المطر يتوقف
ظهر
النبي إيليا (وفي اللغة اليونانية اسمه إلياس)
فجأة على مسرح التاريخ الديني، في أيام الملك
أخآب، الذي حكم دولة إسرائيل وكانت عاصمتها
السامرة آنذاك عام 875 ق. م. وكان الملك أخآب
ملكاً عظيماً، قاد بلاده إلى نجاح ثقافي
واقتصادي وانتصارات عظيمة، وكان يحب السلام
والفنون، كما أنه بنى مدناً وقصوراً حكت
التوراة المقدسة عنها، حتى أنه بنى قصراً من
العاج في يزرعيل، أحاطه بالحدائق الغناء،
فكان محل إعجاب الجميع، حتى قال أحد المؤرخين:
»لئِن كان العاج قد ظهر في مملكة إسرائيل في
كرسي العرش الذي صنعه سليمان، فإن الملك أخآب
في نجاحه العظيم غطى بيته كله بالعاج«.
وكانت للملك أخآب قوة سياسية وحربية
عظيمة، فقد ورد في النقوش الأشورية أنه أرسل
ألفي مركبة حربية وعشرة آلاف من المشاة
ليشتركوا مع جيش أرام (سوريا) في حربهم ضد
مملكة أشور.
على أن التوراة المقدسة لا تقدم لنا
الملك أخآب في عظمته الاقتصادية أو السياسية،
لكنها تنتقده انتقاداً شديداً باعتباره
الرجل الشرير الذي جرَّ شعبه إلى ارتكاب
الخطأ وعبادة الأوثان، فقد تزوج من إيزابل
بنة »أثبعل« ملك صيدون، وكانت وثنية تعبد
الصنم المعروف باسم »بعل« وعملت جهدها كله
لتبيد عبادة الإِله الحي الحقيقي وتقيم عبادة
الصنم الذي تتعبَّد له، فقتلت أنبياء اللّه
الأتقياء، ونشرت العبادة الوثنية، برضى
زوجها الملك أخآب.
أيها القارئ الكريم، عندما يقيّمنا
اللّه لا يزِنُنا بمقدار ما عندنا من مال أو
علم أو جاه، لكن بمقدار ما فينا من حب له
وتعبُّد لشخصه. فلئن كان الملك أخآب قمة في
النجاح السياسي والحربي والاقتصادي، إلا أن
المؤرخ المقدس في التوراة يحسبه شريراً
فاسداً، وينسى كل إنجازاته المادية، لأنه
انحرف عن عبادة اللّه. وماذا ينتفع الإنسان لو
ربح العالم كله وخسر نفسه، أو ماذا يعطي
الإنسان فداء عن نفسه؟
ولا بد أن هناك سبباً سياسياً دفع
الملك أخآب ليرفض عبادة الإله الواحد »الحي«
ويوافق على أن يعبد شعبه الصنم »بعل«، فقد كان
يخاف أن يذهب شعبه إلى مدينة أورشليم، حيث
هيكل سليمان - وكانت أورشليم عاصمة المملكة
الجنوبية المعروفة بمملكة يهوذا.
من هو إيليا:
في عام 875 ق. م. وفي أثناء حكم الملك أخآب ظهر النبي العظيم إيليا ومعنى اسمه العبري »إلهي يهوه«. ولا نعرف الكثير عن نشأة النبي إيليا، إلا أن التوراة المقدسة تقدّمه لنا باعتبار أنه إيليا التِّشْبِيّ من مستوطني جلعاد. كما تصفه بأنه رجل أشعر متمنطق بمنطقة من جلد على حقويه. وقال بعض العلماء إن كلمة التشبي تعني »الغريب«. وقد يكون المقصود أن إيليا الغريب كان من مستوطني جلعاد، فيكون أنه مجهول الأصل، ولكن اللّه اختاره ليكون نبياً عظيماً له. أو لعله من مدينة تِشْبه الواقعة في شرق الأردن في منطقة جلعاد. ولعل تسميته بهذا الاسم تعني أنه كان شخصاً غريباً، بمعنى أنه مختلف عن غيره، لأنه كان يقضي الكثير من وقته في الصحراء في محضر اللّه، يتعبَّد له، إلى اليوم الذي فيه دعاه اللّه ليكون نبياً.
