من الذبيح اسماعيل ام اسحاق
للشيخ المقدسي
كما احترف الإسلام العنف والإهاب هكذا أيضا
احترف المسلمون التزوير. لم يشهد التاريخ أمة احترفت التزوير مثل أمة الإسلام،
تزوير الحقائق وطمس المعالم صفة أساسية تميز بها الإنسان المسلم.
ومن بين القضايا التي زورت مسألة:
هل الذبيح إسحاق أم إسماعيل؟
نقول ورد اسم إسماعيل في القرآن اثنتي عشرة مرة، يذكر أولاً: في السور المكية مع
الأخيار، والصالحين،والصابرين ، الذين يفضلهم الله على العالمين . "واذكر في الكتاب
إسماعيل . أنه كان صادق الوعد" مريم (54:19). "واذكر إسماعيل ، واليسع ، وذا الكفل
، وكل من الأخيار" ص (48:3. "… وإسماعيل ، وإدريس ، وذا الكفل ، كل من الصابرين"
الأنبياء (85:21) . "… وإسماعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوطا، وكلا فضلنا على العالمين
" الأنعام (86:6) .
والجدير بالذكر أنه لا يرد ، في هذه السور الأربع ، ولا في غيرها من السور المكية ،
أية إشارة إلى أن إسماعيل هو ابن إبراهيم ، بل إنها تحصر أبوة إبراهيم بإسحاق ثم
بيعقوب من بعده ، كما في "سورة مريم" : "فلما اعتزلهم (إبراهيم) وما يعبدون من دون
الله ، وهبنا له اسحق ، ويعقوب ، وكلا جعلنا نبياً" مريم (49:19) ، وفي "سورة
الأنبياء" : "ووهبنا له اسحق ويعقوب نافلة ، وكلا جعلنا صالحين " الأنبياء (72:21)
؛ وفي "سورة الأنعام" : "ووهبنا له اسحق ويعقوب ، وكلا هدينا . ونوحا هدينا من قبل.
ومن ذريته داود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون وكذلك نجزي المحسنين" الأنعام
(84:6) . ثم إن الله لم يبشر إلا بإسحاق : "وامرأته قائمة، فضحكت . فبشرناها بإسحاق
، ومن وراء اسحق يعقوب " هود (71:11).
ولا يرد ذكر علاقة البنوة بين إسماعيل وإبراهيم بصورة صريحة إلا في "السورة الرابعة
عشرة" الموسومة بإبراهيم . وفي هذه السورة تظهر لأول مرة في القرآن أبوة إبراهيم
لإسماعيل، إذ يقول إبراهيم: "الحمد لله الذي وهب لي ، على الكبر ، إسماعيل واسحق"
إبراهيم (39:14) . فيدخل ، من ثم ، إسماعيل في سلسلة الآباء المنحدرين من إبراهيم ،
فكلما ذكروا؛ ذكر معهم متقدما على اسحق : "قالوا : نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم ،
وإسماعيل ، واسحق " البقرة(125:2) . " قولوا : آمنا بالله ، وما أنزل إلينا ،
ومــــا أنزل إلى إبراهيم، وإسماعيل ، واسحق ، ويعقوب ، والأسباط ؛ وما أوتي موسى
وعيسى، وما أوتـــــــــــي النبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ، ونحن له
مسلمون ." البقرة (136:2) . وكذلك في سورة آل عمران (84:3) فتكرر الآية ذاتها، "أم
تقولون : إن إبراهيم ، وإسماعيل ، واسحق ، ويعقوب ، والأسباط ، كانوا هودا …"
البقرة (140:2). "… وأوحينا إلى إبراهيم ، وإسماعيل ، واسحق ، ويعقوب ، والأسباط ،
وعيسى ، وأيوب ، ويونس ، وهارون ، وسليمان ، وآتينا داود زبورا ." النساء(163:4).
أما في تطهير البيت ، ورفع قواعده ، فيذكر إسماعيل وحده مع إبراهيم : "… وعهدنا إلى
إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين ، والعاكفين ، والركع السجود " البقرة
(125:2).
" وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ، وإسماعيل . ربنا تقبل منا . إنك أنت السميع
العليم ." البقرة(127:2) .
