الإسلام وحقوق المرأة


مقدمة

قبل عشرين عاما من اليوم (1980)، وفي أوج نشاط الحركة الإسلامية السياسية في العالم الإسلامي، صدر كتاب "المرأة في الإسلام" صرخة للدفاع عن حقوق المرأة في لحظة تَهاَوَن في حقوقها جلّ الرجال والنساء تجنبا لعدم فتح ملف "شائك وحساس". وكان من الطبيعي أن تشن حملات أصولية ضد الكتاب، ولكنه أيضا هوجم من قبل العديد من الكتّاب التقدميين والعلمانيين الذين اعتبروا صدوره عملا استفزازيا. وأصدر الناشر كتابا يرد فيه على وجهة نظري. وأذكر أن أحد الصحفيين المسيحيين المتحمسين للحركة الإسلامية طالب بعدم توزيع الكتاب، واتصل بي صديق يدرس في الجامعة اللبنانية يقول لي بالحرف : "مادام القاضي راضي شوبدك بالنسوان؟".

وللتاريخ، أود الإشارة إلى أن اهتمامي بقضية المرأة والإسلام سبق المد السياسي الإسلامي. فقد نشرت في سبتمبر 1973 في مجلة "دراسات عربية" دراسة بعنوان "الأسرة الأبوية في الإسلام". وألقيت عدة محاضرات في قضية المرأة في سورية واليمن ولبنان. ولا يعود هذا الاهتمام إلى اعتناق أفكار اشتراكية كما ظن البعض، وإن كان تعزز بقراءاتي الاشتراكية والديمقراطية بالتأكيد. ولكنه كان ابن معاناة شخصية بدأت باعتقال والدي وقيام والدتي المدرسة بإعالة أطفالها الستة. ثم الصعوبات التي عاشتها صديقتي منى في الجامعة لاختيارها لشخص من غير ديانتها شريكا لحياتها، والتي انتهت بمأساة اجتماعية دفعت ثمنها حياتها بعد خمسة أيام من زواجنا. وكان لا بد من تكريم متميز لنساء كان لهن الفضل في لقمتي وتكويني الذهني وتوازني النفسي. هذا التكريم لا يأتي فقط بالشعر والأدب، وإنما بالدفاع العنيد عن حقوق كل امرأة في المساواة الكاملة مع الرجل مع حقها في الاختلاف عنه.

لم تصدر طبعة ثانية من كتاب "المرأة في الإسلام" ، والنسخ المتداولة هي طبعات مصورة للطبعة الأولى لم تهتم حتى بتنقيح الأخطاء المطبعية. وقد طالبني العديد من الأصدقاء والصديقات بطبعة ثانية مزيدة ومنقحة. وعندما عزمت على ذلك في العام الماضي وجدت من الأنسب إصدار كتاب جديد يأخذ بعض ما في الكتاب السابق ويضاف إليه عدة أبحاث جديدة غير منشورة إضافة إلى تقديم نقدي يتعرض لنقاط ضعف الكتاب، باعتبار أن "المرأة في الإسلام" يمثل مرحلة من النمو الفكري للمؤلف ومن الأفضل أن يبقى كنص يعبر بأمانة عن هذه المرحلة.

ليس بالإمكان القول أن كتاب "المرأة في الإسلام" قد تعرض لانتقادات جوهرية. فتهمة "الأوربية المركزية" في قضية حقوق المرأة تعني استثناء العربيات والمسلمات من أهم إنجاز حصلت عليه المرأة منذ أربعة آلاف قرن من منظمة عالمية الطابع (تضم بين عضو ومراقب مجموع دول العالم)، ونقصد بذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. والتي علمت بإقرار نصها من قبل الأمم المتحدة وقتئذ وإن لم تكن بعد قد دخلت حيز التطبيق (تاريخ بدء النفاذ كان في 3 سبتمبر 1981). ومن المؤكد أن قراءة هذه الاتفاقية تظهر بوضوح أن الكتاب لا يطالب إلا بإقرار ما فيها من قبل الدول العربية والإسلامية. أما تهمة التوقيت، فكما أوضحت، كان من الضروري برأيي، صدور صوت يدافع عن المرأة في وقت تَوَظّفَ فيه إعلام الحركة الأصولية لخنق حقوق النساء باسم الدين.

إلا أن في الكتاب نقاط ضعف هامة، أولها : عدم توضيح عملية تكون الإيديولوجية الإسلامية المعادية للمرأة. وإن كنت قد تداركت ذلك في كتاباتي اللاحقة منذ 1983، إلا أن هذه النقطة تحتاج مراجعة توضح كيف تراكمت عملية عزل المرأة من الحياة العامة وإضعاف دورها وصوتها عبر النصوص الدينية الفقهية من جهة والقهر الاجتماعي من جهة أخرى.

نقطة الضعف الثانية، هي تأكيد الكتاب على أن كل السبل الإصلاحية لم تقدم للمرأة شيئا يذكر، إن لم تؤكد عبوديتها، عبر البحث عن صيغ "ملطفة" في ظاهرها، تكفل تخديرها 1. وهنا أيضا ثمة تشوش في المفاهيم، فقد كنت اعتبر حينئذ قاسم أمين راديكاليا لموقفه من قضية المرأة وكذلك هدى شعراوي. ولعلي كنت متأثرا حينها بكتابات الإسلاميين الذين يصفونهم بالراديكالية، إضافة لمحبتي لهذه الكلمة التي تعود بنا إلى الجذر، أي الإنسان. وبالتالي فمفهوم الإصلاح يتناول من حاول التوفيق بين رجالية المجتمع وبعض حقوق المرأة التي لا "تخلق مشاكل" عند الدفاع عنها. ولا تشمل الاتجاه الإصلاحي في الدين والمجتمع الذي دافع عن حقوق المرأة. وقد سئلت عن الموضوع ولعلها فرصة جديدة للتوضيح وتجنب استعمال المصطلح بهذا الشكل الضيق والمحدود وذلك عبر تخصيص فصل يعرف بأطروحات رواد الإصلاح في هذا الكتاب.

أما نقطة الضعف الثالثة، فهي التسرع في تأييد رواية عمر بن الخطاب بوجود آية في الرجم وتبني موضوع الرجم كأمر واقع تمت ممارسته في عهد النبي محمد. ولا شك بدور الشيخ عبد الله العلايلي الذي يرفض وجود الرجم في الإسلام في سعيي للتحقق والتعمق في المخطوطات الإسلامية والروايات، واليوم يراودني الشك أكثر فأكثر بوجود نص ديني يتعلق برجم المحصن والمحصنة في حال ممارسة الجنس خارج الأطر الشرعية، وقد أصبحنا من مؤيدي الرأي القائل بأن عقوبة بهذه الأهمية لو وجدت لما كانت غائبة عن النص القرآني أو طالب القرآن بنصفها للأمة؟ وما هو نصف عقوبة الموت؟.

* * *

إن كانت المرأة هي المرأة، باستعارة تعبير إسماعيل مظهر، فالحديث عن الإسلام أصعب وأعقد. وفي هذا الموضوع من المفيد قراءة ما يقوله الدكتور محمد خاتمي، قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية الإسلامية في إيران : "أي إسلام نريد ونعني حين نتحدث عن الإسلام؟ أ إسلام أبي ذر؟ أم إسلام ابن سينا؟ أو إسلام الغزالي؟ أم إسلام محيي الدين بن عربي؟ أ إسلام الأشاعرة؟ أ إسلام المتصوفة؟ أم إسلام الظاهرية؟ أي إسلام؟ بلى إنها كلها شواهد تاريخية لا يطالها الشك على نسبية معرفة الإنسان حتى عن الدين. إننا جميعا، كائنا ما كان الدين الذي يؤمن به أحدنا، لا نتفق مع آبائنا لا في التفكير ولا في العمل. على أنني لا أقول بأن سنّة التغيير تدرك كل شئ، بل تدرك جلّ شؤون الوجود الإنساني، ومن هنا نسبية العقل والحياة أمر جدي وأساس" 2.

من هذا المنطلق يفترض قراءة عنوان هذا الكتاب على أساس أن ما يسمى بالإسلام فيه، هو القراءة التكوينية لإيديولوجية سادت عبر الدولة (أو الخلافة) وصادرت فيما صادرت هذه التسمية مطلقة على غيرها اسم الخارجي أو المعتزل أو الرافض الخ. وقد أطلق عليها منصور فهمي في مطلع القرن اسم "الإسلامية" تمييزا عن الدين الإسلامي 3.

لا يمكننا تتبع مسيرة حقوق المرأة (و/أو الرجل) فقط عبر البناء الأسطوري والإيديولوجي للأبوية. وإن كان هذا البناء يؤثر بشكل حاسم كما يتأثر، بالتكوين الاقتصادي الاجتماعي والمنظومة الاجتماعية السياسية. ومن الضروري تتبع أوليات هامة لإزالة اللثام عن وضع محدد، مثل : "مجال التفرد (إمكانية الفرد، ذكرا كان أو أنثى الاستقلال عن الجماعة)، استقلالية الأسرة (إمكانية الأسرة الوجود والاستمرار بمعزل عن العصبة أو الجماعة القربوية)، التمايز على أساس الاختلاف (ما يترتب على الاختلاف البيولوجي في العمل والهيمنة والأعراف : ذكورة-أنوثة، بكر-ثيّب، بكورة-ثني، قريب نسب-قريب رحم، قرابة- غرابة..)، طبيعة تقسيم العمل الأولي (عمل الرجل- عمل المرأة) وتقسيم العمل الاجتماعي (وجود أو غياب س من الناس لعمل محدد)، طبيعة العمل (كيف نفعل هذا فرديا أم جماعيا). الجماعية البسيطة في العمل (كل الناس يقومون بنفس العمل في نفس الوقت)، والجماعية المركبة (كل الناس يقومون بعمل مختلف في الوقت نفسه). درجة التخصص (ثبات فرد أو جماعة في عمل محدد) والعمل نفسه (استعماليا للجماعة، مأجورا، أو رقيا)، ملكية أو حيازة الأشياء والأحياء والخبرات (حيازة أو ملك أرض أو بئر أو عين ماء أو قطيع، مالك رقيق أو سبي، تملك، وضع يد، معرفة حرفية..)، وجود المقايضة والنقد وحركتهما" 4. يضاف لهذا تكّون الدولة وعلاقتها بالبنى الاجتماعية العضوية، العنف وتأثيره على علاقة الجنسين واستعباد النساء، العزل والاختلاط كمحددين لطبيعة العمل والدور الاجتماعيين الخ.

من الصعب تتبع جملة هذه العوامل في هذه الدراسة، إلا أننا نتوجه لكل الباحثات والباحثين للمطالبة بإعطائها حقها مكتفين هنا بالمثل القائل "ما لا يعرف كله، لا يترك كله".

لقد تجنبت قدر الإمكان تكرار أفكار ومعطيات وردت في دراستي "المرأة في معركة النهضة" المنشورة في كتاب "المرأة!" أو في كتاب "الحجاب". وأعفيت نفسي والقارئ من موضوعات عديدة وردت في كتابات لي أو لأصدقاء أشاطرهم الرأي ساعيا لتوسيع نطاق التناول وإغناء ما صدر.

في لحظة صفاء كتب ابن حزم الأندلسي عميد المدرسة الظاهرية في "طوق الحمامة" : "لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حدّ الشباب وحين تبقل وجهي؛ وهن علمنني القرآن وروّينني كثيرا من الأشعار ودربنني في الخط، ولم يكن وكدي وإعمال ذهني مذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جدّا إلا تعرّف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن، وتحصيل ذلك"..

بعيدا عن الآيات والأحاديث، المرأة هي هذه المدرسة، مدرسة الحياة.. وإن كانت الكتابة عنصرا هاما في فكفكة هالة القدسية البطرياركية وإعادة بناء وعي العالم، فإن الحياة هي المدرسة الكبرى لإدراك معنى العطاء النسوي ولنيل الحقوق. ورغم كل النكسات واللحظات الصعبة في الوجود النسائي، يبقى التغيير في مناهج الحياة كعقارب الزمن، نشعر بها بطيئة أحيانا، ومنسية أحيانا أخرى، ولكن ليس بوسع أحد وقفها.

باريس في 16/5/2000

 
 

هوامش :

1- هيثم مناع، المرأة في الإسلام، دار الحداثة، بيروت، 1980، ص 80.
2- د. محمد خاتمي، مطالعات في الدين والإسلام والعصر، دار الجديد، طبعة ثالثة، 1999، ص29.
3- Mansour Fahmi, La condition de la femme dans la tradition de l’Islamisme, Paris, 1913.
4- هيثم مناع، إنتاج الإنسان شرقي المتوسط، دار النضال، بيروت، 1986 ص 89-90
 
مدخل إلى التكوين الاقتصادي الاجتماعي للحجاز

لو كان تاريخ البشرية كتابا مكونا من سبعين صفحة، لكان ما نعرفه ونتحدث فيه ونتصارع على امتلاك تصور له، هو الصفحة الأخيرة. ومن مصائب البشرية، أن الصفحة الأخيرة هذه، ومنذ بدأ النطق البشري يسجل حروفا، تسجل بأحرف سوداء (باستثناء بقع نجت من هذا الاسوداد بنسبة أو بأخرى). هذه الصفحة، سجلت أول ما سجلت، التفاوت البشري الأول، والاضطهاد المجتمعي والطبقي الأول، ألا وهو اضطهاد الذكر للأنثى.. ومجال تناولنا هنا، يرمي إلى تتبع هذا الاضطهاد مع دخول ما يسمى بالحضارة، في مرحلة ومكان محددين.

في شاسع رمال الصحراء، لم تمتلك جماعات الصحراء البدائية في الجزيرة العربية القديمة، وعموم شرق المتوسط، المادة الخام لتخطي الملكية الجماعية، باختلاف طبيعتها ومفهومها وشبكة علاقاتها، عبر توجيه ضربة قاضية إليها. ولعل في انتقال الجماعات البدوية التدريجي، إلى مرحلة العبودية الجماعية، عبر عهود تاريخية طويلة وفي خطوط غير متوازية، أساسا لتعايش أشكال متعددة ومتباينة للقبيلة البدوية، بحيث حملت أكثر من قبيلة، من عهود ما قبل الطوفان، إلى عهود ما بعد الإسلام، العلاقات المشاعية الأولى، وجسدت في سياق التاريخ المكتوب، أشكالا لعلاقات الجنسين القادمة من التاريخ غير المكتوب. مبقية جزرا شتى تعيش تعدد الأزواج (الرجال) وأسرة تعايش حقوقا للمرأة وسلطة لها بين القبائل البدوية.

لقد بدأت صراعات القبائل في الجزيرة العربية وأطراف سورية الطبيعية على الماء والمرعى، ومن أجل تجاوز قحط موارد الحياة بالسلب والنهب والغنائم غزوا أو مصادرة (بقطع الطريق)، مرحلة هيمنة ما يمكن أن نطلق عليه اسم "العبودية الجماعية"، ونعني بالعبودية الجماعية هنا انعدام إمكانية انفصال الفرد عن الجماعة إلا بوصفه طريدا مفردا إفراد البعير المعبد (أي المبعد عن غيره لإصابته بالمرض) باستعارة بيت شعر طرفة بن العبد. ونجمل في تعريفها تقسيم العمل بين الإنتاج الإنساني وتأمين موارد الإنسان نفسه، بمعنى تقسيم العمل بين المرأة والرجل، وبداية الهرمية في التركيب الاجتماعي وفق الغزو، وبداية الأسر، بما يترتب عليه من أسر النساء واعتبارهن حوزة لمن أسرهم من المحاربين.

وقد توافقت هذه المرحلة التاريخية –على الأغلب- 1 مع استقرار بعض القبائل وقيام المدن المنشأة وفق علاقات القربى.

أعطت علاقات الإنتاج الناجمة عن التطور السلحفاتي للقوى المنتجة هذه التركيبة الاجتماعية-السياسية مظهر القوة الأساسية باعتبارها مصدر حماية الأفراد، وأداة رأب التفاوت المراتبي-الهرمي أو غير الهرمي داخل المجتمع المؤطر في القبيلة. وبينما أدى تطور الأوضاع الاقتصادية إلى إتمام مرحلة "الشرنقة" داخل المدن في أكثر من حضارة بدءا بسومر وأكد ومدن الفراعنة ومن بعدهم الساحل الشرقي للبحر المتوسط، فإن عوامل قيام المدن هذه نفسها، كانت على الغالب سببا في غيابها ضمن دورة ابتلاع المجتمع القائم بالغزاة وانهيار المجتمع القادم أمام جديد الغزوات.

ولم يكن لحركة السلعة التبادلية هذه أن تجد متنفسها، إلا بعد أن عرف البشر تربية المواشي والزراعة. مع ما نشأ عنهما من تقسيم عمل في البداوة والحضر.

هذه السيرورة، يمكن تلمسها في أخذ مقاطع عديدة من التاريخ ومعطياته، ولو جربنا تناول حقبة زمنية تمتد من نهاية القرن الخامس الميلادي، لثلاثمائة سنة بعدها عبر مثال بسيط جد معبر : المثل البدوي القائل : "الناس شركاء في ثلاث، الكلأ والماء والنار.

هذا المثال يعني في المجتمع البدوي مقومات وجوده : الطاقة، الماء والغذاء.

في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، أقره النبي محمد حرفيا فيما أعطاه أول الصحابة معنى كلأ المراعي جميعا والماء الذي لا يملك ولا يصح بيعه، كونه مصدر الحياة (وجعلنا من الماء كل شئ حي-قرأن)، والزيت المستعمل للنار في المدن وبعض الأرياف. وبعد حقبة زمنية، يتناول ابن الأثير الحديث نفسه ليشرحه بالقول : "أراد بالماء ماء السماء والعيون والأنهار الذي لا مالك له، وأراد بالكلأ المباح الذي لا يخص أحد، وأراد بالنار الشجر الذي يحتطبه الناس من المباح فيوقدونه.

يوضح هذا المثال، هذه السيرورة للتملك والتفاوت من جهة وضرب الشيوع والاشتراك من جهة أخرى، والتحول من الشراكة العامة إلى الشراكة خارج التملك والحيازة.. كذلك نرى كيف تنامى مفهوم المباح، المتروك، الموات الخ من جهة، والمتملك، المقطَع، الخاص، غير المباح الخ من جهة ثانية.

هذا المقطع الصغير، يمكن أن يعطي صورة عن سيرورة سلحفاتية عامة شهدها المشرق العربي في بحر سبعة آلاف عام من يومنا.

نعود لظهور الاقتصاد السياسي (اللحظة التي بدأت فيها مبادلة المنتجات لقاء بعضها بعضا، سواء من قبل الأفراد أو من قبل الجماعات البدائية).

لقد شكل ظهور الاقتصاد السياسي انقلابا جذريا على صعيد إنتاج وتجديد إنتاج الحياة المباشرة، وبالطبع لم يكن ذلك فحسب على صعيد إنتاج وسائل الحياة، وإنما على صعيد إنتاج الإنسان نفسه، مع كامل العلاقات التي تحكم إنتاج الإنسان (علاقات الجنسين، وضع المرأة، علاقات الآباء والأبناء، روابط القربى والمصاهرة…). فمع التغيير الجذري في وضع القوى المنتجة الإنسانية، استجدت مجمل تغييرات أساسية تناولت جدل العلاقة بين إنتاج الإنسان وإنتاج وسائل الحياة من جهة، وطبيعة منظومة القيم الأبوية وقواعد ارتكازها من جهة ثانية. وانعكس ذلك بشكل مباشر على العلاقة الطبيعية والمباشرة بين المرأة والرجل. فقد جاء تحول المنتجات، لتصبح أول بأول، منتجات للتبادل، لتصبح بتعبير آخر سلعا، مع نشوء كل مصطلحات توفير وتيسير وإشكالية التبادل : طرق تجارية، حماية الطرق من البدو بالبدو مع مقابل، غزو القوافل … ، جاء هذا التحول ليعزز فقدان العمل المنزلي في المجتمع البدوي لطابعه الاجتماعي العام، بتحويله إلى خدمة خاصة مع صعود قانون السعر ومفهوم القيمة (قيمة الأشياء والبشر المشيئين) حيث تراجعت القيم الاستعمالية أمام زحف السلع التبادلية.

هكذا قام انفصال العمل المنزلي عن الإنتاج المجتمعي العام ليكمل دورة دونية المرأة، عبر تبلور الأسرة الأبوية داخل الجماعة القربوية.

كيف نلاحظ هذا التغير بشكل عياني في التجربة المكية؟

شكل نجاح قصي بن كلاب (مطلع القرن الخامس للميلاد) في السيطرة على مكة، بداية مركزة القوة والزعامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أساس علاقات القربى لقريش في المجتمع المكي، حيث مثل قصي، قمة الجهاز القبلي في القبيلة الظافرة المنتصرة.. عبر جمع كامل السلطة في شخصه، فكان مسؤولا عن السقاية والرفادة والحجابة ودار الندوة واللواء.. بتعبير معاصر، مجمل المسؤوليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والدينية.

وسواء علم جيل بني هاشم من بعده، بأنهم يزرعون ألغام تفجير المجتمع المكي القائم على السيطرة القبلية، على سيطرتهم هم، أم لم يعلموا، عندما باشروا التجارة من بلاد الشام ووسعوها في كل اتجاه، سواء علموا بأنهم، إنما يباشرون تمزيق علاقات إنتاج الإنسان التي عرفها المجتمع المكي في بحر القرن السادس الميلادي، أم لم يعلموا، فليس لنا إلا أن نقول، بأن الظروف الموضوعية التي جعلت من مكة مركزا تجاريا هاما لطريق تجارية أضحت غاية في الأهمية، وضعت الأرضية المادية لتغيرات أساسية في المجتمع المكي.