بداية خدمته:
أول ما
نقرأ عن النبي إيليا في التوراة المقدسة
نقرأه في الأصحاح السابع عشر من سفر الملوك
الأول حيث يقول: »وَقَالَ إِيلِيَّا
التِّشْبِيُّ مِنْ مُسْتَوْطِنِي جِلْعَادَ
لِأَخْآبَ: »حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ إِلهُ
إِسْرَائِيلَ الَّذِي وَقَفْتُ أَمَامَهُ،
إِنَّهُ لَا يَكُونُ طَلٌّ وَلَا مَطَرٌ فِي
هذِهِ السِّنِينَ إِلَّا عِنْدَ قَوْلِي« (1ملوك
17:1). وهذا عقاب للذين هجروا عبادة اللّه الحي.
لقد أقام اللّه النبي إيليا لينقذ بلاده من
عبادة البعل، أو من العبادة المختلطة بين
عبادة اللّه وعبادة البعل. ولما رأى تفشّي تلك
العبادة الوثنية السيئة، أدرك أن عقاب اللّه
لا بد سيحلُّ على البلاد التي بعُدت عنه. كانت
الظلمة حالكة في تلك الأيام، وقلَّ عدد الذين
يعبدون الرب بإخلاص، وارتفع مذبحٌ للصنم يكفي
لكثيرين من العابدين، وانتشرت الهياكل
الوثنية في كل أرجاء مملكة بني إسرائيل. أما
مذابح الإِله الحي، مثل مذبح الكرمِل، فكان
قد تهدَّم. واشتعلت نيران الاضطهاد، وأُغلقت
مدارس الأنبياء. وكان الأنبياء والمخلِصون
لعبادة الرب يطوفون في جلود غنم وجلود معزى،
معتازين مكروبين مذلين (عبرانيين 11:37). ووقف
إيليا ينظر إلى هذه الحالة الشريرة وقد
امتلأت نفسه بالغيرة لعبادة الرب. ترى ماذا
عساه يفعل؟ لم يكن أمامه سوى أمر واحد، وهو أن
يلجأ إلى اللّه مصلياً.
ويقول الإِنجيل إن إيليا »صلى صلاة«
(يعقوب 5:17) بمعنى أنه رفع للّه صلاة حارة من
أجل شعبه، فاشتعل غضب الرب عليهم، وأغلق
السماء عنهم فلا تعود تعطي مطراً. وأدرك أن
اللّه الحي سمع صلاته، فتوجَّه من الصحراء
إلى العاصمة حيث الملك العظيم أخآب. ودون أن
يخاف قال له: »حيٌّ هو الرب إله إسرائيل الذي
وقفت أمامه، إنه لا يكون طل ولا مطر في هذه
السنين إلا عند قولي«. ويا لها من ثقة عظيمة في
استجابة الصلاة، ويا له من إيمان حي باللّه
القدير، ويا لها من صلاة مرعبة، فيها إعلان
مخيف أعلنه النبي للملك في شجاعة وجرأة دون
خوف.
كان إيليا يصلي، وكان واثقاً أن
صلاته لا بد أن تُستجاب. ولم يكن سرُّ شجاعة
إيليا في شخصه، ولا في الظروف التي عاش فيها.
لكن لأنه وضع ثقته في اللّه قال: »حي هو الرب«
فكل مَن هو غيْر اللّه قابلٌ للموت، أما اللّه
فإنه الحي الذي قال عنه أيوب: »فَقَدْ
عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ« (أيوب 19:25). ثم
قال إيليا: »الرب الذي أنا واقف أمامه«، لقد
وقف إيليا أمام اللّه الحق، فاستطاع أن يواجه
الملك الشرير في غير خوف، ليعلن له قضاء اللّه
وعقابه.
