الناموس وظل الخيرات العتيدة
لم يستطع الناموس - ولا كان القصد منه - أن يبين لنا من هو الله، بل كان القصد منه تعريفنا بمن هو الإنسان، أو بكلمات أكثر تحديداً، كان القصد منه تعريفنا بالخطية التي في الإنسان (رومية3: 20)، فنلجأ إلى المخلص الوحيد الذي كان عتيداً أن يظهر في ملء الزمان. لكن بعد أن كشف لنا الناموس شرنا وخطيتنا، فقد أتى المسيح ليعلن لنا الله ويقدم لنا خلاصه العجيب. وفي هذا يقول الرسول بولس لمؤمني غلاطية «قبلما جاء الإيمان (والمقصود هنا الإيمان المسيحي)، كنا محروسين تحت الناموس (ناموس موسى)، مغلقاً علينا إلى الإيمان العتيد أن يعلن (المسيحية)، إذاً قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان» (غلاطية3: 23،24).
في كل فترة عهد الناموس، ما الذي كان يفعله اليهودي التقي بمجرد أن تحدث منه خطية؟ لقد كان يأتي بذبيحة إلى خيمة الاجتماع، حيث مقادس الله، ثم يضع يده على رأس الذبيحة التي أحضرها، وكأنه بهذا العمل يُتحد نفسه بتلك الذبيحة، فتنتقل الخطية من على الشخص المخطئ إلى الذبيحة. من ثم كانت الذبيحة تُذبح فوراً أمام عينيه (لاويين4: 4،24،29،33).
وكما ذكرنا، كان الله - طوال العهد القديم - يعلِّم شعبه مبادئ ودروساً أولية، إذ كان يتعامل مع شعبه كما لو كانوا أطفالاً لا زالوا يتعلمون الأبجدية الإلهية. وبهذا الرمز (تقديم الذبيحة وذبحها عوضاً عن المذنب)، كان الله يعلِّم شعبه أربعة مبادئ أولية هامة:-
أولاً: كان الله، بهذا الأمر، يستحضر الخطية إلى ذهن وضمير شعبه، ليدركوا كراهية الرب لها. فكانوا بذلك يتعلمون شيئاً عن قداسة الله.
ثانياً: كان الله يعلِّم شعبه أن قضاء الله على الخطية هو الموت، وليس أقل من ذلك. فكانوا بذلك يتعلمون شيئاً عن بِّر الله.
ثالثاً: كان الله يعرِّفهم أن عنده طريقة بالرحمة لرفع الخطية، وأنه سيمكن العفو عن المذنب، بهذه الطريقة الوحيدة. فكانوا بذلك يتعلمون شيئاً عن رحمة الله.
رابعاً: كان الله يعطي شعبه بعض الإدراك لجوانب هذا العمل العظيم: الكفارة، وعن عظمة وكمالات الشخص المجيد صانع الكفارة. حيث لم تكن هذه الذبائح المتنوعة، في كل تفاصيلها الدقيقة، إلا رمزاً لذبيحة المسيح الواحدة والكاملة. وبذلك يمكنهم أن يعرفوا شيئاً عن حكمة الله.
لكن ليس هذا هو كل ما في الناموس ولا هو أهم ما فيه بخصوص الكفارة. فسفر اللاويين، وهو السفر الذي يرد الحديث فيه عن الكفارة أكثر مما يرد في أي مكان آخر في الكتاب المقدس، إذا تُذكر الكلمة فيه 49 مرة (7×7)، يرد في قلبه (أصحاح16) حديث مطوّل عن يوم الكفارة العظيم. ولقد كان هذا اليوم هو أهم أيام السنة العبرية، إذ كان رئيس الكهنة يدخل فيه إلى قدس الأقداس ليكفِّر عن خطايا كل الشعب، بينما يكونون هم متذللين وممتنعين عن كل صور العمل. وبدخول رئيس الكهنة، كل سنة، إلى قدس الأقداس، بدم الثيران والتيوس، كان يجد للشعب فداءً لمدة عام كامل.
صحيح لم يكن لهذه الذبائح أية قيمة تكفيرية في ذاتها. لأنه إذا كانت الأعمال الصالحة - كما أشرنا سابقاً - لا تصلح للتكفير عن الإنسان، لأنها مهما عظمت فهي محدودة، فهكذا أيضاً كانت الذبائح الحيوانية. إذ كيف يمكن للبهائم التي تُباد، والتي ليس لها أرواح خالدة، أن تفدي الإنسان الخالد من الموت الأبدي؟ لهذا ترد كلمات الرسول بولس القاطعة في عبرانيين10: 4 «لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا».
لكن إذا لم يكن لتلك الذبائح الحيوانية - في ذاتها - أية قيمة تكفيرية عن مقدميها، فليس معنى ذلك أنه لم يكن لها أية قيمة على الإطلاق. فهي بررت من قدّمها بالإيمان (عبرانيين11: 4)، وذلك لقيمتها الرمزية، إذ كانت تشير إلى ذبيحة المسيح المعروف سابقاً قبل تأسيس العالم (1بطرس1: 18). ومن هذه الزاوية فإنها كانت تشبه إلى حد ما بطاقات الائتمان التي نتعامل بها اليوم. إن القيمة الحقيقية لهذه البطاقات ليس في قطعة البلاستيك المصنوعة منها، بل لما لها من رصيد نقدي في البنك الذي أصدر تلك البطاقة. هكذا كانت تلك الذبائح مقبولة عند الله لأن لها رصيداً في دم المسيح، الذي وإن لم يكن قد مات بعد، لكن الله ليس عنده ماضٍ وحاضر ومستقبل نظير البشر، فهو يرى ما لم يحدث كأنه حدث، بل يرى النهاية من البداية.
هذا يأتي بنا إلى السؤال الجوهري التالي:
بعد أن عرفنا حاجتنا الماسة للتكفير عنا، وعرفنا عجز الحيوانات عن أن تكفر عن البشر، فما هي الكفارة إذاً؟