فمع الانحسار الحبشي عن الجزيرة العربية، وفشل أبرهة في تحقيق أهداف حملته الاقتصادية والسياسية، وفي وقت احتدم فيه الصراع بين الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية وداخلهما ومع مجاوراتهما، وانحسر فيه الأسطول الساساني عن السواحل العربية الجنوبية. أصبحت الطريق التجارية عبر مكة ذات أهمية متميزة وأصبحت تجارة مكة من أهم مراكز التجارة في المنطقة. لقد أصبح التبادل من أجل توفير وسائل الحياة الضرورية ، لهذا البلد غير ذي الزرع، مهمة ثانوية أمام الوظيفة الاقتصادية الاجتماعية الدائمة المتنامية بشكل كبير : التجارة الربوية، هذا الغازي المتضخم بنمو سرطاني عشوائي غير محدود.

هذا الانقلاب الجذري في حياة المكيين ، أوجد في حياتهم طوطما جديدا اسمه "الثروة"، هذا الطوطم، الذي يقف تاجا على رأس سوق السلع المكية يدخل حياة المكيين بكل ما فيها ، فأكبر قبائلهم تكنى بقريش (من يتقرش المال : يجمعه، والتقرش : التجارة والاكتساب حسب ابن هشام وابن منظور) وأهم مقومات الحياة القبلية حينئذ (الغزو) يصبح وفق العرف والقانون ممنوعا، لعدم انسجامه مع الازدهار التجاري. التفاوت الاجتماعي يبدو في مكة بأبشع صوره (رأسمال أبو بكر – وكان من تجار قريش- أربعون ألف درهم وثمن زيد بن حارثة – مولى النبي محمد – أربعمائة درهم). ومهما كان مبالغا في قول أصحاب "الإصابة" و "الاستيعاب" و "تاريخ العرب قبل الإسلام"، في أن ابن عوف قد أعتق ثلاثين ألف عبدا بعد الإسلام في حياته، إلا أن في هذا القول ما يدل على اتساع تجارة الرقيق في هذه المدينة الصغيرة التي يبلغ مجمل عدد سكانها وقتئذ عشرين ألف نسمة.

البيع والشراء يدخلان عالم الآلهة ومعلقات الأدب والبشر والمال. ستة وعشرون صنفا للبيع والشراء تنسب لتجار مكة، وأشكال متعددة لتبادل المال (الربا) تصبح من عاديات المجتمع. وأمام أكثر من ثلاثة عشر سوقا تجاريا وموسميا في الجزيرة العربية، دشنت مكة سوق عكاظ لرفد سوقها الدائمة بسوق موسمية للأدب والبضاعة وعرفت الرهون العقارية والتسليف والقروض والتكاتب والسمسرة بأشكال جعلت صاحب نهاية الأرب يقول : "أصبحت قريش تربح في تجارتها للدينار دينارا". ولا تعني هذه التغيرات فقط تحريك الغرائز الأسوأ للناس عبر قانون الجشع، وإنما أيضا سيادة لغة ولهجة مكة وقيام شبكات التصاهر التجاري وعقد الحبال مع سادات القبائل لضمان أمن التجارة (الإيلاف)، وظهور أكثر من اتجاه حنفي توحيدي في المدينة.

أصبح النقد أداة التعامل الرئيسية وساد التعامل النقدي والربوي وتميز تجار مكة طبقة واضحة المعالم ضمن وخارج علاقات إنتاج الإنسان والاتساع الكبير للعبيد بالمعنى الآسيوي وحيازة وتملك وإقطاع الأرض مثلت جميعا أساس وصول المجتمع المكي إلى درجة تشكل الأرضية الموضوعية للحضارة. هذه الكلمة التي حققت وأعطت الكثير الكثير مما عجز عنه المجتمع القبلي القديم، ولكن، عبر تحريك أحط غرائز الناس وشهواتهم، وقتلها من مؤهلاتهم الطبيعية ما قتلت عبر قانون الجشع : الثروة، الثروة أولا، الثروة أيضا، والثروة دائما، والذي يعبر عنه حديث ينسب للنبي محمد يقول : "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا، ولا يشبع عيني ابن آدم إلا التراب".

رسم دخول الحضارة صورة جديدة لعلاقات إنتاج الإنسان، سواء في تعبيرها القبلي وجملة أشكال علاقات القربى الواسعة، أو في البنية الأولية لعلاقة الجنسين "الأسرة الأبوية" ووضع المرأة.

فقد تهاوت ركائز عديدة للمجتمع القبلي عبر دخول الثروة سببا وموضوعا في الزواج والتصاهر إلى جوار القربى والنسب. ومركزة الثروة تبعا للهرم القبلي وخارجه أحيانا. وقد دخلت المرأة سوق السلعة المكية كإمرأة، دخلته عبر التبادل والإنتاج الواسع للعبيد (نساء ورجال) حيث تفنن المجتمع المكي في استغلال واضطهاد الإماء، فكن يشاركن في العمل المنزلي ويقدمن أجسادهن لأسيادهن الذين ينشدوهن للمتعة الجنسية ويملكون حق تقرير مصير أبنائهم من هكذا علاقة، وحق بيع الأمة ما أن أنجبت، وجني المال منهن عبر إرسالهن بغايا مقابل أجر إلى من يشاؤون، ويستعملوهن أدوات إنتاج للعبيد في مزارع إنتاج العبيد التي باشرها المجتمع المكي، وتستغل أثدائهن للإرضاع وجمال صوتهن وأجسادهن لحانات الخمرة والأسواق..

وإن كان للقرشيات حصن سيادة القبيلة على السوق، فقد دخل عدد من العربيات غير القرشيات وغير العربيات سوق المتعة الرجالية، وكن يعلقن على حجرهن أعلاما بيضاء بمثابة عرف على وجود بيوت البغاء. كما عملت العديد من النسوة البدويات مرضعات بالأجرة لأطفال قريش والتجار.

لقد تجرد طواف النساء شبه عاريات حول الكعبة، هذا العرف القديم جدا من كل معانيه الأصلية مع صعود جسد المرأة سلعة من سلع السوق هذا الجسد الذي استعمل له في مكة أكثر من أربعين كلمة.

أما المرأة المكية، فإذا استثنينا من استثنتهن الثروة والمنزلة القبلية بشئ من رحمتها (؟)، فقد عانت من اضطهاد كبير في علاقتها مع زوجها، حيث ملك مجتمع الرجال حق تطليقها، ولم تملكه إلا في حال موافقة الرجل على دفعها فدية مالية لنفسها للزوج. وقد مارس المجتمع الرجالي أشكالا شتى للقمع الجنسي كالطلاق والعودة أثناء العدة، الإيلاء (أي حرمان الزوجة من ممارسة الجنس مع زوجها إلى أمد غير محدود في أسرة متعددة الزوجات!)، والمخالعة الرجالية (سوء العشرة والقهر الجنسي إلى أن تفدي المرأة نفسها بمالها)، الظهار (حرمانها من كلا الجنس والطلاق مدى الحياة).

النكاح لم يكن عقدا، أو حصرا بزواج البعولة الأبوي (يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها-بتعريف عائشة بنت أبي بكر)، والمتعدد الزوجات (إن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل- تفسير الطبري 4/156) بل يتحفنا المجتمع بأشكال شتى نتابع فيها تداخل القديم والجديد فيما نحصي منه :

- نكاح الاستبضاع : كان الرجل يقول لإحدى نسائه، إذا طهرت من طمثها- ارسلي إلى فلان فاستبضعي منه. ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب.
- نكاح الرهط : يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم، فلم يستطيع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان.
- نكاح صواحبات الرايات (البغي) ونكاح المتعة : نكاح مؤقت بالنقود أو شئ ما يدفع للمرأة ويحدد زمن نهايته.
- نكاح البدل : أن يقول الرجل للرجل : انزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي.
- نكاح الشغار : يزوج الرجل ابنته أو وليته على أن يزوجه الآخر ابنته أو وليته ليس بينهما صداق (مهر).
- نكاح الضغينة : إذا سبى رجل امرأة له أن يتزوجها إن شاء.
- ويدخل في صلب نسب النبي نكاح المقت (الضيزن : وراثة زوجة الأب للابن وتزوجها منه، أو زواج الأختين بنفس الوقت) لتأتي الآيات القرآنية بالسماح به بتشريع متقدم (أي لمن سلف وسبق المنع كونه يؤثر عن النبي قوله أنا من نكاح لا من سفاح).
- وأخيرا، وليس آخرا، نكاح الخدان، أو رد فعل النساء على قمعهن باتخاذ عشيق تعاشره سرا، وقد اختلفت فيه المواقف بين اعتباره زنى وبين الاكتفاء بالسجن المنزلي لمن يكشف أمرها وقد أشار له القرآن باسم "متخذات الأخدان" ناهيا عنه.

أما الطلاق، فطالقة الثالثة تجعله طلاقا بائنا (دون رجعة) سواء نطق : أنت خلية أو قال أنت برية، أو جعل حبلها على غاربها، أو كانت مخلى كهذا البعير.. إلى آخره من مصطلحات تفنن الرجال في استعمالها لإعلان الطلاق، وعلى أعتاب الطلاق كان العضل يقول فيه صاحب تاج العروس : "كان العضل في قريش بمكة. ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه، فيفارقها، على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود، فيكتب ذلك عليها، ويشهد، فإن خطبها خاطب، فإن أعطته وأرضته، أذن لها، وإلا عضلها /تاج العروس، عضل، 8/21).

وليس لنا أن نتحدث عن المرأة والإرث في مجتمع المرأة فيه بحد ذاتها إرثا.

لم يحقق الرأسمال التجاري الربوي تحولا في كامل الحجاز والجزيرة العربية، بل أوجد تحولا في المدن التجارية ومجاوراتها وفي تنظيم القوافل التجارية. ولم يدخل إلى المجتمع البدوي الرعوي المختلط ليمزقه من داخله، بل اتصل به ليقدم له رسوم "عدم الاعتداء" على القوافل التجارية من جهة وتبادلا محدودا وغير متكافئ مع نتاجه من جهة أخرى. ودخل المستوطنات الزراعية بوصفه الجرثومة التي تعطيها المرض لا الازدهار، الإفقار وليس الغنى، عبر كونها لا تملك وسائل مقاومته الاقتصادية وتحتاجه طردا مع أهمية النقد في عملية إعادة إنتاجها المحلية، فيما ينال تعبيره في اتساع عمليات الربا وتنوعها، وتوفير التجارة للسلع المحدودة الإنتاج محليا مع ما يترتب عليه من تقوقع داخلي أحيانا، للحماية والبؤس أحيانا أخرى في الانفتاح على السوق الذي يجسد أول ما يجسد دخول أشكال التملك الفردي والمراتبية الطبقية حياة المستوطنات الزراعية.

تكونت يثرب (المدينة المنورة وأول مدينة وعاصمة في الإسلام) من عناصر مهاجرة بالأساس، حيث الأوس والخزرج قبيلتان يمنيتان جاءتا من منطقة زراعية متقدمة، وقبلهما كانت هجرة اليهود. ويبدو من أبيات الشعر ومختلف الروايات قدم الصراع بين الأوس والخزرج من جهة، واليهود من جهة أخرى. كانت أغلبية السكان إبان الإسلام يمنية عربية وكان بني قريظة وبني النضير من اليهود يحتلون الأراضي الأكثر خصوبة في حين اشتهر بني قينقاع بالحرفة والتجارة والسوق المعروفة باسمهم ولم يكن لهم حيازات أرض. وقد عرفت المدينة عدة تحالفات قائمة على القرابة والجوار كالتحالف بين الخزرج الذين يحتلون مركز المدينة وغربها وجنوبها بشكل أساسي مع قينقاع المجاورين لهم بيوتا وآطاما (أبنية مرتفعة) وسوقا من جهة، وبين الأوس المحتلين لشرق وجنوب يثرب الشرقي مع بني قريظة والنضير الذين تتداخل ربعاتهم من الأرض في أراضي الأوس.

اعتمدت يثرب الزراعة أساسا لمعيشة أهلها، ووقفت إنتاجها على التمور أولا والخضر ثانيا، تساعدها ثلاثة أودية تجمع الماء : (العقيق وبطحان وقناة). كما حفر أهلها الآبار وبنوا المصانع (أحواض للاستفادة من ماء المطر).

وجد استعمال الرقيق والموالي عند قلة من الأغنياء في يثرب من صوافي سادة البطون والقبائل، أما على صعيد ملكية الأرض، فقد انقسمت المدينة إلى مناطق زراعية (ربعيات أرض) وكانت كل منطقة منها تابعة لبطن من البطون. يشرف على زراعتها وتسويق محصولها وتنظيم علاقات أبنائها. ولا توجد دلائل على وجود ملكية فردية خاصة. وقد شملت أشكال العمل الزراعي أنماطا انتقالية من العمل الاستعمالي المباشر، العمل المأجور والعمل العبودي.

أما الحرفة، فكان هناك الحرفة المنزلية الاستعمالية والحرفة المعدة للمقايضة أو السوق. فمن الحرف المنزلية عرفت يثرب طحن الحبوب والخبز (من اختصاص النساء) وكان الغزل حرفة منزلية نسائية، والنسيج حرفة مارستها نساء اليهود والعرب وصناعة الخمر حرفة منزلية وتبادلية سوقية دون تخصص. وكانت النساء المعالجات والمولدات يعملن بالمقايضة أو النقد أو العطايا.

أما الحرف التي خرجت من الأطر الاستعمالية إلى السوق فلعل أكثرها أهمية حرف الأحجار الثمينة والسلاح وأدوات الإنتاج الزراعي، بتعبير آخر الصياغة والحدادة، وقد احتكر الأساسي فيهما بنو قينقاع. ولم تكن بيوت الطين وآطام اليهود (53 بمجموعها) والعرب (13 بمجموعها) لتبرز حرفة البناء كحرفة متخصصة. ووجد العطارون في يثرب يعملون ويبيعون إنتاجهم.

ومن المجحف أن ننسى تسعة أعلام لصاحبات الرايات من الإماء يكرين أنفسهن في حرفة البغاء، نقدا أو عينا (ببرد أو نسجة أو طعام) مكرهات من أصحابهن أو طائعات في سوق البغاء وفق المعاملة والتراضي.

ويبدو جدل العلاقة بين إنتاج الإنسان وإنتاج وسائل الحياة واضحا، في ذاك التداخل في وحدة المصلحة على أساس قربى الدم في جملة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. في الولاء الداخلي والتضامن والعصبية القبلية، فيما يشمل تنظيم علاقات الجوار والتحالف والتصاهر، وفي الصيغ التعاونية للعمل (السقي مثلا)، الحماية المشتركة للأرض، حماية الجماعة للفرد وتحملها مسؤولية الضمان الاجتماعي، كفالة الأطفال القائمة على القرابة عند وفاة الأب، ربط قواعد الإرث والديات بتركيب العصبات في جماعة القربى.

أما ما يمس علاقات الجنسين، فقد كان للمرأة وجود ومشاركة في نشاطات اجتماعية واقتصادية عامة كعملها في الزرع والبيع خارج المنزل وأيضا عدم الانفصال التام للعمل المنزلي كخدمة خاصة. ومن مظاهر هذا التواجد الاعتبارية في منظومة القيم أن أهل يثرب كانوا يقولون أبو فلانة كما يقولون أبو فلان، فكيفما كان البكر ذكرا أو أنثى نسب الأهل إليه. وفي أغلب الروايات أن المرأة كانت تنال اشتراط الطلاق على زوجها، وثمة تعدد للأزواج في حياة نساء يثرب ضمن سهولة فك عقد الزواج الأبوي وعدم صعوبة معاودة الزواج للأرامل، وليس من المألوف تعدد الزوجات في الوقت نفسه وخاصة فوق اثنتين. من جهة أخرى، اعتبرت ممارسة الجنس للرجال مع الإماء مسألة مشروعة لا تشكل أي حرج يستلزم عقوبة أو تبعات اجتماعية. أما الجنس خارج الزواج مع الحرائر (محصنات أم عازبات) فقد كان التعزيز معروفا بحقه عند اليهود خاصة والحجر في المنازل 2.

إن هذا الخلاف بين مدينتين في الحجاز، وبهذا الشكل الواضح، يجعل من الضروري رفض كل التصورات العامة التي تقوم على تقديم الجزيرة العربية كوحدة متجانسة ومتشابهة. وإن كان من خصائص للعرب في الإسلام فمن أهمها توحيد اللهجات بهيمنة اللهجة الشمالية والمكية، توحيد المعتقدات بأسلمة ماهو موجود وضرب كل ما يتعارض بقوة مع الدين الجديد، و"توحيد" قوانين الأسرة في الجزيرة بعد أن فشل تشابه التركيب القبلي في هذا التوحيد لتفاوت أنماط المعيشة والمعتقدات واختلاف المنظومة السياسية-الاجتماعية السائدة.
 

هوامش :

1- ثمة خلافات كثيرة ونقص كبير في المراجع المتعلقة بهذه الحقبة، وهذا التقديم السريع ليس أكثر من مدخل. إن النقاش مع عدد من علماء الانثروبولوجيا والمؤرخين يدل على فقر عام بالبحث والدراسة في المجتمعات البدوية العربية، وفي حين قدم جواد علي جهدا تقريريا كبيرا في "الموسع في تاريخ العرب قبل الإسلام"، نجد الإسلاميين يقفون على أعتاب التحليلات الغربية (ليبرالية أو ماركسية). فلا يغنينا سيد قطب بشئ، ما خلا إشارة مقتبسة من تراجم البراوي (في كتابه: نحو مجتمع إسلامي) ويبدو أن من واجب الباحثين العرب بذل مجهود كبير في هذا السبيل يخرج عن إطار التناولات السطحية أو السريعة.
2- أنظر للتوسع: هيثم مناع، المجتمع العربي الإسلامي من محمد إلى علي، منشورات الرازي، باريس، 1986، فصل يثرب، ص 15-24.
 
مقدمات التصور الإسلامي حول الجنسين

نشأ محمد بن عبد الله في مكة، يتيما، صادقا أمينا، يرعى للناس مواشيهم بالقراريط. ثم دخل معترك الحياة في الخامسة والعشرين، قرشيا وزوجا لتاجرة يجلها القوم وعاملا لها بتجارتها. فخديجة بنت خويلد، كما هو حال عاتكة بن مرة زوجة عبد مناف، كانت ممن استثنتهن الثروة والمنزلة القبلية بشئ من رحمتهما. وعرف عنها غنى المال والنفس والعلم، وكانت تكبر النبي بخمسة عشر عاما.

لعل من أكثر المراحل غموضا في حياة النبي محمد هي تلك الفاصلة بين سن الخامسة والعشرين والأربعين، حيث جموع حوادث هنا وهناك هي كل ما يذكره التاريخ الإسلامي المكتوب عن هذه السنوات، التي لم يكن فيها النبي محمد من التوحيديين (الحنفية حسب أهل الأخبار) المنادين بإله الغيب إله السماء مثل قس بن ساعدة الأيادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل 1 وإن كان يشاركهم الاختلاء إلى شعاب مكة.ولم يكن من البارزين في الحياة العامة، باستثناء حوادث متناثرة هنا وهناك، تتحدث عن وصوله إلى جرش وبصرى والقدس ولقائه الراهب بحيرة. حتى لحظة "النبوة" في الأربعين :

اقرأ باسم ربك الذي خلق..؟

محمد لا يدعو إلى الله الواحد، ككل من دعا، بل إلى كلام الله مباشرة، لا يدعو إلى الإصلاح بل إلى إعلان بشرى دين جديد. وهو يؤسس لهذا الدين عبر التأكيد على فكرة التوحيد، بغسلها من شوائب الله الذي يتعب ويأكل عند اليهود، والمتجسد بشرا في المسيحية. يؤكد على قيم عامة للعدل والإيمان عبر قصص الأنبياء والأولين.

هناك نقطتان مركزيتان تغيبان عن نشأة التصور الإسلامي وعلاقته بالنظرة إلى الجنسين عن كتاب "المرأة في الإسلام" بسبب هيمنة الكتب السلفية ومن ثم الأصولية على قراءاتنا : الأولى تتعلق بالمفهوم الديني القائم على خلافة الإنسان، كل إنسان، لله على الأرض وتكريمه رغم كل القسوة في وصف الإنسان كلما تكرر في القرآن. وقد نبهت لها في دراسات نشرتها عن المرأة في 1985 و 1986. والثانية نبهتني لها قراءة كتاب منصور فهمي وقد تناولها بإسهاب حسين العودات في كتابه "المرأة العربية في الدين والمجتمع" في علاقة الخطيئة الأولى بالجنسين :

يعود مفهوم الإنسان في الإسلام إلى قصة خلق آدم وحواء في القرآن. القصة التي ترد في سورة البقرة الآيات 30-34 والتي تقول : "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قال سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم أني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين".

في هذه القصة ثلاثة معطيات مركزية : الأول : القرار الإلهي باعتبار الإنسان خليفة الله في الأرض. المعطى الثاني إعطاء الإنسان المعرفة الكافية ليتفوق على الملائكة والثالث، الطلب إلى الملائكة الذين يسجدون لله وحده أن يسجدوا للإنسان تكريما وتحت طائلة الخروج من رحمة الله.