ليتنا ندرِّب أنفسنا على أن نتحقَّق
دائماً من وجودنا في حضرة اللّه، وهذا يرفعنا
فوق كل خوف. دعنا نحيا ونتحرك ونوجد، يسودنا
فكر واحد هو أن اللّه هنا، وأنا أقف أمامه وفي
محضره. وعندها تتحقق لنا استجابة الصلوات
الغالبة المنتصرة، وندرك أن اللّه الحي يرى
ويسمع ويستجيب ويبارك.
كان إيليا متأكداً أن اللّه حي،
وكان قد وقف مصلياً في محضره، إلى أن استمد
منه القوة والشجاعة. ولقد قلنا أن كلمة إيليا
معناها: »إلهي يهوه«. فعندما خصَّص إيليا نفسه
للرب، وجد سرَّ القوة. إن كان اللّه حِصْنه
فممّن يرتعب؟ وعندما اقترب إليه الأشرار
ليأكلوا لحمه، مضايقوه وأعداؤه عثروا
وسقطوا، كما يقول النبي داود في مزموره
السابع والعشرين. ولذلك استطاع أن يهتف: »الرَّبُّ
قُّوَتِي وَنَشِيدِي، وَقَدْ صَارَ خَلَاصِي«
(خروج 15:2).
الغربان تعول إيليا:
توقَّف
نزول المطر بناءً على صلاة إيليا، وبدأت
الأرض تعاني من الجفاف. تُرى مَن يعول إيليا
وقت المجاعة؟ تقول التوراة إن اللّه أصدر
أمره إلى إيليا: »انْطَلِقْ مِنْ هُنَا
وَاتَّجِهْ نَحْوَ الْمَشْرِقِ،
وَاخْتَبِئْ عِنْدَ نَهْرِ كَرِيثَ الَّذِي
هُوَ مُقَابِلُ الْأُرْدُنِّ، فَتَشْرَبَ
مِنَ النَّهْرِ. وَقَدْ أَمَرْتُ
الْغِرْبَانَ أَنْ تَعُولَكَ هُنَاكَ« (1ملوك
17:3 ، 4) فانطلق النبي إيليا وعمل حسب كلام
الرب، وذهب فأقام عند نهر كريث الذي هو مقابل
الأردن (ولعله هو المعروف اليوم باسم فصيل،
شرق الأردن). كانت الغربان تأتي للنبي إيليا
بخبز ولحم صباحاً وبخبز ولحم مساءً، وكان
يشرب من النهر... يا للمعجزة!!
ألا ترى معي أن قول التوراة: »كان
كلام الرب إلى إيليا« يعني أن اللّه دوماً
يكلّمنا، ويعلن لنا مشيئته الصالحة المرضية
الكاملة. تأتيك كلمة اللّه من خلال الكتاب
المقدس، وتأتيك من خلال تأثير يطبعه روح
اللّه على قلبك، وتأتيك كلمته في بعض الظروف
الخاصة. وكيفما جاءتك فإنها يجب أن تجدك
مستعداً أن تسمعها، لأنك تقول للرب ما قاله
النبي صموئيل: »تَكَلَّمْ يَا رَبُّ لِأَنَّ
عَبْدَكَ سَامِعٌ« (1صموئيل 3:9).
إن أمر اللّه للنبي إيليا أن يختبئ
عند نهر كريث يعلّمنا أننا يجب أن نجد مكاناً
نختلي فيه باللّه، كما قال السيد المسيح
لتلاميذه: »تَعَالَوْا أَنْتُمْ
مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلَاءٍ« (مرقس
6:31). لا شك أن النبي إيليا كان محتاجاً إلى وقت
يختلي فيه بالرب. لقد وقف أمام الملك أخآب في
غير خوف، وقال له: »لا يكون طل ولا مطر في هذه
السنين إلا عند قولي«. ولذلك كان معرَّضاً لأن
تصيبه خطية الكبرياء - ربما يظن نفسه أنه عظيم
- ولذلك طلب اللّه منه أن يختلي بعيداً وحده
عند نهر كريث ليقيم في محضر اللّه، ليدرك أن
اللّه هو الكل في الكل.
