مقولة أنا هو تثبت ألوهية المسيح
عندما نفكر فى الشهادة المعصومة والغير مغلوطة التى تقدمها لنا الكتب عن شخص يسوع المسيح فإننا نجد مقاطع وأجزاء كثيرة تؤكد ألوهية المسيح. فعلى سبيل المثال لدينا النبوات عن المسيا فى مزمور 2: 7، 12 يتكلم عن المسيح كابن الله ومزمور 110: 1 يعلن إنه الرب وفى مزمور 45: 6 وأشعيا 9: 6 يتكلم عنه أنه الله. ثم هناك المقاطع الإرشادية كما فى يوحنا 1:1،14 تقول عنه أنه الكلمة وأن الكلمة الله والكلمة صار جسداً. وفيلبى 2:5-11 تحدثنا أنه كان فى صورة الله. وكذلك عبرانيين 1:2-3 وكولوسى 1: 15 تعلن "أنه هو صورة الله الغير منظور" وعبرانيين 1: 8 تقول صراحة أنه هو الله وتيموثاوس الأولى 3: 16 تؤكد أنه "الله ظهر فى الجسد".
ولدينا أيضا الحكايات المسرودة كما فى مرقس 2: 27-28 ولوقا 5: 20 ويوحنا 11: 43-44 وحكايات أخرى كثيرة تؤكد أن المسيح إمتلك قدرات مقصورة على اللهو من بينها أنه هو رب السبت وقدرته على غفران الخطايا وإقامة الموتى! وأنا أؤمن إيماناً عميقاً أنه إلى جانب قيامته من بين الأموات فإن يسوع بمقولة "أنا هو" أعطانا أوضح التأكيدات والبراهين على ألوهيته. ففى هذه العبارة نجد كلمات المسيح ذاته عن حقيقة ماهيته. وفيها نجد الإله المتجسد يعلن عن ذاته. وسأحاول أن أقدم هذه الحقيقة بمساعدة القديس يوحنا الرسول الذى كان شاهداً وسجل كلمات المسيح بالإضافة إلى عدد من اللاهوتيين البارزين.
وبداية أقرر أن الدوافع الغير معلنة التى من أجلها كتب القديس يوحنا الرسول إنجيله عن السيد المسيح موجودة فى إصحاح عشرين آية 30-31 . وفيها يعلن يوحنا بوضوح : "وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب فى هذا الكتاب وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله و لكى تكون لكم إذا آمنتم حياة بأسمه." و بهذا نرى أن يوحنا له هدفان. الأول هو إعلانى فهو يسعى أن يكشف ويوضح أن "يسوع المسيح هو ابن الله" والثاني هو تبشيرى إذ يريد أن يعرف الناس حقيقة المسيح "حتى تكون لهم حياة باسمه". والآن هدف هذه المقالة هو إلقاء الضوء على هدف يوحنا الأول.
كما رأينا، يوحنا يسعى لإثبات أن "يسوع هو المسيح، ابن الله ومخلص العالم" (4: 42) وللوصول إلى هذا الهدف هو يستخدم عدة أشياء، منها على سبيل المثال، شهادة الشهود أمثال يوحنا المعمدان (1: 29 و 32-36) شهادة المرأة السامرية لأهل مدينتها (4: 39-42) ويسوع (8: 13-14) و الله نفسه (8: 17 ، 12: 28-30) وروايات عن حياة المسيح ودعوته وأعماله، وتضمنت أيضاً الكثير من عظاته وأيضا موته وقيامته. كما قدم لنا أو سجل العديد من المعجزات التى صنعها المسيح والتى سجلتها أيضا الأناجيل الأخرى. ولكن يوحنا هو الوحيد بين كل كتبة الإنجيل الذى أعطى بيانا عن عظات المسيح التى ألقت الضوء على معنى الرسالة من المعجزات التى تمت. ولذلك استخدم يوحنا الكلمة اليونانية semeion وتعنى آية بدل من مجرد كلمة dunamis أى معجزة.
ولقد تضمنت بعض هذه العظات مقولة "أنا هو" مثل: "أنا هو خبز الحياة" (6: 35) و "أنا هو القيامة و الحياة" وأما بقية المقولات فقد تضمنتها أحاديثه مع العامة (8: 12) والفريسيين (10: 7،9،11) وأيضاً تلاميذه (14: 6 و 15: 1).