تشكل هذه المعطيات أساس التصور الإسلامي للإنسان وتعززها مجموعة آيات وأحاديث كثيرة يستوقفنا منها الآية 70 من سورة الإسراء : "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا". وهي آية تطلق التكريم للجنس البشري دون تمييز بين مؤمن وكافر، مسلم أو غير مسلم، رجل أو امرأة، عربي أو عجمي. والآيات الأولى من سورة الرحمن التي تقول "الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان". في فضل المعرفة العقلية على الإنسان وقيمتها في تكريمه وخلافته 2. ومن المهم استعادة هذا التصور كون المدرسة الأرثذوكسية في الإسلام قد حرصت على تأكيد صورة الإنسان المطيع الخانع الطائع. وناهضت صورة الإنسان صاحب الإرادة والمسؤولية التي أكد عليها المعتزلة وبعض الخوارج والإنسان الكامل التي بلورها ابن عربي. ضمن سيرورة تكوين إيديولوجية الطاعة في الإسلام (التي تبدأ بالتصور الديني والسياسي وتنتهي في رق المرأة في بيت زوجها) عبر القرون الأولى التي شهدت مع التغييرات العميقة التي رافقت التوسع العسكري السريع للخلافة الإسلامية تراجعا هاما في دور المرأة وحاجة ملحة لبناء مذهب على مقاس الخلافة يشكل التعبير الرسمي للإسلام.

يتوقف حسين العودات عند نقطة جوهرية في التصور الإسلامي الأول لعلاقة الجنسين. وهو ينطلق فيها مما سمي بالخطيئة الأولى التي ترد في القرآن مرات ثلاث :

1- فقد جاء في سورة البقرة "وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه"(البقرة 35-37).

2- وجاء في سورة الأعراف "ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما من الناصحين. فدلهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما أن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" (الأعراف 19-23).

3- وجاء في سورة طه " فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلي. فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى أدم ربه فغوى" 3.

ويلاحظ الكاتب أن مسؤولية "الخطيئة الأولى تقع على الذكر والأنثى معا في آيتين، على آدم وزوجه كلاهما، وأنها تقع على آدم وحده في الآية الثالثة. بمعنى أن آدم يتحمل مسؤولية هذه الخطيئة بمقدار أو أكثر من حواء. فليست المرأة غاوية ولا مخادعة ولا أخرجت أدم من الجنة كما يكرر الفقهاء معتمدين على عقائد إبراهيمية وقصص شعبية سبقت الإسلام.

إذن لا يساوي النبي محمد والقرآن فقط بين المرأة والرجل في الخلق والطبيعة والمسؤولية (الميثولوجية والواقعية)، وإنما أيضا في تبادل الحاجة والتساوي في صفة التفضيل الوحيدة في الإسلام : التقوى. ورغم هيمنة التصور الأبوي على مكة، وجدت النساء في الدين الجديد حليفا في وجه الصلافة الرجالية التي عاشتها مكة إبان الإسلام. فلا غرابة أن تكون خديجة أول من اعتنق الإسلام وأول من استشهد من أجل الدين الجديد كان سمية بن عمار.

إن ولادة الإسلام في مكة لم يكن بالإمكان أن تجعل من المسلمين الأوائل أنصارا للمساواة بين الجنسين. ولعل الاستثناء الأهم هو الحياة الشخصية للنبي محمد في مكة حيث كانت زوجته خديجة قوية الشخصية حاضرة وفاعلة في المجتمع والحياة ووفية في السراء والضراء. نصرت محمد بن عبد الله يوم كان وحده، وأغنته يوم جاع، وصدّقته عندما كذّبه القوم، وناصرته يوم لاحقه الرجال. ومن المفيد قراءة أطروحة منصور فهمي في القسم المتعلق بنساء النبي لإدراك هذا الجانب دون ضغط العرض المقدس على الحياة البسيطة للنبي كإنسان 4.

لو تركنا النصوص الدينية وعدنا للحياة الإسلامية الأولى، لتفاجئنا بالدور الهام للمرأة في الدعوة والنقاش الديني والسياسي والموقف الإسلامي من النساء. ولدينا الشعور أحيانا بصراع حقيقي بين امتيازات للرجال كانت قائمة وحرص المسلمون الرجال على الاحتفاظ بها وبين مقاومة نسوية تحاول أن تنتزع مكانها تحت شمس التغييرات التي رافقت نشأة الإسلام. وإن كان عهد النضال السري والمعارضة قد أعطى للمرأة اعتبارا كبيرا لمشاركتها في الدعوة وحمايتها للنبي ومشاركتها في الهجرة للحبشة ومشاركتها في بيعة النساء اليثربية، فقد تراجع دور المرأة موضوعيا مع عسكرة الحياة الاجتماعية بزيادة الحروب والغزوات في المجتمع الإسلامي الأول(27 غزوة وسرية منذ الهجرة إلى وفاة النبي محمد). وقيام شكل للسلطة السياسية منذ معركة بدر

لم يهاجر المكيون بطونا ولا قبائل، بل هاجروا أفرادا مع أزواجهم وأهليهم أو عزابا، ومن هنا، فقد حمل المكيون، شاءوا أم أبوا، التفرد الذي حملته لهم "حضارة" المجتمع المكي. وبالتالي فهم في توجههم لإيجاد مصدر رزق، مثلوا بنسبة عالية منهم جملة العلاقات الأقرب إلى الرأسمال منها إلى "الاقتصاد الاكتفائي. وضمن شكل اتخذ طابع المبادرات الفردية أكثر منه طابع الاتفاق العام، حيث نجد تجار المهاجرين يتحركون فيما تختصره عبارة عبد الرحمن بن عوف "دلوني على السوق". في حين كان لآخرين أن يقطعوا من ربع الأرض أو مشاعها حيث طلب النبي من الأنصار إقطاعهم الأرض. بحيث صار الصحابة من أهل مكة بين تاجر وزارع. ولم يعدم هذا أن يطلب فقراء المهاجرين الزواج من النساء العاملات بالبغاء علهم يؤمنون وارد العيش من عملهن "إلى أن يغنيهم الله" حسب تعبير الإسلاميات، ليكون من أولى التحديدات في تحريم الزواج من زانية أو زان في عهد مبكر كما يذكر الطبري في تفسيره 5.

مع الهجرة إلى يثرب (المدينة) عرف مسلمو مكة تقاليد أكثر ليبرالية في علاقات الجنسين. يروي مسلم في صحيحه عن عمر " كنا معشر قريش، قوما نغلب النساء. فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم". وهناك عشرات الروايات حول عمل المرأة ومشاركتها النقاش والحياة العامة. ولنا أن نتساءل : من يستطيع أن يتصور، مع الخطاب الأصولي عن الحريم في المجتمع الإسلامي الأول أن هناك عددا من أوائل المسلمين أعرب عن رغبته في الزواج من نساء يمارسن البغاء، كما أشرنا، وتطلب وقف هذا الحدث آية قرآنية ؟

أقرت الآية 34 من سورة النساء مفهوم القوامة الرجالية السائد : "الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم، فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا". ولم تلبث هذه الآية أن أصبحت قاعدة بناء مفهوم الطاعة فيما يتجاوزها بكل المعاني، عوضا عن أن تبقى المعبّر عن روح حقبتها ومرحلتها. فحتى في عهد النبي، كانت هذه الآية موضوع احتجاج النساء. وقد توجهت إحدى المناضلات المسلمات إلى النبي تسأله عن قضية المساواة كموفدة عن بني جنسها : "أنا وافدة النساء إليك، إن الله قد بعثك إلى الرجال والنساء كافة فآمنا بك وبإلهك، وإننا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد في بيوتكم، وحاملات أولادكم، وأنتم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعة، وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله ، وإن أحدكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مجاهدا حفظنا لكم أموالكم وغزلنا لكم أثوابكم وربينا لكم أولادكم، أفنشارككم في الأجر والثواب؟".

وحول الآية القرآنية التي تسمح للنبي محمد بالزواج ممن شاء لم تمتنع عائشة عن أن تقول : "أرى ربك يسارع لك في هواك" ؟

ورغم تصلب العديد من الصحابة في موقفهم من المرأة، شاركت النساء في النضال اليومي للعيش والاكتشاف اليومي لطبيعة الإسلام، فزينب بنت جحش كانت تغزل وتبيع غزلها، وهذا حال عدد هام من النسوة. وبعضهن كأم سليم في القتال، وغيرهن آسيات (ممرضات) للمقاتلين. لقد كن يتابعن أحكام القرآن بل وألفاظه. وقد استجوبت أم سلمه زوجها النبي بعد آيات غاب ذكر النساء عنها : " فما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟". وتقول خولة بنت قيس في وصف روح الحقبة النبوية : " كنا نكون في عهد النبي وأبو بكر وصدر من خلافة عمر في المسجد نسوة قد تحاللن وربما غزلنا وربما عالج بعضنا فيه الخوص فقال عمر لأردتكن حرائر فأخرجنا منه إلا أنا كنا نشهد الصلوات في الوقت".

لم تتبلور السلطة الإسلامية كجهاز، بقدر ما تركزت السلطات في شخص النبي محمد. وهكذا نجد من جهة موقعا خاصا وأحكاما خاصة بالنبي ومن جهة أخرى، تركيز المعارضة الإسلامية على حوادث ومسائل تتعلق بشخصه؛ ففي الثالثة والخمسين من العمر تزوج النبي محمد عائشة ثم سودة ثم حفصة وكان في الخامسة والخمسين، ثم زينب بنت جحش وكان في السادسة والخمسين وله حينئذ أحفاد. وقد تعرضت الحياة الشخصية للنبي لمناقشات كثيرة يذكرها أصحاب التفاسير الإسلامية، فمن المسلمين من كان يهدد بالزواج من نسائه بعد وفاته، ومنهم من يهدد بعدم مصاهرته الخ. وقد استلزمت هذه المسائل آيات قرآنية تفوق ما جاء في الحدود الجنائية الإسلامية. وهناك حادثتان تتعلقان بزوجات النبي تركتا أثرهما دون شك على حياتهن، ثم لم تلبث هذه الآثار أن طالت باقي المسلمات لأسباب تتعلق بطبيعة التوسع الإسلامي نفسه : الأول، هو طلاق زيد بن حارثة مولى النبي من زوجته وزواج النبي منها، والثاني، الإشاعات التي أطلقت عن علاقة لعائشة بنت أبي بكر بأحد المسلمين. تم استعمال هاتين الحادثتين بشكل ردىء من قبل أعداء الدين الجديد. تبع ذلك عدة آيات من سورة الأحزاب تعطي لنساء النبي وضعا خاصا باعتبارهن لسن كغيرهن من النساء، وتفرض عليهن البقاء في البيت والحجاب العازل وتمنع الزواج منهن بعد وفاته وتعتبرهن أمهات المسلمين أي محرمات على كل مسلم.

إلا أن هذا الجو المتوتر لم يؤثر كثيرا على الحياة العامة للنساء ولو أن كثرة المعارك والسرايا كانت تنقص موضوعيا من قيمة قوى الإنتاج في المجتمع، والمرأة بشكل خاص. وتخلق مفهوما لا علاقة له بغض النظر وزنا العين واللسان الخ من الروايات المتأخرة التي تعطي انطباعا بالستر والإخفاء والطهرانية. نستنبط من جملة الروايات الإسلامية الأولى أن النقطة المركزية في حبكة الحجاب لم تكن رهبنة الحياة العامة بقدر ما كانت في اعتبار اللباس أحد مقومات التمييز النسائي (التفاوت بين الحرة والأمة والمسلمة والذمية إلخ). هذا التمييز الذي تنامى مع العملية المتدرجة لأدلجة الدين الإسلامي. الأمر الذي تصر عليه كل الروايات بشأن الإماء اللاتي كن "على عهد الصحابة يمشين في الطرقات متكشفات الرؤوس ويخدمن الرجال مع سلامة القلوب". يروي البيهقي عن أنس "كان إماء عمر رضي الله عنه يخدمننا كاشفات عن شعورهن تضطرب ثديهن". ولا يتورع الألباني عن القول "كان من شروط المسلمين الأولين على أهل الذمة أن تكشف نساؤهم عن سوقهن وأرجلهن لكي لا يتشبهن بالمسلمات".. وكلها روايات تتناقض مع مفهوم الخوف من الفتنة وضرورة الستر العام 6. أليست المرأة هي المرأة والعورة هي العورة ؟ من هنا صعوبة تصور مجتمع المدينة ينسجم مع مبالغة في عزل المسلمات، وهنّ أكثر النساء طرفا في الحياة العامة والقرارات العامة، باعتبار الإسلام الأول كان يسود ويحكم المدينة منذ معركة بدر. ويتبين لكل متتبع أن المحجبات كن أقلية بين المسلمات إبان وفاة النبي.

يلاحظ أيضا من روايات الحقبة خلاف في موقف الصحابة بين ليّن ومتشدد. مما يدل على تعددية في الرأي والمواقف. يروى عن عمر بن الخطاب مطالبته النبي بحجب نسائه أكثر من مرة والتشديد على طاعة النساء والأطفال للرجل. وتنسب له الأدبيات الشيعية قوله "متعتان أحلتا في عهد رسول الله وأنا أحرمهما". من المعروف أنه طلب من على المنبر أحدا يشهد معه على وجود آية قرآنية تنص على رجم المحصن والمحصنة في الزنى ولم يجد.

اتسمت الأحكام الإسلامية الأولى بكونها شخصية (فردية) أكثر منها اجتماعية، فليس بالإمكان بعد الحديث عن التحكيم في شؤون الحياة أو عن تركيب دولاني. هكذا نجد عقاب المرأة الزانية المحصنة (المتزوجة) بالحجر عليها في البيت (النساء 15) وبعد أن كان المال للولد والوصية للوالدين، نسخ ذلك فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين في تشريع أقرب لأعراف يثرب، وجرى تنظيم الإرث على أساس نظام العصبات (النساء 11-12-176). كذلك تحددت المحارم في الزواج وتحريم نكاح الآباء وجمع الأختين معا. كذلك أقر الإسلام قبل الهجرة الزواج المؤقت (المتعة بأجر) والتمتع بملك اليمين من الإماء.

ترافق بناء السلطة الإسلامية بغزوات ومعارك متواصلة، فيما نعبر عنه بحالة الطوارئ في تعبيرنا المعاصر. وقد اتسمت التشريعات أول بأول بظروف عسكرة المجتمع وبالتالي هيمنة الأبوية فيه مع تصعيد لامتيازات و "حقوق" المقاتل الرجل. ورغم أن الإسلام قد أقر قواعد لتحديد النسب الأبوي واعتبار الزواج المنظم الرئيسي لعلاقات الجنسين بتحديد عقوبة ممارسة الجنس خارج الزواج بالجلد مائة جلدة، فقد رهن ذلك بوجود أربعة شهود وإلا تقام عقوبة القذف (أي اتهام المرأة بالزنا) وهي تعادل ثمانين جلدة. أما في خصوص الامتيازات الرجالية، فقد بقي الرجال يكرهون الإماء على العمل بغايا لبعد سنة خمس للهجرة، وكان زواج المتعة يمارس في الغزوات على نطاق واسع، ولم ينه مثلا عن ممارسة الجنس مع الحوامل من السبايا كما لم يجر الحديث في العزل تجنبا لنتائج ترخيصات عديدة حتى خيبر سنة سبع للهجرة 7.

إلا أن هذا العامل وإن ترك دون شك أثره، لم يكن الحاسم في قضية الحجر على النساء وتعميم الحجاب على كل المسلمات. فقد ترافق التوسع الإسلامي في المكان والزمان مع ضعضعة تركيب الأسرة العربية عبر الغزو المزدوج : حمل البشر والدين الجديد لجغرافية الآخرين، وحمل الآخرين دما ولحما وثقافات إلى صميم البيت الإسلامي. فقد صار في كل بيت عربي امرأة غير عربية من الإماء والسبايا على الأقل. وقد حاولت القبائل تدارك ما تستطيع عبر نظام الموالاة وتأميم النساء العربيات وعزلهن باسم الدين، الأمر الذي وسع نطاق منظومة العزل التي كانت في وسط بيت النبي ولم تمنع عائشة من خوض معركة الجمل مثلا. ويعبر حوار لابن عمر مع ابن له عن هذا التحول الذي تجاوز التجربة الإسلامية الأولى قبل تبلور مدارس الفقه، قال ابن عمر : قال رسول الله لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل فقال ابن لعبد الله : لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلا. قال فزجره ابن عمر وقال : أقول قال رسول الله وتقول لا ندعهن؟".

وقبل الانتقال من الحقبة النبوية من الضروري التوقف برهة عند مؤسسة الزواج في المجتمع الإسلامي الأول وتناميها اللاحق :

تتأثر الحقوق والواجبات الزوجية بشكل عام بعدة عوامل أهمها المؤسسة العرفية والمؤسسة الدينية وتعبيرات السلطة في الدولة والمجتمع ونمط إنتاج الحياة المادية. ويعطينا مثل تطور مؤسسة الزواج في الإسلام فكرة عن هذا التأثر والتأثير المتبادل بين منظومة القيم من جهة وشروط إنتاج الإنسان ووسائل الحياة من جهة ثانية :

ساد المجتمع العربي قبل الإسلامي زواجا أهليا لم ينط إبرامه بهيئة دينية أو رسمية، وباستثناء المسيحيين واليهود لم تكن تقاليد الجزيرة العربية تشترط للزواج أية قاعدة دينية، واعتبر النكاح عقد معاوضة فردي أو عائلي. وقد اختلفت العادات في أخذ رأي المرأة فمن القبائل من أقر هذا الحق لها إلا في زواج ابن العم ومنهم من لم يعطها الحق في الاعتراض على رأي الأهل. وكانت من أهم التعديلات التي أدخلها الإسلام في عهد النبي محمد اعتبار موافقة الزوجين من شروط عقد الزواج وتحريم أشكال الفرض بالمقايضة العائلية (منع نكاح الشغار)واعتبار المهر للمرأة (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة). ومن الثابت أن الزواج كان شأنا مدنيا بسيطا أهم قواعده الإعلان، وليس ثمة اتفاق على حتمية وجود الشهود في الروايات الدينية الأولى.

ولم يلبث المجتمع العربي الإسلامي أن شهد تراجعا في حقوق المرأة في معمعان العسكرة والتوسع برزت نتائجه في عودة مفهوم عقد المعاوضة إلى تعريف الزواج عند الفقهاء (النكاح في القاموس القرون وسطي) وقد تركت الحياة الجنسية الرجالية الهيمنة في القرون الهجرية الثلاثة الأولى بصماتها في تعريف الزواج نفسه في المدارس الفقهية فاعتبرته المالكية "عقد لمجرد متعة التلذذ بآدمية" والحنابلة "عقد بلفظ النكاح على منفعة الاستمتاع" والحنفية "عقد يفيد ملك المتعة قصدا وهو معقود للرجل دون المرأة" وتأخذ بالتعريف الأخير الشيعة الإمامية التي احتفظت بالزواج المؤقت (نكاح المتعة) كشكل مشروع من أشكال العلاقة بين الجنسين.

هذا بالإضافة إلى إخضاع الزواج أكثر فأكثر للتفاصيل الدينية التي لم يعرفها في حياة النبي حيث كانت القاعدة الأساسية التيسير لا التعسير. فصارت قضية الشاهدين إلزامية إضافة للعلنية وأصبح البعض يرفض شهادة غير المسلم ويخضع شهادة المرأة لمبدأ النصف الخ.

وعلى صعيد مؤسسة العرف، نجد أن وجود أحاديث عديدة في حق المرأة في رفض الزواج ممن لا تريد، بقي الزواج الإلزامي من ابن العم أقوى من السنة والقوانين، ومازال ابن العم كما يقول المثل "ينزل العروس من على ظهر الجمل" (أي يوقف حفلة زفافها من رجل آخر ليتزوجها بالعرف). حيث آثرت القبائل العربية تماسك العشيرة وتعاضدها الداخلي على رأي بناتها.

إلا أن المشكلة الأساسية كانت في أن الخلافة كانت تسعى لبلورة إيديولوجيتها وتعبيرات المعارضة المختلفة أيضا. وإن كان للحياة مسار آخر. وقبل تتبع هذا المسار، من الضروري التوقف عند بناء الإيديولوجية الإسلامية، أو بالأحرى عملية الانتقال من أسطورة بعل إلى ديكتاتورية الرجل.

 
 

هوامش :

1- مناع، المرأة في الإسلام، مذكور ، ص 29-30-31.
2- هيثم مناع، الإسلام والإصلاح الإسلامي، الإمعان في حقوق الإنسان، الجزء الثاني، يصدر قريبا.
3- حسين العودات، المرأة العربية في الدين والمجتمع، دار الأهالي، 1996، دمشق، ص 71-72.
4- منصور فهمي، أحوال المرأة في الإسلام، منشورات الجمل، 1997 ، الفصل الأول. باستثناء فصل التاريخ الاجتماعي للحجاب الذي سبق وقمت بترجمته ونشره في كتاب الحجاب (1988) لا بد من مراجعة باقي الفصول خاصة فيما يتعلق بالاستشهادات التي لم يراجع دائما بشأنها النص العربي الأصلي. لقراء الفرنسية يمكن الاطلاع على الأصل الذي أعيد نشره : Mansour Fahmi, La condition de la femme en Islam, prf. De M. Harbi, post. De H. Manna, Allia, Paris, 1990.
5- تفسير الطبري، الجزء 18، ص 55. أيضا مناع، المجتمع العربي الإسلامي، مذكور، ص27.
6- مادة الحجاب، هيثم مناع، الإمعان في حقوق الإنسان، موسوعة عالمية مختصرة، الجزء الأول، الأهالي-بيسان، بيروت ودمشق، 2000.
7- أنظر للتوسع : مناع، المجتمع العربي الإسلامي، مذكور، ص 41.
 
بناء الإيديولوجية الإسلامية

كتب المؤرخ العربي جواد علي :

"الإله (القمر) يلعب دورا كبيرا في الأساطير الدينية عند الجاهليين. دورا يتناسب مع مقامه باعتباره رجلا، بعلا، أي زوجا، والزوج هو (البعل) والرب والسيد وصاحب الكلمة على زوجه وأهله عند العرب، وهو القوي ذو الحق، وعلى الزوجة حق الطاعة والخضوع له، وبناء على هذه النظرية، جعل الإله القمر صاحب الحول والصول والقوة في عقيدة أهل الجاهلية في الأرباب، ومن هذا الإله القوي الجبار، جاء (الله) بعد أن تحول الثالوث عند بعض الجاهليين إلى (واحد) واستخلصوا منه عبادة الله" 1.