ويرد ذكر إسحاق في القرآن سبع عشرة مرة ، منها أربع مرات ذكر فيها ذكراً عابراً مع
"الأنبياء الصالحين" : إبراهيم ، وإسماعيل ، ويعقوب في البقرة (136:2،140) ؛ آل
عمران (84:3) ؛ النساء (163:4) ؛ ومرة مع إبراهيم وإسماعيل في البقرة (133:2) ؛
ومرتين مع إبراهيم ويعقوب في يوسف (38:12) و ص (45:3 ؛ ومرة مع أبيه إبراهيم
بوصفهما من آباء يوسف في يوسف (6:12). وذكر في أربع آيات أنه هبة من الله لإبراهيم
، مع يعقوب في الأنعام (84:6) و مريم (49:19) و الأنبياء (72:21) ؛ العنكبوت
(27:29) . وبشر به إبراهيم "نبيا من الصالحين" الصافات (112:37)، كما بشرت به سارة
، وبيعقوب من ورائه في هود (71:11)، "فحمد إبراهيم الله الذي وهب له ، على الكبر ،
إسماعيل واسحق" إبراهيم (39:14) . أما قصة "الذبيحة" ، أو التضحية ، فقد لخصتها
سورة "الصافات" في ست آيات ، دون أن تذكر اسم "الذبيح" . "فبشرناه بغلام حليم .
فلما بلغ معه السعي ، قال : يا بني ،إني أرى في المنام أني أذبحك . فانظر ماذا ترى
؟، قال : يا أبت ، افعل ما تؤمر . ستجدني ، إن شاء اله ، من الصابرين . فلما أسلما
، وتله للجبين . وناديناه أن يا إبراهيم ، قد صدقت الرؤيا ، إنا كذلك نجزي المحسنين
. إن هذا لهو البلاء المبين . وفديناه بذبح عظيم" الصافات (101:37-107). وهو قريب
مما ورد في "سفر التكوين" (1:22-13) ؛ إلا أن الحوار كان بين إبراهيم وابنه إسحاق
على أن المفسرين ، وفي طليعتهم الطبري ، ومؤلفي "قصص الأنبياء" من بعدهم ، كالثعلبي
والكسائي ، توسعوا في سرد الحكاية ، مستعينين بما كان متناقلاً بين اليهود ، مأخوذا
عن بعض المدارج (المدارش) ، ولا سيما "مدرش تنومة" ومدرش فيوشة" ، (راجع :
(Sidersky, op.cit., 4 ، حتى كانت تلك القصة الحية الشائقة التي ظهر فيها للشيطان
دور بارز، وهم ينسبونها ، في الغالب إلى كعب الأحبار ، أشهر من نشر "الإسرائيليات"
في التفسير ، والشرح ، والتعليق ، والقصص. قالوا :
لما رأي إبراهيم في المنام أن يذبح ابنه ، وتحقق أنه أمر ربه ، قال لابنه : "يا بني
، خذ الحبل والمدية ، وانطلق بنا إلى هذا الشعب ، لنحتطب لأهلنا" . فأخذ المدية
والحبل ، وتبع والده . فقال الشيطان : "لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم ، لا أفتن
أحدا منهم أبدا" . فتمثل الشيطان رجلا . فأتى أم الغلام ، فقال لها : "أتدرين ، أين
ذهب إبراهيم بابنك !" قالت : "ذهب به ليحتطب لنا من هذا الشعب" . فقال لها الشيطان
: "لا ، والله ، ما ذهب به إلا ليذبحه" . قالت : "كلا ! هو أشفق به ، وأشد حبا له"
. فقال لها : "إنه يزعم أن الله أمره بذلك" . قالت "فإن كان الله تعالى ، قد أمره
بذلك ، فليطع أمره" . فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن ، وهو يمشي على اثر
أبيه . فقال له : "يا غلام ، هل تدري أين يذهب بك أبوك ؟ " قال : "نحتطب لأهلنا من
هذا الشعب" . فقال له : "والله ، ما يريد إلا ذبحك" . قال : "لأي شئ ؟" قال : "زعم
أن الله تعالى ، أمره بذلك" . قال : "فليفعل ما أمره الله تعالى ، سمعا وطاعة لأمر
الله ، تبارك وتعالى !". فأقبل الشيطان إلى إبراهيم (عم) . فقال :"أين تريد ، أيها
الشيخ ؟" قال : "أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه" . قال : "إني أرى أن الشيطان خدعك
بهذا المنام الذي رأيته أنك تريد ذبح ابنك وفلذة كبدك . فتندم ، بعد ذلك ، حيث لا
ينفعك الندم" . فعرفه إبراهيم (عم) . وقال : "إليك عني ، يا ملعون ! فوالله لأمين
لأمر ربي" ، فنكص إبليس على عقبيه ، ورجع بخزيه وغيظه . ولم ينل من إبراهيم ، ولا
من ولده ، ولا من زوجته شيئا .
