4 الآراء الخاصة بتأليف خبر قيامة المسيح أو نقله من الأساطير الوثنية، والرد عليها
1 - (إن المسيح لم يقم بعد موته، بل إن تلاميذه هم الذين ابتدعوا خبر قيامته من بين الأموات، لكي يخلدوا ذكراه وينشروا المبادئ التي نادى بها في حياته) .
الرد فضلا عن البراهين التي ذكرناها فيما سلف، عن صدق شهادة تلاميذ المسيح، الأمر الذي لا يدع مجالا لهذا الإعتراض نقول:
(أ) إن التلاميذ لم يكونوا من رجال الفلسفة أو الأدب أو الإجتماع الذين يهمهم تخليد ذكرى شخص ما أو نشر مبادئه في العالم، بل كان معظمهم من صيادي السمك الذين لم ينالوا قسطاً من التعليم سوى الكتابة والقراءة، والذين لم يكن يهمهم في الحياة سوى الحصول على قوتهم وقوت أولادهم (يوحنا 21: 30) . وبالإضافة إلى ذلك، فإنهم لم يكونوا في أول الأمر يدركون شيئاً عن أهمية قيامة المسيح وما يترتب عليها من فوائد ونتائج، حتى يدعوا أنه قام من بين الأموات، ويتحملوا في سبيل هذا الإدعاء الكثير من الإضطهاد والآلام. لذلك لا بد أنهم نادوا بقيامته لتأكدهم منها بأنفسهم كل التأكد.
(ب) إن الذين يعمدون إلى تزوير حادثة ما، يبذلون كل ما في وسعهم لتجنب وقوع أي اختلاف بينهم بشأنها، فلا يذكر أحدهم (مثلاً) خبراً لم يذكره غيره، وذلك على النقيض مما فعله تلاميذ المسيح. فإذا أضفنا إلى ذلك (أولاً) أن هؤلاء التلاميذ لم يحاولوا مطلقاً تفسير أي تصرف من التصرفات التي سجلوها عن المسيح، بل رووها جميعاً كما هي (ثانياً) أنهم لم يتستروا على أخطائهم ونقائصهم وتوبيخ المسيح لهم، بل سجلوا كل ذلك بالتفصيل، اتضح لنا أنهم كانوا صادقين كل الصدق في ما كتبوه عنه.
(ج) فإذا أضفنا إلى ما تقدم (أولاً) أن تلاميذ المسيح كانوا (كما يشهد التاريخ) ، على مستوى عال من الأخلاق الكريمة التي تأبى عليهم المناداة بغير الحقيقة. (ثانياً) أن خبر قيامة المسيح من الأموات كان بعيداً في أول الأمر عن أذهانهم كل البعد، لأن آمالهم كانت تدور حول مسيا أرضي يطيح بسلطة الرومان ويوليهم رؤساء في مملكته التي يؤسسها لهم. (ثالثاً) وأنهم لو حاولوا تأليف قصة عن قيامة المسيح لاحتاجوا إلى وقت طويل، حتى يحبكوا تفاصيلها ويظهروها بمظهر معقول أو قريب من المعقول، وليس إلى ثلاثة أيام فقط كانوا في أثنائها في حالة الحزن والإضطراب التي لا تسمح لهم بالقيام بمثل هذا العمل. (رابعاً) أنهم نشروا خبر قيامة المسيح بين الناس الذين عاصروه وعرفوا كل شيء عنه، وبين أعداء ألداء كانوا يتربصون لهم ويحاولون إلصاق أي تهمة بهم لكي يقضوا عليهم قضاء تاماً، ومع ذلك لم يتعرض واحد منهم لتكذيبهم أو تخطئتهم - اتضح لنا أنه لا يمكن أن يكونوا قد ابتدعوا خبر قيامة المسيح، بل لا بد أنه خبر صادق كما ذكرنا.