هذه اللفتة لبعل، القمر، الرجل، (أو الشمس الذكر في لغات الساميين الشماليين) ضرورية للدخول إلى حقبة الانتقال ما قبل الإسلامي-الإسلامي ومرحلة إعادة تسطير التاريخ.

سنرى أن أهم ما يأتي من إذلال وحط من قيمة المرأة موجود في تراث الحديث، ومن المعلوم اليوم، مدى ما زج في هذا التراث من أقوال نسبت للنبي أحيانا بعد أكثر من قرنين من الزمن.

في البدء، خلق الله آدم من طين، ثم خلق زوجته من ضلعه. وهذا الضلع على صغر شأنه، كان اعوجا : "المرأة كالضلع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت وفيها عوج"، "استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج" 2.

ولم يحتج الأمر دائما لدعم الحديث، ففي خطيئة زوج آدم يحمل ابن جرير الطبري في تفسيره أسبقية خطيئة المرأة على الرجل وينسب لله أنه قال لها "أنت غررت عبدي" وعاقبها قائلا : إن لها عليّ أن أدميها في كل شهر مرة كما أدمت هذه الشجرة، وأن أجعلها سفيهة وكنت خلقتها حليمة، وأن أجعلها تحمل كرها وتضع كرها" 3. أما ابن المسيب فيقول : "ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته إليها فسكر. وفي تفسير ابن كثير يقول آدم : حواء أمرتني. فبعد أن جمع القرآن بين المرأة والرجل في "الخطيئة" يعود المسلمون فيضعا العبء على المرأة وحدها بالاعتماد على التراث اليهودي.

وفي الأرض، يقيم الرواة والفقهاء فروقا أساسية بين النساء : المؤمنة-غير المؤمنة، الولود- العاقر، الحرة-الأمة، الثيب-البكر، الزانية-غير الزانية. وإن وجدت بعض هذه الفروق مرجعا لها في إسلام يثرب، فيصعب للعقل أن يقبل حديثا ينسب للنبي يقول : "سوداء ولود خير من حسناء لا تلد" 4 وهو الذي رفض أي تمييز حسب اللون بين البشر، إضافة لاعتبار العقم في القرآن قدرا إلهيا.

البيهقي يروي حديثا آخر في الزواج قيقول على لسان النبي محمد : "النكاح رق، فلينظر أحدكم أين يضع كريمته". ويتابع الترمذي : "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" 5. أما مسلم فنجد عنده : "لولا حواء، لم تخن أنثى زوجها الدهر"، "اتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت النساء"، "لم يكفر ممن مضى إلا من قبل النساء وكفر من بقي إلا من قبل النساء"، "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"، "إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان". وعند المنذري في الترهيب والترغيب : "النساء حبائل الشيطان"، "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما".

وعند البلوي في "ألف باء" : "باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء، فإنه إذا كانت المعاينة واللقاء، كان الداء الذي ليس له دواء"، "سأل الرسول بضعته فاطمة : أي شئ خير للمرأة؟ قالت أن لا ترى رجلا وأن لا يراها رجل. فضمها إلى صدره وقال : ذرية بعضها من بعض" (جزء 2 ص 76).

مثل آخر من الأحاديث التي تتناول حق المرأة في طلب الطلاق، نورد بعض ما في كتب الفقه : "أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة"، "إن المختلعات هن المنافقات وما من امرأة تسأل زوجها الطلاق من غير بأس فتجد رائحة الجنة". أو تلك التي تتناول الطاعة العمياء للمرأة لزوجها : "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض، دخلت الجنة"، "أتيت الرسول في بعض الحاجة، فقال لي : أي هذه! أ ذات بعل؟ قالت نعم، قال : كيف أنت له؟ قالت لا ألوه (أي لا أقصر في طاعته) إلا ما عجزت عنه، قال : فانظري أين أنت منه، فإنه هو جنتك ونارك".

لقد بنيت منظومة إيديولوجية كاملة قائمة على اللعنة الأبدية للمرأة باعتبارها كالشيطان تحمل الشر أينما ذهبت والفتنة أينما حلت وبالتالي ضرورة تهميشها والتأكيد على دونيتها. ولاستحالة التدخل في النص القرآني، تم إبداع مئات الأحاديث التي نسبت للنبي محمد والتي أعطاها الأئمة رغم ركاكتها قوة المرجع وفق المبدأ القائم على أن "الحديث الموضوع أفضل من أحاديث الرجال". فأين تكريم بني أدم في القرآن من ذكر وأنثى مع ما يذكره الإمام أبو حامد الغزالي (450-505 للهجرة) وغيره من أحاديث) : "للمرأة عشر عورات، فإذا تزوجت ستر الزوج عورة واحدة، فإذا ماتت ستر القبر العشر عورات"، "ما نزلت على أمتي فتنة أضر على الرجال من النساء"، "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم منكن يا معاشر النساء". ولا شك بأن ما يسميه الإمام الغزالي "إحياء" لعلوم الدين كان قتل ما تبقى من حقوق للمرأة وإطلاق الزواج باعتباره رق للمرأة وإحدى وسائل التنفيس الجنسي للرجل. فلنقرأ ما يقول في المرأة : "والقول الجامع في آداب المرأة من غير تطويل أن تكون قاعدة في قعر بيتها لازمة لمغزلها، لا يكثر صعودها واطلاعها، قليلة الكلام لجيرانها، لا تدخل عليهم إلا في حال يوجب الدخول، تحفظ بعلها في غيبته وتطلب مسرته في جميع أمورها، ولا تخونه في نفسها وماله، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن خرجت بإذنه فمتخفية في هيئة رثة، تطلب المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق، محترزة من أن يسمع غريب صوتها أو يعرفها بشخصها، لا تتعرف إلى صديق بعلها في حاجاتها، بل تتنكر على من تظن أنه يعرفها أو تعرفه، همها صلاح شأنها وتدبير بيتها، مقبلة على صلاتها وصيامها وإذا استأذن صديق لبعلها على الباب وليس البعل حاضرا لم تستفهم ولم تعاوده في الكلام غيرة على نفسها وبعلها، وتكون قانعة من زوجها بما رزق الله، وتقدم حقه على حق نفسها وحق سائر أقاربها، متنظفة في نفسها مستعدة في الأحوال كلها للتمتع بها إن شاء. مشفقة على أولادها، حافظة للستر عليهم، قصيرة اللسان عن سب الأولاد ومراجعة الزوج". إن قدوة النساء عند الغزالي هي مَن "إذا تزوج عليها ثلاثا أطعمته الطيبات وقالت : اذهب بنشاطك وقوتك إلى أزواجك".

أما بالنسبة للرجال فالأمر مختلف. يقول "حجة الإسلام" : "من الطباع ما تغلب عليها الشهوة بحيث لا تحصنه المرأة الواحدة، فيستحب لصاحبها الزيادة على الواحدة إلى الأربع، فإن يسر الله له مودة ورحمة، واطمأن قلبه بهن، وإلا فيستحب له الاستبدال، فقد نكح علي بعد وفاة فاطمة بسبع ليال، ويقال : إن الحسن بن علي كان منكاحا حتى نكح زيادة عن مائتي امرأة، وكان ربما عقد على أربع في وقت واحد، وربما طلّق أربعا في وقت واحد واستبدل بهن. وقد قال النبي للحسن : "أشبهت خَلقي و‘خلقي". وقال : "حسن مني وحسين من علي".. وتزوج المغيرة بن شعبة بثمانين امرأة، وكان في الصحابة من له الثلاث والأربع، ومن كان له اثنتان لا يحصى، ومهما كان الباعث معلوما، فينبغي أن يكون العلاج بقدر العلة. فالمراد تسكين النفس فلينظر إليه في الكثرة والقلة" 6.

وعلى أساس هذا البنيان الإيديولوجي البطرياركي قامت هالة شبه مقدسة تجعل من كل مساس بهذه الصورة المحطة بالمرأة خروجا عن الدين.

 
 

هوامش :

1- جواد علي، الموسع في تاريخ العرب قبل الإسلام، الطبعة الأولى، ج6 ص 174.
2- مناع، المرأة في الإسلام، مذكور، ص 43.
3- حسين العودات، المرأة العربية، مذكور، ص 91-92.
4- هيثم مناع، الأسرة الأبوية في الإسلام، دراسات عربية، بيروت، سبتمبر، 1973.
5- مجموعة الأحاديث واردة بمراجعها في : مناع، المرأة في الإسلام.
6- مقطع مقتبس من : فيوليت داغر وهيثم مناع، الحجاب والختان والزواج في الإسلام، محاضرة ألقتها فيوليت في غزة بدعوة من برنامج غزة للصحة النفسية، مؤتمر المرأة في فلسطين، 21-23 نوفمبر 1999.
 
لمحات من التاريخ العربي الإسلامي

رغم سيرورة تغييب المرأة عبر الإيديولوجية والواقع، كانت هناك باستمرار مقاومة نسوية لعملية التهميش والإبعاد. وقد اشتركت النساء الخارجيات في القتال والتعبئة والإنتاج والحياة الأدبية والسياسية. وعبر وجودها، طرحت المرأة إشكالية الموقف الإسلامي من المرأة في قضايا جوهرية منها الإمامة : الشبيبة من الخوارج، وبجيش فيه مائة وخمسين مقاتلة أقروا بحق المرأة في الإمامة، وانتخبت غزالة إمامة لهم. البجاء الخارجية لعبت دورا كبيرا في مناهضة السلطة المستبدة الأموية، حتى لحظة إعدامها مع تقطيع الأيدي والأرجل من قبل عبيد الله بن زياد والي البصرة. في محاولة منه لإرهاب النساء، اختار الوالي المذكور الإعدام مع تقطيع الأيدي والأرجل ثم عرض جثث الخارجيات عارية في الأسواق. جهيزة وفراشة وأم حكيم والفارعة أسماء دخلت التاريخ الإسلامي كرمز لدور المرأة في الصراع الاجتماعي-السياسي.

ويصعب التأكد من العديد من المعلومات التي وردت عن الخوارج على لسان خصومهم، فمنها ما يقول برفضهم رجم الزاني والزانية المحصنين لغياب آية قرآنية في ذلك، واعتبار بعضهم سبي النساء عن دار الكفر زنى. ومن يبالغ فيقول بتحرر الإباضية منهم من الحدود كافة بما فيها ما يتعلق بالجنسين. وينسب الحسين الكرابيسي في "مقالات الخوارج" لبعضهم السماح للمرأة المسلمة بالزواج من غير المسلم وليس فقط للرجل 1.

وقد برز دور المرأة مبكرا في صفوف الغلاة منذ النصف الثاني للقرن الأول الهجري (من 670م) يذكر الطبري والجاحظ أن حركة الغلاة وضعت بذرتها عند امرأتين (هند المزنية وليلى الناعطية) اللتين جعلتا من منزلهما مقرا لاجتماع الغلاة 2.

كانت حقبة الازدهار العباسي بحق حقبة الصراع بين الديني والمعرفي، المحافظ والمتنور، المجتهد والمقلد، ولم يكن نضال النسوة في صفوف المعارضة الخارجية والمتولية لعلي بكافٍ لكسر هذا التوجه نحو العزل النسوي ولعل في ازدهار الاقتصاد السياسي للإماء ما كسر محاولات خنق النساء في الحياة العامة لتعود المرأة المثقفة والمحبة للحياة والأدب والفن والشعر والغزل إلى صميم هذا المجتمع بعد تكوينها في مدارس خاصة في المدينة المنورة وغيرها. وبذلك كسرت الأمة "الهالة" التي أعطيت لعزل الحرائر حجب النساء مع بروز دور اجتماعي وثقافي وسياسي كبير للإماء تغنى به الجاحظ في رسالته المشهورة في المفاضلة بين الحرائر والإماء وأكدته سيطرة أبناء الإماء على الخلافة العباسية منذ المأمون وتسلمهم لها في الأندلس منذ قيامها إلى سقوطها وبروز عمدة الفكر والأدب والعلوم في أوساطهم.

لقد حملت فترة الازدهار العباسي أفكارا أساسية حول انعتاق المرأة ومشاركتها في الحياة العامة فالمعري ينتقد بشكل حاد تعدد الزوجات ويرفض الإسماعيليون مبدأ التعدد قدوة بالإمام السادس إسماعيل الذي تزوج من امرأة واحدة في حياته. كذلك رفض تعدد الزوجات القرامطة والموحدون "الدروز". وإن كانت الروايات التي يتحدث عنها خصوم القرامطة بشأن الجنسين موضع شك من المؤرخين، فلدينا في نص باطني قديم يعود لما بعد فترة الحاكم بأمر الله الفاطمي يؤكد إصرار ما عرف بالباطنية بشقها الإسماعيلي والموحد (الدرزي) على مبدأ المساواة في عرف ومعطيات حقبته. فقد جاء في "شرط الإمام صاحب الكشف" :

"إن الأحكام في فرايض الرضى والتسليم في سبب زيجة الموحدين والألفة بين الإخوان والأخوات مرتجة عليهم وأن لا علم لهم بما توجبه شروط الديانة وكيف تكون المصاحبة بينهم. فيجب أن يعلموا ساداتي أن شروط الرضى والتسليم ليس تجري مجرى غيرها من الزواج. لأن الرضى والتسليم شيء من أمور الباري سبحانه، فمن نقضها فقد خالف أمر مولانا جل ذكره والذي توجبه شروط الديانة أنه إذا تسلم أحد الموحدين بعض أخواته الموحدات، فيساويها بنفسه، وينصفها من جميع ما في يده، فإن أوجب الحال فرقة بينهم، فأيهم كان المعتدي على الآخر، فإن كانت المرأة خارجة عن طاعة زوجها وعلم أن فيه القوة والإنصاف لها، وكان لا بد للمرأة من فرقة الرجل، فله من جميع ما تملك النصف، إذا عرفوا الثقات تعديها عليه وإنصافه لها، وإن عرف الثقاة أنه محيف عليها وخرجت من تحت ضرورة، خرجت بجميع ما تملكه، وليس له معها شئ في مالها، وإن كانت هي المخالفة له وليست تدخل من تحت طريقته، فله النصف من جميع ما تملكه، ولو أنه ثوبها الذي في عنقها. وإن اختار الرجل فرقتها باختياره بلا ذنب لها فلها النصف من كل ما يملكه من ثوب ورحل وفضة وذهب ودواب وما أحاطته يده لموضع الإنصاف والعدل، فليتحققوا السادة هذه المكاتبة ويعملوا بها وبهذا الشرط، فهكذا يجري الحال بالعدل والإنصاف" 3.

وقد أكد المعتزلة على تعليم النساء وكذلك فعل معظم المتشيعين لعلي وعدد من المتصوفة، في حين وقفت بعض الفرق كالنصيرية ضد تعليمها ومع تعدد الزوجات. ونجد في "رسالة البنات الكبيرة" من كتب الحكمة للموحدين نصا يطالب بتعليم المرأة الحكمة والدين والعلوم يقول : "التخلف عن حفظ الحكمة هو الذنب العظيم، فبحفظ الحكمة والعلم ترتفع درجات المحقين وبإهمالها تعرف الكذبة من الصادقين. فتفهمن هذه الرسالة أيتها البنات واجعلنها لعقولكن أمما واجتهدن في حفظ الحكمة .. فبحفظ الحكمة والعلم يتميز الأخيار من الأشرار" 4

لم يكن الحجاب فرضا ملزما عند العديد من الفرق التي يتهمها البغدادي في "الفرق بين الفرق". ونلاحظ في وصف مجتمع الألفة القرمطي في مدينة الكوفة عند ابن سنان وابن العديم أن المرأة والصبي يدفعا الخمس كالرجال عند عملهما ولهما نفس الحقوق. ويؤكد ابن الجوزي في "المنتظم" والغزالي في "فضائح الباطنية" على سقوط الحجاب والاختلاط عند الفرق الباطنية وقصدهم منها القرامطة. ونجد في أكثر من نص إسماعيلي تأويل للحجاب باعتباره احتجاب عن العقول أو إشارة لتواري الحق بالحجاب. في حين يؤكد "ميثاق النساء" في كتب الحكمة الدرزية على أن تعليم المرأة يتم من وراء حجاب غير مسفرة وبحضور أحد أفراد عصبتها (أب أو ابن أو أخ أو من تحق له الولاية من الموحدين) 5

يؤكد الجاحظ مبدأ المساواة بين الجنسين بالقول : "لسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل أن النساء فوق الرجال أو دونهم بطبقة أو طبقتين أو بأكثر، ولكنا رأينا أناسا يزرون عليهن أشد الزراية ويحقروهن أشد الاحتقار ويبخسوهن أكثر حقوقهن".

وكما نلاحظ، فقد قادت المرأة العربية اتجاهات سياسية كما كان حال عائشة بنت أبي بكر وغزالة الخارجية وهند الناعطية وناضلت للسلم كما فعلت سكينة بنت الحسين بن علي التي حولت مجلسها مركزا للأدب والشعر والعلوم. وحملت فترة الازدهار العباسي والازدهار الأندلسي أفكارا أساسية حول انعتاق المرأة ومشاركتها في الحياة العامة.

دافع ابن رشد وابن عربي كلاهما عن حقوق المرأة وكرامتها ومما قال الأول : "لا تدعنا حالنا الاجتماعية نبصر كل ما يوجد في إمكانيات المرأة، ويظهر أنهن لم يخلقن لغير الولادة وإرضاع الأولاد، وقد قضت هذه الحالة من العبودية فيهن على قدرة القيام بجلائل الأعمال، ولذا فإننا لا نرى بيننا امرأة مزينة بفضائل خلقية، وتمر حياتهن كما تمر حياة النباتات، وهن في كفالة أزواجهن أنفسهم، ومن هنا أتى أيضا البؤس الذي يلتهم مدننا، وذلك أن عدد النساء فيها ضعف عدد الرجال، ولا يستطعن كسب الحاجة بعملهن". وقال ابن عربي في حديثه عن الإنسان الكامل جامعا فيه بين المرأة والرجل سواء بسواء "فكلامنا إذا في صورة الكامل من الرجال والنساء فإن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى والذكورية والأنوثية إنما هما عرضان ليستا من حقائق الإنسانية". ورغم مطالبة ابن رشد بالتجديد في الدين وإصرار ابن عربي على ضرورة تواكب الأحكام مع الزمان والمكان - وفي ذلك يقول "اعلم أن الحكيم الكامل المحقق المتمكن هو الذي يعامل كل حال ووقت بما يليق به ولا يخلط"- لم يأخذ بعلمهما ومعارفهما أبناء الشرق واستفاد منهما رواد الإصلاح في الغرب. مما حمل مشعل المعارف بعيدا عن العالم الإسلامي.

فمن جهة، عزز استبداد الخلافة الطابع الاستبدادي الأبوي للأسرة وتعزز به، ورغم التواجد الفعلي للمرأة في الأعمال ذات الفائدة العامة مما تعدى كثيرا دورها في تربية الأطفال وطهي الطعام، إلا أنه وباستثناء الأرامل والإماء، لم يكن للمرأة حق التصرف فيما تنتج من نسيج وصناعات حرفية وأطعمة، وكانت في الريف تعمل في البيت والحقل، تنكش وتحصد وتدرس وتمخض اللبن وتعد الطعام وتجمع الحطب وتجلب الماء وتنظف البيت وتربي الأطفال. ومع ذلك بقيت أسيرة البنية الاجتماعية-الإيديولوجية الأبوية في تكوينات لم تمتلك الحد الكافي من التفرد وفي ظل سلطات احتكر الرجل فيها القوامة والقرار.

وقد تركت الهيمنة العقيدية وهزيمة التعددية في المجتمع وإقفال باب الاجتهاد وسيادة الطابع العسكري-الأمني للخلافة آثارها على وضع المرأة وعادت لتؤكد على عزلها وخنق وجودها المجتمعي لقرون. ولم تترافق عصور الانحطاط بظلم المرأة وتهميشها وتغييبها عن الحياة العامة فحسب، بل ترافق ذلك بتراجع في الفكر والاجتهاد والعلوم والمكانة الحضارية للعرب والمسلمين.

 
 

هوامش :

1- الحسين الكرابيسي، مقالات الخوارج، مخطوط المكتبة الوطنية في باريس، 1453، ورقة 34أ.
2- هيثم مناع، المرأة ! ، منشورات الجمل، كولن، 1988، ص 60. الجاحظ، الحيوان، ج2 ص268، ج 6 ص 439. أيضا حوادث سنة 67 من تاريخ الطبري.
3- سلفستر دي ساسي، منتخبات عربية. لمع من كتب الدروز، ص 290-291-292.
4- رسالة البنات الكبيرة، مخطوط المكتبة الوطنية في باريس رقم 1432، ورقة 136.
5- ميثاق النساء، مخطوط المكتبة الوطنية في باريس، رقم 1409، ورقة 42. وللموحدين الدروز رسائل أخرى خاصة بتعليم المرأة مثل الموسومة برسالة النساء الكبيرة ورسالة النساء الصغيرة، وكلاهما مخطوط في المكتبة الوطنية.
 

عودة الوعي

إن كانت مدارس الفقه الرسمية (الحنبلية والمالكية والشافعية والجعفرية والحنفية) قد نمت في ظل المجتمع الأبوي القرون وسطي، فقد تعايشت مع معطياته أحيانا مع تكرار لما ينسب للمجتمع الإسلامي الأول، وأحيانا أخرى في انسجام أكثر مع الواقع الذي تنامت فيه. ولذا لا ضير في أن نجد مبالغة عند الفقهاء في اضطهاد المرأة والتحامل عليها، وإسرافا في استعمال أحاديث ضعيفة أو متعارضة مع روح القرآن. وإن تجنبنا تناول المتغيرات الاجتماعية الاقتصادية في حقبة تكلس وهيمنة مدارس الفقه التقليدية، فلاعتقادنا أن من الظلم بمكان اختزال الحضارة العربية في الخطاب الإسلامي وحده واختزال الخطاب الإسلامي في المدارس الفقهية الخمسة. فمن يتحدث عن حضارة، يتحدث عن إبداعات فكرية واكتشافات معرفية ورموز علمية وآداب وفنون الخ. فلو عاد الأمر لابن حنبل لما كان هناك مدارس في الفلسفة وأخرى في العلوم، ولكان مصير دار الحكمة القبر.

