الصليب وإظهار بر الله
تساءل أيوب الصدِّيق متحيراً «كيف يتبرر الإنسان عند الله؟» (أيوب9: 2). لقد كان أيوب يعرف أن الله غفور رحيم، لكن كان يعرف أيضاً أنه بار وعادل. فإذا كانت محبة الله ورحمته تريدان مسامحة الخاطئ، فإن عدله وبره يحتمان إدانة الخاطئ. وكأننا هنا في موقف قضاء، فيه يطلب ممثل الإدعاء توقيع أقصى العقوبة على مذنب استهان بالمبادئ السماوية وأخطأ ضد خالقه، وممثل الدفاع يطلب استعمال الرأفة مع المتهم المسكين، ويطالب بالبراءة. لكن قضيتنا لم يكن فيها الإدعاء شخصاً والمحامي شخصاً آخر، بل إنهما ذات صفات الله الواحد: الله الرحيم والبار في آن معاً، المحب لكن العادل في نفس الوقت.
في نبوة إشعياء ترد عبارة ملفتة للنظر تقول: إن الله «إله بار ومخلِّص» (إشعياء45: 21). لو قال النبي إن الله إله بار وديَّان، لكان من السهل فهم الآية، أما أن يقول إله بار ومخلِّص، فكيف يكون الله باراً ومخلصاً في آن واحد معاً؟ كيف لله البار أن يخلِّص الإنسان؟ أو بالحري كيف يبرر الله الإنسان المذنب النجس؟ إن عدل الله يأبى تبرئة المذنب، كقول الكتاب: «الرب إله رحيم ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان... ولكنه لن يبرئ إبراء» (خروج34: 6،7). وكقول الحكيم: «مبرئ المذنب، ومذَنِّب البريء كلاهما مكرهة الرب» (أمثال17: 15). فإن كان الله يكره تبرئة المذنب وتذنيب البريء، وإن كان قد أعلن أنه لن يفعل ذلك البتة، بل إنه نهى القضاة في العهد القديم عن أن يفعلوا ذلك (تثنية25: 1)، أ فيمكن أن يفعله هو؟ وهب أن هذا حدث أ يُعتبر هذا برّاً من جانب الله؟ ألا يكون هذا قلباً للمبادئ الأدبية التي بُني الكون عليها؟
يُحكى أن صديقين كانا في طفولتهما دائماً معاً، وفي دراستهما كانا دائماً معاً. ثم كبر هذان الصديقان، وسار كل في طريق، مع بقاء الصداقة قائمة، ولو من بعد. دخل أحدهما كلية الحقوق، ونظراً لاستقامته ونزاهته فقد ارتقى سريعاً مناصب متعددة حتى صار قاضياً مرموقاً، بينما انحرف الصديق الآخر عن الطريق السوي، وساءت حالته، ولجأ إلى السرقة، وضُبط متلبساً بجريمته. ومن المصادفات العجيبة، تقرر أن يَمْثُل هذا الصديق السارق أمام المحكمة التي كان الصديق الآخر قاضيها. واستراح اللص نسبياً إذ توقع أن زميله سوف يعامله بالرأفة، ولن يوقِّع عقوبة قاسية عليه. واختلفت وجهات نظر الناس في ماذا سيكون تصرف هذا القاضي: هل سيضحي بالعدالة في سبيل الصداقة، أم سيضحي بالصداقة لصالح العدالة؟ وفي يوم المحاكمة مَثَلَ الصديق المتهم في القفص، وجلس الصديق الآخر فوق المنصة. ونادى الحاجب محكمة. وقرئ بيان الاتهام في الصديق اللص. وجاء وقت النطق بالحكم، وحكم القاضي النزيه بأقصى عقوبة على المتهم. لكنه بعد أن نطق بالحكم، فقد خلع روب القضاء، وأخرج دفتر الشيكات، وكتب شيكاً على نفسه بالمبلغ الذي حكم به. ودفعه للمحكمة نيابة عن صديقه. وكان تصرفاً نبيلاً حقاً. فهو لم يضحِ بالعدالة ولو قيد شعرة واحدة، وهو القاضي النزيه، ولا باع صديق الطفولة المفلس الذي كان سيواجه السجن لعدم قدرته على دفع الغرامة الباهظة. وتحمل هو نيابة عن زميله وزر فعلته الطائشة الحمقاء.
أ ليست هذه صورة مصغرة لصليب المسيح؟ ليس أن الله سمح للشر أن يمر بدون عقاب، نظراً لرغبته في خلاص الخاطئ؛ فإنه لو سامحه هكذا بدون كفارة، لما كان الله في هذه الحالة قد تصرف بالبر مع الخطاة، لكن الصليب أظهر بر الله في إدانة الخطية، وأيضاً في تبرير الخاطئ.
لقد كان الإنسان محتاجاً للتبرير، وما كان يمكن لله أن يُبرَّر الأثيم إلا على أساس العدل، فمسائل العدالة لا تسيرها الخواطر، بل العدالة. ومن هنا كانت حتمية الكفارة. وعن طريق الصليب: الله تبرر والإنسان الخاطئ تبرر. وفي صليب المسيح اجتمع من صفات الله ما قد يبدو للعيان متعارضاً «الرحمة والحق التقيا، البر والسلام تلاثما» (مزمور85: 10). فكلا الرحمة والعدل أصبحا يطالبان بتبرير المذنب الذي آمن بالمسيح.
لقد كان من السهل على الله أن يقضي على العالم بأسره بكلمة، وهو ما سيفعله في المستقبل (2بطرس3: 7)، وكان من السهل عليه أيضاً أن يخلق عالماً جديداً كالعالم القديم الذي خلقه بكلمه (عبرانيين11: 2). نعم نقول إن هذا كان سهلاً أمام قدرة الله السرمدية. أما أن يبرر الخاطئ فلم يكن الأمر سهلاً، لأن الله لا يمكن أن يعمل بما يتعارض مع صفاته، ومكتوب أن «العدل والحق قاعدة كرسيه» (مزمور97: 2). فالكفارة إذاً هي الأساس الوحيد الذي عليه أمكن لله القدوس أن يقترب من الإنسان الخاطئ ليباركه. وبدونه ما كان ممكناً لبركات الله أن تُمنح لجنس آدم الاثيم. من ثم جاء هذا الإعلان العظيم الذي هو خلاصة الإنجيل «متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدمه الله كفارة، بالإيمان بدمه.. ليكون (الله) باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع» (روميه3: 21-26).