ثم يضيف الرواة حوارا بين إبراهيم وابنه ليس في المدراش اليهودية . إلا أنه مستفاد
من الحوار القرآني ، مضافا إليه ما نقله قطب الدين النهروالي عن ابن كثير ، عن
الرواة ، عن كعب الأحبار . وقد أقحم اسم "إسماعيل" في الحكاية . وسنعود إلى هذه
القضية بعد قليل .
قال : فحدثت أن إسماعيل قال له عند ذلك : "يا أبتاه ، إذا أردت ذبحي ، فاشدد وثاقي
. لئلا يصيبك شئ من دمي ، فينقص أجري . فإن الموت شديد، ولا آمن أن اضطرب عنده ،
إذا وجدت مسه . واستحد شفرتك حتى تجهز على فتذبحني . فإذا أنت أضجعتني لتذبحني ،
فاكببني على وجهي ، ولا تضجعني لشقي، فإني أخشى ، إن أنت نظرت إلى وجهي ، أن تدركك
الرقة فتحول بينك وبين أمر ربك فيّ . وإن رأيت أن ترد قميصي إلى أمي ، فإنه عسى أن
يكون إسلاء لها ، فافعل ." فقال إبراهيم : "نعم العون أنت ، يا بني ، على أمر الله
!". ويقال : إنه ربطه كما أمره بالحبل، فأوثقه، ثم شحذ شفرته، ثم تله للجبين، واتقى
النظر إلى وجهه . ثم ادخل الشفرة حلقه، فقلبها جبريل في يده.
(وفي مدرج مدرش تنهومة أن الذي قلب المدية في يد إبراهيم إنما هو إبليس لا جبريل.
راجع مجموعة :
(Jellineck, Beth Hamidrasch, I, 23, 33-37.)
ثم اجتذبها إليه، ونودي أن "يا إبراهيم ، قد صدقت الرؤيا . فهذه ذبيحتك فداء لابنك
فاذبحها دونه ." وأتاه بكبش من الجنة ، قيل : رعى قبل ذلك بأربعين خريفاً .
وأبى بعض المحدثين، والمفسرين ، والقصاص ، إلا أن يربطوا بين هذه الذبيحة - الأولى
في عهد تجديد الإيمان بالله على يد إبراهيم أبي المؤمنين - والذبيحة الأولى في
تاريخ العالم ، الدالة على إخلاص أول مؤمن من ولد آدم ، هابيل البار . فأخذوا ما
ورد في بعض الحكايات التلمودية (راجع مقال ايزنبرغ في الطبعة الأولى من "دائرة
المعارف الإسلامية" الترجمة العربية 97:2 . قال الفاكهي : ذكر أهل الكتـــــاب،
وكثير من العلماء ، أن الكبش الذي فدي به إسماعيل كبش أملح ، أقرن ، أعين . ثم روى
بسنده عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنه هو القربان المتقبل من أحد ابني آدم.
بقي السؤال المهم : من هو "الذبيح"؟ أ إسحاق أم
إسماعيل ؟
لا شك في أن التوراة تذكر بصراحة أنه إسحاق ، في مستهل الإصحاح الثاني والعشرين من
سفر التكوين "وكان ، بعد هذه الأمور ، أن الله امتحن إبراهيم فقال : يا إبراهيم .
قال : لبيك . قال : خذ ابنك وحيدك الذي تحبه ، إسحق ، وامض به إلى أرض مورية ،
وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أريك" (سفر التكوين 2:22)
أما ما فرضه البعض من أن اليهود ، أضافوا على هذه الآية كلمة "إسحاق" فحشروها بعد
"وحيدك الذي تحبه" ، اعتداداً بجدهم ونكاية بالعرب (راجع الترجمة العربية للطبعة
الأولى من الدائرة المذكورة 97:2) فهو إما تزلف ساذج للعرب ، على نحو ما روي عن ذاك
اليهودي المسلماني في عهد بني أمية ، إذا أراد التقرب إلى عمر بن عبد العزيز بقوله
أن اليهود وضعوا اسم جدهم إسحاق موضع اسم جد العرب إسماعيل، وأما غفلة عن واقع
الأمر ، وسهو عن ملابسات القضية زمانا عن واقع الأمر ، وسهو عن ملابسات القضية
زمانا ومكانا ، إذ يصح السؤال عندئذ : متى كانت هذه الإضافة ؟ وفي أية غاية ؟ ولا
بد أنها كانت قبل المسيح ، لأن المعتقد المسيحي الجاري منذ البدء إلى اليوم لا
يتردد في القول أن الذبيح إسحاق. فإذا صح هذا ، جاز للسؤال : وأي دافع كان لليهود ،
قبل المسيح ، إلى إقحام اسم إسحاق في النص التوراتي ، "المقدس" ، وإلى إحلال جدهم
محل إسماعيل ؟ ولم يكن إسماعيل ينافس إسحاق في شئ ، إذ ذاك ؛ وهو ابن الجارية
المطرود عن حظيرة المنزل الوالدي ؟ بل لم تكن أبوة إسماعيل للعرب ذات خطر في نظر
أحد ، ولا منافسة العرب لليهود لها حساب في تاريخ بني إسرائيل ، ولا العراك المرير
بين العرب "أبناء إسماعيل" ، والفرس "أبناء اسحق" واردا في تصور اليهود .
