـ 30؛ مر14: 17 ـ 21؛ متى 26: 20 ـ 25؛ لو22: 21 ـ 23)

4

ـ قبل رسم القربان المسيحي، يسوع يقول حبه لرسله، ويوصيهم بالوصية الجديدة (يوحنا 13 : 31 ـ 38)

5 ـ رسم القربان المسيحي؛ القربان الجديد فصح ورمز وحقيقة

( مرقس 14 : 22 ـ 24؛ متى 26 : 26 ـ 28؛ لوقا 22 : 16 ـ 20 )

6 ـ حديث الوداع على العشاء ( يوحنا ف 14 كله )

1) تهيئة الرسل لفراق المسيح الموقـّت ( 14 : 1 ـ 17 )

2) إنه غياب لا فراق؛ يعوضه حضور (( الفارقليط الآخر )) ؛ وحضوره السري إليهم مع الآب ( 14 : 18 ـ 26 )

3) غيابه سلام وفرح بالروح، لأنه رجوع إلى الآب ( 14 : 27 ـ 31 )

7 ـ حديث آخر للوداع ( زمانه ربما قبل الرفع إلى السماء1 ) ( يوحنا ف 15 ـ 16 )

1) تصريح عن محبته الدائمة لهم، مع غيابه عنهم ( 15 : 1 ـ 17 )

2) مصيرهم في العالم، وموقف العالم منهم؛ تأييد الروح القدس الدائم لهم ( 15 : 18 ـ 16 : 4 )

3) الغياب عنهم لا يعني الفراق؛ يعوّض حضوره بينهم : حضور الفارقليط، ورجوعه السري إليهم مع الآب، شرط المحبة المتبادلة ( 16 : 5 ـ 33 )

ــــــــــــــــــ

(1) يدل على إقحامه هنا إشارة يوحنا الأولى في ختام حديث الوداع على العشاء السري : (( قوموا، ولننطلق من ههنا )) ( 14 : 31 )؛ والإشارة الثانية بعد حديث الوداع المقحم ( ف 15 : 16 ) : (( تكلم يسوع بهذا ثم رفع عينيه إلى السماء وقال )) ( 17 : 1 )؛ والإشارة الثالثة : (( تكلم يسوع بهذا، وخرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون )) ( 18 : 1 ) .

402 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

8 ـ صلاة المسيح الكبرى، بعد العشاء السري ( يوحنا 17 كله )

1) يسوع يصلي لنفسه ( 17 : 1 ـ 5 )

2) يسوع يصلي لأجل رسله ( 17 : 6 ـ 19 )

3) يسوع يصلي لأجل التلاميذ المؤمنين به على يدهم مدى الدهر (17: 20 ـ 26)

ثانياً : في (( الهجعة الثانية ))1 من الليل، الصلاة والنزاع في بستان الزيتون

ـ إنه صراع مع إبليس في استشهاد المسيح2

1 ـ يسوع ينبئهم بتشتيت الرسل وجحود بطرس له

(يو18 : 1 ـ 3؛ مر14 : 27 ـ 31؛ متى 26 : 31 ـ 35؛ لو22 : 31 ـ 39)

2 ـ يسوع ينفرد بالثلاثة المقربين، ويصلي وحده ثلاث مرات في نزاع مرير

( مرقس 14 : 32 ـ 42؛ متى 26 : 36 ـ 46؛ لوقا 22 : 40 ـ 42 )

3 ـ ملاك يؤاسي يسوع ويشجعه على الاستشهاد ( لوقا 22 : 43 ـ 46 )

4 ـ حضور الحراس والشرطة مع يهوذا لتوقيف المسيح

1) عصابة الخائن ( مرقس 14 : 54؛ متى 26 : 48؛ يوحنا 18 : 2 ـ 3 )

2) قبلة الخيانة ( يو18 : 4؛ مر14 : 43 ـ 45؛ متى 26 : 47 ـ 50؛ لو22 : 47 ـ 48 )

5 ـ جلال المسيح في استسلامه للاستشهاد ( يوحنا 18 : 4 ـ 9 )

6 ـ محاولة بطرس الخائفة للدفاع عن يسوع، وردع يسوع له

( يو18 : 10 ـ 11؛ مر14 : 46 ـ 47؛ متى 26 : 50 ـ 54؛ لو22 : 49 ـ 51 )

ــــــــــــــــــ

(1) الهجعة الثانية من الليل أي من التاسعة ليلاً إلى الثانية عشرة، على حسابنا.

