مشكلة البشرية
إذا أردنا أن نلخِّص مشكلة البشرية في كلمة واحدة، فإن هذه الكلمة الواحدة ستكون هي “الخطية”.
والآن ماذا تعني كلمة “الخطية”؟
كثيرون يظنون أن الخطية لا تعني سوى الكبائر فقط، أو ما يسميه العالم جرائم، أما ما عدا ذلك فإن الناس يلتمسون - من جهته - لأنفسهم الأعذار، ويخففون من وقعه على ضمائرهم، بأن يسمونه "عيباً" أو "ضعفاً" أو "زلة". بل إن الإنسان حتى إذا اعترف بحدوث الخطية، فإنه عادة يجد لنفسه أو لغيره المبررات العديدة لها.
لكننا نجد في الكتاب المقدس فكراً مختلفاً تماماً عن ذلك.
إن كلمة “الخطية” - بحسب مفهوم الكتاب المقدس - كلمة هامة وخطيرة، ويمكننا أن نجد لها من كلمة الله تعريفين:
1) عدم إصابة الهدف
2) تجاوز الحد
التعريف الأول نفهمه من قول الوحي في قضاة20: 16 «هؤلاء يرمون الحجر بالمقلاع على الشعرة ولا يخطئون». فالخطية بحسب هذه الآية تعني عدم إصابة الهدف. أما المعنى الثاني، وهو مكمِّل للمعنى الأول، فهو ما نستنتجه من قول شاول الملك لصموئيل النبي «أخطأت لأني تعديت قول الرب» (1صموئيل15: 24)، فأن يتعدى الإنسان أقوال الله، متجاوزاً الحد المسموح به من قبل الله، فهذا - في نظر الوحي المقدس - خطية.
يمكن القول إن الخطية بحسب التعريف الأول سلبية: أن تحاول إصابة الهدف فتخطئه، هذه خطية. وعن هذا يقول الكتاب المقدس «الجميع أخطأوا وأعوزهم (come short) مجد الله» (رومية3: 23). وأما بحسب التعريف الثاني فإنها إيجابية: فأن تتعدى وتتجاوز الحد المسموح به، سواء بأسلوب عمدي أو لا إرادي، فأنت بذلك أخطأت. وعن هذا يقول الوحي المقدس: «الخطية هي التعدي» (1يوحنا3: 4).
وواضح، حتى في الحياة العادية، أنه يخطئ الهدف من لم يُصبه، ولا يُشترط أن تكون عدم إصابة الهدف بمسافة كبيرة أو صغيرة، ونفس الأمر يقال عن تجاوز الحد المسموح به. فإنك إن لم تُصب الهدف أو تجاوزت الحد، فأنت قد أخطأت، وهذا يكفي.
مما سبق فإننا نقول إنه لكي نفهم المعنى الكتابي لكلمة “الخطية” يلزمنا أولاً أن نعرف ما هو الهدف المطلوب منا أن نحققه، وما هي الحدود التي لا يجب أن نتجاوزها. ومن أين يمكننا معرفة هذا الأمر أو ذاك بدون الإعلان الإلهي؟ ولعل هذا هو سبب محاولة الشيطان إبعاد النفوس عن الكتاب المقدس، فبذلك يكون بوسعه أن يخدعهم كما يحلو له، كقول الرب له المجد لبعض اليهود في أيامه «أ ليس لهذا تضلون، إذ لا تعرفون الكتب؟» (مرقس12: 24).
ترى ما هو الهدف الذي كان مطلوباً منا أن نصيبه فأخطأناه؟ إنه مجد الله. فالله خلق الإنسان لمجده (إشعياء43: 7)، وكان ينبغي لنا إذ عرفنا الله أن نمجده (رومية1: 21)، بل بحسب إعلان الله لنا في العهد الجديد ينبغي أن يكون مجد الله هو المحرك لنا في كل أعمالنا، حتى الاعتيادية أو الضرورية «فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئاً، فافعلوا الكل لمجد الله» (1كورنثوس10: 31). لكن هذا بالطبع لم يحدث، إذ يسجل الوحي بصريح العبارة قائلاً:
«الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله» (رومية3: 23).
نعم «الجميع أخطأوا». تفكر في عمومية الخطية عند كل البشر. إنه لم ينجُ من لطخة الخطية شعب أو جنس أو حضارة. الفارق الوحيد بين قوم وقوم هو في مدى القدرة على المغالطة التي بها نُظهر حقيقة حالتنا. من أيام آدم وحتى اليوم جاء إلى العالم أكثر من 40 بليون من البشر. كم واحد منهم لم يخطيء؟ الإجابة القاطعة، من كتاب التاريخ وكتاب الوحي على السواء، هي أن الجميع أخطأوا.