كما أريد أن ألفت نظر القارئ إلى الكلمات اليونانية “ego eimi” وترجمتها (أنا هو). وكما يقول ليون موريس: "يسوع يستخدم "أنا هو" كجملة توكيدية لتوضيح تعاليم هامة عن شخصه. فى اللغة اليونانية عادة لا يذكر إسم االمبتدأ إذ أن صيغة الفعل توضح المبتدأ. ولكن إذا رغب فى تأكيد المبتدأ فيستخدم الضمير المناسب. والذى يوضح أهمية هذه النقطة فى إنجيل يوحنا هو أننا نجد إستخدام مماثل فى الترجمة اليونانية للعهد القديم. فنجد أن المترجمين إستخدموا الصيغة التوكيدية عندما كانوا ينقلون كلمات قائلها هو الله. ويستمر ليون قائلاً: "إن يسوع عندما كان يستخدم عبارة "أنا هو" فإنه يتكلم بصفته إله" وهناك إتفاق عام بين العلماء المتخصصين فى كتابات يوحنا أن هذه الصيغة بها إشارة واضحة عما أراد يوحنا أن يخبرنا عن شخص المسيح. وبتعبير آخر، فإن يسوع عندما كان يستخدم عبارة "أنا هو" كان يشير إلى ألوهيته ويوحنا عبر عن نفس الشئ بتسجيله تلك المقولات ليسوع.
و يلاحظ موريس أيضا أن مقولة "أنا هو" تندمج فى مجموعتين، واحدة تحتوى على خبر والأخرى بدون خبر. و يعلق على ذلك قائلاً: "إن بناء العبارة فى الحالتين يعتبر إلى حد ما غير مألوف و يضيف مقتبسا من جى أتش برنار أحد المتخصصين فى كتابات يوحنا "من المؤكد أن هذا هو أسلوب إلهى.. وقوتها يستشعرها من هو على دراية بالنسخة السبعينية من العهد القديم." و لدراسة المجموعتين من مقولة "أنا هو" سوف أتبع نموذج موريس وأبدأ بتقديم المجموعة الأولى فى البداية ثم المجموعة الثانية.
"أنا هو خبز الحياة"
أول مقولة "أنا هو" واضحة فى إنجيل يوحنا هى "أنا هو خبز الحياة" (7: 35) وقيلت بعد إطعام الجموع. فى هذا الحديث قال يسوع للجمع: "إعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقى للحياة الأبدية الذى يعطيكم ابن الإنسان" (6: 27) إذ سعى للحصول على إيمانهم بشخصه قوبل بتحدى أن يظهر قدراته. "فقالوا له فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك. ماذا تعمل. آباؤنا أكلوا المن فى البرية كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا" (6: 31) وإذ يبدو واضحاً أنهم كانوا يعنون أن موسى أعطاهم المن فصحح لهم يسوع هذا الفهم الخاطىء قائلاً: "الحق الحق أقول لكم ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء بل أبى يعطيكم الخبز الحقيقى من السماء" (6: 32) ثم أضاف: "لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم" (6: 33) يسوع هنا لا يعنى فقط أن الله أعطى الخبز من السماء فى الماضى ولايزال يعطيه إلى الآن ولكنه يؤكد ضمنياً أنه هو نفسه خبز الله النازل من السماء. وفى تعبير واضح عن رغبة روحية متزايدة طلبوا هذا الخبز النازل من السماء وإن كنا سوف نرى فى بقية الحديث كيف أن فهمهم مازال دنيوياً.
و رداً على طلبهم هذا فإن يسوع يعطى هذا الإعلان المذهل: "أنا هو خبز الحياة من يقبل إلى فلا يجوع ومن آمن بى فلا يعطش أبدا" (6: 35) وفى هذه الجملة يكمن جوهر رسالة المسيح الذى هو نفسه سؤل قلب الإنسان. "عبارة خبز الحياة تعنى الدور الحيوى والأساسى الذى يقوم به يسوع ليعطى الإنسان سؤل قلبه. خبز يسوع هو ركيزة الحياة وهو مصدر أساسى للتغذية. ولكن بما أن الخبز هو غذاء أساسى فى العالم فذلك تأكيد ضمنى على أنه يشبع هذا الجانب لكل إنسان." هو مخلص العالم ويعطى الحياة للعالم (6: 33) ويشير موريس بصورة شيقة إلى أن الضمير المحدد قبل كلمة خبز يشير إلى حقيقة أن يسوع، ويسوع وحده، هو خبز الحياة. فى حين يقول ميلنى أن: " خبز الحياة تشير إلى طبيعة المسيح المشبعة" ويظهر هذا بوضوح فى النتيجة المعطاة: "لا يجوع أبداً ولا يعطش أبداً" فأى خبز آخر مثل المن فى البرية لن يعطى الشبع ولن يسدد الإحتياج فنعود لنجوع. وفى المقابل فإن ذقت المسيح فلن تعود تحتاج لشئ البتة. وفى النهاية نستخلص أن بقوله "أنا هو خبز الحياة" فإن يسوع يعلن عن أصوله السماوية وعن حقيقة أنه هو وحده يسدد الإحتياجات الروحية لسامعيه.