من هنا، من الضروري استقراء العطاء التاريخي في الفلسفة وعلم الكلام والمدارس الفقهية والفرق غير الرسمية والتصوف والمعارف والعلوم غير الدينية.. وملاحظة أن احتكار المدرسة الفقهية للسلطان الديني والمعارف الدنيوية كان موازيا لعملية التراجع والانحطاط في التاريخ العربي و/أو الإسلامي.

انطلاقا من هذه الملاحظة الضرورية، يسهل علينا أيضا إبصار عودة الروح مع عملية الاغتصاب الخارجي التي تعرض لها العالمين العربي والإسلامي. فمن المآسي البشرية أن التقدم الذي يحمل في ثناياه رياح التغيير الإيجابية يحمل أيضا دمامل البشاعة في العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان. فلقد استفاق المسلمون من سباتهم على أصوات طبول الاستعمار في عقر دارهم، وإن حمل الاستعمار الغربي معه البضاعة الصناعية والمطبعة والمدفع خانقا التركيبات الاجتماعية – الاقتصادية ما قبل الرأسمالية معيدا تكوينها بشكل تبعي وهش 1، فقد ترافق ذلك بكسر ثلاثة احتكارات تاريخية كانت من عوامل الانحطاط الأساسية :

- احتكار التعليم والمعارف من قبل رجال الدين.
- احتكار العمل العام من قبل الرجال.
- احتكار التعبير عن المصلحة العامة من قبل الخليفة.

ورغم أن دخول المرأة سوق العمل في المدينة العربية كان النتاج السلبي والتعسفي لسيرورة ولوج الهيمنة الرأسمالية في أعماق المجتمع العربي، إلا أن هذا لا يعني بحال اختزال قضية المرأة إلى مجرد نتيجة لانهيار الوحدات الإنتاجية ما قبل الرأسمالية القائمة حصرا على العمل العائلي البطرياركي. فقد دخل قطاع من النساء عالم التعليم والطبابة والصحافة والصناعة والوظائف الحكومية مبكرا في توسع لنطاق المشاركة العامة للمرأة، وكان لولادة المدرسة والجامعة الدور الكبير والحاسم في كسر النظرة التقليدية لتأهيل النساء ومستقبلهن. وقد استوعبت الاتجاهات المتنورة والنساء ضرورة الانخراط مبكرا في المهن الجديدة التي حملتها الرأسمالية كالصحافة والتدريس كذلك كان للجمعيات الأهلية العائدة بقوة منذ القرن الماضي أن تسمح للنساء بالمشاركة الفعلية في تجمعات خيرية أو ثقافية تبادر لها المرأة. إلا أن المرأة كانت تسير على طريق وعرة مسيجة بالشوك ورغم الجرأة الكبيرة التي وسمت الرائدات، كانت مقاومة المجتمع الأبوي كبيرة، وكما تقول إحدى المعمرات : "في كل مرة كانت المرأة تنزع فيها الحجاب وتخرج من البيت، كان ذلك في إطار معركة تخوضها من أجل العام : الوطن، التحرير، العمل لإنقاذ محيطها من الجهل. ولم يكن الرجل والأهل في جانب المرأة الجديدة إلا فيما ندر" 2.

كان من الترف أن تطرح المرأة قضيتها ككائن إنساني في ذاته ومن أجل ذاته.

فشلت البلدان الإسلامية، في تحقيق النقلة من التحرر الوطني إلى الانعتاق المواطني. ولم تجد المرأة التي ناضلت من أجل الاستقلال من مصر 1919 إلى جزائر حرب التحرير ما تستحق من عرفان مع تراجع التيارات الديمقراطية بانتصار عقلية الأب القائد والحزب الواحد. فكل سلطة تسلطية بطرياركية بالضرورة وتعتمد الفحولة الأبوية في وعيها أو لا وعيها. من هنا لم ترتق قوانين الأحوال الشخصية في أحسن أحوالها إلى مستوى كتابات المصلح الإسلامي الطاهر حداد، وكانت النتيجة المباشرة للبنى التسلطية للسلطات السياسية، تعزيز العنف والبنى التسلطية في صفوف المجتمع. بحيث دفعت المرأة الثمن الأغلى. إلا أن هذه الواقعة ترافقت بتمزق الأشكال التاريخية للأسرة الكبيرة ودخول المرأة الحياة العامة وسوق العمل، وأحيانا ذهاب سوق العمل إلى منزلها عبر التوسع الأفقي للنظام الرأسمالي. الأمر الذي جعلها في محور قضايا إعادة البناء والتنمية والدمقرطة في كل مشروع يحاول استقراء أسباب فشل العالم العربي في دخول التاريخ المعاصر كطرف فاعل وليس كمجرد موضوع في الأحداث.

عادت المرأة طرفا في كل معسكر، فالأصولي يحتاج لها كواجهة تغطي تأخره عن موكب الحقوق النسوية اليوم، والسلطات السياسية تحاول إشراكها لتكون بطاقة حسن سلوك للانتماء إلى العصر. وبذلك أضحت المرأة من جديد، مع أو بدون حجاب، رهانا مركزيا في إعادة تكوين معالم الغد في المجتمعات الإسلامية. ومن هنا ضرورة تتبع محورين مركزيين في قضية المرأة اليوم : الأول محور الإصلاح الإسلامي والمرأة، باعتبار أن رموز الإصلاح قد نجحوا في التوفيق بين حقوق المرأة وفهمهم للإسلام، بتعبير آخر، تبنوا إلغاء أي شكل من أشكال التمييز بين الجنسين ضمن تصور إيماني مسلم. الأمر الذي يشكل إنجازا فكريا هائلا في حقبة ارتداد عامة وفي مجتمع متدين و دين غالبا ما كانت العلاقة فيه بين السماء والأرض والمعتقد والتشريع معقدة وشائكة. أما المحور الثاني فهو تفكيك خطاب التمييز والتعريف بحقوق المرأة اليوم لتعزيز التواصل بين النساء من كل البلدان والمعتقدات من جهة وفضح الخطاب الظلامي المناهض لكرامة المرأة بتعبيراته العقيدية والاجتماعية من جهة ثانية.

 
 

هوامش :

1- هيثم مناع، المرأة ! ، منشورات الجمل،1988، أنظر فقرة إشكالية الغرب، ص16.
2- نفس المصدر، ص 18.
 
الإصلاح الإسلامي والمرأة

كيف يمكن أن يكرّم الإسلام الإنسان (أي الذكر والأنثى) ويضطهد النساء؟ كيف تنسخ آيات من كلام الله في حياة النبي احتراما لتغير الأحكام بتغير الظروف والأزمان ويوقف الفقهاء عقارب الساعة عند الأحكام الصادرة في صدر الإسلام؟ كيف يعطي القرآن مكانة أولى للعقل والعاقلين ويقتل السلفيون العقل باسم النقل؟ لماذا يحثّ الإسلام على طلب المعرفة والعلم إن كان "كل شئ موجود والحمد لله" ؟

بهذه التساؤلات المشروعة يتصدى الإصلاحيون منذ جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين والطاهر حداد وصولا إلى محمود محمد طه وجيل من المجددين الرافضين لسجن الإيديولوجية الأصولية.

ليس من العدالة القول بأن مناهضة أدلجة الدين تنتمي لهذا القرن وحسب، فقد انزرعت نويات هذا التوجه منذ أبي ذر الغفاري وغيلان الدمشقي والحسن البصري ومالك بن دينار، وكانت له صولات وجولات مع النظّام والعلاف والجاحظ والكندي وابن سينا وماسويه، وقد وجد في المتنور من الاتجاهات الباطنية صدى نداء التفاعل بين الفلسفة والدين. وسجل إنجازات حضارية مع ابن رشد وابن عربي. وحتى مدارس الفقه لم تنج من فيروس التجديد والإصلاح، وإن كانت أقل من تأثر فيه. أما المجتمعات الإسلامية، فتصنف بعفوية في وعيها الجماعي حقبة الازدهار الحضاري في تلك الفترة التي أحياها أهل الفكر والفلسفة والمعرفة، رغم كل عمليات التعتيم على كتابة التاريخ بشكل موضوعي.

اتبع أهل الإصلاح والتجديد مناهج عديدة تعتمد بمعظمها على الفصل بين إثبات الخالق ووحدانيته كأساس أزلي واعتبار قضايا الدنيا من الفروع المحتملة لوجوه عديدة كلها هدى ورحمة للبشر إنطلاقا من كون الدين يسر لا عسر وأخذا بالحديث النبوي "إنكم اليوم على دين، فلا تمشوا بعدي القهقرى". باعتبار أن التنظيم الاجتماعي العام، باستعارة تعبير الشيخ عبد الله العلايلي، خاضع للمتغيرات العاملة الدائبة؛ ففي كل حين هي في شأن، فإذا أفرغت في قوالب، وأغلق عليها، تفانت وتناهت على ذات نفسها، وذوت حتى الذماء، أي لفظ الأنفاس، وغدت أواصر حياة الجماعات العامة مستحجر مجتمع، لا متفجّر حركية دينامية، لكل لحظاتها إيقاعات شلال، لا ينضب ولا يغيض 1.

يلتقي الأفغاني ومنصور فهمي على تصنيف العزل والحجر بين كبريات المصائب على النساء في المجمعات الإسلامية. ويرى الأفغاني أن الرجل يقيد المرأة ويكبلها تارة بدعوى الدين وأخرى في عدم كفاءتها من حيث التكوين مع أن دعوى التكوين والمواهب من قوة وجسم وعقل وصحة ما كانت أبدا على نسبة واحدة في الرجال كما لا يصح أن يحكم على تجرد النساء منها والذي نراه من التفاوت إن هو إلا من حيث التربية وشكلها وإطلاق السراح للرجل وتقييد المرأة في عدم البراح من الخضر وحصر مواهبها في ذلك المضيق" 2.

أكد الإمام محمد عبده على أن الأحكام تتغير بتغير الأزمان والشريعة لم توضع لتحويل سنن الكون والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، إن الحاجة تنزل منزلة الضرورة والضرورات تبيح المحظورات والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص والحكم الذي تمس إليه الحاجة أو الضرورة يصير متفقاً عليه ذلك هو قوام الشرع الصحيح بل قوام كل شرع. وقد كتب منذ 1880 في قضية الزواج والمرأة منتقدا الخطاب الفقهي التقليدي وكان له بالغ الأثر على قاسم أمين في كتابه "تحرير المرأة".

فتح كتاب "تحرير المرأة" ملفا من أصعب ملفات الحقوق والحريات في العالم العربي. ورغم ردود الأفعال القاسية التي رافقت صدوره، انطلق قاسم أمين في المرأة الجديدة من المرجعية المحلية إلى المرجعية العالمية ومن النفير المطالب بالاستيقاظ إلى قواعد الاجتماع والنفس الحديثة مع تفسير ذرائعي يضيف لمبدئية قضية المرأة بعدي الضرورة والمنفعة العامة. يتحدث قاسم عن علة الشرق في النهج الاستبدادي العام السائد فيه فيقول : "انظر إلى البلاد الشرقية، تجد أن المرأة في رق الرجل والرجل في رق الحاكم فهو ظالم في بيت مظلوم إذا خرج منه". وكمثل لانتهاك حرية المرأة يقول : " الرجل الذي يحجر على امرأته لا تخرج لا يحترم حريتها. فهي من هذه الجهة رقيقة بل سجينة والسجن أشد سلبا للحرية من الرق". ويقول في الحرية : " الحرية هي قاعدة ترقي النوع الإنساني يوم عراجه إلى السعادة ولذلك عدتها الأمم التي أدركت سر النجاح من أنفس حقوق الإنسان" 3.

على نهج قاسم أمين وضرورة الإصلاح يقول عبد الرزاق السنهوري : "الشريعة الإسلامية في حاجة إلى حركة علمية قوية، تعيد لها جدتها، وتنفض ما تراكم عليها من غبار الركود الفكري الذي ساد الشرق منذ أمد طويل، وتكسر عنها أغلال التقليد الذي تقيد به المتأخرون من الفقهاء" 4. ويقترح السنهوري تطوير الإجماع ليصبح ابن سلطة تشريعية منتخبة يقول : "الإجماع في المرحلة الأولى كان شيئا يصدر عن غير قصد بل عن غير شعور. عادة ألفها الناس فصارت محترمة. أما في المرحلتين الأخيرتين، فهو يصدر عن شعور، وإن لم يصدر عن اتفاق مقصود. فلو تطور الإجماع، في مراحله المنطقية، وجب أن يصل إلى مرحلة يصدر فيها عن هذا الاتفاق المقصود، ولا يكتفى فيه بالاتفاق العرضي، فيجمع المسلمون، أو نواب عنهم، ويستعرضون مسائلهم، ويقررون فيها أحكاما تتفق مع حضارة زمنهم، وهذه الأحكام تكون تشريعا. وبذلك يكون الإجماع عنصر التجديد في الشريعة الإسلامية، يحتفظ لها بمرونتها ومقدرتها على التطور" 5.

مع الطاهر حداد، خطا الإصلاح الإسلامي خطوة كبيرة عبر إصرار ابن الزيتونة على فتح باب المسائلة وضرورة فهم الوضع المجتمعي للنساء وبتعبير الطاهر "موضوع المرأة والزواج والمنزل والعائلة من الوجهات النفسية والاجتماعية والتشريعية" 6.

فقد توجه الطاهر حداد إلى عدد من رجال الدين بالأسئلة التالية :

- هل للمرأة حق اختيار الزوج، وهل لوليها ذلك، ولمن تكون الكلمة الأخيرة؟
- هل ظهور العيب الموجب للفسخ في أحد الزوجين بعد البناء يعتبر مصيبة نزلت بالآخر لا مناص عنها؟
- هل الغيبة الطويلة المتلفة لمتعة الزوجية تعطي حق الاختيار للمرأة في الطلاق أم إنه ممتنع ما بقي الإنفاق، وهل المفقود وغيره في ذلك سواء؟
- هل يمضي الطلاق بمجرد التلفظ به الناشئ عن حدة غضب أو تعليق، أم إن المعتبر في ذلك تحقق استحالة العشرة بين الزوجين؟
- هل للمرأة أن تثبت لدى القضاء عدم التناسب بينها وبين زوجها في الروح والأخلاق والرغبات بما ينفي طيب العشرة بينهما فتطلب بموجب ذلك الطلاق؟
- هل للمرأة أن تلاعن الرجل في رؤية الزنى، أم إن ذلك من خصائصه وإذا كان كذلك فعلى أي نظر بنى هذا الاعتبار؟
- هل يجوز أن يضمر الرجل نية الطلاق في نفسه عند عقد النكاح فيصح ذلك ويتم "النكاح"؟
- هل المرأة في البيت رفيق مساو للرجل يعملان باشتراك في الرأي والتنفيذ أم أنها قاصر تحت رعايته كأداة لتنفيذ أوامره؟ وهل إن امتنعت من هذا تجبر عليه أم ماذا يكون؟
- ما هو مقدار الحرية التي تتصرف بها المرأة في تجارة أو غيرها متى كانت رشيدة ؟ وهل للزوج ولاية عليها في ذلك أم تقويض جبري؟
- ما هو اعتبار المرأة بوجه أعم، وهل من قائل بتقديمها في إمامة الصلاة وغير ذلك من شؤون خارجة عن دائرة البيت؟
- ما الذي يجب ستره من البدن عن الأنظار صونا للأخلاق؟" 7.

يؤكد الطاهر حداد إذن على الاجتهاد كباب للتجديد وعلى المجتمع كمرجع لهذا التجديد لقد بنى الطاهر حداد القسم التشريعي من كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" على نظرية التدرج في تشريع الأحكام المتصلة بالأحوال الشخصية واعتبر تلك الأحكام عرضية، دنيوية لا تمس جوهر العقيدة وتقبل التغيير والتطوير. أما الأحكام الجوهرية كعقيدة التوحيد ومكارم الأخلاق وإقامة العدل والمساواة بين الناس .. فإنها خالدة بخلود الإسلام. أما القسم الاجتماعي فينقل لنا مشاهد حية من حياة الأسر التونسية داخل البيوت في عرض دقيق ونقدي غايته تشريح وضع الأسرة التونسية والبحث عن نقاط الضعف في بنيانها وثقافتها وعاداتها.

وفي الكتاب يبدو جليا المشروع الإصلاحي للطاهر حداد في دعوته إلى تمكين المرأة من حقوقها المدنية كالمساواة في حق الشهادة وتولي مهام القضاء وحرية التصرف في مالها واعتبار نزول ميراثها عن الرجل قابلا للتغيير في اتجاه المساواة، بكلمة، حق المرأة في المشاركة في التعبيرات الأساسية للحياة العامة.

وقد تناول في الكتاب تفصيلات قانونية حينا وطبية أحيانا أخرى حرصا على إقامة العدل وحفظ الصحة العامة فنجده يقيّد عقد الزواج بالفحص الطبي للخاطبين توقيا من آفات الوراثة والأمراض المزمنة والمعدية ويشدد على منع الزواج دون سن الرشد ويفتي بإباحة موانع الحمل، بل تعدى ذلك إلى إباحة عملية الإجهاض إذا وقع الخوف على حياة الأم وسلامة الأسرة. وقد جهر بمنع تعدد الزوجات حفاظا على وحدة الأسرة واستقرارها وتضامن أفرادها كما نادى بتحكيم القضاء في كل ما يقع من حوادث الطلاق وحق المتضرر من الزوجين بالتمتع بالتعويض المالي تضييقا على المطلق بنزوة تضر بقرينته. وانتقد المؤسسة الزجرية "دار جواد" المعدة لردع الزوجة المستعصية النافرة من زوجها، كما اعتبر نفاقا وممارسة بغيضة ملعونة اللجوء إلى "التّياس أو التجحيشة" أي المحلل الصوري للمطلقة بالثلاث. ويمكن القول أنه حتى اليوم لا يوجد بلد عربي يحترم حقوق المرأة بقدر ما يفعل الطاهر حداد 8.

في رسالة وجهها في الرابع من ديسمبر 1930 إلى المقيم العام الفرنسي بعد أن انتزعت السلطات الفرنسية منه حقوقه المدنية يقول موضحا أطروحته التي تنسجم مع نظرية الحكم عند علي عبد الرازق :

" إن الوظائف في الإسلام ليست دينية كما يظن الجاهلون بالأمر فإن الدين روح لا وظيفة وإنما هي تشريعية لتوفية مصالح الدولة في الإسلام وهي تتطور حسب تطور تلك المصالح نفيا وإثباتا. ونظرة إلى التاريخ الإسلامي ترينا كيف حدثت وظائف في حياة الرسول وأخرى في حياة الخلفاء الأربعة، وأخرى في الدول الإسلامية بعدهم بحسب ما اقتضته الحاجة المتجددة ولو كانت دينية لجاءت كاملة من أول يوم ولما أمكن للمسلمين حذف وظائف وإقامة أخرى مكانها. ونحن المسلمون نعرف كيف نميز الصلاة عن عقد الزواج مثلا فالأولى روح والثانية وظيفة لضمان الحقوق وليست إلا عملا مدنيا لا واجب في انعقاده غير الرضى والقبول من دون غبن ومع قطع النظر عن أي زمن وأي مكان وأي هيئة.

أما شيوخنا فلا أقدر أن أحدد مواقفهم المختلفة وكم هم بعداء في سلوكهم معي عن فهم الإسلام وروح الشريعة. ولا أدري كيف ساغ لهم أن يضعوا إمضاءاتهم في تكفير مسلم لأنه أثبت لنفسه حق النظر في الشريعة وفهمها بما تقتضيه حاجة المسلمين وروح العصر مهما كان مخطئا في اجتهاده ولا شك أنهم مجبورون بحكمهم هذا على بناء النتائج اللازمة عليه فيحكمون أيضا بمنع هذا الكافر من ميراث أهله، وفصله أو منعه من الزواج وإخراجه من جامعة الإسلام حيا أو ميتا وبذلك قتله اجتماعيا كما يشتهون(…).

إنني مهما اجتهد أن احترم وأجل غيري فلا يمكن أن أعتقد أن عائلات ورثت مقاعدها إدخال وإخراج من تشاء من الإسلام بل ولا اعتقد لأحد كائنا من كان حقا مثل هذا وإنما يخرج المسلم من دينه متى شاء هو أن يخرج فيعلن ذلك للناس. 9

كسر الشيخ عبد الله العلايلي عدة مسلمات في قضية المرأة والزواج وعقوبة ممارسة الجنس للمتزوج (ة) مستنكرا لعقوبة الرجم ومؤكدا على ضرورة العودة إلى الأصل المدني للزواج في الإسلام. وله يعود مفهوم "الشريعة العملية" الذي دافع عنه في وجه المفهوم المتزمت والضيق للإسلام. وهذه الشريعة كما يقول، هي "بمنطق النبي محمد ومنطق العلم في معرض تكيف وتجدد دائمين" 10. ويقول في شرح مراده : "هذه الشريعة العملية التي لا يخالجني ريب، في أنها القمينة برمّ ما يفري عالم اليوم، من سقم عياء ويستبد به من حمى برخاء… ينعكس فعلها في الفكر والمجتمع ومناهج السلوك، إذا ظلت أسيرة قوالب جامدة. وهذا ما حاذره المبعوث بها في قوله الشريف : إن الله يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مائة سنة، من يجدد دينها. والحديث الكريم هذا، هو في نظري دستور كامل لحركية الشريعة و "ديناميتها" في مجال صيرورة الزمن، فهي تجدد دائم يدوس أصنام الصيغ في مسار طويل" 11.