وعلى هذا تتابع التقليد بين اليهود والمسيحيين ، وبالتالي بين العرب المنتمين إلى
هذين الدينين ، أو المتأثرين بهما ، حتى ظهور الإسلام . ومما لا شك فيه كذلك أن
القرآن لا يسمى "الذبيح"، وقد أوردنا الآيات 101-107 من سورة "الصافات" التي تصف
التضحية ، ولا تتعرض لاسم الولد المضحى به ، على كون القرآن يذكر اسمي ولدي إبراهيم
في عدة مواضع (إسحاق 17 مرة ، وإسماعيل 12 مرة) . بيد أن النصوص القديمة تدل على أن
المعتقد الجاري بين العرب المسلمين ، حتى أواخر العصر الأموي ، كان أن الذبيح إسحاق
. وهذا الفرزدق يذكر "الذبيح اسحق" في قصيدتين من آخر شعره . يذكره عرضا ، دون تعمل
ولا تكلف ، وغايته الشفاعة به وطلب دعائه . وأولى القصيدتين في مدح مالك بن المنذر
بن الجار ود، عامل خالد القسري على البصرة وكان قد حبس الفرز دق وهو في حدود
التسعين من سنيه - فيكون ذلك حوالي السنة 730 - فمدحه الفرزدق تائبا مستعطفا ،
وسيرها من سجنه . وفيها يقول :
إني حلفت بصارع لابن له اسحق فوق جبينه المتلول (ديوان الفرزدق ، ص679)
فلم يعطف ذلك مالكا، وطال الحبس على الفرزدق . فوجه القصيدة الثانية إلى ابن
الخليفة معاوية بن هشام بن عبد الملك ، مادحا ، مستعطفا ، راجيا الدعاء من إبراهيم
الخليل ، مضمنا حكاية الضحية على ما حفظها في "القرآن" :
أرجو الدعاء من الذي تل ابنه
لجبينه ، ففداه ذو الأنعــــــــــــام ،
إسحاق حيث يقول ، لما هـابه
لأبيه حيث رأى من الأحــــــــلام:
امضي وصدق ما أمــــــــرت
فإنني بالصبر محتسبا لخير غلام
(الديوان ، ص 831)
ولا سبيل إلى الشك في صحة الأبيات . من هنا كان أن بعض المفسرين في العصر العباسي -
وقد أخذت فكرة "الذبيح إسماعيل" تتغلغل في معتقد القوم - لما وقفوا على شعر الفرزدق
في الموضوع ، أزعجهم قوله . ولما لم يمكنهم " تزييف" هذا في الشعر، جعلوا الفرزدق
"يصحح" رأيه متأخرا ، فوضعوا على لسانه القول : "سمعت أبا هريرة يقول على منبر
المدينة : الذبيح إسماعيل " (ابن قتيبة : الشعر والشعراء ، 296). ولا يخفى أن أبا
هريرة توفي بالمدينة سنة 57 أو 58 أو 59 للهجرة (677-679)، أي قبل أن نظم الفرزدق
قصيدتيه المذكورتين بما لا يقل عن خمسين سنة .
فلو كان صحيحا ما قيل من أنه سمع أبا هريرة يقول : "الذبيح إسماعيل" ، جاز السؤال :
ولم لم يستفد من ذلك في شعره ، فظل على القول بأن الذبيح اسحق بعد ذلك بنصف قرن ؟
على أن ابن قتيبة كان من القائلين بأن "الذبيح إسحاق" (المعارف ، 1 .
وكذلك محمد بن سلام في تعليقه على بيت جرير في هجاء سراقة البارقي :
ولقد هممت بأن أدمدم بارقا
فحفظت فيهم عمنا إسحاقا !