"أنا هو نور العالم"
وهذه هى المرة الثانية التى تأتى فيها عبارة "أنا هو" يتبعها خبر . لقد أخبرنا يوحنا فى المقدمة أن الكلمة المتجسد " فيه كانت الحياة" وأن "الحياة كانت نور الناس والنور أضاء فى الظلمة والظلمة لم تدركه" (1: 4-5) ومرة أخرى يكمل المجاز ويستفيض فيما قاله سابقاً. ويؤكد يوحنا أن يسوع قال عن نفسه أنه " نور العالم" وعبارات مشابهة فى مناسبات مختلفة – على سبيل المثال 8: 12و 9: 5 و 12: 35-36، 46. وبالرغم من أن يوحنا لم يحدد تماماً متى قال يسوع ماقاله فى (8: 12) لكنه يعطينا خلفية عن المكان الذى حدث به كل ذلك إذ قال أنه كان عيد المظال وأن يسوع صعد إلى الهيكل (7: 14)
فى أثناء الإحتفالات بعيد المظال يتم طقسين دينيين هامين ولهما مغزى كبير. الأول هو سكب الماء على الناحية الغربية من المذبح من قبل الكهنة اللاويين بينما يغنى المنشدون تسبحة هلل الكبرى (مزمور 113: 18) والثاني هو إضاءة عدة شموع ضخمة فى محيط الهيكل. ويشير يوحنا أن يسوع إتخذ من هذين الرمزين فرصة لتوضيح تعاليمه (7: 37-38 و 8: 12) النور هو مجاز قوى فى إشارات العهد القديم، عظمة وجود الله فى السحابة التى قادت الشعب إلى أرض الميعاد (خروج 13: 21-22) وحفظتهم من أعدائهم (خروج 14: 19-25) تعلمت إسرائيل أن تنشد: "الرب نورى و خلاصى" (مزمور 27: 1) وكانت كلمة الله وشريعته هى نور لسبيل الذين يحفظون أحكامه (مزمور 119: 105 وأمثال 6: 23) نور الله يسطع فى الرؤيا (حزقيال 1: 4، 13،26-28) والخلاص (حبقوق 3: 3-4) النور هو الله فى عمله (مزامير 44: 3) ويقول لنا أشعياء أن خادم الرب قد إختير ليكون نوراً للأمم ليأتى بالخلاص إلى أقصى الأرض (أشعياء 49: 6) وعندما تأتى الأيام الأخيرة يكون الله نفسه هو نور شعبه (أشعياء 60: 19-22 ورؤيا 21: 23-24) وربما لأن زكريا 14: 5-7 تحمل مغزى خاص من جهة الوعد بنور دائم فى اليوم الأخير و الوعد بأن تتدفق المياه الحية من أورشليم، لذلك إختيرت لتكون جزءا من قراءات طقس هذا العيد.
مع كل هذه الآيات حاضرة فى الأذهان، ووسط هذه الشعائر القوية لابد وأن إعلان يسوع كان ذو قوة مذهلة. وهذه النبرة العالمية مذهلة أيضا إذ هو ليس فقط نور اليهود ولكنه "نور العالم". وهذه الإشارة إلى النور ليست فقط مادية أو معنوية، فكما يوضح موريس، عندما قال يسوع: "إن كان أحد يمشى فى الليل يعثر لأن النور ليس فيه" (11: 9-10) والإشارة إلى أن النور ليس فيه تبين أننا إنتقلنا من النور الحسى إلى الحقيقة الروحى. ثم يعلق قائلاً: "يسوع يقول لسامعيه أن الذى يرفضه ولا يقبله فى حياته يكون فى خطر كبير". إجمالاً من كل ما سبق سوف نجد أن الفكرة الأساسية فى الفقرات التى وردت فيها عبارة "أنا هو نور العالم" هى أن "يسوع هو النور الوحيد وعلى البشر أن يقبلوا مجىء هذا النور بالترحاب والإيمان إذ بعيداً عنه سيكونون فى ضياع أبدى. كون يسوع هو نور العالم كله وأن مصير البشرية يعتمد على موقفهم منه يخبرنا شيئاً غاية فى الأهمية عنه".