من بين المدافعات أولى عن حقوق المرأة، تميزت نظيرة زين الدين (1908-1976) بدراستها المعمقة للإسلام وانطلاقها في جملة مواقفها من مفهومها الإصلاحي للدين. فهي في الوقت نفسه مصلحة في قراءة الإسلام ومناضلة من أجل المساواة بين الجنسين والمشاركة المرأة في الحياة العامة ونزع الحجاب.

أصدرت أول كتاب لها "السفور والحجاب" قبل أن تبلغ العشرين من عمرها في حقبة تعددت فيها أصوات التجديد، وقد سبقت بإصداره في لبنان الطاهر حداد في تونس. وفي هذا الكتاب يكتشف المرء قراءة متقدمة لمفهوم المرأة في الإسلام أساسها ضرورة إعمال العقل في الدين والتركيز على مصادره وامتلاك نظرة نقدية لقراءات المسلمين المختلفة له. وقد قرأت الطبري والبيضاوي والخازن والنسفي والطبرسي وابن عربي من القدماء والأفغاني وعبده والغلاييني والرصافي والزهاوي من المعاصرين.

تركز الكاتبة الشابة على دور التربية ودور الرجل في توضيح معالم العلاقة بين الجنسين وتعطي مثل والدها تقول : "أرجو من سادتي الرجال أن لا يتهموني بخرق النظام والفرار من سجن الحجاب، فإني لم أفعل ذلك يا سادتي، إنما أخوكم أبي الذي خلقه الله حرا مطلقا – وهو لا يخشى في سبيل الحق لومة اللائمين- هو الذي عد سجني منافيا عدل الله، ومصلحة العيلة والمجتمع ووثق بشرف نفسي وأدبها، فأرسلني سافرة إلى الحياة والنور. ولدى تحكيمي العقل رجحت ما رآى ففعلت". وتقول : "الدين حلل ما حلل وحرم ماحرم، أما الرجل فحرم الحلال وحلل الحرام". وتؤكد على مرجعيتها الدينية بالقول : "من الكتاب والسنة قرأت أنوار هدى في الحرية وحرية المرأة وحقوقها تستحي منها الشمس إذا طلعت". وتقول في آية الحجاب : "قرأت نحوا من عشر تفسيرات لا تنطبق رواية على رواية كأني بكل واحد من الرواة يريد بما يروي أن يؤيد مايرى ولم أر رواية مستندة إلى دليل ما". وتوجه في نهاية كتابها نداء تقول فيه

"أما أنا، فبعد تلك النعمة، نعمة الحرية التي منحنيها أبي من تلقاء نفسه والتي عددتها نعمته الثانية عليّ، بعد نعمة الحياة، أتيت بأشد ما منحني الله وحرية التفكير من قوة، أثبت أن المرأة ما خلقها الله عيا ولا ناقصة عقلا ولا دينا، وإن الحرية الصحيحة هي بعكس ما يظن الجهلة والسفهاء، هي ولا ريب الأس المتين، والركن الركين للأدب، وعزة النفس والصلاح، والكمال، والدين، وأثبت أيضا أن الحرية قد لا تؤخذ أخذا بل تعطى، وألتمس منكم يا سادتي الرجال، أن تحرروا أفكاركم، من البدع والأباطيل وتأثير العادات، وتمنحوا من أنفسكم كل اللواتي تثقون بشرف نفوسهن من أخواتي العزيزات المحترمات، أمهاتكم وبناتكم وزوجاتكم وأخواتكم، تلك النعمة نعمة الحرية، أما اللواتي، لم يستحققن الثقة فلا رأي لي في أمرهن، على أني أود أن لا أرى تحت لواء الحرية، إلا نفوسا من الجنسين شريفة أبية" 12.

يلخص كتاب "الرسالة الثانية من الإسلام" فكر الأستاذ محمود محمد طه (1909-1985) الذي يعتبر أن رسالة الأصول تقوم على القيم الإيمانية الكبرى والبعد العالمي الإنساني للرسالة المكية الأولى. أما رسالة الفروع فما هي إلا أنموذج من نماذج تطبيقها في زمان ومكان محددين (المدينة). ويقول في هذا الكتاب : "من الخطأ الشنيع أن يظن إنسان أن الشريعة الإسلامية في القرن السابع تصلح بكل تفاصيلها، للتطبيق في القرن العشرين، ذلك بأن اختلاف مستوى مجتمع القرن السابع، عن مستوى مجتمع القرن العشرين، أمر لا يقبل المقارنة، ولا يحتاج العارف ليفصل فيه تفصيلا، وإنما هو يتحدث عن نفسه فيصبح الأمر عندنا أمام إحدى خصلتين : إما أن يكون الإسلام، كما جاء به المعصوم بين دفتي المصحف، قادرا على استيعاب طاقات مجتمع القرن العشرين فيتولى توجيهه في مضمار التشريع وفي مضمار الأخلاق، وإما أن تكون قدرته قد نفذت وتوقفت عند حد تنظيم المجتمع السابع، والمجتمعات التي تليه مما هي مثله، فيكون على بشرية القرن العشرين أن تخرج عنه، وأن تلتمس حل مشاكلها في فلسفات أخريات، وهذا مالا يقول به مسلم.. ومع ذلك فإن المسلمين غير واعين بضرورة تطوير الشريعة". 13

وفي الرسالة الثانية تلخيص لأهم الأفكار الثورية لمحمود محمد طه حيث لا يعتبر الرق أصلا في الإسلام، ولا الرأسمالية ويقول في قضية المرأة : "عدم المساواة بين الرجال والنساء ليس أصلا في الإسلام والأصل المساواة التامة بين الرجال والنساء" 14 و"المجتمع المنعزل رجاله عن نسائه ليس أصلا في الإسلام" و"تعدد الزوجات ليس أصلا في الإسلام" والحجاب ليس أصلا في الإسلام والأصل في الإسلام السفور" 15. ويعتبر الأستاذ طه النصير الأول لاتفاقية إلغاء أشكال التمييز بحق المرأة بين المصلحين الإسلاميين، ولهذا استنفرت النساء في حزبه لإصدار دراسات جد هامة في 1975 وجدنا من المهم إعادة نشر إحداها كملحق لهذا الكتاب.

إن كان التاريخ قد أعطى حسن البنا لقب المؤسس لأكبر حركة أصولية في العالم العربي، فمن الصعب التنبؤ بالمكان الذي سيأخذه شقيقه جمال البنا، الباحث غير النمطي الذي يجاهد من أجل فقه جديد. وينال موضوع حقوق المرأة وقوانين الأحوال الشخصية مركزا هاما في أطروحات جمال البنا وقد خصص لذلك كتابا يلخص وجهة نظره 16 يقول فيه : "المبرر الأصيل لتحمل المسؤوليات (في الإسلام) هو القدرة والكفاية وليس الجنس أو الحسب أو النسب أو اللون أو القربى" 17. وهو يدافع عن رأي قاسم أمين معتبرا إياه من صلب الدين الإسلامي. ويتبنى استنادا إلى الاقتداء بالمجتمع الإسلامي الأول والطبيعة الإنسانية مبدأ الاختلاط حيث يقول : "المجتمع المختلط الذي يتلاقى فيه الرجال والنساء في الدراسة والعمل والنشاط العام هو المجتمع الذي يتفق مع الفطرة وأن أي محاولة للفصل بين الرجال والنساء هي تعسف ومخالفة لطبيعة الأشياء" 18. ويهاجم البنا المبالغة في قضية الحجاب والنقاب والعزل باعتبارها دخيلة على المبادئ الإسلامية : "يمكن القول بدون مخالفة للوقائع أن المجتمع النسوي في عهد الرسول كان مجتمعا محتشما، ولكنه لم يكن منقبا، وإن لم يخل من منقبات اعتبرن شذوذا عن الوضع العام" 19. ويقول : "الحجاب في مضمون القرآن ليس نقابا أو حجابا، ولكنه باب أو ستر يحجب من في الداخل ويفرض على الداخل الاستئذان، وهذا هو المعنى الذي جاء في القرآن لكلمة "حجاب" وأنها اقترنت بآيات الاستئذان كما أنها لم ترد إلا بصدد الحديث عن زوجات الرسول" 20.

في كل مرة نستعرض فيها المشكلات التي تواجه تحرر المرأة في العالمين العربي والإسلامي، نتوقف عند النتائج الكارثة لهيمنة الفقه التقليدي على الحركة الإسلامية السياسية وانعكاس ذلك على مسائل اهترأت الشفاه من تكرارها. فبين مواجه لتيار التراجع مثل ابن عربي، يقول في فترة تحولت فيها المرأة عند أهل الفقه إلى شيطان الفتنة، "العورة في المرأة ليست إلا السؤاتين كما قال تعالى : "وطفقا يخصفان عليهما ورق الجنة (الأعراف 22 وطه 121) فسوى بين آدم وحواء في ستر العورتين وهما السؤاتان"، بين نص كهذا في "الفتوحات المكية" وقراءات ابن عثيمين الوهابي في نقاب المرأة، ندرك مدى تجني القراءة الأصولية للإسلام، وندرك الأهمية الحيوية للإصلاح الإسلامي، الذي يقف في جبهة واحدة مع أنصار الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم الإسلامي.

 
 

هوامش :

1- الشيخ عبد الله العلايلي، أين الخطأ؟ تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد..، دار الجديد، ط 2(الأولى، دار العلم للملايين 1978)، 1992، ص 109.
2- صابر نايل، جمال الدين الأفغاني، الإمعان في حقوق الإنسان، الأهالي وبيسان، دمشق-بيروت، 2000.
3- مادة قاسم أمين في نفس المصدر.
4- عبد الرزاق السنهوري، على أي أساس يكون تنقيح القانون المدني المصري، 1933، الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية، نادي القضاة، ط 2، مطابع روز اليوسف، ص 120.
5- نفس المصدر، ص 121.
6- أنظر محمد المي، الحداد وفكر الاختلاف، قراءة في وثائق مجهولة، أقواس، تونس، 1999، ص49.
7- نفس المصدر، ص 49-51.
8- أنظر: الطاهر حداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع، تونس، 1348-1930، حفل تكريم كتاب الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع، سلسلة أقواس، تونس، 1999، أحمد خالد، مادة الطاهر حداد في الإمعان في حقوق الإنسان، مذكور، هيثم مناع، الإصلاح الإسلامي وحقوق الإنسان، رواق عربي، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، العدد 14.
9- النص الكامل للرسالة منشور في كتاب محمد المي، الحداد وفكر الاختلاف، مذكور ص 26-30.
10- عبد الله العلايلي، أين الخطأ، تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد، الطبعة الثانية، 1992 ، دار الجديد، بيروت، ص 17.
11- نفس المصدر، ص16.
12- أنظر مادة نظيرة زين الدين، الإمعان في حقوق الإنسان، مذكور.
13- اعتمدنا في جملة الاستشهادات من كتاب "الرسالة الثانية من الإسلام" على الطبعة الخاصة التي أصدرتها المنظمة السودانية لحقوق الإنسان، يناير 1996.
14- الرسالة الثانية، ص 104.
15- نفس المصدر، على التوالي ص 109، 105، 108.
16- المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء، دار الفكر الإسلامي، القاهرة، 1998.
17- نفس المصدر، ص19.
18- نفس المصدر، ص 188.
19- نفس المصدر، ص 35.
20- نفس المصدر، ص31.
 
الزواج : بين الفقه التقليدي واتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة

منذ البدء، نود الإشارة إلى أن تناولنا لاتفاقية مناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة ينطلق بالأساس من التعامل مع هذه الاتفاقية كنص بشري، وبالتالي فهو أبعد ما يكون عن التقديس، وأبعد ما يكون عن التنزيه. وإنما تأتي قوته الاعتبارية، من كونه يشكل المحصلة الجماعية الأرقى، التي توصلت لها الأمم المتحدة في لحظة من تاريخ البشرية. وما دفاعنا عنه، إلا ضمن هذه النظرة النسبية التي تنطلق من كون حقوق الإنسان مشروع بشري النزعة والمصدر، وبالتالي غير مقدس وغير منجز. لكنه بصيغته الراهنة يشكل أفضل ما جرى الاتفاق عليه بين مختلف الدول لحماية الكائن الإنساني. كوننا ممن يعتقد بأنه لم تثكل النساء بعد عن إنجاب ما هو أفضل وأنسب للبشر بالانطلاق من التغيرات التي تعيشها الإنسانية والتي تستدعي باستمرار امتلاك القدرة على استنباط المنظِمات الأفضل والأكثر تناسبا مع الإنسان وشروط معيشته ووجوده.

لتناول نقاط التقاطع والخلاف بين اتفاقية مناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة والمفهوم الفقهي التقليدي للزواج سنعتمد مقاربة فيوليت داغر المتعددة الميادين approche pluridisciplinaire والتي تأخذ بعين الاعتبار :

1- المعطيات الثقافية التقليدية ومدى تأثيرها على منظومة القيم السائدة في زمان ومكان محددين ؛
2- طبيعة تركيب الأسرة الأبوية وصلابتها في وجه بناء علاقات أسرية متكافئة بين الرجل والمرأة ؛
3- التوظيف السياسي لهذين العاملين سواء كان ذلك من قبل السلطات الحاكمة أو الحركة الإسلامية السياسية. 1

تنص المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما يلي : "للرجل والمرأة، متى أدركا سن البلوغ، حق التزويج و تأسيس أسرة، دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين. وهما يتساويان في الحقوق لدى التزوج وخلال قيام الزواج و لدى انحلاله" وقد أكدت المادة 16 من اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة على هذا مع إعطاء تحديدات أدق وأوضح حيث نصت على :

I - تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات العائلية وبوجه خاص تضمن، على أساس المساواة بين الرجل والمرأة :

- (1) نفس الحق في عقد الزواج ؛
- (2) نفس الحق في حرية اختيار الزوج، وفي عدم عقد الزواج ألا برضاها الحر الكامل ؛
- (3) الحقوق والمسئوليات أثناء الزواج وعند فسخه ؛
- (4) نفس الحقوق والمسئوليات بوصفهما أبوين، بغض النظر عن حالتهما الزوجية، في الأمور المتعلقة وفي جميع الأحوال، بكون لمصلحة الأطفال الاعتبار الأول ؛
- (5) نفس الحقوق في أن تقرر، بحرية وبإدراك للنتائج، عدد أطفالها والفاصل بين الطفل والذي يليه، وفي الحصول على المعلومات والتثقيف والوسائل الكفيلة بتمكينها من ممارسة هذه الحقوق ؛
- (6) نفس الحقوق والمسئوليات فيما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم، أو ما شابه ذلك من الأعراف حين توجد هذه المفاهيم في التشريع الوطني، وفي جميع الأحوال يكون لمصلحة الأطفال الاعتبار الأول ؛
- (7) نفس الحقوق الشخصية للزوج والزوجة، بما في ذلك الحق في اختيار أسم الأسرة والمهنة ونوع العمل ؛
- (8) نفس الحقوق لكلا الزوجين فيما يتعلق بملكية وحيازة الممتلكات والإشراف عليها إدارتها والتمتع بها والتصرف فيها سواء مقابل أو مقابل عرض.

II - لا يكون لخطوبة الطفل أو زواجه أي أثر قانوني، وتتخذ الإجراءات الضرورة، بما في ذلك التشريعي منها لتحديد سن أدنى للزواج ولجعل الزواج رسمي في سجل رسمي أمراً إلزامياً".

كيف يمكن القول بالتزام أية دولة لاتفاقية مناهضة أشكال التمييز بين الجنسين إن وضعت حكومتها تحفظا يبقي العمل بمواد قانون الأسرة أو الأحوال الشخصية فيها سارية المفعول حتى في حال وجود تعارض جوهري بينها وبين مبدأ المساواة بين الجنسين؟ هذا هو السؤال المطروح في معظم الدول الإسلامية اليوم. وتتطلب الإجابة، فيما تتطلب، فهما أفضل لقضية تشريعات الزواج على الأقل منذ العقود الأخيرة لآخر خلافة اعترفت بها المدارس الفقهية السنية على الأقل، وتحليلا أعمق للعلاقة بين الجنسين يتعدى جمود النصوص.

كانت قوانين الأسرة المعقل الأكثر صلابة في التشريعات التقليدية. فهي تمس المقدس والممنوع والجنس والعلاقات العضوية، وبهذا المعنى يتلبسها مفهوم الحرام بكل أبعاده.. ولكن المقدس في هذا الجزء من العالم، وأية مفارقة، ينزع هالة التقديس عن نفسه نتيجة حضوره الثقيل هذا ؛ بحيث تظهر قراءة التاريخ الاجتماعي العربي الإسلامي نسبية كل مؤسسة وفكرة تدّعي الاستمرارية وعملية البناء المباشرة أو غير المباشرة للتغيير والانقطاع في كل مرة شعر أصحاب القرار القانوني بأن المنظومة القضائية لم تعد قادرة على العمل بسبب تجاوز معطيات الحياة الفعلية للنصوص. فرغم اعتبار رجال الدين والحركة الإسلامية السياسية بتياراتها المختلفة مسألة الزواج مقدسة لا يجوز المساس بها، لم تكن الوقائع في يوم من الأيام كما يدّعي حراس الإيديولوجية. ومنذ القرن الماضي نشهد تغييرات في التكوين كما في الإجراءات القضائية. ولا شك بأن خطوات هامة قد تمت منذ قانون الأحوال الشخصية العثماني عام 1917 وحتى مجلة الأحوال الشخصية في تونس 1956.

لكن من الصعب الحديث عن تطور مخطط وعقلاني، ففي أغلب الأحوال يلاحظ وجود قرارات حادة أو ديماغوجية أكثر منه عملية تراكم و بناء في ظل روح انفتاح. و هكذا مثلا تبنت المؤسسة العسكرية في تركيا قانون الأحوال الشخصية السويسري بقرار من فوق في 1927، في حين فرملت المؤسسة نفسها في سورية والجزائر إمكانية إقرار قانون متقدم للأحوال الشخصية في عامي 1975 و 1984 على التوالي. ورغم أن مصر قد باشرت عملية بناء لقضاء مصري مستقل عن العثمانيين منذ محمد علي، فقد بقي القانون العثماني معمول به بعد نهاية العمل به في استنبول وأنقرة عام 1927؟ الأمر الذي جعل وزير العدل المصري علي ماهر يقول في 25 فبراير 1932 : "القضاء الملي هو الناحية الوحيدة من القضاء المصري التي لم تمسها يد الإصلاح إلى الآن. وقد بقيت هذه الناحية مدة خمسة قرون بحالة مضطربة، ونظام غير متناسب مع أنظمة القضاء في مصر، ولا مثيل له في الدول المستنيرة. ومع ذلك فقد بقي على ما نشأ عليه إلى الآن بالرغم من أن تاريخ إنشائه يرجع إلى أسلوب سياسة الحكم العثماني القديم، وإلى النظريات الشائعة في العصور الوسطى أكثر مما يرجع إلى قواعد التشريع وإلى حاجات الرعية" 2

من الجدير بالذكر أن أحكام النكاح قامت في القرون الوسطى (العربية والغربية) على نظرية شخصية القوانين Système de la personnalité des lois التي بمقتضاها يحاكم كل شخص مدنيا وجنائيا حسب شريعة معتقده الديني. وعند المسلمين، كانت ضمن المدارس التقليدية أحادية القاضي والإجراء : فهي محاكم مكونة من قاض واحد. ولم يكن ثمة مراتبية في المحاكم أو نظام استئناف. وقد كانت التدخلات بعد الأحكام عبر جهاز سياسي الطابع أكثر منه حقوقي : ديوان المظالم.

إن هذا الشكل البدائي لم يعد قائما في أي مكان من العالم. وحتى في المملكة العربية السعودية وإيران والسودان، دخل مبدأ الاستئناف وتعدد القضاة في محاكمة كل قضية مهمة.

لقد ألغت مصر في 1955 وتونس في 1956 بشكل كامل المحاكم الشرعية المستقلة وأصبحت قوانين الأسرة والقانون المدني والجنائي تخضع لمحاكم وطنية موحدة، ولو أن الأحوال الشخصية بقيت تطبق قواعد إسلامية معروفة. أما في الجزائر، فإن محاكم القضاة تعمل بوصفها محاكم بدائية ويتولى حالات الطعن قضاة في المحاكم المدنية العادية. أما في قضايا الزواج، فقد بقيت المحاكم الفرنسية تعمل في نطاق قراءة ليبرالية للمدارس الفقهية السنية حيث نجد تناوبات بين الحنفية والشافعية والمالكية بما ينسجم والأقرب إلى روح العصر، الأمر الذي بقي ساري المفعول إلى عام 1984 حيث استفادت النساء الجزائريات في تلك الفترة الفراغ القانوني في هذا الموضوع! ومع قانون الأسرة الجزائري عادت المرأة إلى "بيت الطاعة"، وعادت صيحة طالق بالثلاثة تقرر مصير المرأة والأسرة 3.

وفي العديد من الحالات، يتجاوز العسف حدود الفقه التقليدي، سواء كان ذلك في العقوبة الجنائية لممارسة المرأة الجنس والتي تفوق عقوبة الرجل في عدة بلدان إسلامية(رغم تساويها فقهيا!) وفي استمرار عرف "جريمة الشرف" أو في حرمان المرأة المتزوجة من إعطاء جنسيتها لأبنائها في العديد من البلدان العربية كمصر ولبنان في خلاف صارخ مع المادة التاسعة من اتفاقية مناهضة أشكال التمييز والتي تنص على :

"تمنح الدول الأطراف المرأة حقوقاً مساوية لحقوق الرجل في اكتساب جنسيتها أو تغييرها أو الاحتفاظ بها. وتضمن بوجه خاص ألا يترتب على الزواج من أجنبي، أو على تغيير الزوج لجنسيته أثناء الزواج، أن تتغير تلقائياً جنسية الزوجة، أو أن تصبح بلا جنسية، أو أن تفرض عليها جنسية الزوج.