(2) كان الصراع الأول مع إبليس في مطلع دعوة المسيح لتحويل يسوع من الدعوة الروحية إلى الدعوة القومية، على حسب رغبة بني قومه. وهذا الصراع الثاني ( لوقا 4 : 13 مع يوحنا 12 : 21 ـ 32 ) في ختام الدعوة لتحويل يسوع من الاستشهاد إلى الجهاد القومي بحسب رغبة بني قومه.

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 403

7 ـ القبض على يسوع وهرب الرسل

( يو18 : 12؛ مر14 : 48 ـ 52؛ متى 26 : 55 ـ 56؛ لوقا 22 : 52 ـ 53 )

ثالثاً : في (( الهجعة الثالثة ))1 من الليل، التحقيق مع يسوع عند الحبر الأعظم

1 ـ التحقيق الأول عند حنان، (( في تعليمه وتلاميذه )) ( يوحنا 18 : 19 ـ 23 )

2 ـ التحقيق الثاني عند الحبر الأعظم قيافا بقصره : في هدم الهيكل

( مرقس 14 : 53 ـ 59؛ متى 26 : 57 ـ 63 )

3 ـ أثناء التحقيق، بطرس ينكر يسوع بسبب جارية

( يو18 : 15 ـ 18 مع 25؛ مر14 : 66 ـ 72؛ متى 26 : 69 ـ 75؛ لو22 : 54 ـ 62 )

4 ـ إهانة الموقوف الإلهي في غرفة التحقيق، أمام قضاته

( مرقس 14 : 55 و65؛ متى 26 : 67 ـ 68 )

رابعاً : في (( الهجعة الرابعة ))2 من الليل، حبس المسيح إلى الصبح

يسوع يستسلم لإهانات الحرس والخدام ( لوقا 22 : 63 ـ 64 )

 

فصل سادس: نهار الجمعة العظيمة (في7 نيسان عام 30) محاكمة المسيح قبل الظهر

أولاً : محاكمة المسيح الدينية أمام السنهدرين في بدء (( الساعة الأولى ))3

ــــــــــــــــــ

(1) الهجعة الثالثة من الليل تكون على حسابنا من الثانية عشرة ليلاً إلى الثالثة بعد منتصف الليل.

(2) الهجعة الرابعة من الليل تكون على حسابنا من الثالثة بعد منتصف الليل إلى السادسة.

(3) الساعة الأولى على حسابنا من السادسة إلى التاسعة صباحاً.

404 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

1 ـ في الصباح الباكر : استجواب يسوع في السنهدرين1؛ شهادته بمسيحيته وإلهيته؛ الحكم بالإعدام ( مر14 : 60 ـ 65؛ متى 26 : 63 ـ 67؛ لو22 : 66 ـ 71 )

2 ـ في الساعة السابعة صباحاً، على حسابنا، تسليم يسوع موثوقاً إلى الوالي الروماني لتصديق الحكم ( يو15 : 28؛ مر15 : 1؛ متى 27 : 1 ـ 2؛ لو23 : 1 )

3 ـ يأس يهوذا الخائن وانتحاره ( متى 27 : 3 ـ 10 )

ثانياً : محاكمة المسيح المدنية عند الوالي الروماني

1 ـ الاستجواب الأول عند الوالي : المسيح الملك ( في الساعة الأولى من النهار )2

1) الشكوى : يدّعي أنه المسيح الملك، ويثير الشعب

( يوحنا 18 : 28 ـ 32؛ مر15 : 1 ـ 2؛ متى 27 : 11؛ لوقا 23 : 3 ـ 4 )

2) تحقيق الوالي مع يسوع : إنه المسيح الملك دينيّاً، لا سياسيّاً

( يو18 : 33 ـ 38 )

3) المقابلة مع الأخصام : تُهم متنوعة؛ صمت يسوع في جلال ومهابة

( مرقس 15 : 3 ـ 5؛ متى 27 : 12 ـ 14؛ لوقا 23 : 5 ـ 7 )

4) محاولة بيلاطس الأولى لتخليص يسوع : إحالته إلى هيرود ( لوقا 23 : 8 )