قال ابن سلام : "يعني إسحاق الذبيح" . (طبقات
الشعراء ، 107) . كذلك كان رأي ابن عبد ربه، وقد أورد حديثا في وفاة إبراهيم الخليل
جاء فيه أن الذبيح إسحاق . قال : وفي بعض الحديث أن إبراهيم خليل الرحمن ، صلوات
الله عليه ، كان من أغير الناس . فلما حضرته الوفاة ، دخل عليه ملك الموت في صورة
رجل أنكره . فقال له : "من أدخلك داري ؟" قال : "الذي أسكنك فيها منذ كذا وكذا سنة
!" قال : "من أنت؟" قال : "أنا ملك الموت . جئت لقبض روحك ."قال : "أ تاركي أنت حتى
أودع ابني إسحاق ؟" قال : "نعم ." فأرسل إلى إسحاق . فلما أتاه ، أخبره . فتعلق
إسحاق بأبيه إبراهيم . وجعل يتقطع عليه بكاء . فخرج عنهما ملك الموت . وقال : "يا
رب ، ذبيحك إسحاق متعلق بخليلك ." فقال له الله : "قل له : إني قد أمهلتك ." ففعل .
وانحل إسحاق عن أبيه . ودخل إبراهيم بيتا ينام فيه . فقبض ملك الموت روحه ، وهو
نائم ." (العقد الفريد 440:2) .
وممن قالوا بكون الذبيح إسحاق عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، على ما جاء في نقل
النهروالي في كتاب "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" (ص 37) . ولعل فكرة "الذبيح
إسماعيل" لم تتقدم العصر العباسي، وفيه اشتدت المنافسة ، حتى العراك السافر ، بين
العرب والفرس ومن ورائهم الشعوبية . فكان من متممات هذا العراك ، وقد استغل
المناضلون من الفريقين القرآن ، والحديث ، والشعر ، وأيضاً استغلوا تاريخ الأنساب
ومفاخر الجدود . وكان الساسانيون ينتسبون إلى إسحاق ، فكان طبيعيا أن ينوهوا به ؛
وأن يقوم الفرس جميعا ، وسائر الشعوبيين ، فيفخروا على العرب "بإسحاق بن إبراهيم ،
وأنه لسارة ، وأن إسماعيل لأمة تسمى هاجر" (العقد 409:3) . وحق للعرب أن يفخروا
بإسماعيل بكر إبراهيم ، وأن يصرفوا إليه فضيلة "الذبيح" المختار من الله فكان من
ذلك أن قضية اسم الذبيح ، التي كانت ثانوية في نظر الأوائل ، بدليل إهمال القرآن
التدقيق فيها ، وبدليل أن الغاية من الحادثة كانت بلاء إبراهيم وامتحان إيمانه ،
وهل يقدم على التضحية بولده – ولا عبرة في أي كان ذلك الولد – في طاعة الله هذه
القضية ، التي كانت ثانوية ، أول الأمر ،ثم غدت أساسية ، وافرة الخطر ، إذ أقيم
منها أصل من أصول المفاخرة بين العرب والفرس ؛ فغدا مهما جدا أن نعرف أي جد من
الجدين اختار الله للتضحية . وإذا بالعراك يغتذي بموضوع جديد ، فيشدد الحزب العربي
في الاحتجاج لإسماعيل . ويستغرب الحزب الفارسي والشعوبي هذا القول المحدث . وأن في
ما أورده المسعودي لتمثيلاً حيا لبعض مشاهد العراك في الموضوع الذي يهمنا .
