العلاج الإلهي والعلاج البشري
لما لم تنجح محاولات آدم أن يستر نفسه، فقد تداخل الله بنفسه لعلاج الأمر. فواضح من قصة سفر التكوين أن ما فشل فيه آدم، عالجه الله بنفسه. فالله هو الذي قام بستر آدم وحواء، إذ لا تُختم قصة السقوط قبل أن نقرأ: «صنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما».
أرجو أن تلاحظ - عزيزي القارئ - أن الكتاب لم يقل إن الله خلق لآدم وامرأته أقمصة الجلد، مع أن ذلك كان في مقدوره طبعاً لو أراد، بل إن الوحي يقول إن الله صنع أقمصة الجلد. فكيف صنعها الله؟ ومن أين أتى الله بالجلد؟
يقيناً كان هناك حيوان ذُبح وسُلخ جلده. ولقد ذُبح ذلك الحيوان البريء الذي لم يفعل الخطية، بينما عفا الله عن آدم وحواء، لقد تعرى ذلك الحيوان من جلده، بينما كسا الله الرجل وامرأته بجلد هذه الذبيحة. ثم تقدم الرب بنفسه من الإنسان الخاطئ العاري لكي يستره بنفسه، ولكي يكسوه بجلد الذبيحة. فيا للنعمة التي تشع من هذه العبارة العجيبة «صنع الرب.. أقمصة... وألبسهما»!!
هذه هي أولى الإرهاصات في الكتاب المقدس عن الكفارة: الله ستر آدم وامرأته. والكفارة كما نعلم تعني الستر. يُقال “كفر الشيء” أي ستره وغطاه. ولم تكن تلك الذبيحة، التي قدمها الله في الجنة لعلاج خطية آدم وستر عريه، إلا رمزاً بسيطاً لعلاج الله العظيم للخطية، وفدائه الذي كان عتيداً أن يجريه لكل البشرية بذبح عظيم، كما سنشرح بعد قليل.
والآن قبل الاسترسال في موضوعنا، دعنا نلخص الدروس التي تعلمناها من خطية الإنسان الأول حسبما ورد في تكوين 3:
أولاً: حاجة الإنسان إلى الستر.
ثانياً: عدم استطاعة الإنسان أن يستر نفسه.
ثالثاً: قيام الرب بنفسه بستر الإنسان.
وكما عبّر الله عن نعمته مع أبوينا بسترهما بهذا العمل: سترهما بجلد الذبيحة، فإن قضاء الله أيضاً عبَّر عن نفسه، فطرد الله الإنسان من الجنة. ثم على باب الجنة وضع الله الكروبيم وسيف لهيب نار متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة. وكان على من يريد الاقتراب إلى الله أن يذهب إلى هذا المكان بذبيحة يقدمها عن نفسه، كما نفهم من الفصل التالي، أعني به الأصحاح الرابع من سفر التكوين، حيث نقرأ عن قصة أول ابنين وُلدا في العالم هما: قايين وهابيل.
يقدم لنا سفر التكوين الأصحاح الرابع أول شيء يحدث خارج الجنة، بعد سقوط الإنسان وطرده منها. وفيه نجد أول الإعلانات الإلهية للإنسان الساقط، عن أهم موضوعات الكتاب المقدس، ألا وهو: كيفية اقتراب الإنسان الخاطئ إلى الله. فهذا الفصل إذاً لا يقدم لنا فقط أول حادثة تاريخياً، بل أيضاً أولاها موضوعياً. ولأن هذا العمل تم بواسطة أخوين، كليهما وُلدا من نفس الأب ونفس الأم، ولأنهما يمثلان أول من اقترب إلى الله في التاريخ، وتقدماتهما تمثل أولى التقدمات التي قُدِّمت إلى الله، ولأن الله قبل قربان أحد الأخوين ورفض قربان الآخر، ورفع وجه أحد الأخوين ولم يرفع وجه الآخر، لهذا كله أصبحت لهذا الأصحاح أهمية كبرى عند كل شخص يريد أن يعرف كيفية الاقتراب إلى الله.
ومن المهم أن نلاحظ أن قايين لم يكن ملحداً أو كافراً لا يؤمن بوجود الله ولا يبالي بالاقتراب إليه، بل إنه، بحسب الكتاب المقدس، كان أول من اقترب إلى الله خارج الجنة. مشكلة قايين أنه رغم إيمانه بوجود الله فإنه لم يعرف الله ولا عرف طبيعته، لذلك فبينما اقترب هابيل إلى الله بالذبيحة، فقد اقترب قايين إلى الله بقربان من أثمار الأرض.
يقول لنا كاتب العبرانيين إن هابيل بالإيمان قدّم لله ذبيحة أفضل من قايين (عبرانيين11: 4). وعندما يقول إن هابيل قدّم ذبيحته بالإيمان، فهذا يدل على أنه كان هناك إعلان من الله، تلقَّاه هابيل، عن الطريق المقبول عند الله. أما قايين فعلى العكس من ذلك اتبع طريق التفكير لا طريق الإعلان، الطريق البشري لا الطريق الإلهي. وواضح أنه كما علت السماء عن الأرض هكذا علت طرق الرب عن طرقنا، وأفكار الرب عن أفكارنا (إشعياء55: 8،9). وقايين، بقربانه الذي قدّمه للرب، كأنه قال: ها أنا عملت أفضل ما بوسعي. ومع أن الثمار التي أتيت بها هي نتاج أرض ملعونة، لكن اللعنة لم آت أنا بها، بل جلبها الله عقاباً على خطية أبي، أما أنا فبعرقي قدّمت إلى الله أفضل ما لديَّ، وفي هذا كل الكفاية.
فماذا كانت النتيجة؟ لقد نظر الله إلى هابيل وقربانه، وأما إلى قايين وقربانه فلم ينظر. لقد تجاهل قايين اللعنة والسقوط، كما احتقر النعمة التي أظهرها الله عندما وعد بالخلاص، ورمز له، ورسم الطريق لإعادة العلاقة بينه وبين الإنسان الخاطئ. لقد اقترب قايين إلى الله على مبدأ الأعمال، بعكس هابيل الذي أقر بخطيته وبحاجته إلى الكفارة، فأتى محتمياً في الذبيحة، فقبله الله بينما رفض قايين، كما نصحه أن يُحْسن الطريق (أي أن يقترب إليه بالذبيحة) كي ما يقبله.
وكما ذكرنا قبلاً عن محاولة آدم وحواء تغطية عريهما بأوراق التين في تكوين3، ثم محاولة قايين هنا الاقتراب إلى الله بأثمار الأرض في تكوين4، كانتا هما أولى محاولات البشر لعلاج الخطية بالأعمال. وكل ممارسات الإنسان الدينية فيما بعد من طقوس متنوعة وفرائض مختلفة، وكل محاولات إرضاء الله بالأعمال، إنما هي إعادة المحاولة لستر العورة بورق التين، والاقتراب إلى الله بأثمار الأرض الملعونة، فمن الجانب الواحد لن تنفع صاحبها، ومن الجانب الآخر لن ترضي الله. وبالتالي فلا قيمة لها ولا جدوى منها على الإطلاق.