"أنا هو الباب"
مقولات "أنا هو" التالية نجدها ضمن حوارات جدلية مع الفريسيين. فى الإصحاح التاسع نجد أن الأعمى الذى شفاه يسوع يطرد من المجمع لأنه كان يدافع عن يسوع وآمن به (34، 38). بعد هذه المعجزة وما تبعها من إساءة معاملة الفريسيين للرجل الذى كان أعمى، نجد يسوع يفرق بين نفسه وبين القيادة الدينية فى تلك الأيام الذين سماهم "سارق ولص" ثم أكد على هذا الإختلاف من خلال صور كلامية وتشبيهات قوية مثل "حظيرة الخراف" (10: 1) والراعى (10: 2) البواب (10: 3) والباب أو البوابة (10: 3) وبرغم حيوية التشبيهات فإن الفريسيين لم يفهموا (10: 6) ولذلك فإن يسوع يستفيض فى الشرح والتوضيح وإدخال التشبيهات فى محاولة لشرح الرسالة وتوضيح معناها. فهو الآن يقول "أنا هو الباب" (الذى تدخل منه الخراف إلى الحظيرة) (10: 7) وقبلاً كان قال عن نفسه أنه هو الراعى (10: 2) وسوف يذكر ذلك ثانية مع بعض التغيير (10: 10).
ماذا يقصد يسوع بقوله "أنا هو الباب"؟ للإجابة على هذا السؤال ربما علينا أن نتذكر أن حظيرة الخراف عادة ما يكون لها باب واحد وأن الرعاة فى الشرق الأدنى غالباً ما ينامون مكان هذا الباب واضعين أنفسهم مكان الباب. من السهل إذن أن نرى أن الخراف تدخل إلى الحظيرة من خلال هذا الباب أو كما يقول التشبيه من خلال الراعى. وبذلك نجد إن إجابة السؤال هى أن يسوع يقول أنه هو نفسه، وليس غيره، الوسيلة التى تدخل بها الخراف إلى الحياة الكاملة الموعودة (10: 9-10) ويوضح موريس أن يسوع يقول أنه هو "الباب" وليس "باب" والتعريف هنا يعطى صيغة حصرية. يسوع يقول أن طريق الحياة هو من خلاله هو وحده "هو الباب". ويزيد تأكيده على ذلك عندما يقول يسوع: "السارق لا يأتى إلا ليسرق ويقتل ويهلك وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" هذه هى طريقة الأمثال لتأكيد أن هناك سبيل واحد للوصول إلى الحياة الأبدية، ومصدر واحد لمعرفة الله، ومنبع واحد للغذاء الروحى وأساس واحد للطمأنينة الروحية: المسيح فقط . المسيح قال أيضاً: "إن دخل بى أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى (10: 9) ورغم أنه لا يشرح تماما قصده من كلمة "يخلص" لكن يمكن إعتبارها تعنى أن تكون له "حياة أبدية" إذ إننا نجد المعنيان مرتبطان فى (يوحنا 3: 16-17) والثبات فى أسلوب التفسير يستدعى أن نفهم إرتباط مماثل هنا.
نستخلص فى النهاية وكما لاحظ موريس بذكاء: "مرة أخرى تواجهنا فكرة الحصرية فى الخلاص. الحصرية بمعنى أنه يمكن الدخول إليه عن طريق الباب فقط الذى هو يسوع المسيح. إذا كان هناك باب واحد فقط لكل البشر فهذا يذكرنا بشئ هام جداً عن يسوع . كما فى عبارات "أنا هو" الأخرى فإن هذه تقودنا إلى التفكير فى إله".
"أنا هو الراعى الصالح"
عبارة "أنا هو" التالية مرتبطة بالسابقة، بمعنى أنه تشبيه إستخدم فى نفس الصورة التى نجد فيها عبارة "أنا هو الباب" . فى إصحاح عشرة الآية الأولى يتكلم يسوع عن الراعى. والآن يضيف صفة إلى كلمة الراعى فيقول "أنا هو الراعى الصالح" وهنا أيضا يفرق بين نفسه وبين القيادة الدينية الذين يتكلم معهم والذين ليسوا رعاة كما يجب - أو كما جاء فى التشبيه "أجير" (10: 12-13) . إشارته للفريسيين على أنهم "أجراء" واضحة فى الآية 13 حيث يتكلم عن الأجير الذى "لا يبالى بالخراف". وفى ذلك إشارة واضحة لمعاملتهم السيئة للرجل الذى كان أعمى.