تمنح الدول الأطراف المرأة حقاً مساوياً لحق الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالهما".

والمسألة هنا هي ابنة تقليد بطريركي وعقلية رجالية تقوم على مبدأ التمييز بين الجنسين في الحقوق وليس لها أي أساس في أي فقه؟

لننتقل إلى مترتبات مفهوم الطاعة في قوانين الأحوال الشخصية :

فيما يتعلق بالمحتوى، هناك معطيات تقع في نطاق "التابو" والمحرم في معظم الدول العربية كزواج المسلمة من غير المسلم أو مسألة توزيع الإرث أو تعدد الزوجات. وهي مازالت ضمن الأحكام الإسلامية في التقاليد الفقهية القديمة. إلا أنه وباستثناء العربية السعودية ومن اختار مثلها من الدويلات المجاورة، يصعب الحديث عن زواج ديني أو عن زواج مدني بمعنى الكلمة. والأصح الحديث عن حالة "تجميع" أحيانا معقولة وغالبا تعسفية بين القديم والجديد، بين الانتماء العضوي والانتماء المواطني، بين "الحق الإلهي" وحقوق الإنسان.

لم يكن نقد التصور الفقهي الكلاسيكي للزواج ابن الاتجاهات العلمانية وحسب، ويذّكر نصر حامد أبو زيد بمقطع هام للإمام محمد عبده يقول فيه : "رأيت في كتب الفقهاء أنهم يعّرفون الزواج بأنه (عقد يملك به الرجل بضع المرأة). وما وجدت فيها كلمة واحدة تشير إلى أن بين الزوج والزوجة شيئا آخر غير التمتع بقضاء الشهوة الجسدانية، وكلها خالية من الإشارة إلى الواجبات الأدبية التي هي أعظم ما يطلبه شخصان مهذبان كل منهما من الآخر. وقد رأيت في القرآن الشريف كلاما ينطبق على الزواج ويصح أن يكون تعريفا له، ولا أعلم أن شريعة من شرائع الأمم التي وصلت إلى أقصى درجات التمدن جاءت بأحسن منه، قال الله تعالى : "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" (الروم 21)، والذي يقارن بين التعريف الأول الذي فاض عن علم الفقهاء علينا وبين التعريف الثاني الذي نزل من عند الله يرى بنفسه إلى أي درجة وصل انحطاط المرأة في رأي فقهائنا وسرى منهم إلى عامة المسلمين، ولا يستغرب بعد ذلك أن يرى المنزلة الوضيعة التي سقط إليها الزواج حيث صار عقدا غايته أن يتمتع الرجل بجسم المرأة ليتلذذ به، وتبع ذلك ما تبعه من الأحكام الفرعية التي رتبوها على هذا الأصل الشنيع" 4. وفي نطاق الزواج أكد الإمام عبده على أن تعدد الزوجات يشكل احتقارا شديدا للمرأة وقال بجواز إبطال هذه العادة مبررا ذلك بأسباب ثلاثة :

- لأن شرط التعدد هو التحقق من العدل وهذا الشرط مفقود حتما، فإن وجد واحد في المليون فلا يصح أن يتخذ قاعدة.
- لغلبة سوء معاملة الرجال لزوجاتهم عند التعدد وحرمانهن من حقوقهن
- لما ظهر من أن منشأ الفساد والعداوة بين الأولاد هو اختلاف أمهاتهم 5 وقد أضاف الإمام لنهجه المساواة بين الجنسين في الحق بالطلاق.

ينضم المصري جمال البنا في موضوع الأحوال الشخصية للمصلح المغاربي الطاهر حداد ومحمود محمد طه مطالبا بإصلاحها : "يمكننا القول إن قوانين الأحوال الشخصية في مصر المستمدة من أحكام فقهاء وضعت من ألف عام تعد سبة في معايير العدالة ويتعين تغييرها بما يتفق مع القرآن الكريم ومبادئ الفقه الجديد" 6.

إن الاستشراس بحق الاتجاهات الإصلاحية في الإسلام يترك دون شك أثاره على التحديث الديمقراطي للتشريعات في البلدان العربية. ولعل هذا الأمر هو الذي يعطي للأمثلة الإسلامية في مجتمعات علمانية (المسلمون في بعض البلدان الأوربية) أو المجتمعات متعددة الأديان والطوائف (الأنموذج اللبناني مثلا) أهمية خاصة، باعتبار أن هذه المجتمعات أكثر مجابهة لنقاط الضعف والخلل في الزواج التقليدي وبالتالي، فهي تشكل، بشكل أو بآخر، مخبر إبداع الأشكال المحتملة لأسرة تحترم في قواعدها حقوق المرأة والطفل وفقا لما توصل إليه البشر اليوم. ومن هنا أهمية النضال من أجل زواج مدني اختياري في لبنان مثلا.

وإن تلخّص الموقف بالنسبة للديمقراطيين والمدافعين عن حقوق الإنسان بأن هذا الزواج حق لا يناقش، ففي الواقع اللبناني تأتي قوة هذا الاقتراح من الطريق المسدود الذي وصلت إليه مؤسسة الزواج المذهبي المنغلقة والطائفية في هذا البلد. إنها الضرورة وحاجة المجتمع التي تفرض نفسها على المشرع أكثر منها مجرد وزن التيار العلماني والديمقراطي في لبنان. الأمر الذي يفسر اقتراح القوى المتنورة لمشروع قانون للأحوال الشخصية يجمع بين مبدأ العدل وحاجة الواقع، ويفسر بنفس الوقت، الهجمة الديماغوجية لجميع القوى الطائفية ضد مشروع القانون رغم كونه غير ملزم، خوفا من جنوح البشر نحو الشكل الأكثر انسجاما مع روح حقبتهم وطبيعتهم البشرية 7. وهنا تبرز أيضا أهمية قراءة التاريخ العربي الإسلامي وقراءة المصلحين المعاصرين للقضايا الزواج والمرأة. فكما يذّكر الشيخ عبد الله العلايلي، العقد الزواجي في الإسلام، عقد مدني بكل معناه، إلا في بعض نواشئ، أكثرها مالي، لا يعتد بها اعتدادا يخرج العقد عن هذا النعت" (ص117)، وقد تركت المدرسة الشيعية الجعفرية هامشا واسعا للعلاقات الجنسية المشروعة عبر إقرارها لزواج المتعة الذي كان معروفا في عهد النبي محمد. وإقرار هذا الزواج والقبول به في أوساط سنية في الخليج وشبه الجزيرة الهندية، يعطي فكرة عن الحاجة الاجتماعية لتخفيف القيود الواقعة على الجنسين، ولو أن الزواج المؤقت قد حمل السمات الأبوية للزواج الدائم.

لم يعد الاحتجاج على العفش المناهض للمرأة المتراكم في العصور الوسطى محصور بالتقدميين ورواد الإصلاح، فالشيخ المحافظ محمد الغزالي يقول : "اعرف أن هناك آثارا واهية نبذها أصحاب الدقة العلمية في تمحيص المرويات، ولم يذكرها عالم يروى الصحاح ولا احترفها فقيه ينقل حقائق الإسلام مثل ما روي عن فاطمة أن المرأة لا ترى رجلا ولا يراها رجل ومثل حديث منع الرسول بعض نسائه أن يرين عبد الله بن أم مكتوم وتلك كلها أخبار لا تساوي الحبر الذي كتبت به، وهي ظاهرة تتناقض مع مقررات الكتاب والسنة المقطوع بثبوتها ودلالتها" 8. ويبقى أن أنصار التجديد يشاطرون الأستاذ جمال البنا إلى حد كبير في موقفه القائل : " إن الفقه الجديد يجعل قضية المرأة من الشريعة ويجعل المصدر الأول للشريعة هو العقل. لأن الشريعة ليس فيها ما يتعلق بذات الله تعالى، ولا عالم السمعيات التي تختص بها العقيدة، من هنا فإن الفقه يحدد موقفه من المرأة في ضوء ما يحكم به العقل، فهو يتدبر كل السياسات والاتجاهات والتصرفات سواء بالنسبة لتاريخ تطور حركة المرأة في العالم أجمع، أو بالنسبة للتاريخ الإسلامي" 9.

أليس من المهازل التي لا اسم يستحق وصفها أن تحرم المرأة من السفر بدوم محرم في بعض البلدان أو من أخذ جواز سفرها في بلدان أخرى دون تصريح من زوجها وقد هاجر عدد من النساء المسلمات إلى المدينة وحدهن للالتحاق بالمسلمين؟ أليس من المضحك مناقشة حقوق المرأة السياسية وسودة والزرقاء وسنان ودارمية وعكرشة كن أهم خطباء معركة صفين؟ أليس من المتأخر على "علمائنا" موضوع الإمامة وقد قال بها وبالكمال للمرأة ابن عربي في أحلك لحظات تاريخنا؟ 10

كما تشير فيوليت داغر في دراستنها المشار لها أعلاه، "فإن التقدم النسبي الذي شهدته المنطقة العربية كان غالبا لصالح الرجل الذي فُتحت أمامه إمكانات جديدة وحصل على حريات لم يُسمح بها للنساء. مما كرّس سيطرته على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والسياسية. أما المرأة فلم تحظ بقدر كاف من التعليم والعمل المهني الذي يسمح لها بتغيير موازين القوى لصالحها بشكل أكثر تكافئا. ولم يسمح لها العمل المأجور إن وجد بتحقيق نفسها بقدر ما كان لمساعدة أسرتها على تحسين مستوى معيشتها. مما زاد من التفرقة بالمستوى بين الزوجين وبين أفراد العائلة ومن التوتر في العلاقات التي يحكمها منطق القوة والسيطرة والاستغلال والتي يكرسها الدين والثقافة والقانون.

رغم أن فرص التعليم والعمل بالنسبة للفتيات قد أصبحت اليوم أكثر شيوعا، فهي للأسف لا تهدف في غالب الأحيان لأكثر من تحسين فرصها في الزواج ورعاية الزوج وتربية الأبناء. فالمرأة التي تعد منذ طفولتها لهذا الدور وتشجع على إبراز أنوثتها تعيش في الوقت نفسه حالة قمع واستلاب نفسي وجسدي في ظل أسرة الأب ومن ثم أسرة الزوج. يتم ذلك ضمن قوانين صارمة في ظل التحريم الديني والقانوني وجو من القهر الاجتماعي. ويكون للرجل أبا أو أخا أو زوجا أو ابنا الحق بالتحكم بحريتها وحركتها وكيانها حفاظا على شرف العائلة، كونه يُنظر لها كأداة للجنس والمتعة والإنجاب" 11.

والمشكلة الرئيسية برأينا هي في كون المجتمعات الإسلامية قد راكمت خلال قرون قيودا أعطت مجتمع الحريم الشبه أسطوري- الشبه قبلي، الأمر الذي انعكس على كل تفاصيل وجود المرأة ككائن بشري من المهد إلى اللحد، فحرمت من العلم والشأن العام وعوالم الإبداع بل وصل الأمر لحرمانها من مساجد الله باسم الله؟ ومن المفيد التذكير بأن شخصا متسامحا مثل عبد القادر الجزائري كان يخشى على المرأة من التعليم وأن الشاعر الجواهري قد خاض معركة كبيرة في النجف من أجل فتح مدرسة للبنات عام 1927 وخاض رجال الدين المحافظين ضده لذلك حربا مفتوحة. ولم تقبل المملكة العربية السعودية بمبدأ تعليم الفتيات حتى منتصف الخمسينات ؟ وتنسى السيدة ناديا ياسين ابنة الشيخ عبد السلام في المغرب أن تعليمها ومشاركتها في الشأن العام وخوضها معركة والدها إنما هي محصلة نضالات خاضها المتنورون وخاضتها النساء من أجل الحرية والمساواة وأن بإمكانها فعل ما تفعله اليوم، لأن نساء مثل نبوية موسى وهدى الشعراوي وحبيبه المنشاري ونظيرة زين الدين قد واجهن من قبلها التخلف الاجتماعي ورجال الدين المتزمتين وكل المتطوعين للدفاع عن الفحولة الأبوية.

إن معركة النساء من أجل حقوقهن تعد من أصعب معارك التغيير في العالم العربي، ونظن أن ما يجري اليوم في المغرب ولبنان وإيران يعطي المثل على قدرة تحريك المجتمع التقليدي كلما طرحت قضية تحرر المرأة، أو الانعتاق من النظرة الجمودية للدين. فبقدرة قادر يتحالف الأكثر تحجرا في المجتمع مع الأكثر نشاطية في الجامعات لمنع أي تغيير باتجاه المساواة بين الجنسين. هذه المعركة لا تعني فقط الانتقال من أسرة بطريركية إلى أسرة يسودها المساواة وتقاسم اللقمة والقرار، وهذا بحد ذاته إنجازا تاريخيا عظيما، وإنما تعني أيضا زرع الأرضية الموضوعية للانتقال من مجتمع عضوي عصبوي إلى مجتمع مدني جدير بالتسمية.

لقد أعطى نبي الإسلام أرقى الأحكام في عصره لأقل الناس استعدادا لها، واليوم يقترح علينا المحافظون باسم الإسلام نفسه أكثر الأحكام تأخرا في عصرنا لأكثر الشعوب حاجة بل واستعدادا لحقوق المرأة المتفق عليها كقاسم مشترك بين الشعوب في مواثيق حقوق الإنسان المختلفة.

في مواجهة العولمة التي تنزع عن الإنسان ما تبقى من روح التضامن والتعاون واحترام الآخر وللنضال من أجل الكرامة الإنسانية، نحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى، لكل امرأة وفي كل مكان، بحاجة لكرامتنا عبرها ومعها، بحاجة لكرامتها وحقوقها كجزء لا يتجزأ من حقوق الرجال، بحاجة لها من أجل كل رضيع تعطيه التوازن النفسي في سنيه الأولى وتمنحه قوة العطاء والمحبة الضروريتين، من أجل كل نظام سياسي ومنظومة اجتماعية يحتاجان الحقنة الضرورية من اقتصاد العنف والعدوانية، من أجل المحافظة على حصتنا الضرورية في حلم التغيير وطموحنا لدور أساسي في محاربة البربرية في أعماقنا ومن حولنا.

 
هوامش :

1- فيوليت داغر، اتفاقية مناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة، إشكالية الخصوصية في البلدان الإسلامية، محاضرة ألقيت في الدورة السنوية التدريبية الثانية للمركز الشبابي المغربي لحقوق الإنسان، 31 مارس 2000، أغادير.
2- من خطبة علي ماهر وزير الحقانية في افتتاح لجنة إصلاح وتنظيم القضاء الملي في 25 فبراير 1932، الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية، 1883-1933، نادي القضاة، الطبعة الثانية، 1990، ص 277.
3- Haytham Manna, LA REFORME BLOQUEE, Mouaten, Paris, 1998.
4- نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-بيروت، 1999، ص 218، مأخوذ عن الأعمال الكاملة. وقد نشر الإمام هذا النص في جريدة الوقائع المصرية في 7 مارس 1881.
5- نفس المرجع 219-220.
6- المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء، مذكور، ص125 المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء، مذكور، ص125.
7- من الضروري أن يطلع الديمقراطيون والمدافعون عن حقوق الإنسان على نص مشروع القانون المدني الاختياري للأحوال الشخصية الذي أقره "اللقاء من أجل قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية والذي بادر له 75 هيئة والعديد من الأفراد (13 حزبا وحركة سياسية، 11 هيئة حقوق إنسان، 17 جمعية مدنية متنوعة، 7 هيئات نسائية، 12 مجموعة طلابية وشبابية، 7 هيئات ثقافية، 4 هيئات بيئية، 4 هيئات نقابية). وقد وزع اللقاء النص في نيسان 1999. حول ملف الزواج المدني في لبنان أنظر أيضا: فيوليت داغر، الزواج المدني في لبنان، حق وضرورة..، تقرير صادر عن اللجنة العربية لحقوق الإنسان، 1998.
8- جريدة الشعب القاهرية، "هذا ديننا" للشيخ محمد الغزالي، 14/5/1994.
9- جمال البنا، المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء، دار الفكر الإسلامي، القاهرة، 1998، ص 185.
10- إشارة إلى جملة ابن عربي في الفتوحات المكية: "فمن الناس من أجاز إمامة المرأة على الإطلاق بالرجال والنساء وبه أقول، ومنهم من منع إمامتها على الإطلاق ومنهم من أجاز إمامتها بالنساء دون الرجال الاعتبار في ذلك). شهد رسول الله صلعم لبعض النساء بالكمال كما شهد لبعض الرجال وإن كانوا أكثر من النساء في الكمال وهو النبوة والنبوة إمامة، فصحت إمامة المرأة والأصل إجازة إمامتها فمن ادعى منع ذلك من غير دليل فلا يسمع له ولا نص للمانع في ذلك" (طبعة صادر، بيروت، ج1 ص 447). يفسر العديد من المتصوفة وللرجال عليهن درجة بموضوع النبوة التي كانت لأنبياء رجال وتوقف التمايز مع آخر الأنبياء محمد. ينطلق الدكتور محمد سليم العوا من مبدأ الولاية في قراءته المعاصرة للمشاركة السياسية والمدنية للمرأة. معتمدا على أن القرآن اعتبر المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ولم يخص بذلك الذكورة. وكان الشبيبة من الخوارج قد احتجوا بالآية وفق بعض المؤرخين لتولية غزالة إمامة لهم.
11- فيوليت داغر، اتفاقية مناهضة..، مذكور.
 
ملحق
حقوق المرأة في الدين والشريعة والفقه

 

في مناسبة عام المرأة العالمي، أصدرت حركة "الإخوان الجمهوريون" في السودان ستة عشر كراسا حول قضية المرأة تتناول المشكلات الأساسية للمرأة في المجتمعات الإسلامية عامة والمجتمع السوداني بشكل خاص. وقد أصدرت الأخوات هذه الدراسات بإشراف مفكر الحركة ومؤسسها الشيخ محمود محمد طه الذي منذ تأسيسه لحركته في 1945 عانى من حملات التكفير عدة مرات في الخمسينات والستينات والسبعينات وانتهت بإعدامه في 1985 على يد الماريشال جعفر النميري الذي تحول للمناسبة إلى "أمير للمؤمنين"؟ وقد ارتأينا إعادة نشر مقتطف هام من إحدى هذه الكراسات يتناول مباشرة موضوع الكتاب وهو يعطي فكرة عن نظرة الأستاذ طه وتلامذته لحقوق المرأة في الإسلام :

مدخل

هذا هو منشورنا الحادي عشر بمناسبة عام المرأة العالمي-عام 1975.. وقد تناولنا في منشوراتنا السابقة، عددا من الجوانب المختلفة لقضية المرأة.. ووضعنا لها الحلول التي تناسبها من داخل الدين.. والآن فإننا في منشورنا هذا سنتناول موضوعا من أهم الموضوعات التي تتعلق بالمرأة –موضوع الأحوال الشخصية- فإنه لكي تتم الحرية للمرأة، والمساواة التامة بينها وبين الرجل، لا بد من تطوير قانون الأحوال الشخصية ليتناسب مع وضع المرأة المعاصرة.. ومن أجل المطالبة بهذا التطوير، والعمل من أجله، لا بد لقيادات النساء من دراسة عميقة، ومستأنية، للقوانين التي تحكم علاقة المرأة بالرجل – القوانين المطبقة في المحاكم الشرعية الآن- ودراسة وضع المرأة في الشريعة الإسلامية، ثم الإلمام بالحلول التي نقدمها نحن الجمهوريون كبديل للقوانين المعمول بها، وهي بالطبع قوتانين متخلفة وجائرة.. ولتوضيح ذلك، فسيتناول منشورنا هذا، في شئ من التفصيل، وضع المرأة في الإسلام، وفي الشريعة الإسلامية، ثم وضعها في الفقه.. وسيكتشف المفارقات الفقهية التي لحقت، في العهود المتأخرة، بالشريعة الإسلامية، فأبعدتها عن سماحة الدين وبساطته.. كما سيبين الحل الذي ننادي به نحن من أصول القرآن.

وضع المرأة في الإسلام :

مما لاشك فيه، أن الإسلام، في أصوله، قد كرّم المرأة، وأعطاها حقوقا متساوية مع حقوق الرجل.. ولكنه، في فروعه، يعني في شريعته، قد فرق بين النساء، والرجال، وميز الرجال عليهن.. ولذلك فإننا نجد في آيات الأصول، المساواة في الحقوق كلما ساوت النساء الرجال في أداء الواجبات.. قال تعالى "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة"، حين نجد في آيات الفروع، أن الرجال أوصياء على النساء.. قال تعالى "الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله، بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم".

يظهر من هذه الآيات، أن للقرآن مستويين من الخطاب.. مستوى فيه التكريم والمساواة والحرية.. ذلك لأنه يقوم على التفريق بين النساء، والرجال، لأنه إنما يقوم على الوصاية-وصاية الرجال على النساء.