2 ـ يسوع عند الملك هيرود3 : صمت وسخرية ( لوقا 23 : 8 ـ 12 )

ــــــــــــــــــ

(1) يوحنا لا يذكر المحاكمة الدينية التي فصّلها سابقوه، فاكتفى بما نقلوا؛ لكنه حدّد زمن تقديم يسوع للوالي الروماني : (( وكان الصبح )) ( 18 : 28 ). أما مرقس ومتى فقد جمعا بين جلسة التحقيق وجلسة إصدار الحكم، وميّزا بينهما في التقرير ( متى 26 : 59 مع 27 : 1؛ مرقس 14 : 55 مع 15 : 1 ). لكن لوقا فقد ميّز بين جلسة التحقيق ليلاً ( لوقا 22 : 54 ) وجلسة الاستجواب والحكم صباحاً، (( ولمّا كان النهار )) ( لوقا 22 : 66 ).

(2) أي من الساعة السابعة إلى التاسعة صباحاً، على حسابنا الجاري.

(3) نقدر أن نحدد الزمن بمطلع (( الساعة الثالثة )) ، أي في الساعة التاسعة، على حسابنا الجاري.

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 405

3 ـ الاستجواب الثاني عند الوالي : المسيح الإله ( في الساعة الثالثة من النهار )1

1) محاولة ثانية لتخليص يسوع : المفاضلة بين يسوع المسيح ويسوع بن عبَّاس

( يو18 : 38 ـ 40؛ مر15 : 6 ـ 10؛ متى 27 : 15 ـ 18؛ لوقا 23 : 13 ـ 19)

2) تدخّل امرأة بيلاطس؛ إعلان براءة يسوع، مع الاكتفاء بتأديبه

( متى 27 : 19 : لوقا 23 : 20 ـ 23 )

3) محاولة ثالثة لتخليص يسوع : تأديبه بالجلد وأكليل الشوك (( هوذا الرجل! ))

( يوحنا 19 : 1 ـ 7؛ مرقس 15 : 16 ـ 19؛ متى 27 : 26 ـ 30 )

4) التحقيق الثاني مع يسوع : إِنه المسيح الإله ـ خوف الوالي من تسليمه إليهم (يوحنا 19 : 8 ـ 12 أ)

5) تهديد الوالي برفع الأمر إلى قيصر ـ فيستسلم ( يوحنا 19 : 12 ـ 15 )

6) بيلاطس يتبرأ من دم المسيح يغسل يديه أمام الجمهور؛ واليهود :

(( دمه علينا وعلى أولادنا )) ( متى 27 : 24 ـ 25 )

7) إعلان الحكم، بتنفيذ الإعدام صلباً، قبيل الظهر2

( يو19 : 14 ـ 16؛ مر15 : 15 مع 20؛ متى 27 : 26 و31؛ لوقا 23 : 24 ـ 25 )

 

ــــــــــــــــــ

(1) (( الساعة الثالثة )) تمتد من التاسعة إلى الثانية عشرة على حسابنا. فإذا حسمنا ساعة عند هيرود، يكون الاستجواب الثاني من العاشرة إلى الحادية عشرة والنصف على حسابنا الجاري.

(2) ساعة صدور حكم الوالي بصلب المسيح : متى ولوقا لا يحددان شيئاً. مرقس يقول : (( وكانت الساعة الثالثة لما صلبوه )) ( 15 : 25 ) أي في أثنائها. ويوحنا على عادته يحدّد الزمن فيقول : (( وكانت تهيئة الفصح، وكان نحو الساعة السادسة )) عند صدور الحكم ( 19 : 14 ) أي في أواخر الساعة الثالثة. فليس من تعارض بين القولين؛ إنما عند يوحنا تحديد أدق : فكان إعلان الحكم قبيل الظهر، أي على حسابنا نحو الحادية عشرة والنصف؛ والصلب ظهراً.