قال المسعودي : وقد افتخر بعض أبناء الفرس بعد التسعين والمائتين (903) بجده إسحاق
بن إبراهيم الخليل على ولد إسماعيل بأن الذبيح كان إسحاق دون إسماعيل . فقال في
كلمة له : أيا بني هاجر ، أبنت لكم : ما هذه الكبرياء والعظمة ؟ ألم تكن في القديم
أمكم لأمنا سارة الجمال أمه ؟ والملك فينا ، والأنبياء لنا إن تنكروا ذاك ، توجدوا
ظلمه ، إسحاق كان الذبيح قد اجمع الناس عليه ؛ إلا ادعاء لمه ، حتى إذا ما محمد
أظهر الدين ، وجلى بنوره الظلمة ، قلتم : "قريش !"، والفخر في الدين لا الأحساب ؛
إن كنتم بنيه ، فمه! (مروج الذهب 282:1)
فرد عليه ابن المعتز واتخذ الموضوع من ثم طابعاً قومياً ، فاشتد النقاش والجدل بين
أرباب الحديث والمفسرين : بعضهم يميل إلي إسماعيل ، وبعضهم إلى اسحق . وكان من
"الإسحاقيين" ، وبالإضافة إلى القدامى الذين لم يخطر على بالهم إمكان النزاع في هذا
الموضوع ، ابن قتيبة ، والطبري . على أن الأكثرية، ابتداء من العصر العباسي ، كانت
في حيز إسماعيل . وظل بعضهم على تردد بين الاثنين ، لا يجزمون ، كما فعل الجاحظ في
الكلام على الطاعة والمطاوعة ، إذ قال : "وقد أمر الله تعالى إبراهيم ، عليه الصلاة
والسلام ، بذبح إسحاق أو إسماعيل ، عليهما الصلاة والسلام . فأطاع الوالد ، وطاوع
الولد " (الحيوان 163:1)، وذلك حتى القرن السادس عشر كما ينتج من تفسير الجلالين
الآية 107 من سورة "الصافات" : "وفديناه بذبح عظيم" قال : "وفديناه" ، أي المأمور
بذبحه ، وهو إسمعيل أو إسحق . قولان". على أن الأكثرية أصبحت في حيز إسماعيل على
عهد النووي، قال في كتابه "التهذيب" :اختلف العلماء ، رحمهم الله ، في الذبيح هل هو
إسماعيل أو إسحاق عليهما السلام ، والأكثرون على أنه إسماعيل (عم
أما قضية الذبيح من هو؟ إسماعيل أم إسحاق ؟
فلنتركها للكتاب المسلمين فان لهم فيها رأي ولنضف كلاما لابن خلدون برهن فيه أن
الذبيح إسحاق ، مستندا إلى فضيلة البشارة في تعيين الولد المختار من الله.
قال:"الراجح أنه اسحق لأن نص القرآن يقتضي أن الذبيح هو المبشر به، ولم يبشر
إبراهيم بولد ، إلا من زوجته سارة ، وإن البشارة كانت قبل هاجر ، أي قبل دخوله مصر
. فإن سارة أخذت هاجر من مصر ، وقدمتها لإبراهيم ، بعد البشارة بعشر سنين . فالمبشر
به ، قبل ذلك ، هو ابن سارة ، فهو الذبيح بهذه الدلالة القاطعة ."
أن الذبيح هو إسحاق قال الحاكم في ج 2 ص 555 ثم روى الحاكم عدة رواياتٍ في أن
الذبيح هو إسحاق ، وأنه هو الذي يشفع للموحدين ! ولم يذكر فيها شيئاً عن شفاعة
نبينا صلى الله عليه وعلي آله وسلم وصحح بعضها أيضاً على شرط الشيخين ! قال في ج 2
ص 557، وفي ص 559
حدثنا إسمعيل بن الفضل بن محمد الشعراني ، ثنا جدي ، ثنا سنيد بن داود ، ثنا حجاج
بن محمد ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الاَحوص ، عن عبد الله قال عبد الله قال
: الذبيح إسحاق . هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
عن أبي الزبير ، عن جابر رضي الله عنه قال : لما رأى إبراهيم في المنام أن يذبح
إسحاق أخذ بيده . فذكره بطوله . . . قال الحاكم : وقد ذكره الواقدي بأسانيده، وهذا
القول عن أبي هريرة ، وعبد الله بن سلام، وعمير بن قتادة الليثي ، وعثمان بن عفان ،
وأبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، والله
أعلم عن وهب بن منبه قال : حديث إسحاق حين أمر الله إبراهيم أن يذبحه : وهب الله
لإبراهيم إسحاق في الليلة التي فارقته الملائكة ، فلما كان ابن سبع أوحى الله إلى
إبراهيم أن يذبحه ويجعله قرباناً ، وكان القربان يومئذٍ يتقبل ويرفع ، فكتم إبراهيم
ذلك إسحاق وجميع الناس وأسرَّه إلى خليل له ، فقال ألعازر الصديق وهو أول من آمن
بإبراهيم وقوله ، فقال له الصديق : إن الله لا يبتلي بمثل هذا مثلك ولكنه يريد أن
يجربك ويختبرك ، فلا تسوءن بالله ظنك ، فإن الله يجعلك للناس إماماً ولا حول ولا
قوة لإبراهيم وإسحاق إلا بالله الرحمن الرحيم . فذكر وهب حديثا طويلاً إلى أن قال
وهب : وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : لقد سبق إسحاق الناس إلى دعوة
ما سبقها إليه أحد ! ويقومن يوم القيامة فليشفعن لأهل هذه الدعوة ، وأقبل الله على