أما المستوى الأول، فإننا نجده في الآيات المكية، وهي الآيات التي تنزلت على نبينا صلى الله عليه وسلم أول نزول القرآن في مكة، واستمر نزولها إلى فترة ثلاث عشرة سنة.. ولكن مجتمع مكة، لتأخره، وبدائيته، ولأنه مجتمع خارج من الغابة لتوه، لم يستطع تطبيق هذه الآيات الإنسانية الرفيعة -الآيات المكية- فلم يستجب للدعوة.. ولذلك جاء الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، بالهجرة للمدينة.. وهناك نزل القرآن المدني، مراعيا لحالة ضعف الناس، وناسخا للقرآن المكي.. فقام المجتمع الإسلامي في المدينة على قوانين استمدت من آيات أقل، في مستواها، من القوانين التي كان يمكن أن تستمد من الآيات المكية.. وإنما كان ذلك لأنه لا بد لكل قانون أن يراعي طاقة، وحاجة، المجتمع الذي وضع لينظمه… ولذلك فقد تنزلت الآيات المدنية، في مستوى مجتمع القرن السابع، لتدرجه حتى يجئ المجتمع الذي يستأهل الآيات المكية.. ومن هنا جاءت الشريعة الإسلامية، تنظم حياة المجتمع المديني والمجتمعات الإسلامية التي على شاكلته، وجاءت شريعة الأحوال الشخصية، تنظم وضع المرأة في تلك المجتمعات.

وضع المرأة في الشريعة الإسلامية

أول ما يجب أن نقرره في الحديث عن وضع المرأة في الشريعة الإسلامية، أن هذه الشريعة لم تساو بين النساء، والرجال.. ويتضح ذلك من أن الشريعة قامت على آية تقرر أن أي رجل، مهما كان مستوى تفكيره، وثقافته يكون قيّما، على أي امرأة، مهما كان مستوى ثقافتها، وخلقها.. هذه الآية، هي التي أشرنا إليها من قبل، وهي قوله تعالى "الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم".. "الرجال قوامون على النساء"، يعني أوصياء عليهن.. "بما فضل الله بعضهم على بعض، تعني أن الله فضل الرجال على النساء.. ومن أبرز ما فضل الله به الرجال على النساء، قوة الساعد، مما مكنهم من مواجهة الحياة الصعبة في ذلك الوقت.. فقد كانت قوة العضلات، هي مدار الفضيلة في مجتمع القرن السابع.. "وبما أنفقوا من أموالهم"، وذلك لأن الرجال إنما كانوا يقومون بالعمل خارج المنزل، فيكسبون المال، وينفقونه على النساء.. هذا في حين أن النساء، كن حبيسات في البيوت، ولا يخرجن إلا لدى الضرورة.. والضرورة هي : ألا يكون لديها من يعولها من الرجال.. في هذه الحالة فقط يمكنها الخروج لتكسب قوتها، ومن تعول من أبنائها..

ومن مستوى هذه الآية –آية القوامة- جاءت التشريعات الأخرى.. فكان وضع المرأة، أقل من وضع الرجل فيها.. ففي الميراث مثلا، نجد أن للرجل نصيب امرأتين، ونص ذلك من كتاب الله "وللذكر مثل حظ الأنثيين".. وذلك لأن الرجل كما ذكرت سابقا، مسئول عن الإنفاق على نساء بيته، في حين أن المرأة غير مسئولة، ولا حتى عن الإنفاق على نفسها.. وفي الشهادة أيضا، فإن شهادة الرجل الواحد تساوي شهادة اثنتين من النساء.. وآية ذلك من كتاب الله "واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، إن تضل إحداهما، فتذكر إحداهما الأخرى".. والسبب في أن شهادة الرجل تساوي شهادة امرأتين، لأن المرأة كانت ضعيفة الشخصية، ضعيفة الذاكرة، نسبة لقلة تجاربها، وخبرتها.. فقد كانت، كما ذكرت من قبل، حبيسة المنزل، ومن هنا لم تجد الفرصة لتقوية شخصيتها، وفكرها.. ولذلك فقد قالت الآية "إن تضل إحداهما، فتذكر إحداهما الأخرى".. وهذه هي الحكمة في أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل..

الرجل في الشريعة، عنده حق الطلاق أيضا.. يمكنه أن يطلق زوجته في أي لحظة شاء من دون شرط أو قيد، هذا في حين أن المرأة، ليس لها الحق في تطليق زوجها، فعليها أن تعيش معه، مهما كان مستواه، ولو كانت كارهة، طالما هو قائم بكل واجباته نحوها –السكن،والغذاء، والكساء الشرعي..

هناك حق أخير، أعطته الشريعة للرجل، على المرأة، وهو حق التأديب.. وهذا يعني أن للرجل الحق، في ضرب زوجته الناشز.. وهي التي تخرج عن طاعة زوجها.. قال تعالى "واللاتي تخافون نشوزهن، فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا". ومن هنا يظهر أن على المرأة طاعة زوجها مهما كان، مادام قائما بواجباته التي ذكرنا طرفا منها آنفا.

هذا الوضع، حكيم كل الحكمة، عندما جاء في وقته، في القرن السابع، وذلك لأنه حل مشكلة المرأة في ذلك المجتمع .. فقد شرع لها حسب حاجتها وعلى قدر طاقتها، وطاقة مجتمعها أيضا.. ولكن هل هذا الوضع هو مراد الدين الأخير للمرأة؟؟ هل هو كلمته الأخيرة، في أمرها؟ أم أن هناك وضعا آخر، في الدين، يمكن أن يقوم عليه تشريع جديد، يحل مشكلة المرأة المعاصرة، ويكون على قدر طاقتها، وطاقة مجتمعها؟؟

أما فقهاء المسلمين فقد أخطئوا خطأ كبيرا، عندما ظنوا أن الشريعة الإسلامية، هي كلمة الإسلام الأخيرة، عن المرأة.. ولذلك فقد وقعوا في تناقض شديد، عندما لم يستطيعوا التوفيق بين الشريعة، وبين تطور الحياة عامة، وتطور المرأة خاصة.. فنراهم يتحدثون عن الشريعة، ويعيشون خارجها، وكلما تطورت المرأة وتقدمت، يذكرونها بأن نصيبها، في الشريعة، واف لحاجات حياتها، وأن الله أعطاها فيها كل الحقوق التي تصبوا إليها.. ولما بدؤوا الاجتهاد في استنباط الأحكام ليواكبوا تطور الحياة العامة، واشتطوا في استعمال الرأي، نراهم رجعوا بحقوق المرأة، حتى عما أعطتها إياه الشريعة، على الرغم من أن الشريعة، لم تعطها كل ما أراده لها الدين.. فهم من ثم انحطوا بحقها إلى المستوى الذي أخرجهم عن روح الدين تماما، فجاء الفقهجافا ومهينا للمرأة، حتى في ذلك العصر المتخلف، دع عنك العصر الحاضر..


وضع المرأة في الفقه الإسلامي

يجب أن يكون واضحا أن الفقه غير الشريعة.. الفقه هو القول بالرأي.. وقد كان في بداية أمره الاجتهاد فيما ليس فيه نص صريح من القرآن أو السنة، ثم تداعى حتى أصبح، في آخر أيامه، الاجتهاد حتى فيما فيه نص، با الاجتهاد المخالف للنص أيضا، فخرج بذلك عن الدين.. (أنظر كتابنا : "خروج الفقه عن الدين").

ولكي ندلل هنا على ما قلناه، من تخلف الفقه، وإهانته للمرأة، فإننا سنذكر بعض آراء الفقهاء عن وضع المرأة، في قانون الأحوال الشخصية.. وأول ما نبدأ به هو تصوير الفقهاء للعلاقة الزوجية نفسها.. فإنه تصور عقيم، ومتخلف، غاية التخلف، فقد جاء في "الفقه على المذاهب الأربعة" الجزء الرابع- جاء تعريفهم للزواج "إنه عقد على مجرد التلذذ بآدمية".. ومن هذا الفهم السقيم، القاصر، لطبيعة العلاقة السامية، التي قال عنها جل من قال "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا، لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة، ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون".

ومن هذا الفهم القاصر، لهذه العلاقة، جاءت تشريعاتهم التي تنظم لهذه العلاقة، جافة، وبعيدة كل البعد عن سماحة الدين، ومهينة لكرامة المرأة، وعزتها.. فمثلا أجمعت المذاهب على أن المرأة إذا مرضت، ليس على زوجها أن يعالجها، بل أن بعض الفقهاء يرى أن مرضها يسقط حقها في النفقة وذلك لأن زوجها إنما تزوجها بغرض الاستمتاع بها، وهي بمرضها هذا، قد فقدت هذه الصلاحية.. أصبحت غير صالحة للقيام بهذا الغرض. ومن هنا يسقط حقها في العلاج.. جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة" الجزء الرابع ما يلي: " بل أن بعض المذاهب يرى أن النفقة لا تجب إلا في نظير الاستمتاع. والزوجة المريضة لا تصلح للاستمتاع فلا تجب لها نفقة". كما جاء في نفس المصدر ما يأتي: "وفقهاء الحنفية أجمعوا على ما ذكرنا طردا للأحكام لأن حق الزوجة على الزوج من حيث هي زوجة يوجب عليه أن ينفق ما به قوام الحياة العامة وهي حياة الصحيحة لا المريضة، فلا يجب عليه الدواء على أي حال".أما بشأن نفقة الزوج على زوجته فإنهم يقولون "وإذا كان الدواء وأجرة الطبيب لا يجبان عليه، فكذلك لا يجب عليه ثمن الدخان والقهوة والشاي ونحوهما. ولو تضررت من تركها. وقد اختلف في أجرة القابلة –الداية- فقيل عليها وقيل عليه وقيل على من استدعاها منهما". أما الشافعية فإنهم يقولون "يفرض على الزوج المعسر لزوجته فجر كل يوم مد من طعام".. "ويجب عليه الماء اللازم للشرب والنظافة والاغتسال منه. أما الاغتسال بسبب غيره كالحيض والاحتلام فلا يجب عليه".. "أما الخضاب والزينة "التواليت" فإنها لا تجب عليه لأن ذلك تابع له مما يراه زينة لها فإنها تلزم به، ولا يلزمه دواء مرض ولا أجرة طبيب وحاجم وفاصد ونحو ذلك".

كما جاء في رأي الحنابلة في هذا الشأن " ولا تجب عليه أدوات الزينة كالحناء والخضاب وشراء الحلى "التواليت" ونحو ذلك وكذا لا يجب عليه ثمن الدواء وأجرة الطبيب وإذا أراد منها الزينة وجب عليه أن يحضر لها ماتتزين به".. ومن الأمثلة التي ترينا فهمهم القاصر أيضا رأي المالكية في أنه ليس على الزوج إشباع زوجته إن كانت أكولة!! وعند بعض الفقهاء ليس على الزوج تكفين زوجته بعد موتها!! هذه أمثلة قليلة من كثير غيرها توضح بجلاء شديد آراء الفقهاء، وتخلفها، وإذلالها للمرأة، وتحقيرها لهذه العلاقة المقدسة..

من هذه الأمثلة، يظهر لنا أن آراء الفقهاء عن المرأة متخلفة عن روح العصر، أكثر من هذا، فهي مخالفة لسماحة الشريعة.. ومن هنا وجب علينا أن نرفضها بشدة، ونحاربها، وأن نسعى لتغييرها بقوانين من الدين، تحفظ لنا كرامتنا، وحريتنا.. وحين نرفض هذه الصور من خروج الفقه عن الدين، فإنه يجب أن يكون واضحا، إننا نحن مع الدين، لأن الفقه قد خرج عن الدين كما بينا في الأمثلة التي سقناها، ولأن الشريعة ليست هي كلمة الدين الأخيرة في حق المرأة.


تطوير شريعة الأحوال الشخصية هو الحل

إن الحل الوحيد، الذي ليس دونه حل لقضية المرأة، والذي تجد فيه المرأة كل عزتها، وكرامتها، يكون في تطوير التشريع الإسلامي.. والتطوير يعني أن ننتقل من نص إلى نص، في القرآن، كان معمولا به في القرن السابع، لأنه كان مناسبا لحالة ذلك المجتمع فنظمه على قدر طاقته، وعلى قدر حاجته.. ننتقل إلى نص في القرآن، لم يقم عليه التشريع، لأنه كان أكبر من حاجة المجتمع، وأكبر من طاقته أيضا.. ولكنه قدر على حاجة، وطاقة، مجتمع القرن العشرين.

والسبب في هذه المطالبة لتطوير التشريع، هو أن هذا المجتمع –مجتمع القرن العشرين- قد تطور تطورا هائلا، في فترة الأربعة عشر قرنا، منذ نزول القرآن، وإلى يومنا هذا.. هناك تطور كبير في المجتمع كله، وفي وضع المرأة بصورة خاصة.. فالمرأة التي كانت حبيسة المنزل، لا تخرج إلا لدى الضرورة، والتي كانت قليلة التجربة، والخبرة بالحياة من حولها، والتي ينفق الرجل عليها ويحميها، أصبحت اليوم، مساوية للرجل، من حيث أداء الواجبات.. هي قد خرجت، وشاركت المجتمع في كل نشاطاته، فصارت قاضية ومهندسة وطبيبة ووزيرة.. ومن هنا، فإن إدراكها للحياة من حولها قد أصبح كإدراك الرجل له.. باختصار شديد، المرأة عندنا الآن تقوم بنفس الواجبات التي يقوم بها الرجل نحو المجتمع، ولذلك فمن الظلم الذي يأباه الله أن نطبق على هذه المرأة، نفس القوانين التي طبقت على المرأة في القرن السابع.. فإننا بهذا الصنيع كأنما نقول أن المجتمع، وبعد مرور أربعة عشر قرنا، لم يحدث فيه أي تطور.. وهذا ما يأباه الدين، ويرفضه الواقع المعاش.

وتطوير التشريع هذا، هو ما جاء به الأستاذ محمود محمد طه، وما ظللنا ندعو له نحن الجمهوريين باستمرار.. وتطوير وضع المرأة، هو شغلنا الشاغل.. نحن ندعو المجتمع كله، والمرأة بصورة خاصة، أن تطالب بالرجوع للأخذ من أصول القرآن، من الآيات المكية، التي كانت منسوخة بالآيات المدنية.. لأن الآيات المكية، هي التي يرضاها الله لنا الآن ولا يرضى سواها.. لأن مرضاته إنما هي في تكريم الإنسان وإعزازه وتحريره.. وفي هذه الآيات نجد كل الكرامة والعزة والحرية للرجال والنساء على السواء.. لكن مجتمع القرن السابع لم يستطعها، ولذلك نسخت في حقه.. والغرض من هذا النسخ تأخير العمل بها إلى أن يجئ المجتمع الذي يحتاج إليها، ويطيقها، فيطبقها، وقد جاء الآن، في تقديرنا، وهذا ما من أجله ندعو لما ندعو إليه.. فالسبب في الدعوة إلى هذا التطوير، إذن، إن وضع المرأة عندنا قد تغير من مستوى القصور الذي كان عليه، إلى مستوى هي فيه رشيدة.. ومن هنا، وجب أن يقوم القانون على تقرير مبدأ المسؤولية.. فالمرأة مسؤولة أمام القانون، كما الرجل مسؤول.. وعندنا، في الدين، أن المرأة مسؤولة مسؤولية تامة أمام الله.. فلا يقوم بتحمل هذه المسؤولية عنها أبوها، أو أخوها، أو زوجها.. ولكنها، في الشريعة ناقصة المسؤولية، لقيام وصاية الرجل عليها..

ولذلك فإننا ندعو أن يتطور القانون من مستوى الوصاية، إلى مستوى المسؤولية.. فتكون في هذا القانون، المرأة مسؤولة أمام المجتمع، كالرجل تماما.. وتقوم الآية "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة" وهذه الآية تعني أنه كلما تطورت المرأة في المجتمع، وأصبحت تقوم بواجبات كثيرة، وجب على المجتمع أن يعطيها حقوقا مساوية لواجباتها هذه.. الحقوق مساوية للواجبات.. "وللرجال عليهن درجة" ينبغي ألا تفهم أن لكل رجل درجة على أية امرأة.. فهذا الفهم يرفضه العقل، ويكذبه الواقع المعاش.. فإن كثيرا من النساء، أفضل من كثير من الرجال. ويجب أن لا تفهم هذه الدرجة على أنها تمييز أمام القانون وإنما هي تعني أن في قمة تطور هرم الكمال البشري رجلا، تليه زوجته، يليها بعد ذلك عدد من النساء والرجال يتفاوتون في درجات القرب من الله.

وعلى هذه الآية يجب أن تبنى جميع القوانين الأخرى.. فالمرأة في هذا المستوى، تكون حرة في اختيار زوجها،، ولها حق الطلاق بالأصالة، كما لزوجها، متى ما رأت أن الحياة بينهما قد استحالت .. وفي هذا القانون، كما أن المرأة كلها تكون لزوجها، فإنه يكون كله لها، بلا تعدد زوجات عليها.. قال تعالى "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة" وقال في آية ثانية "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم".. ومن هنا يتضح لنا أن مراد الله في أصل الدين، هو المرأة الواحدة للرجل الواحد.. لأنه قد قرر أن الرجل لا يمكنه العدل بين النساء ولو حرص على ذلك.. هذا بالإضافة إلى أن العدل المادي الذي، إلى جانب أسباب أخرى، قد أباح التعدد في الماضي قد تغيرت صورته للعدل المعنوي.. فالعدل في القرن السابع فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل المادي- المادي في الكساء والسكن والغذاء وما إلى ذلك.. وفي ذلك قال المعصوم " اللهم هذا عدلي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك" هذا العدل المادي قد تغير في مجتمعنا الحاضر إلى العدل المعنوي، لأن المرأة في هذا المجتمع، أصبحت، وهي تصبح، كل صبح جديد، قادرة على الإنفاق على نفسها؛ ولذلك فإنها تطالب بالعدل في ميل القلوب.. وهذا ما لا يستطيعه أحد بين اثنتين "فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك". ومن هنا وجب أن يكون الزوج كله لزوجته كلها، من غير أن تشاركها فيه زوجة أخرى.

فالمرأة في هذا القانون، تكون مكافئة لزوجها تماما.. ولذلك فهو لا يدفع مهرا عليها، لأن المهر إنما يمثل عهد هوان المرأة وقصورها، عندما كان الرجل قيما عليها.. فهو يمثل طرفا من إنفاق الرجل عليها، والإنفاق سبب من أسباب القوامة.. والمهر زيادة على هذا، إنما يمثل ثمن شراء المرأة، عندما كانت تزوج عن طريق السبي، أو الخطف أو الشراء.. ولذلك فالمرأة، في هذا التشريع كريمة، وليس لها ثمن مادي يمكن أن يدفع عليها، لأنها لا تقيّم بثمن، فهي مساوية للرجل، ومهرها رجلها، كما سلفت الإشارة فإنه قد قيل أن زوجها كله لها كما هي كلها له.

وبإلغائنا للمهر المادي هذا، فإننا نكون قد دخلنا في الدين أكثر، وتخلقنا بأخلاق النبي الكريم لأنه قد رغب في المهر القليل، وفي بعض عقوداته جعل المهر مهرا معنويا، فزوّج لبعض أصحابه بآيات من القرآن.. وتزوج هو من دون مهر، السيدة صفية، وجعل مهرها عتقها.. ومن هنا يظهر لنا أن الحرية يمكن أن تكون مهرا للمرأة.. وهي على التحقيق أغلى مهر لها.. وهذا ما ندعو له نحن – حرية المرأة وكرامتها هي المهر الوحيد للمرأة.

 

من مراجع ومصادر الإسلام وحقوق المرأة

- القرآن وكتب التفسير
- كتب الحديث الأساسية بشكل خاص صحيح البخاري ومسلم و"من لا يحضره الفقيه".
- السيرة النبوية لابن هشام
- نهج البلاغة
- الموسع في تاريخ العرب قبل الإسلام
- الإمعان في حقوق الإنسان، موسوعة عالمية مختصرة.
- كتب الخراج وكتاب الأموال (أبي عبيد)
- ابن حزم الأندلسي، طوق الحمامة في الألفة والآلاف.
- مصطفى السباعي، المرأة بين الفقه والقانون
- مصطفى السباعي، شرح قانون الأحوال الشخصية،
- أبو الأعلى المودودي، الحجاب.
- هيثم مناع، الحجاب
- هيثم مناع، المرأة في الإسلام
- هيثم مناع، المرأة !
- هيثم مناع (إشراف)، الإمعان في حقوق الإنسان، موسوعة عالمية مختصرة
- سعيد الأفغاني، الإسلام والمرأة
- عباس محمود العقاد، المرأة في القرآن
- سيد قطب، نحو مجتمع إسلامي
- محمود محمد طه، الرسالة الثانية في الإسلام
- عبد العزيز الدوري، مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي
- مشروع قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية، اللقاء، لبنان
- النساء والإسلام، سلسلة بإشراف عائشة بلعربي، مقاربات
- الطاهر حداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع
- إصدارات أقواس التونسية حول الطاهر حداد لمحمد المي.
- نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة
- المرأة الجديدة، المرأة والقانون والتنمية
- نادية عبد الوهاب وآمال عبد الهادي، الحركة النسائية العربية
- حسين العودات، المرأة العربية في الدين والمجتمع
- سلامة النفس والجسد، التعذيب في العالم العربي في القرن العشرين.
- جمال البنا، المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء
- قاسم أمين، تحرير المرأة
- قاسم أمين، المرأة الجديدة
- عبد الله العلايلي، مثلهن الأعلى
- عبد الله العلايلي، أين الخطأ ؟ تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد
- كتابات نوال السعداوي
- عدد خاص من مجلة سؤال عن المرأة في العالم العربي (1985) بالفرنسية.
- منظمة العفو الدولية، حقوق المرأة من حقوق الإنسان.
- عدد خاص لمجلة "قنطرة" الفرنسية عن الإبداع النسوي.
- منصور فهمي، أحوال المرأة في الإسلام بالعربية والفرنسية
- آمال عبد الهادي وسهام عبد السلام، موقف الأطباء من ختان المرأة.
- ليلى عبد الوهاب، الجريمة والعنف ضد المرأة.

 للاتصال بنا

:
:

الصفحة الرئيسية