406 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

فصل سابع : الاستشهاد الأكبر على الصليب ( الجمعة 7 نيسان عام 30م )

أولاً : درب الصليب ـ قُبَيْل الظهر

1 ـ يسوع يحمل صليب الإعدام

( يوحنا 19 : 17؛ مرقس 15 : 20؛ متى 27 : 31 )

2 ـ يسوع يسير في الشارع حاملاً الصليب

( مرقس 15 : 20؛ متى 27 : 31 )

3 ـ سمعان القيرواني يساعد يسوع على حمل الصليب

( مرقس 15 : 21؛ متى 27 : 26؛ لوقا 32 : 26 )

4 ـ نساء أورشليم يندبن يسوع ( لوقا 23 : 27 ـ 31 )

ثانياً : صلب المسيح، يوم الجمعة، ظهراً

1 ـ الكيفية : سمّروه، عرياناً، بين لصين ـ وقد رفض خمر التخدير

(يو19: 18 ـ 24؛ مر15: 22ـ 28؛ متى 27: 33 ـ 38؛ لوقا 23: 33 ـ 34)

2 ـ الجند يقسمون ثياب يسوع ويحرسونه ( مر15 : 24؛ متى 27 : 35 ـ 36 )

3 ـ مدة نزاع المسيح على الصليب : كسوف الشمس وظلمة على الأرض، ثلاث ساعات (متى 27 : 45؛ مرقس 15 : 33؛ لوقا 23 : 44 ـ 45)

4 ـ الشماتة والتعييرات للمصلوب، (( المسيح ملك اليهود )) !

( مرقس 15 : 29 ـ 32؛ متى 27 : 37؛ لوقا 23 : 35 ـ 38 )

5 ـ عند اقدام الصليب : مريم أم المسيح ويوحنا الحبيب، ومريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسى امرأة عمه قلوبا ( يوحنا 19 : 25 ـ 27 )

6 ـ من بعيد بعض التلاميذ والتلميذات ينظرون واجمين

( مرقس 15 : 40 ـ 41؛ متى 27 : 55 ـ 56؛ لوقا 23 : 49 )

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 407

ثالثاً : كلمات المسيح السبع على الصليب، ثلاث من أول النزاع، وأربع في آخره

1 ـ الأولى : (( يا أبت اغفر لهم، فإنهم لا يدرون ما يعملون )) ( لوقا 23 : 34 )

2 ـ الثانية : للص المصلوب التائب : (( اليوم تكون معي في الفردوس )) ( لوقا 23 : 43 )

3 ـ الثالثة : (( هذا هو ابنك ـ هذه هي أمك )) ( يوحنا 19 : 26 ـ 27 )

4 ـ الرابعة، نحو العصر : (( إلهي، إلهي، لماذا تركتني ))

( مرقس 15 : 34؛ متى 27 : 46 )

5 ـ الخامسة، نحو العصر : (( أنا عطشان )) ( يوحنا 19 : 28 )

6 ـ السادسة، عند العصر : (( لقد تمَّ )) كما كُتب ( يوحنا 19 : 30 )

7 ـ السابعة، عند العصر : (( يا أبتاه، بين يديك استودع روحي )) ( لوقا 23 : 46 )

رابعاً : موت المسيح على الصليب، عند العصر

1 ـ الموت الحقيقي : (( وأسلم الروح ))

( يوحنا 19 : 30؛ مرقس 15 : 37؛ متى 27 : 50؛ لوقا 23 : 46 )

2 ـ حجاب الهيكل ينشق، رمز نسخ العهد مع إسرائيل

( مرقس 15 : 38؛ متى 27 : 51؛ لوقا 23 : 45 )

3 ـ زلزلت الأرض زلزالها ( متى 27 : 51 ـ 53 )

4 ـ الضابط الروماني يشهد أن المصلوب صدّيق وابن الله

( مرقس 15 : 39؛ متى 27 : 54؛ لوقا 23 : 47 )

5 ـ الجماهير تنسحب واجمة نادمة ( لوقا 23 : 48 )

6 ـ المعارف والتلميذات يتأملون من بعيد مذهولين

( مرقس 15 : 40 ـ 51؛ متى 27 : 55 ـ 56؛ لوقا 23 : 49 )

408 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

7 ـ إلى أين ذهبت نفس المسيح بعد موته ؟

بما أنها أفلتت من حدود وقيود المادة، ولم تزل متحدة بكلمة الله

1) ذهبت إلى الفردوس : (( اليوم تكون معي في الفردوس )) ( لوقا 23 : 43 )

2) وذهبت أيضاً إلى سجن الموتى الخالصين تبشرهم بالخلاص، كما أعلن بطرس

( 1 بطرس 3 : 18 ـ 20 )