أحياناً نحس أننا شيء، والواقع أننا
لسنا شيئاً، فقد قال لنا السيد المسيح: »بِدُونِي
لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً« (يوحنا
15:5). ربما يطلب منك اللّه أن تختبئ على فراش
مرض، أو في مواجهة خسارة، أو في فَقْد أحباء.
في مثل هذا الوقت الذي يهجرك فيه الناس وتحسّ
أنك وحيد، لا يستطيع أحد أن يشاركك المتاعب
التي تجتاز فيها، عندها أرجوك أن تدرك أن
اللّه حيٌّ إلى جوارك، وأنه يريدك أن تتحدَّث
إليه. فعندما تغلق باب غرفتك عليك، أو عندما
تنغلق نفسياً وأنت وحيد بسبب الآلام التي
تجوز فيها، أرجوك أن تدرك أن اللّه يخبّئك
لتختلي به ولتتحدث إليه، ولتكون قريباً من
قلبه.
وكم كان غريباً أن يطعم اللّه نبيه
بأمْر الغربان أن تعوله، فكانت الغربان تأتي
إلى إيليا بخبز ولحم صباحاً وبخبز ولحم مساء،
وكان يشرب من ماء نهر كريث. يوماً بعد يوم، ظلت
الغربان تجيء بالطعام إلى إيليا. لا شك أنه
كان ينتظر في مطلع كل يوم أن تجيء الغربان
إليه حاملة طعامه. ترى هل تساءل إيليا يوماً:
هل ستجيئني الغربان بالخبز واللحم هذا
المساء، أو هل ستتوقَّف عن أن تطعمني؟ ربما
سأل هذا السؤال، لكن المهم أن اللّه عاله،
وكلَّف تلك الطيور التي تخطف أن تخدم خادمه.
وعندما نصلي نحن الصلاة الربانية قائلين: »خُبْزَنَا
كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ« (متى 6:11)
ندرك أن إلهنا يدبّر كل ما نحتاج إليه.
ونلاحظ أن اللّه قال لإيليا: »أمرتُ
الغربان أن تعولك هناك«. وكلمة هناك مهمة،
لأنها تحدد المكان الذي يريد اللّه أن يكون
نبيُّه فيه. وأنت، عندما تطيع اللّه وتتواجد
في المكان الذي يريدك أن تكون فيه، عندها
يعولك ويضمن احتياجاتك، لذلك قال السيد
المسيح: »اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ
اللّهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ
لَكُمْ« (متى 6:33). وعندما تطلب بر اللّه
وملكوته سوف يزيد اللّه لك البركات التي
تحتاج إليها.
النهر يجف:
وبعد مدة
من بقاء إيليا بجوار نهر كريث، تقول التوراة
إن النهر يبس بسبب عدم هطول المطر. لقد جفَّت
مراعي الجبال، وكأنَّ ألسنة نيران اندلعت
فأفنَتْها، ولم يعد الندى يبلّل الأرض. ترى
ماذا جال في خاطر إيليا في ذلك الوقت؟ لا بد
أنه كان ينتظر اللّه صامتاً، يفعل ما قاله
المرنم في مزموره: كان يسكّت نفسه كفطيم نحو
أمه (مزمور 131:2) وهو يقول: »إِنَّمَا لِلّهِ
انْتَظِرِي يَا نَفْسِي، لِأَنَّ مِنْ
قِبَلِهِ رَجَائِي« (مزمور 62:5). عندما تيبس كل
الأنهار، يريد اللّه أن يعلّمك أن تتكل على
شخصه وليس على عطاياه، ويريدك أن تدرك أن
سواقي اللّه ملآنة ماء (مزمور 65:9). فتُلقي
اتكالك بالتمام عليه وعلى حكمته. وتختبر معنى
قول السيد المسيح: »كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ
هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلكِنْ
مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي
أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى
الْأَبَدِ« (يوحنا 4:13 ، 14).