عندما إستخدم يسوع تعبير "الراعى الصالح" فهو يتكلم عن الصلاح الجوهرى المتأصل فيه وعن كمال وجمال روحه. وهو باستخدامه تعبير "الراعى" يتكلم عن وضعه. فهو راعى الخراف الذى يحمى ويقود ويهدى ويطعم الخراف. وفى المقابل فإن الخراف تدافع وتعتمد كلية على الراعى. من الصعب هنا عدم ملاحظة الإشارة إلى مزمور 23 حيث "الرب" هو الراعى الذى يحمى ويقود ويهدى ويطعم خرافه.
ويشير يسوع أيضا إلى رسالته فى ثلاثة مواضع على الأقل حيث يتكلم عن أنه "يضع نفسه" من أجل الخراف (10: 15، 17، 18). فالراعى الذى يحمى الخراف الآن يحميها حتى الموت. وهنا يعلن الراعى أنه هو حمل الله الذى يضع نفسه من أجل الخراف (1: 29، 35) موت يسوع ليس حادثة مؤلمة ولكنه الترتيب الإلهى الذى به يعطى الخلاص لكل من يؤمن به. فهو لم يبذل حياته فقط من أجل الخراف الضالة من بيت إسرائيل ولكن أيضا من أجل الأمم : "خراف أخر ليست من هذه الحظيرة" (10: 16) لتكون رعية واحدة يرعاها راع واحد (10: 16) ولكن كيف يكون موت رجل واحد كافياً لخلاص كل هؤلاء إلا إذا جعلته ألوهية هذا الواحد أكثر من كافياً ولهذا نقول أن عبارة "أنا هو" تصرخ بإعلان ألوهية يسوع المسيح.
"أنا هو القيامة والحياة"
قيلت هذه العبارة لمارثا التى مات أخوها لعازر. حين أخبرها يسوع أن لعازر سوف يقوم ظنت أنه يعنى "أنه سيقوم فى القيامة فى اليوم الأخير" (11: 23-24) وهنا يعلن يسوع بصراحة هذا الإعلان المذهل "أنا هو القيامة والحياة، من آمن بى ولو مات فسيحيا وكل من آمن بى فلن يموت إلى الأبد" (11: 25-26) ويسوع هنا لا يقول أنه يمنح القيامة والحياة فقط ولكن يقول أنه هو نفسه القيامة والحياة. وكما يقول يوحنا فى المقدمة أن يسوع (الكلمة) فيه كانت الحياة (1: 4) ويقول موريس "أن يكون يسوع هو القيامة فذلك يعنى أن الموت الذى يبدو لنا نهائى ليس بعائق، وأن يكون هو الحياة فذلك يعنى أن الحياة التى يمنحنا إياها الآن هنا لاتنتهى". (15) وما أعلنه يسوع هنا دعمه بعد ذلك بإقامته لعازر من الموت (11: 44).
ويؤكد موريس فى تعليقه على كتابة يوحنا لهذه الحادثة: "إنه يكتب عن شخص فائق العظمة وله سلطان مذهل على الموت، إنه تعليق موجه للجنس البشرى إذ أننا جميعا فى النهاية سوف نواجه الموت و ليس بيدنا أى شئ يمكننا أن نفعله حيال ذلك، قد نتفاداه لبعض الوقت ولكن حين يحدث فهو نهائى. ولكن يوحنا يتحدث عن الرب الذى معه لا يكون الموت نهائياً فهو من العظمة حتى أن الموت يتراجع أمامه". من المؤكد إن هذا الإعلان من يسوع لا يمكن أن يصدر على لسان إنسان عادى ولكن فقط على لسانه هو الإله.
"أنا هو الطريق والحق والحياة"
هذه هى عبارة أنا هو التالية والموجهة للذين سلموا أنفسهم للمسيح. لقد أعطى المسيح فى الليلة السابقة لصلبه "حديث الوداع الملكى" لقد شرع لتوه العشاء الربانى (يوحنا لا يسجل لنا هذا) عندما أعلن أنه على وشك الرحيل (13: 33،36 و14: 2-3) وأضاف: "وتعلمون حيث أنا ذاهب وتعلمون الطريق" (14: 4) وأجابه توما المتحير: "يا سيد لسنا نعلم أين تذهب فكيف نقدر أن نعرف الطريق". لقد أراد أن تتضح الأمور ولم يقبل أن تفوت كلمة الرب دون أن يفهمها تماماً وهنا تظهر أمانة الرجل الفعلية. وقد أعطى هذا يسوع الفرصة ليشرح ويوضح ما قاله. وهكذا يجيب: "أنا هو الطريق و الحق و الحياة" وأضاف "ليس أحد يأتى إلى الآب إلا بى" (14: 6) برغم الجدل حول هذه الكلمات وإختلاف الترجمة والتفسير إلا أن البناء اللغوى يوضح أن هناك ثلاثة أشياء مميزة يقولها المسيح عن نفسه (التأكيد فى الجملة هو على كلمة "الطريق" حيث إنها هنا لب الموضوع) (14: 5) إلا أن المعانى الثلاث "الطريق" و"الحق" و" الحياة" تأتى فى ترابط لغوى مما يدل على أن المسيح أعلن ثلاثة أشياء واضحة ومميزة عن نفسه.