خامساً : دفن المسيح، الجمعة، قبل المغرب

1

ـ اليهود يطلبون من الوالي الإجهاز على المصلوبين ـ جندي يطعن قلب يسوع بحربة! (يوحنا 19 : 31 ـ 37)

   

2

ـ يوسف الرامي، الوجيه المشير في السنهدرين يستأذن الوالي بدفن المسيح ( يو19 : 38؛ مر15 : 42 ـ 45؛ متى 27 : 57 ـ 58؛ لوقا 23 : 50 ـ 52 )

   

3

ـ يوسف يقدم الكفن، ونيقوديم الحنوط، فيحنطان يسوع، ويدفنانه في مدفن الرامي (يوحنا 19 : 38 ـ 42؛ مرقس 15 : 46؛ متى 27 : 59 ـ 61؛ لوقا 23 : 53 ـ 56)

   

4

ـ الحضور على الدفن : جلس قبالة القبر مريم المجدلية ومريم الأخرى1. ولا ينص الإنجيل على حضور يوحنا الرسول وأُم المسيح الدفن، بل رجعا بعد موت المسيح مع سائر التلميذات كعادة الشرقيين : (( أخذها إلى عنده )) (مرقس 15 : 47؛ متى 27 : 61؛ لوقا 23 : 55؛ يوحنا 19 : 27)

   

5

ـ قبل المغرب، بعض التلميذات أعددن حنوطاً ( لوقا 23 : 56 )

ــــــــــــــــــ

(1) هي مريم التي لقلوبا ( يو19 : 25 )، مريم أم يعقوب ( لوقا 24 : 10 )، مريم أم يوسى، مريم أم يعقوب ( مرقس 15 : 47 مع 16 : 1 )، مريم أم يعقوب ويوسى، مريم الأخرى ( متى 27 : 56 و 61 ) كلها كناية عن واحدة، وهي (( أخت )) أي ابنة عم مريم العذراء، أو (( سلفتها )) كما يقولون، وزوج قلوبا عم يسوع.

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 409

سادساً : خاتمة المأساة الكبرى ـ سبت النور في 8 نيسان 30 م

1

ـ التلاميذ يحفظون حرمة السبت والفصح والموت ( لوقا 23 : 56 )

   

2

ـ لكن أحبار وشيوخ السنهدرين يطلبون من الوالي ختم القبر وإقامة الحرس الروماني عليه ( متى 27 : 62 ـ 66 )

   

3

ـ السبت، بعد المغرب، (( اشترت مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ( ويوسى )، وصالومة ( اَم ابني زبدى ) حنوطاً ليأتين ويحنطنه )) ، أي أكملن أعداد الحنوط1 ( مرقس 16 : 1 )

ففي نظر التلاميذ والتلميذات أن أمر يسوع الناصري قد انتهى.

 

 

القسم السابع : القيامة والظهور والرفع إلى السماء

توطئة : الوثيقة الأولى تاريخيّاً : إنجيل القيامة ( 1 كور 15 : 1 ـ 11 )

فصل أول : أحد القيامة، في 9 نيسان عام 30 م

القبر الخالي ـ الملائكة تبشر بالقيامة

1 ـ ظهور المسيح حيّاً لأمه لا يذكره الإنجيل، لكن منطق الحياة والإيمان يؤكد ذلك

ــــــــــــــــــ

(1) لوقا يذكر إعداد الحنوط مساء الجمعة ( 23 : 56 ) ومرقس مساء السبت ( 16 : 1 ). وليس من تعارض في ذلك. فكل فريق أعد حصته من الحنوط حسبما سنحت الفرصة : فاللواتي رجعن مع العذراء ولم يحضرن الدفن، أعددن حصتهن مساء الجمعة؛ أما المجدلية ومريم الأخرى اللتان حضرتا الدفن، فأعدّتا مساء السبت.