أحياناً نطمئن إلى وضع معيَّن
ونستقر عليه، ويريدنا اللّه أن نعتمد عليه
وحده. ترى ماذا تفعل لو أنك واجهت مثل هذا
الموقف الذي واجهه إيليا؟ هل تظن أن اللّه
نسيك؟ هذا ما لم يحدث مع إيليا، ففي الوقت
المناسب تماماً أصدر اللّه أوامره مرة أخرى
إلى نبيّه، وهو دوماً يرشد الذين يحبونه في
الموعد المناسب ليتخذوا القرار المناسب.
فتقول التوراة إنه »بعد مدة من الزمان يبس نهر
كريث، لأنه لم يكن هناك مطر«. وجعل إيليا يرقب
هذا النهر وهو ييبس أسبوعاً بعد أسبوع. ولا بد
أن الشكوك هاجمته، ولكنه لم يسمح لظروفه أن
تعطّل إيمانه. صحيح أن الشك ينظر إلى اللّه من
خلال الظروف، أما الإيمان فإنه يضع اللّه
بينه وبين الظروف. الإيمان ينظر إلى ظروفه عن
طريق اللّه.
أرملة تعول إيليا:
وفي
الموعد المناسب أمر اللّه نبيه إيليا: »قُمِ
اذْهَبْ إِلَى صِرْفَةَ الَّتِي لِصَيْدُونَ
وَأَقِمْ هُنَاكَ. هُوَذَا قَدْ أَمَرْتُ
هُنَاكَ أَرْمَلَةً أَنْ تَعُولَكَ« (1ملوك
17:9) فأطاع إيليا فوراً. ولما وصل إلى باب
المدينة رأى أرملة تقشُّ عيداناً فناداها
وقال: »هاتي لي قليل ماء في إناء لأشرب« ربما
نظن أن النبيَّ إيليا التقى بها من باب
الصدفة، لكن ليس عند اللّه صدفة، فإن ما تراه
العين البشرية صدفة تراه عين الإيمان تدبيراً
من العناية الإلهية، ولا شك أن اللّه كان قد
دبَّر قدوم الأرملة لتلتقي بإيليا، لأن اللّه
كان قد قال له: »هوذا قد أمرتُ هناك أرملة
لتعولك«. ولعل هذا هو السبب الذي جعلها تطيع
أمر إيليا، فتذهب في صمت وهدوء لتأتي إليه
بكأس ماء بارد. ووجد النبي في قبول الأرملة
لطلبه ما شجَّعه أن يطلب منها أيضاً أن تأتيه
بكسرة خبز. وكان هذا طلباً متواضعاً، ولكنه
حرَّك أوجاعاً كامنة في نفس المرأة، فلم يكن
لديها كسرة خبز، بل كان كل ما تمتلكه ملء كف من
الدقيق وقليل من الزيت، كانت تريد أن تعمل منه
كعكة لها ولابنها ثم يموتان جوعاً. ولكن إيليا
المؤمن قال للمرأة: »لَا تَخَافِي. ادْخُلِي
وَاعْمَلِي كَقَوْلِكِ، وَلكِنِ اعْمَلِي
لِي مِنْهَا كَعْكَةً صَغِيرَةً أَوَّلاً
وَاخْرُجِي بِهَا إِلَيَّ، ثُمَّ اعْمَلِي
لَكِ وَلاِبْنِكِ أَخِيراً. لِأَنَّهُ
هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ:
إِنَّ كُوَّارَ الدَّقِيقِ لَا يَفْرُغُ،
وَكُوزَ الّزَيْتِ لَا يَنْقُصُ، إِلَى
الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يُعْطِي الرَّبُّ
مَطَراً« (1 ملوك 17:13 و14).
إننا نقف في انذهال أمام عظمة إيمان
النبي إيليا في توجيه الرب له: »أمرت أرملة أن
تعولك« - ولا شك أن الأرملة لن تعول إيليا بما
عندها، لكن بما يعطيه الرب لها. ولما كان كل ما
عندها قليل من الدقيق، وقليل من الزيت، فإن
اللّه لا بد أن يبارك في هذا القليل ليكون
كثيراً. وينقلنا هذا إلى مشهد أقام فيه المسيح
وليمة أطعم فيها خمسة آلاف بخمس خبزات
وسمكتين، إذ أخذ وبارك وأعطى تلاميذه
ليوزّعوا على الجموع، فوجد كل إنسان احتياجه،
وأكل بحسب ما احتاج. وهذا ما حدث مع الأرملة
التي أطاعت نداء اللّه، فإن كُوَّار الدقيق
لم يفرُغ، وكوز الزيت لم ينقص حسب قول الرب
الذي تكلم به بواسطة إيليا.