فى البدء يقول: "أنا هو الطريق" ونرى هنا حصرية لا يمكن تجاهلها أو إنكارها. حين نرى أن يسوع يشير إلى أنه ذاهب إلى بيت أبيه (14: 2) و أن لا أحد يأتى إلى الآب إلا بى (14: 6) فإننا ندرك أنه لا يتكلم عن طريق معنوى ولكن عن طريق الخلاص. طريق الخلاص الموصل إلى الآب. فهو يقول بثقة أنه ليس واحد من عدة طرق مؤدية إلى الآب و لكنه "ال" طريق. هذا الإعلان المذهل يضرب أعماق مجتمعاتنا التعددية وفلسفاتنا التى ننتمى إليها ونتمسك بها، وبضربة قاضية يحطم أفكار الإنسان الخاطئة عن التقرب إلى الله ويؤكد "إنفراده". إن موته هو البديل والتكفير ويرتبط بشدة بكونه هو "الطريق" حيث أن تصالح الله مع الخطاة سيتم من خلال موته هذا.
ثم يقول أنه " الحق" مما يعبر عن صدقه وأمانته المطلقة فكل ما قاله وعمله يمكننا أن نثق به ونصدقه، ليس فقط لأنه يقول الحق ولكن لأنه هو نفسه الحق. لأنه هو كلمة الله الذى صار جسدا (1: 1،14). وكما يلاحظ كارسون بفراسة: "يسوع هو الحق لأنه يجسد قمة إعلان الله إذ يخبر عن الله نفسه (1: 18). فهو يقول ويعمل ما أعطاه الآب أن يقول ويعمل (5: 19 ؛ 8: 29) وهو بالحق يدعى الله (1: 1، 18؛ 20: 28) فهو إعلان الله عن ذاته بالنعمة، وهو كلمة الله الذى صار جسداً (1: 14).
وثالثاً، يعلن يسوع أنه هو "الحياة". وكما يقول موريس :"إن هذا يأخذنا لنفس مجال مقولة "أنا هو القيامة و الحياة"". ومرة أخرى نرى يسوع مقترناً بالحياة بشكل كبير. "لأنه هو وحده له حياة مميزة وموجود بذاته مثل الآب (5: 18) إنه هو الحياة و مصدر الحياة لآخرين (3: 16)".
ومن هنا نستخلص أن "مجمل هذه الأقوال يوضح أن ليسوع وضع خاص به وحده فهو الطريق الوحيد إلى الله ويمكننا الوثوق به كلياً، كما أن علاقته بالحق والحياة لا يمكن لغيره أن يدعيها"
"أنا الكرمة الحقيقية"
و الآن نأتى إلى آخر مقولات أنا هو التى لها خبر. فى أثناء الحديث فى العلية أعلن يسوع مرتين أنه هو "الكرمة". فى المرة الأولى يربط بينه وبين الآب حين يقول: "أنا الكرمة الحقيقية وأبى هو الكرام" (15: 1) و فى المرة الثانية يربط بينه وبين المؤمن حين يعلن: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان" (21) ثم يشير إلى أن المخلص والذين يخلصهم يثبت أحدهم فى الآخر (15: 5)
كثير من المعلقين يشير إلى الصلة بين قول يسوع هذا وبين إستخدام العهد القديم لتشبيه الكرمة. أحد هؤلاء هو اللاهوتى المعروف بروس ملنى الذى يقول فى تعلقه على إنجيل يوحنا والذى يركز فيه على رسالة يسوع: "إن صورة الكرمة تخدم موضوع "الرسالة" بطريقتين هامتين. أولاً لأنها كانت الرمز الأعظم لإسرائيل . كرمة ذهبية وارفة تظلل على ساحة الهيكل، والعملة التى تسك فى أثناء الثورة ضد روما (68 – 70 بعد الميلاد) كانت أيضا تحمل رمز الكرمة". ويحمل العهد القديم إشارات عديدة مشابهة. وربما يكون مزمور 80 هو أهمها صلة بقول المسيح "أنا الكرمة الحقيقية" (15: 1) حيث يربط بين الكلام عن إسرائيل "كرمة من مصر نقلت" (مز80: 8) و بين "ابن آدم الذى إخترته لنفسك" (مز80: 17).
