4-الآيات التي فقدت ثم وجدت عند أبي خزيمة الأنصاري.
قبل أن نسدل الستار عن بحثنا حول جمع القرآن في عهد أبي بكر ارتئينا أنه من المفيد تحليل ما ذكره زيد بخصوص آيتين قال أنه لم يجدهما إلا عند أبي خزيمة الأنصاري. نص الحديث هو كالتالي :
"... حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِي اللَّهم عَنْهم"
(صحيح البخاري-كتاب فضائل القرآن-4603 باب جمع القرآن-) {نفس الحديث نجده مكررا في كتاب الأحكام رقم 6654 و في كتاب تفسير القرآن رقم 4311}
يتبين من خلال هذا الحديث أن زيد بن ثابث اعتمد بخصوص الآيتين الأخيرتين من سورة التوبة على مصدر واحد فقط لأن لا أحد غير أبي خزيمة كان على دراية بهما ولو لم يكن الأمر كذلك لفقدتا من القرآن. فمن المستبعد إذن أن يكون كثير من الحفاظ قد علموا جميع القرآن إلى آخر حرف منه لأنه كان متناثرا لدرجة أن بعض المقاطع لم يكن يعرفها إلا القليل من الصحابة و في الحالة التي نحن بصددها كان هناك شاهد واحد عليها فقط -أبي خُزيمة الأنصاري-
إن التأويل الطبيعي لهذه الرواية يحطم الشعور السائد في الأوساط الإسلامية الذي مفاده أن القرآن بقي مصونا محفوظا لأن محتواه كان شائعا بين الصحابة الذين لم يبخلوا بجهدهم لحفظه. تفسير ديزاي لهذه الرواية يستخلص من المقطع التالي من كتيبه "The Quraan Unimpeachable" :
"يتضح جليا مما قاله حضرة زيد أن من بين الصحابة الذين كتبوا القرآن بين يدي رسول الله كان أبو خزيمة الأنصاري الوحيد الذي وُجِدت عنده الآيتين الأخيرتين من سورة براءة" (ص 20)
نرى هنا أن ديزاي يدعي أن قولة زيد تعني أن أبا خزيمة كان فقط الوحيد الذي أتيحت له فرصة كتابة الآيتين تحت الإشراف المباشر لمحمد على الرغم من أن الحديث كما دَوَّنه البخاري لا يشير بتاتا إلى شيء من هذا القبيل. يضيف ديزاي :
"لم يكن هناك أدنى شك أن الآيتين كانتا من ضمن القرآن حيث كان مئات الصحابة يحفظونهما. زيادة على هذا فقد كانتا مكتوبتين عند كل الصحابة الذين كانوا يحفظون القرآن بأجمعه لكن خلافا لأبي خزيمة لم يكتبوهما بين يدي رسول الله صلعم" (ص 21)
لم يُحَمِّل مولانا نفسه عبء تقديم أية أدلة على مزاعمه هذه. بالتأكيد لا توجد أية روايات من الحديث توحي بأن مئات من الصحابة كانوا يعرفون هاتين الآيتين و أن بعضهم أتيحت له فرصة كتابتهما عبرالنقل الغير المباشر و أن أبا خزيمة كان الوحيد من بين من كتبهما بعد أن تلقاهما بغير واسطة أي من عند محمد مباشرة. امتناع ديزاي عن تقديم أدلة أو نصوص تؤكد مزاعمه أمر له مغزى عميق.