(د) هذا وقد شهد الأستاذ العقاد بصدق رسل المسيح فقال ومن بدع (أهل) القرن العشرين سهولة الإتهام، كلما نظروا في تواريخ الأقدمين، فوجدوا في كلامهم أنباء لا يسيغونها وصفات لا يشاهدونها ويعقلونها. ومن ذلك اتهام الرسل بالكذب فيما كانوا يثبتونه من أعاجيب العيان وأعاجيب النقل. ولكننا نعتقد أن التاريخ الصحيح يأبى هذا الإتهام، لأنه أصعب تصديقاً من القول بأن أولئك الدعاة أبرياء من تعمد الكذب والإختلاق. فشتان عمل المؤمن الذي لا يبالي الموت تصديقاً لعقيدته، وعمل المحتال الذي يكذب، ويعلم أنه يكذب، وأنه يدعو الناس إلى الأكاذيب مثل هذا لا يقدم على الموت في سبيل عقيدة مدخولة، وهو أول من يعلم زيفها وخداعها. وهيهات أن يوجد بين الكذبة العامدين من يستبسل في نشر دينه، كما استبسل الرسل المسيحيون. فإذا كان المؤلف الصادق من يأخذ بأقرب القولين إلى التصديق، فأقرب القولين إلى التصديق أن الرسل لم يكذبوا فيما رووه، وفيما قالوا إنهم رأوه، أو سمعوا ممن رآه (عبقرية المسيح ص 118-189) .
2 - (إن تلاميذ المسيح نقلوا خبر قيامته من بين الأموات من الأساطير الوثنية) .
الرد: إن معظم تلاميذ المسيح كانوا كما ذكرنا فيما سلف من صيادي السمك البسطاء، ومهنة مثل هذه ليست كمهنة التجارة التي تفسح المجال أمام المشتغلين بها لمعرفة أخبار العالم وعقائد الساكنين فيه، بل أنها مهنة تفرض على أصحابها ملازمة البيئةالتي يعملون فيها، وتحصر أفكارهم في الأخبار والعقائد الموجودة في بلادهم. فضلاً عن ذلك كانوا من اليهود المتدينين الذين يحطون من شأن الوثنيين ويعتبرونهم نجسين، ومن ثم كانوا لا يتحدثون معهم أو يخالطونهم ومن جهة أخرى فإنه بالرجوع إلى عقائد الوثنيين أو بالحري إلى أساطيرهم، لا نرى فيها أسطورة عن إنسان قال الوثنيون إنه قام بعد موته، كما نادى التلاميذ عن المسيح. والدليل على ذلك أن اليونانيين كانوا يستهزئون عندما سمعوا التلاميذ ينادون بقيامة المسيح من الأموات (أعمال 17: 22) ، الأمر الذي لا يدع مجالاً للرأي الذي نحن بصدده. ومع ذلك نذكر فيما يلي أساطير الوثنيين التي يقال إنه ورد فيها شيء عن القيامة من الأموات أو العودة إلى الحياة، لكي يتضح بطلان هذه الدعوى من أساسها.
(أ) فالبابليون بسبب رغبتهم في أن تظل نساؤهم في حوزتهم، زعموا أن الإله تاموز أحب إشترا أو عشتاروت إلاهة الحب وتزوج منها. لكن لم يمض على هذا الزواج وقت طويل حتى أبغضته وقتلته، ثم أخذت بعد ذلك تبحث عن زوج آخر عوضاً عنه، ولكنها لم تجد. وأخيراً ذهبت إلى عالم الموتى لكي تخرج تاموز منه، فقبض عليها ملك هذا العالم، وبعد أن سامها العذاب لقتلها تاموز، سمح لها أن تأخذه، وبذلك عاد تاموز إلى الأرض.