إبراهيم في ذلك المقام فقال :اسمع مني يا إبراهيم أصدق الصادقين . وقال لإسحاق :
اسمع مني يا أصبر الصابرين، فإني قد ابتليتكما اليوم ببلاءٍ عظيمٍ لم أبتل به أحداً
من خلقي ، ابتليتك يا إبراهيم بالحريق فصبر صبراً لم يصبر مثله أحد من العالمين ،
وابتليتك بالجهاد فيَّ وأنت وحيدٌ وضعيفٌ فصدقت وصبرت صبراً وصدقاً لم يصدق مثله
أحد من العالمين ، وابتليتك يا إسحاق بالذبح فلم تبخل بنفسك ولم تعظم ذلك في طاعة
أبيك ، ورأيت ذلك هنيئاً صغيراً في الله كما يرجو من أحسن ثوابه ويسر به حسن لقائه
، وإني أعاهدكما اليوم عهداً لا احبسن به : أما أنت يا إبراهيم فقد وجبت لك الجنة
عليَّ فأنت خليلي من بين أهل الأرض دون رجال العالمين ، وهي فضيلة لم ينلها أحد
قبلك ولا أحد بعدك ، فخرَّ إبراهيم ساجداً تعظيماً لما سمع من قول الله متشكراً لله
. وأما أنت يا إسحاق فتمنَّ عليَّ بما شئت ، وسلني واحتكم ، آوتك سؤلك . قال :
أسألك يا إلَهي أن تصطفيني لنفسك ، وأن تشفعني في عبادك الموحدين ، فلا يلقاك عبدٌ
لا يشرك بك شيئاً إلا أجرته من النار . قال له ربه : أوجبت لك ما سألت وضمنت لك
ولأبيك ما وعدتكما على نفسي ، وعداً لا أخلفه ، وعهداً لا أحبسن به ، وعطاء هنيئاً
ليس بمردود
يبقى السؤال : من أين جاء هذان الاِتجاهان في
المسألة ! أما البخاري فقد تهرب في صحيحه من تعيين الذبيح ولكنه اختار في تاريخه
أنه إسحاق وليس إسماعيل رغم وجود عدة روايات صحيحة على شرطه تقول إنه إسماعيل ومن
البعيد جداً أنه لم يرها ! وقال عبد الرزاق في تفسيره ج 2 ص 123 عن الزهري عن
القاسم بن محمد في قوله : إني أرى في المنام أني أذبحك ، قال : اجتمع أبو هريرة
وكعب فجعل أبو هريرة يحدث كعباً عن النبي (ص) وجعل كعب يحدث أبا هريرة عن الكتب ! !
فقال : أبو هريرة قال النبي (ص) : إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني خبأت دعوتي شفاعة
لأمتي يوم القيامة فقال له كعب : أنت سمعت هذا من رسول الله ! قال نعم . قال كعب :
فداه أبي وأمي أفلا أخبرك عن إبراهيم إنه لما رأى ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان : إن
لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهما أبدا فخرج إبراهيم بابنه ليذبحه فذهب الشيطان
فدخل على سارة فقال : أين ذهب إبراهيم بابنك قالت : غدا به لبعض حاجته فقال : إنه
لم يغد به لحاجة إنما ذهب ليذبحه . قالت : ولم يذبحه ! قال: يزعم أن ربه أمره بذلك
! قالت : فقد أحسن أن يطيع ربه في ذلك فخرج الشيطان في أثرهما فقال للغلام أين يذهب
بك أبوك قال لحاجته قال إنما يذهب بك ليذبحك ! قال لم يذبحني قال يزعم أن ربه أمره
بذلك ! قال والله لئن كان أمره بذلك ليفعلن . قال فتركه ولحق بإبراهيم فقال: أين
غدوت بابنك فقال لحاجة قال : فإنك لم تغد به لحاجة إنما غدوت لتذبحنه ! قال ولم
أذبحه قال تزعم أن ربك أمرك بذلك ! قال : فوالله لئن كان أمرني بذلك لأفعلن . قال :
فتركه ويئس أن يطاع. انتهى
وروى الطبري في تاريخه ج 1 ص 187 رواية معاوية وعدة روايات عن كعب الأحبار في أن
الذبيح إسحاق ، ومنها رواية عبد الرزاق بألفاظ مشابهة وزاد فيها : فلما أخذ إبراهيم
إسحاق ليذبحه وسلم إسحاق أعفاه الله وفداه بذبح عظيم قال إبراهيم لإسحاق قم أي بني
فإن الله قد أعفاك فأوحى الله إلى إسحاق إني أعطيك دعوة أستجيب لك فيها قال إسحاق :
اللهم فإني أدعوك أن تستجيب لي أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئاً
فأدخله الجنة . انتهى . وبذلك يقول لنا كعب : إن الذبيح هو إسحاق جد اليهود وليس جد
العرب ، ثم إنكم تزعمون أن محمداً يشفع في الموحدين، وقد سبقه إلى ذلك إسحاق فلم
يبق معنى لشفاعة نبيكم ! وقال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 282
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه
والبيهقي في شعب الإيمان عن كعب رضي الله عنه أنه قال لأبي هريرة : ألا أخبرك عن
إسحاق قال بلى قال : لما رأى إبراهيم أن يذبح إسحاق . . . وذكر شفاعة إسحاق
للموحدين بنحو رواية الطبري المتقدمة !الدر المنثور ج 5 ص 282
المراجع:
سفر التكوين ، ترجمة الآباء اليسوعيين
القرآن ، مع التفاسير ولا سيما تفسير الجلالين ، مصر 1952
البخاري : كتاب الصحيح : باب الأنبياء .