في مقال له نُشر في مجلة البلاغ يزعم الصديق هو كذلك أن زيدا حين قال "لم أجد آية كذا.." كان يعني في واقع الأمر أنه لم يجدها مكتوبة. كما قيل سابقا ليس في نص الحديث ما يبرر تأويلا من هذا النوع. فما هو إذا المصدر الذي استوحى منه هؤلاء العلماء النوابغ مواقفهم؟ للجواب عن هذا السؤال يجب الرجوع إلى مقطع من كتاب "فتح الباري في شرح البخاري" لابن حجر العسقلاني :
"قوله: (لم أجدها مع أحد غيره) أي مكتوبة لما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة. ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان زيد يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة" (فتح الباري المجلد 9 كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن)
المصدر الذي استُنبطت منه هذه المواقف لا يعتبر من أقدم المصادر الثي تحدثت عن موضوع جمع القرآن إذ لا يعد إلا تفسيرا لصحيح البخاري ألفه في زمن متأخر نسبيا العلامة المشهور بن حجر العسقلاني الذي عاش بين سنة 773 ه (1372 م) و سنة 852 ه (1451 م). هذا التأويل الخاص لقولة زيد يفصله إذن ما لا يقل على ثمانية قرون عن زمن محمد حيث أنه منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا أصبحت الفكرة السائدة في الأوساط الإسلامية هي أن الصحابة كانوا يحفظون القرآن بأكمله و لا يجهلون أي جزء منه. فالأمر إذن يتعلق فقط بتأويل مريح الغرض منه إثبات فرضية حديثة العهد نسبيا. لكن مع الأسف ليس في نص الحديث ذاته ما يدعم هذا التأويل. يضيف بن حجر : "ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها كما تذكرها زيد" (نفس المرجع)
في الوقت الذي يعلن فيه ديزاي بجرأة لا مثيل لها أن الآيتين الأخيرتين من سورة التوبة كانتا "بدون أدنى شك" ضمن القرآن و أنهما كانتا معروفتين لدى المئات من الصحابة عن طريق الحفظ و أن صحابة آخرين ذهبوا إلى حد كتابتهما‚ في الوقت نفسه نجد أن النص الذي يستشهد به لا يذهب أبعد من القول بأنه من المحتمل أن يكون زيد حين أخذ الآيتين من أبي خزيمة قد أعطى الفرصة للصحابة الآخرين أن يتذكروا سماعهما من قبل و هذا هو المقصود من عبارة "لعلهم". بدون أدنى حشمة يُحَول ديزاي اقتراحا مليئا بالحذر مفاده أن صحابة آخرين من المحتمل أن يكونوا قد تذكروا سماع الآيتين من قبل إلى إعلان أنهما كانتا معروفتين عند مئات الصحابة "بدون أدنى شك".
يتضح لنا إذن أن العلماء المسلمين الحديثين يبذلون كل جهدهم لإثبات فرضية غالية على قلوبهم -كمال القرآن الغير قابل للمناقشة- عوض تقديم الأدلة الموضوعية كما تتضح من خلال المصادر الإسلامية القديمة. بالرغم من أن المصدر الذي اعتمد عليه ديزاي ينتمي إلى حقبة تارخية حديثة نسبيا إلا أنه لا يستطيع مقاومة اندفاعاته ليجعل منه ادعاء يهم الوقائع و ليس فقط الفرضيات و التآويل. يضيف بن حجر في نفس الصفحة :
"وحكى ابن التين عن الداودي قال: لم يتفرد بها أبو خزيمة بل شاركه زيد ابن ثابت فعلى هذا تثبت برجلين"(نفس المرجع)
و هذا ما يدل على أن بعض العلماء الآخرين كانوا يعتقدون أن قولة زيد يجب أن تستعمل كبرهان على أن الآيتين لم تكونا مكتوبتين لهذا وجب أن تأخذ بمعناها الواضح و المباشر الذي يبين بجلاء أن الآيتين لم يكن يعرفهما أحد غير أبي خزيمة.
