2-أول
جمع للقرآن في عهد أبي بكر إذا كان محمد قد ترك بالفعل
نصا كاملا و مجموعا كما يزعم العلماء
المسلمون (عبد القادر عبد الصمد مثلا‚ انظر
الفصل 6) فلماذا كانت هناك حاجة إلى جمعه بعد
وفاته؟ لقد كان فعلا من المنطقي أن لا تبدأ
عملية الجمع إلا بعد أن تنتهي الرسالة بموت
الرسول. الرواية الشائعة حول جمع القرآن في
أول الأمر تنسب هذا العمل إلى زيد بن ثابت
الذي كان من بين الصحابة الذين كانت لهم دراية
عميقة بالقرآن. سنرى فيما بعد أن هناك أدلة
كثيرة على أن صحابة آخرون قاموا هم كذلك بجمع
القرآن في المصاحف بشكل مستقل عن زيد و ذلك
بعد وفاة محمد بفترة وجيزة لكن المشروع
الأكثر أهمية هو ذلك الذي قام به زيد لأنه تم
بأمر رسمي من أبي بكر أول خليفة في الإسلام.
كتب الحديث النبوي أعطت أهمية بالغة لهذا
الجمع الذي قام به زيد بن ثابت و النص الذي نتج
عنه هو الذي أصبح ذا طابع رسمي في خلافة عثمان. بعد وفاة محمد مباشرة ارتدت
بعض القبائل العربية عن الإسلام بعدما كانت
قد اعتنقته منذ مدة قصيرة. على إثر هذا اضطر
أبو بكر إلى إرسال جيش مكون من أوائل المسلمين
لإخضاعها. فقامت معركة اليمامة التي سقط فيها
عدد من صحابة محمد الأقربون الذين أخذوا
القرآن مباشرة من عنده. الحديث التالي يصف لنا
ما حدث بُعيد هذه الأحداث: "حدثنا موسى بن إسماعيل عن
إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن عبيد بن
السباق أن زيد بن ثابت رضي اللهم عنهم قال
أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر
بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي اللهم عنهم إن
عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة
بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل
بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني
أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر كيف تفعل
شيئا لم يفعله رسول الله صلى اللهم عليه وسلم
قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني
حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى
عمر قال زيد قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا
نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى
اللهم عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فوالله
لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي
مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلون
شيئا لم يفعله رسول الله صلى اللهم عليه وسلم
قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى
شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر
رضي اللهم عنهمما فتتبعت القرآن أجمعه من
العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر
سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها
مع أحد غيره ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز
عليه ما عنتم ) حتى خاتمة براءة فكانت الصحف
عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته
ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللهم عنهم" (صحيح البخاري-كتاب فضائل
القرآن-4603 باب جمع القرآن-) {نفس الحديث نجده
مكررا في كتاب الأحكام رقم 6654 و في كتاب تفسير
القرآن رقم 4311} انتهى الأمر بزيد بن ثابت إلى
قبول الفكرة مبدئيا بعد إقناع أبي بكر و عمر
إياه بضرورة الأمر و قبل أن يجمع القرآن في
كتاب واحد. يتضح جليا من خلال هذه الرواية أن
جمع القرآن كان أمرا لم يقم به "رسول
الله". إن تردد زيد إزاء المهمة التي
أسندت إليه كان سببه من جهة كون محمد نفسه لم
يهتم بجمع القرآن و من جهة أخرى ضخامة المشروع.
هذا ما يظهر أن المهمة لم تكن بالسهلة بتاتا.
فإذا كان زيد يحفظ القرآن جيدا و يعرفه بأكمله
عن ظهر قلب و لا يجهل أي جزء منه و إذا كان عدد
من الصحابة يتوفرون كذلك على مقدرة هائلة في
مجال الحفظ والإستظهار فإن عملية جمع القرآن
لن تكون إلا سهلة {خلافا لما جاء في حديث
البخاري المذكور أعلاه}. فلم يكن على زيد إلا
أن يكتب ما كان يحفظ من القرآن في ذاكرته و
يطلب من الصحابة أن يضبطوا ما كتب. يزعم ديزاي
و بعض الكتاب الأخرون أن كل الحفاظ من أصحاب
محمد كانوا يعرفون القرآن بأكمله عن ظهلر قلب‚
كلمة كلمة و حرفا حرفا و ذهب ديزاي بعيدا في
مزاعمه حيث قال أن هذه القدرة الهائلة على حفظ
القرآن هي موهبة إلاهية : "إن قوة الذاكرة
ملكة وهبها الله للعرب لدرجة أنهم كانوا
يحفظون الألاف من أبيات الشعر ببالغ السهولة.