ونقف أيضاً في انذهال أمام عظمة
إيمان الأرملة التي قالت لإيليا: »حي هو الرب
إلهك«. إنها تعلم أن الإله الذي أرشد إيليا هو
الإِله الحقيقي وهو الإِله الحي. ففي وسط
الظلمة التي سادت البلاد في عبادة الأوثان،
وُجدت تلك السيدة التقية التي علمت أن اللّه
حي وموجود، يستطيع أن يعمل المعجزة ويدبّر،
لأنه إله المستحيلات. إن لم تنفع الطرق
العادية لتساعدنا، فإن اللّه يدبّر لنا
احتياجنا بطرق معجزية، والمطلوب منا أن نحيا
حياة الطاعة للّه.
وأنت أيها القارئ، عندما تقول »إن
الرب حي« كَرِّرْها لأنك تؤمن بها، ولأنك
تدرك أن إلهك الحي يدبر احتياجاتك. وما أجمل
ما قال السيد المسيح: »لَا تَهْتَمُّوا
لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا
تَشْرَبُونَ، وَلَا لِأَجْسَادِكُمْ بِمَا
تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ
أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ
أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ اُنْظُرُوا إِلَى
طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لَا تَزْرَعُ
وَلَا تَحْصُدُ وَلَا تَجْمَعُ إِلَى
مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ
يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ
بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا« (متى 6:25 ، 26).
ابن الأرملة يموت ويقوم:
كان
لأرملة صرفة، حيث أقام النبي إيليا، ابن
وحيد، اشتدَّ به المرض ذات يوم ومات. فجاءت
الأرملة إلى إيليا تصرخ: »ما لي ولك يا رجل
اللّه. هل جئت إليَّ لتذكير إثمي وإماتة ابني؟«
يبدو من كلام المرأة أن حياتها تلوَّثت من
قَبْل بلوثة أخلاقية، بقيت جاثمة أمامها كإثم
لا يُغتفَر. ونحن لا ندري ما هو ذلك الإِثم. هل
كان يتعلق بميلاد ولدها هذا؟ إن ضمير
الإِنسان منّا قد ينام فترة، لكن هناك دوماً
ما يوقظه. وعلينا ألا نسكت على إثم إلا ونعترف
به، لأنه: »إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا
فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ
لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ
كُلِّ إِثْمٍ« (1يوحنا 1:9).
ولما سمع إيليا الكلمات القاسية
التي وجَّهتها له الأرملة لم يوبخها، ولم
يجاوب عليها بخشونة، ولكنه قال لها: »أعطيني
ابنك«. وأخذه من حضنها وصعد به إلى العلية
التي كان مقيماً بها، وأضجعه على سريره، وصرخ
إلى الرب وقال: »أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي،
أَأَيْضاً إِلَى الْأَرْمَلَةِ الَّتِي
أَنَا نَازِلٌ عِنْدَهَا قَدْ أَسَأْتَ
بِإِمَاتَتِكَ ابْنَهَا؟« (1ملوك 17:20).
لا شك أن إيليا كان متألماً من توبيخ
الأرملة له، كما كان متألماً من الكارثة التي
حلَّت بها. وإيليا في هذه الكلمات يذكِّرنا
بما سبق أن قاله كليم اللّه موسى عندما رجع
إلى الرب وقال: »يَا سَيِّدُ، لِمَاذَا
أَسَأْتَ إِلَى هذَا الشَّعْبِ؟ لِمَاذَا
أَرْسَلْتَنِي؟« (خروج 5:22).