لقد جاء في كتاب المصاحف لابن أبي داود ما يُفَنِّد مزاعم هؤلاء العلماء :
"فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني رأيتكم تركتم آيتين فلم تكتبوهما. قالوا: وما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى آخر السورة، فقال عثمان: وأنا أشهد، فكيف ترى أن تجعلهما؟ قال: أختم بهما آخر ما نزل من القرآن "
هذه الرواية تشير إلى أن الحدث كان في زمن عثمان و ليس أثناء جمع القرآن في عهد أبي بكر لكن ليس هناك اختلاف جوهري مع الحدث الذي نحن بصدد مناقشته. ميزة هذه الرواية هي أنها تبرز بوضوح أن زيد و الصحابة الآخرون افتقدوا كليا هاتين الآيتين عند نسخ القرآن. في الواقع القول بأن زيدا وجدهما عند أبي خزيمة يعني أن هذا الأخير هو الذي أثار الإنتباه حول وجودهما ولولاه لما كانتا ضمن القرآن فبالتأكيد لم يعثر عليهما زيد على إثر البحث الذي قام به لجمع القرآن. يتضح كذلك من خلال النص المذكور أن أبا خزيمة سُأِل عن موضعهما داخل المصحف فاقترح أن يضافا إلى آخر ما نزل من الوحي يعني آخر سورة التوبة.
إذا سَلَّمْنا بحقيقة هذه الرواية بالإضافة إلى ما ورد من حديث البخاري وجب الإعتراف ببعض الحقائق التي لا مفر منها: فُقِدَت آيتين كليا و ما وجدتا إلا بمبادرة شخصية من أبي خزيمة الذي أوضح بنفس المناسبة موضعهما داخل المصحف. لذلك لا يمكن للعلماء المسلمين أن يتبثوا فرضيتهم القائلة بوجود عدد كبير من الصحابة كانوا يعرفون الآيتين إلا إذا جعلوا كلمة "تلقيت" تعني أن الطريقة التي تم بها توصيل الآيتين من محمد إلى أبي خزيمة كانت كتابية. لكن من المؤكد أن كلمة "تلقيت" عنى بها أبو خزيمة أنه أخد الآيتين مباشرة من عند محمد و ليس بالضرورة كتابيا. ما أراد قوله هو أنه لم يأخذهما من مصدر ثانوي بل من محمد نفسه إذ ليس هناك ما يبرر أن الصحابي تلقاهما من محمد بشكل كتابي.
هذه التآويل المريحة تنافي بشكل مكشوف ما جاء في الروايات المدونة. على سبيل المثال لو كان زيد يعرف الآيتين جيدا لما غفل عنهما و لما اضْطَرَّ أبو خزيمة لإثارة الإنتباه إلى وجودهما بعدما نُسِيَتا بالكامل. وجب هنا أن نطرح على العلماء المسلمين هذا السؤال : انطلاقا من التأويل الذي قمتم به هل يمكننا أن نعرف ما إذا كان زيد سيضيف هاتين الآيتين إلى القرآن لو لم يجدهما مكتوبتين بين يدي محمد على الرغم من أنهما كانتا معروفتين عند بعض الصحابة و مكتوبتين عند البعض الآخر دون أن يكون ذلك تحت الإشراف المباشر لمحمد؟
يتبين لنا من خلال هذا البحث أن المشروع الذي قام به زيد في عهد أبي بكر لم يكن سوى تجميعا لنصوص قرآنية من مصادر مختلفة كانت متناثرة داخلها. كنتيجة لهذه الحالة فُقِدت أجزاء من القرآن على إثر وفاة بعض القراء في معركة اليمامة و نجد في حالة أخرى أن جزء من القرآن لم يشهد عليه إلا شخص واحد (أبو خزيمة الأنصاري). قال زيد : "تتبعت القرآن أجمعه .. " معلنا بذلك أنه لم يكن يتوقع أن يجد القرآن بأكمله عند صحابي معين أو بشكل مكتوب في موضع واحد.
المصحف الذي جمعه زيد جاء كنتيجة لبحث موسع شمل ما كان يحفظه الصحابة و ما كان مكتوبا. اختلاف المصادر و تنوعها (الرقاع‚ اللخاف‚ صدور الرجال) لا يأيد فكرة أن القرآن الذي جُمع كان كاملا إلى أدنى نقطة أو حرف منه. الفرضية التي يطرحها العلماء المسلمون ما هي إلا نتيجة شعور مبني على رغبة مسبقة و ليس على الحقيقة و الواقع الذي يمكن استخلاصه من الإرث الإسلامي القديم.