الإستعمال الكامل لهذه الموهبة هو ما مكن من
حفظ القرآن و صيانته من الضياع"(1)(Desai,
The Quraan Unimpeachable, p.25) يذهب بعد هذا إلى وصف استظهار
القرآن بأنه "قوة حفظ ذات طبيعة إلهية".
النتيجة المنطقية لهذا الزعم هي أن جمع
القرآن كان من أسهل الأمور. فإذا كان زيد و
القراء الأخرون يعرفون القرآن بكامله حتى أخر
كلمة منه بدون أي غلط أو نقصان و برعاية
ربانية <هذا مزعم العلماء المسلمين> فمن
غير المعقول أن نجده <أي زيد> يقوم بجمع
القرآن بالشكل الذي فعله. فعوض أن يعتمد فقط
على ذاكرته مباشرة نجده يبحث عن النصوص في
مختلف المصادر : "فتتبعت القرآن أجمعه من
العسب و اللخاف و صدور الرجال حتى وجدت أخر
سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها
مع أحد غيره ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز
عليه ما عنتم ) حتى خاتمة براءة فكانت الصحف
عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته
ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللهم عنهم" ( صحيح
البخاري-كتاب فضائل القرآن-4603 ) لقد رأينا سابقا أن القرآن كان
وقت وفاة محمد مفرقا بين ما كان في ذاكرة
الصحابة و ما كان مكتوبا على مختلف المواد
التي كانت تستعمل أنذاك في الكتابة. إلى هذه
المصادر لجأ الصحابي الشاب حين كان يُعِد
لجمع القرآن في مصحف واحد. المصدران
الرئيسيان من بين المصادر التي ذكرت هما "الرقاع"
و "صدور الرجال" (السيوطي - الإتقان في
علوم القرآن). لم يعتمد زيد على ذاكرة الناس
فقط بل اعتمد كذلك على ما كان مكتوبا أيً كانت
طريقة كتابته (اللخاف أي الحجارة الرقاق الخ..
) و التجأ إلى كثير من الصحابة و إلى جميع
المواد التي كانت أجزاء من القرآن مكتوبة
عليها. لم يكن هذا تصرف شخص يعتقد أن الله وهبه
ذاكرة خارقة للعادة يمكنه الإعتماد عليها
كليا في مهمته بل تصرف كاتب نبيه كان يريد جمع
القرآن من جميع المصادر الممكنة. كان هذا تصرف
رجل يعي كل الوعي أن النص القرآني كان متناثرا
في أماكن عدة لدرجة أنه وجب جمع كل ما أمكن
جمعه من أجل الحصول قدر المستطاع على نص كامل
نسبيا. يقول الحارث المحاسبي في كتاب
"فهم السنن" إن محمدا كان يأمر بكتابة
القرآن و لذلك حين أمر أبو بكر بجمع القرآن في
مصحف واحد وُجِدت المواد التي كان مكتوبا
عليها "في دار رسول الله التي نزل فيها" (السيوطي‚
الإتقان) فجُمِعت و حُدِّدت لكي لا يضيع منها
شيء. لكن يتضح من خلال ما دُوِّن في إطار
الحديث النبوي أن زيدا قام ببحث واسع النطاق
عن هذه المواد التي كتبت عليها أجزاء من
القرآن. ديزاي يجاحد قائلا إن البحث الذي قام
به زيد كان مقتصرا على المواد التي كُتب عليها
القرآن "بين يدي رسول الله" لأن زيدا كان
هو الصحابي الوحيد الذي أتيحت له الفرصة لكي
يكون جنب محمد حين جاءه جبريل و رتل معه
القرآن آخر مرة (Desai, The Quraan Unimpeachable, p.18) يضيف
ديزاي أنه رغم وجود نصوص قرآنية أخرى في تلك
الفترة فهي كانت لم تكن تتوفر على مصداقية
كاملة لأنها لم تكتب تحت الإشراف المباشر
لمحمد لكن كتبت من طرف أصحابه الذين اعتمدوا
في ذلك على ما استطاعوا حفظه في ذاكراتهم.