و لكن الكرمة "محترقة بنار" (مز 80: 16). لقد فشلت إسرائيل فى القيام بالدور الذى إختارها له الله وهو أن تكون "نوراً للأمم" (أشعياء 49: 6) ليصل خلاص الرب إلى أقصى الأرض، ولكن إسرائيل بدلاً من أن تدخل إلى الأمم الأخرى كداعية إنجذبت إلى آلهة الأمم المحيطة بها. وقادهم إنحرافهم لقرون عديدة عن خطة الله إلى الحضيض برفضهم المسيح وإنكارهم ملك الله عليهم (يوحنا 19: 15) ولكن خطة الله التى إرتدت عنها إسرائيل نهائياً لم تسقط على الأرض بل رفعها من جديد هذا الواقف فى وسط إسرائيل وسط تلاميذه. وعلى عكس الكرمة التى دمرت نفسها بالعصيان فإن يسوع هو "الكرمة الحقيقية"، فهو الإبن المطيع الذى يحقق الهدف القديم من إسرائيل وذلك من خلال تضحيته ورسالته، فتصل الكلمة إلى الأمم و"تتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (تكوين 12: 3)
ثم يكمل قائلاً: "لصورة الكرمة إشارة ثانية أقل لاهوتية إلى البشارة، فالكرمة بالأساس هى زرعة منفعة، توجد لتؤتى بثمر" ويصور لنا دابليو تمبل بفصاحة عمل الكرمة لإعطاء ثمر فيقول: "تعيش الكرمة لتعطى دماء حياتها، زهرتها صغيرة وثمارها وافرة وحين تنضج الثمار وتصبح الكرمة لبرهة عظيمة فإن كنز العنب ينزع عنها وتقطع حتى الساق" وينعكس فائدة الكرمة هذه فى تركيز يسوع على إعطاء الثمر (بوضوح فى الآيات 2، 4-5، 8، 16). ولهذا يجب أن نحترس من تفسيرات هذا الجزء التى تركز فقط على علاقتنا الروحية مع الله لأن القوة الدافعة الحقيقية فيه هى تجديد رسالة إسرائيل من خلال يسوع المسيح وجماعة التلاميذ. ففى حين أن الجانب الشخصى غير غائب تماما (فى إشارة يسوع فى تعاليمه إلى المحبة والطاعة: 10، 12، 17) إلا أن التركيز الأساسى يبقى بشدة على الموضوعية والبشارة.
يسوع الذى تمجد فى موته وقيامته سيرتفع من هذا العالم وسيرسل تلاميذه إلى أرجاء العالم ليكملوا المهمة فى "غيابه" وهذا هو المعنى الرئيسى لقول يسوع: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان".
وأنا أتفق مع ميلنى فى تفسيره أن يسوع هو محقق أهداف الله التبشيرية من خلال حياته و موته ومن ثم قيامته وأنه هو الكرمة الحقيقية. ولكننى لا أتفق معه تماماً فى تفسيره "أنا الكرمة وأنتم الأغصان" وأميل أكثر إلى شرح موريس حين قال: "القول الثانى يؤكد على الإرتباط الوثيق مع المسيح"، فقد قال المسيح: "الذى يثبت فى وأنا فيه هذا يأتى بثمر كثير، لأنكم بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً" (15: 5) ويضيف قائلاً: "من الخطأ أن نظن أننا بقدرة الجسد نستطيع أن نفعل ما يرضى الله لأننا فى ذلك نحتاج إلى القوة التى يستطيع هو وحده أن يمنحنا إياها. حالة الإثمار فى الخدمة المسيحية هى إرتباط وثيق مع المسيح .. هو لم يعطنا شرح واف عن الثمرة ولكن فى العهد الجديد عادة ما تعنى الكلمة خصال الشخصية المسيحية (متى 3: 8 ؛ 7: 20 ؛ رومية 6: 22 ؛ غلاطية 5: 22) و يجب أن نرى هذا كقصد أساسى هنا.