كم من تصرفات، انحط فيها الإنسان إلى مستوى أقل من الحيوان! «في طرقهم اغتصاب وسحق، وطريق السلام لم يعرفوه، ليس خوف الله قدام عيونهم» (رومية3: 16-18). لقد قدّر البعض أن من هؤلاء الأربعين بليوناً من البشر الذي ولدوا في العالم، مات نحو ثلثهم مقتولين بأيدي بشر آخرين! والكثير منهم مات ميتات بشعة. ما أكثر من رُجم، أو أُحرق أو دُفن حياً، أو سُحل، أو مُثِّل بجثته! ثم ما أكثر الذين استيقظت ضمائرهم فلم يحتملوا ما عملوه هم بإخوتهم، فقتلوا أنفسهم منتحرين!
والآن انظر إلى بصمة الخطية الواضحة على البشر، فإنك تجدها في كل ما حولك: ستجدها بصورة مأساوية ومخيفة في أحياء المدن الفقيرة والمكتظة، وستجدها أيضاً بصورة محزنة ومؤسفة في الأحياء الراقية.
قم بزيارة إلى السجون والتقِ بمن فيها. استمع إلى ما عملوه في المجتمع وما عمله المجتمع فيهم! ألقِ نظرة خاطفة على الحانات والمراقص ودور الفجور ونوادي القمار، ثم على بيوت مرتادي هذه الأماكن، ومن فيها من نسوة بائسات، وأولاد تعساء، وأزواج أو آباء محطمين. هذه بعض نتائج الخطية المرة. بل إنك لن تحتاج إلى رحلة بعيدة كي ما تتبع آثار الخطية، فإنك ستجدها - إن كنت مخلصاً مع نفسك - داخل قلبك أنت، وقلب البشر المحيطين بك.
قال أحد الحكماء لكي يوضح استفحال الخطية في العالم: “إن السلطة التشريعية نَمَت لأن البشر لا يمكن أن يوثق فيهم لتسوية خلافاتهم بأمانة ونزاهة وحيدة. والكثير جداً مما نعايشه، ما كان ليحدث لولا تأصل الخطية في الطبيعة البشرية. فالوعد لم يعُد كافياً، بل أصبح العقد لازماً، والأبواب ما عادت كافيه بل أصبح يلزم لها ترابيس وأقفال، ودفع ثمن الرحلة ما عاد كافياً، بل أصبح يلزم قطع تذكرة، ومفتش لفحص التذاكر، وشخص آخر ليجمعها في نهاية الرحلة. القوانين والتعليمات لم تعد كافيه، بل يلزم وجود الشرطة لفرض القانون والنظام. هذه وأشياء أخرى كثيرة ما كان لها أي لزوم لولا الخطية. فنحن لا نقدر أن نثق في بعضنا البعض، بل نحتاج إلى حماية الواحد من صاحبه”.
ثم تفكر في أمر آخر وخطير، يصور لنا بصمة الخطية: أعني به الموت، عدو البشرية الأول، الموت الذي سرى على الجميع بدون استثناء. أ يمكنك أن تتتبع نهر الدموع التي سالت من العيون، وأن تحيط علماً بالنفوس التي تلوعت، والقلوب التي تحطمت علي مَر العصور بسبب الموت؟ أ يمكنك أن ترى ما نتج عن الحروب من ملايين القتلي والمشوهين، والأسرى والمجروحين، وكذا قدر الدمار والخراب لكل ما كان يوماً ينبض بالحياة؟ أ يمكنك أن تشاهد المرضى في كل زمان ومكان، والموت وهو يتسرب إلي أجسادهم ببطء لكن بثبات، والأحباء على مقربة منهم، لكنهم في موقف العجز الكامل عن مساعدتهم. أ يمكنك تستمع إلى أنين المطروحين وتأوهاتهم وصرخاتهم؟ إن هذه كلها هي بعض ثمرات الخطية المُرة!
آه من الخطية وذكرياتها المرعبة! كم أذلت! كم أضلت! كم حطمت! كم بددت! كم كسرت من قلوب، وأثارت من شجون!
لكن أنت - بعد كل هذا - لم تعرف من الخطية إلا مظاهرها الخارجية. لقد شاهدت بعضاً من أعراض المرض لا المرض ذاته، فالداء غائر في القلب، والضربة أعمق من الجلد!
لكنك حتى لو دخلت إلى القلوب لترى ما فعلته الخطية في بني البشر، فليس هذا هو الجزء الأهم في المسألة. فالخطية هي في المقام الأول ضد الله، وهي إهانة لمجده تعالى، كما قال داود النبي للرب «إليك وحدك أخطأت، والشر قدام عينيك صنعت» (مزمور51: 4).
هذا يقودنا إلى نقطة ثانية هامة قبل أن نفهم الفكر المسيحي للكفارة، أعني بها