يمتنع ديزاي عن إعطاء أية دلائل أو نصوص من أي
نوع كانت و لا يُرينا المصادر التي اعتمد
عليها في البرهنة على مزاعمه و التي من
المفروض أن تكون من أقدم ما دُوِّن من التراث
الإسلامي. في الواقع كون القرآن عُرض مرتين في
آخر المطاف كان سرا لم يبح به محمد سوى لابنته
فاطمة الزهراء ( صحيح البخاري-كتاب فضائل
القرآن) {قال مسروق عن عائشة عن فاطمة عليها
السلام أسر إلي النبي صلى اللهم عليه وسلم أن
جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وإنه
عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي} فكيف أمكن أن يكون هذا سرا إذا
كان زيد بن ثابت حاضرا في هذه المناسبة؟ في نفس السياق نعرف من خلال
أقدم ما دُوِّن حول جمع القرآن في خلافة أبي
بكر أنه لم يكن هناك أي تمييز بين ما كتب من
القرآن تحت إمرة محمد أو غيره من المصادر و لا
شيء يوحي بأن زيدا اعتمد على الأول دون الثاني.
كما سنرى لاحقا هذه تفاسير حديثة العهد نسبيا
الغرض منها التأكيد على أن القرآن جمع في ظروف
مثالية لكنها لا ترتكز على أية نصوص قديمة و
أصيلة للبرهنة على مزاعمها. {حدثنا عبيدالله بن موسى عن
إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال لما نزلت (
لا يستوي القاعدون من المؤمنين ) ( والمجاهدون
في سبيل الله ) قال النبي صلى اللهم عليه وسلم
ادع لي زيدا وليجئ باللوح والدواة والكتف أو
الكتف والدواة ثم قال اكتب ( لا يستوي
القاعدون ) وخلف ظهر النبي صلى اللهم عليه
وسلم عمرو بن أم مكتوم الأعمى قال يا رسول
الله فما تأمرني فإني رجل ضرير البصر فنزلت
مكانها (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) (
والمجاهدون في سبيل الله ) ( غير أولي الضرر )} لكن لا شيء يؤكد أن القرآن كان
مجموعا بأكمله في بيته. هناك أيضا روايات
عديدة في كتاب المصاحف لابن أبي داود تشير إلى
أن أبا بكر كان أول من قام بتدوين القرآن نذكر
من بينها : "سمعت عليا يقول: أعظم الناس في
المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر،
هو أول من جمع كتاب الله". هنا أيضا نجد أدلة
قوية على أن أشخاصا آخرين سبقوا أبا بكر لجمع
القرآن في مصحف واحد : "عن بن بريدة قال : أول من
جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حديفة" (السيوطي
- الإتقان في علوم القرآن). سالم هذا كان من بين
أربعة رجال أمر محمد أصحابه أن يأخذوا القرآن
عنهم (صحيح البخاري-كتاب فضائل القرآن 4615 و
كتاب المناقب 3524) و>{ حدثنا حفص بن عمر حدثنا
شعبة عن عمرو عن إبراهيم عن مسروق ذكر عبدالله
بن عمرو عبدالله بن مسعود فقال لا أزال أحبه
سمعت النبي صلى اللهم عليه وسلم يقول خذوا
القرآن من أربعة من عبدالله بن مسعود وسالم
ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب} كان من القرأء الذين
قتلوا في معركة اليمامة. بما أن أبا بكر لم
يأمر بجمع القرآن إلا بعد هذه المعركة فمن
البديهي إذا أن سالما سبق زيد بن ثابت لجمع
القرآن. (1) {The faculty of
memory which was divinely bestowed to the Arabs, was so profound that they were
able to memorize thousands of verses of poetry with relative ease. Thorough use
was thus made of the faculty of memory in the preservation of the Qur'aan.}
أقدم الروايات في الإسلام تبين لنا بوضوح أن
زيدا قام ببحث على نطاق واسع بينما نجد أن
علماء متأخرين زعموا أنه اعتمد على ما دُون
كتابيا على مختلف المواد -عظام الحيوانات‚الرقاع‚جلود
الحيوانات الخ..- التي كانت محفوظة في بيت محمد.
زعموا أن زيدا لم يفعل شيئا أكثر من جمعه لهذه
النصوص من أجل الإحتفاظ بها في موضع واحد.
هناك حكايات مفادها أنه كلما نزل شيء من
القرآن كان محمد يطلب من كتابه و من بينهم زيد
أن يكتبوه ( صحيح البخاري-كتاب فضائل القرآن
4606 على سبيل المثال)