عندما نرى أن الخلاص يأتى من الله (يونان 2: 9) وأن الله ارسل يسوع المسيح ليكون "نوراً للأمم" حتى يصل "خلاص الرب إلى أقصى الأرض" (أشعياء 49: 6) وأن تحول الشخص إلى مؤمن يكون ممكناً فقط من خلال عمل الروح القدس الساكن فيه (رومية 8: 9) ومن خلال الإرتباط الوثيق مع المسيح (يوحنا 15: 5) نستطيع أن نرى أن عبارة "أنا هو" هنا كما فى المرات السابقة تدل على ألوهيته.
"أنا هو" بدون خبر
بعد أن تأملنا بإيجاز فى مقولة "أنا هو" التى يليها خبر نأتى إلى المرات التى لا يليها فيها خبر. قد يكون صحيحا أن الكلمات اليونانية "ego eimi" والتى ترجمتها "أنا هو" تحمل فى العادة معنى إنسانى بسيط (كما فى يوحنا 9: 9 ؛ 12: 26) لكن إستخدام يوحنا لهذا التعبير مميز جداً، كما أشرنا سابقاً، وتتضح هذه الحقيقة عندما ننظر للمقاطع التالية فى سياقها.
فى الإصحاح الرابع من إنجيل يوحنا نرى يسوع يتحدث إلى المرأة السامرية عند البئر. وعندما تقول أن الأمور التى تحدثوا عنها سوف يخبرهم عنها المسيح المنتظر يجيبها يسوع "أنا هو الذى يكلمك" (4: 26) ويشير موريس إلى أن إثلبرت شتوفر "ينكر أن هذا تأكيد غير مباشر أنه المسيا" ويصر على أن يوحنا يتمنى لو أن إجابة يسوع تفهم كصيغة التجلى "ANI HU" وبالرغم من إنى أختلف تماما مع شتوفر فى أن هذه العبارة ليست تأكيداً غير مباشر على أنه المسيا إذ أن تحليل بناء الجملة يؤكد أنها كذلك لأن يسوع هنا يرد مباشرة على كلامها عن المسيا (4: 15) إلا أننى أتفق معه على أنها "صيغة تجلى"، فكما ذكرنا سابقا يستخدم يوحنا هذه العبارة بشكل مميز جدا بهدف التأكيد على الألوهية. ولا أجد تعارض بين فهم قول يسوع هذا على أنه تأكيد غير مباشر على أنه المسيح وبين القول بألوهيته.
وكما رأينا قبلا فإن يوحنا يقصد أن يظهر بوضوح ألوهية يسوع وأنه ايضا المسيا. (20: 30-31) كما نرى الصلة بين أنه "النبى الآتى إلى العالم" (6: 14) و بين ألوهيته (6: 33)
ونجد مقولة "أنا هو" فى مقطعين آخرين فى إصحاح 8 و 13. فى الإصحاح الثامن آية 24 يقول يسوع لليهود: "لأنكم إن لم تؤمنوا إنى أنا هو تموتون فى خطاياكم" وفى الإصحاح 13 آية 19 يقول لتلاميذه: "أقول لكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون إنى أنا هو" ويوضح لنا موريس قائلاً: "فى هاتين الآيتين نجد يوحنا يركز تأكيده على أهمية الإيمان المرتبط بشخص يسوع ذاته. فى المرتين نجد يسوع يؤكد لمن يكلمهم على أهمية أن يثقوا فيه "أنه هو" ويظهر ذلك على أنه إعلان مشاركته فى الطبيعة الإلهية".
ونجد أكثر مقولات "أنا هو" المألوفة والتى لا يليها خبر فى الإصحاح الثامن آية 58 حيث يسحب يسوع بساط علم اللاهوت من تحت أقدام اليهود عندما أكد بثقة إنه موجود قبل الكل وبالتالى أكد ألوهيته عندما أعلن: "الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" ويدل سياق الكلام هنا على أن يسوع يعلن عن ألوهيته إذ أن الكتاب يسجل هنا: "فرفعوا حجارة ليرجموه". لقد ذكر يوحنا قبل ذلك أن اليهود حاولوا قتل يسوع لنفس السبب إذ "قال أن الله أبوه معادلا نفسه بالله" (5: 18)
الآن وبعد أن تأملنا مجموعتى مقولات "أنا هو" من الناحية التاريخية والأدبية واللغوية واللاهوتية نستخلص أن عبارة "أنا هو" تثبت ألوهية المسيح وعندما نطق يسوع بهذه الكلمات المقدسة أراد أن ينقل إلينا هذه الحقيقة المذهلة عن طبيعته الإلهية، وكذلك فعل القديس يوحنا عندما سجل لنا هذه الكلمات التى تعطى الحياة.