الطبري : كتاب الرسل والملوك ، طبعة ليدن ، الجزء الأول .
الجاحظ : كتاب الحيوان ، طبعة هارون ، الأجزاء 1 و 4 و 7
- : البيان والتبيين ، طبعة هارون ، الجزءان 1 و 3
- : التربيع والتدوير ، طبعة Pellat ، دمشق 1955
ديوان الفرزدق ، طبعة الصاوي ، مصر 1936
محمد بن سلام : طبقات الشعراء (Hell) ، ليدن 1916
ابن قتيبة : الشعر والشعراء (de Goeje) ، ليدن 1902، المعارف ، مصر 1952 هـ
الجاحظ : الحيوان ، طبعة هارون ، الجزء الأول ، مصر 1938
ابن عبد ربه : العقد الفريد ، طبعة أمين ، والزين ، والأبياري ، مصر 1940 ، الجزءان
2 و3
ابن عبد ربه : العقد الفريد ، طبعة أحمد أمين … ، الأجزاء 1 و 3 و 4 و 5 و 6
المسعودي : مروج الذهب (Pellat) ، الجزء الأول ، بيروت 1966
الثعلبي : قصص الأنبياء ، مصر 1312 هـ
الكسائي : قصص الأنبياء ، ليدن 1922
ابن خلدون : المقدمة ، طبعة بيروت 1956
قطب الدين النهروالي : كتاب الإعلام بأعلام بيت الله الحرام (Wüstenfeld) ، غوتنغن
1857
R. BLACHÉRE, Le Coran, 3 V., Paris, 1948-1951.
D. SIDERSKY, Les Origines des légendes musulmanes dans le Coran et dans les Vies
des
Prophètes, Paris, 1933.
J. EISENBERG, Ishák, in Encyclop. De l’Islam¹ , IV, 1973.
الترجمة العربية مع تعليقات عبد الوهاب النجار .
W. MOTGOMERY WATT, Ishák, in Encyclop. De l”Islam², IV, 1973.
- الدينوري : الأخبار الطوال ، مصر 1330هـ .
- المسعودي : مروج الذهب ، طبعة Pellat ، الجزءان الأول
والثاني ، بيروت 1966
- ابن العبري : تاريخ مختصر الدول ، طبعة صالحاني ، بيروت
1890
- الثعلبي : قصص الأنبياء ، القاهرة 1339 هـ .
- الكسائي : قصص الأنبياء ، ليدن 1922
- الأزرقي : أخبار مكة ، طبعة Wustenfeld ، غوتنغن 1858
-
-
- R. BLACHÉRE, Le Coran, 3 vol., Paris, 194
- 8-1951.
A. GEIGER, Judaïsm and Islam², New York, 1970.
E. BECK, Die Gestalt des Abraham am Wendepunkt der Entwicklung Muhammeds, in Le
Muséon,
LXV (1952).
G. WEIL, Biblische Legenden der Muselmänner, Frankfort, 1845.
D. SIDERSKY, Les origines des légendes musulmanes dans le Coran et dans les Vies
des
Prophétes, Paris, 1933.
MICHEL HAYEK, Le Mystére d’Ismaël, Paris, 1964.
A.J. WENSINCK, Ismãîl, in Encyclop. De I’Islam1.
18th. PARET, Mohamad und der Koran², IV, Stuttgart, 1966.
_ , Ismêîl, in Encyclop. De l’Islam², IV, 1978.