410 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

2

ـ المجدلية تسبق التلميذات إلى القبر، مع الفجر؛ فتجده خالياً؛ فتسرع لتخبر بطرس والرسل ( يوحنا 20 : 1 ـ 2 )

3 ـ بطرس ويوحنا يحضران ويتحققان القبر الخالي

( يوحنا 20 : 2 ـ 10؛ لوقا 24 : 12 )

4

ـ التلميذات حاملات الحنوط يحضرن إلى القبر، (( وقد طلعت الشمس )) . ملاك يخبرهن بالقيامة ( مر16 : 1 ـ 8؛ متى 28 : 1 ـ 7؛ لو24 : 1 ـ 11 )

   

5

ـ المجدلية، مع مريم الأخرى ( زوج قلوبا، عم المسيح )، تعود إلى القبر، فترى المسيح حيّاً ( يوحنا 20 : 11 ـ 18؛ مرقس 16 : 9 ـ 11 )

   

6

ـ يسوع يظهر للتلميذات حاملات الحنوط، على طريق العودة من القبر ( متى 28 : 8 ـ 10 )

7 ـ شهادة الحرس ـ ورشوتهم ليسكتوا ( متى 28 : 11 ـ 15 )

 

فصل ثان : يسوع يظهر حيّاً، في أورشليم، مدة أسبوع ( 9 ـ 16 نيسان )

1

ـ في أحد القيامة يسوع يظهر لبطرس زعيم الرسل، قبل جميع التلاميذ والرسل ( لوقا 24 : 34؛ 1 كور 15 : 5 )

   

2

ـ في أحد القيامة، يسوع يظهر ثانياً لزعيم آل البيت، عمه قلوبا، مع تلميذ من عمَّاوس (لوقا 24 : 13 ـ 34؛ مرقس 16 : 12 ـ 13)

   

3

ـ مساء أحد القيامة، الظهور الأول للرسل مجتمعين بدون توما : يسوع يمنحهم سلطان الغفران ( يو20 : 19 ـ 25؛ مر16 : 14؛ لوقا 24 : 36 ـ 43 )

   

4

ـ في الأحد التالي، 16 نيسان، الظهور الثاني للرسل مجتمعين، وتوما معهم : نعمة الإيمان الذي يعترف بإِلهية المسيح ( يوحنا 20 : 26 ـ 29 )

 

تخطيط لسيرة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 411

فصل ثالث : يسوع يظهر حيّاً، في الجليل، مدة شهر ( 16 نيسان ـ 16 أيار )

1

ـ الظهور الثالث، لبعض الرسل المقربين، عند بحيرة طبريا : يسوع يعفو عن بطرس لقاء حبه ويقلّده سلطان رعاية الكنيسة ( يو21 : 1 ـ 23 )

   

2

ـ الظهور الرابع لجميع الرسل الاثني عشر، بحضور خمس مئة تلميذ، على جبل في الجليل : تقليدهم سلطان الرسالة في العالم كله

( متى 28 : 16 ـ 20؛ مرقس 16 : 15 ـ 18، مع 1 كور 15 : 6 )

   

3

ـ ظهور خاص ليعقوب (( أخي الرب )) أي ابن عمه قلوبا، زعيم آل البيت (1 كور 15: 7)

   

4

ـ ظهور (( لجميع الرسل )) غير الاثني عشر ( 1 كور 15 : 7 )

   

5

ـ لوقا يشير إلى ظهورات أخرى (( مدة أربعين يوماً )) ( الأعمال 1 : 3 )

 

فصل رابع : الظهور الأخير بأورشليم، ثم الصعود إلى السماء

1

ـ الظهور الأخير، بأورشليم، في نهاية (( الأربعين يوماً )) ـ حديث الوداع الأخير، والوعد بالروح القدس الفارقليط

( مرقس 16 : 15 ـ 18؛ لوقا 24 : 44 ـ 49؛ يوحنا ف 15 ـ 16 )

   

2

ـ في 18 أيار عام 30 م، على جبل الزيتون، يسوع يرتفع حيّاً إلى السماء، على مشهد من الرسل وآل البيت، وجمهور من التلاميذ، بحضور السيدة أم المسيح وبعض التلميذات

( مرقس 16 : 19 ـ 20؛ لوقا 24 : 50 ـ 53؛ مع الأعمال 1 : 1 ـ 14 )

 

دِرَاسَاتٌ إِنْجِيلِيَّةٌ

1)

الدفاع عن المسيحيّة

     
 

في الإنجيل بحسب متى

 

 

في الإنجيل بحسب مرقس

     

2)

تاريخ المسيحيّة

     
 

في الإنجيل بحسب لوقا

 

 

في سفر أعمال الرسل

     

3)

فلسفة المسيحيّة

     
 

الرسول بولس

 

 

رسائل بولس

     

4)

صوفيّة المسيحيّة

     
 

في الإنجيل بحسب يوحنا

 

 

في سفر الرؤيا