(ب) وقدماء المصريين، بسبب رغبتهم في إعلان قوة الخير، زعموا أن إله الشر ست كان يبغض أخاه إله الخير أوزيريس . لذلك قتله ومزق جثته إلى 72 قطعة، رمى كل قطعة منها في مكان خاص. ومع ذلك استطاعت إيزيس زوجة أوزيريس أن تجمع القطع المذكورة، وأن تعيد زوجها إلى الحياة، ومن ثم أصبح خالداً، أو بالحري خالداً في نظرهم.
(ج) وقدماء اليونان بسبب رغبتهم في تعليل اختفاء القمح من الحقول ستة شهور، زعموا أن ملك الهاوية أحب بروسفوني إلاهة القمح ، واختطفها إلى مملكته، فشكت أمها (إلاهة الزراعة) إلى جوبيتر رب الآلهة عندهم ما أصاب ابنتها. فأمر ملك الهاوية بإطلاق سراح بروسفوني وإعادتها إلى الأرض. لكن لأن هذا الملك كان قد أحب بروسفوني حباً جماً، لم يطلق سراحها إلا بعد أن أعطاها من طعام الهاوية. ونظراً لأن من خصائص هذا الطعام أنه يجذب كل من يأكل منه إلى الهاوية بعد مفارقته لها، لذلك كانت بروسفوني تعود إلى الهاوية مرة كل عام وتبقى فيها ستة شهور متتالية (وهي المدة التي تختفي فيها الحبوب من الأرض) ، وبعد ذلك تظهر على الأرض مرة ثانية، وهكذا دواليك.
(د) وبسبب رغبة اليونانيين أيضاً في تعظيم الديمقراطية وتحريض الناس على الدفاع عنها، زعموا أن بروميتيه بعد أن ساعد جوبيتر في القضاء على أعدائه والإرتقاء إلى مركز رب الآلهة عندهم، حقد جوبيتر عليه وعزم على إهلاكه وإهلاك البشر معه. لأن بروميتيه كان يحبهم ويساعدهم في كل شؤونهم، لذلك صلبه على جبل القوقاز وأمر فلكان أن يعذبه. فأخذ هذا يغرس حديداً محمياً بالنار في جسم بروميتيه، كما أهاج النسور عليه لتمزق جسده. وبينما كان بروميتيه على هذه الحال، أتته عرائس البحر وعرضن عليه أن يتوسطن له لدى جوبيتر، فرفض. وأخيراً أتاه هرقل فأنقذه ورفع مكانته.
مما تقدم يتضح لنا أن قيامة المسيح من الأموات لا يمكن أن تكون قد نقلت عن الأساطير الوثنية، بل لا بد أنها حادثة حقيقية كما اتضح لنا في الأبواب السالفة. وقد أدرك هذه الحقيقة الأستاذ عباس محمود العقاد فقال كانت الدعوة المسيحية كما روتها الأناجيل دون أن يتعمد كتابها تطبيق أحوال التطور، أو تلتفت أذهانهم إلى معنى تلك الأحوال ثم قال إن أصحاب هذه الملاحظات (أو بالحري الفلاسفة العصريين) اتخذوا تشابه المراسيم والأخبار دليلاً على تلفيق تاريخ السيد المسيح. ويبدو لي أن نشوء علم المقابلة بين الأديان هو الذي دفع أصحابه في القرن الثامن عشر إلى تحميل المشابهات والمقارنات فوق طاقتها . كما قال ليس من الصواب أن يقال إن الأناجيل جميعاً عمدة لا يعول عليها في تاريخ السيد المسيح، وإنما الصواب أنها العمدة الوحيدة في كتابة تاريخه، وسواء رجعت هذه الأناجيل إلى أصل واحد أم إلى أكثر من مصدر، فمن الواجب أن يدخل في الحسبان أنها هي العمدة التي اعتمد عليهم قوم هم أقرب الناس إلى عصر المسيح، وليس لدينا نحن بعد قرابة ألفي عام عمدة أحق منها بالإعتماد (عبقرية المسيح ص 126 وكتاب اللّه ص 149-153) .