ولم يغضب الرب من إيليا، ولكنه غفر
له، لأن اللّه يعرف اللغة الصادرة من قلب
متألم مُخْلص. واللّه يفضّل أن نأتي إليه
بإخلاص، مهما كان هذا الإِخلاص ضعيفاً، مهما
كان التعبير عنه غير لائق. إن اللّه يريد أن
تتعانق روح المؤمن مع روحه هو، في الحب
والألم، مهما كانت الظروف التي نعيش فيها.
ثم أخذ إيليا جثة الولد وتمدَّد
عليها ثلاث مرات وصرخ إلى الرب قائلاً: »يا رب
إلهي، لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه«. فسمع
الرب صلاة إيليا وقام الولد من موته. فأخذه
إيليا ونزل به من عِليته إلى البيت، ودفعه إلى
أمه وقال لها بلهجة الشكر للّه والانتصار: »أُنظري،
ابنك حي«. فقالت المرأة لإيليا: »هذَا
الْوَقْتَ عَلِمْتُ أَنَّكَ رَجُلُ اللّهِ،
وَأَنَّ كَلَامَ الرَّبِّ فِي فَمِكَ حَقٌّ«
(1ملوك 17:23 ، 24).
من هو النبي الحقيقي؟
النبي
الحقيقي هو الذي يستخدمه اللّه ليقيم موتى
الخطية لحياة التقوى ومخافة اللّه. وهو الذي
يؤازره اللّه بمعجزات من عنده، كما آزر موسى
وإيليا وبطرس وبولس وغيرهم من رجاله الصادقين.
كانت معجزة إقامة الميت معجزة
كبيرة، أجراها اللّه على يد نبيه إيليا.
فكيف حقق إيليا هذه المعجزة؟ لقد
أخذ الولد الميت من حضن أمه وصعد به إلى
العِلية التي كان مقيماً فيها، وأضجعه على
سريره وصرخ إلى الرب. وفي تواضع تمدَّد على
الولد. أليس عجيباً أن نرى رجلاً عظيماً يصرف
وقتاً ومجهوداً على هذا الهيكل الجسدي
الفاني، ويرضى أن يلتصق بذلك الميت، الذي
تقول شريعة موسى إنه ينجّسه؟ لكن إيليا في
تواضع حقيقي تناسى هذا كله وبدأ يصلي للولد
وهو متمدّد عليه في مثابرة، وصرخ إلى الرب
ثلاث مرات دون أن يتطرَّق اليأس إلى قلبه. إن
صلاة إيليا الثلاثية تجعلنا نتذكر قول السيد
المسيح: »يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ
حِينٍ وَلَا يُمَلَّ« (لوقا 18:1). ولقد لقي تضرع
إيليا نعمة عند اللّه، فسمع الرب صلاته وأقام
الولد من موته، ويقول التقليد اليهودي الذي
وصلنا بالتواتر إن هذا الولد كبر ليكون يونان
النبي، الذي أرسله اللّه إلى نينوى كارزاً
بالخلاص.
أيها القارئ الكريم، إننا نوجِّه
إليك دعوة الآن أن لا تخبئ خطيتك داخل نفسك
كما فعلت تلك الأرملة، بل أن تعترف بها للّه
الذي يغفر لك ويطهر قلبك من دنس الذنوب. ونريد
أن نؤكد لك أن المسيح الحي يريد أن يهبك
الحياة الأبدية، إن أنت وضعت ثقتك فيه، »لِأَنَّهُ
هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ الْعَالَمَ حَتَّى
بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا
يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ
تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ« (يوحنا
3:16). كما نؤكد لك أن الإِله المحب سيبارك حياتك
لتعمل معه على إقامة غيرك من موتى الخطية
للحياة الجديدة في المسيح.
ونوجه إليك دعوة أخرى: قد تكون
ساكناً في أمان، كما سكن إيليا عند أرملة
صرفة، ولكن اللّه يكلّفك أن تقوم بخدمة خطيرة
له - كن مستعداً أن تحيا في سلام، وأن تجاهد
أيضاً في سبيل اللّه. إن الجهاد هو الذي يقوي
عضلات الإيمان ويزيده.