البَابُ الثالث
الفلاسفة المحدثون وقيامة المسيح
إن الفلاسفة المحدثون، مثل ستروس وكرسوب وفنتوريني وهولتزمان وليك ورينان ولوزايه، الذين اشتغلوا بنقد الكتاب المقدس (حسب زعمهم) ، أقروا حادثة صلب المسيح وكتبوا الشيء الكثير عنها، لأنهم كانوا يبنون آراءهم ليس على عقائد خيالية أو تصورات ذهنية كالغنوسطيين، بل على الحقائق التاريخية المدونة في السجلات الرسمية. لكن نظراً لأن قيامة المسيح من الأموات تسمو فوق العقل، وفي الوقت نفسه لم تدون في مثل هذه السجلات بسبب عدم دخولها في اختصاص المحاكم والحكومات، قاوموها جميعاً بكل قواهم. وفي سبيل مقاومتهم إياها ذهب كل منهم إلى ابتداع رأي، قال إنه السبب في اعتقاد تلاميذ المسيح بقيامته من الأموات، وفيما يلي هذه الآراء مصحوبة بالرد عليها.
1 الآراء الخاصة بالأوهام، والرد عليها
1 - (من المحتمل أن يكون تلاميذ المسيح رأوا بعد موته شخصاً يشبهه، فاعتقدوا أنه المسيح بعينه) .
الرد: إن الذين نادوا بأنهم رأوا المسيح بعد موته ليسوا أشخاصاً رأوه مرة واحدة أو مرات قليلة قبل موته، حتى كان يجوز الظن بأنهم لم يكونوا على بينة من الشخص الذي ظهر لهم بعد موت المسيح، بل هم تلاميذه الذين كانوا يعرفونه كل المعرفة، لأنهم كانوا يلازمونه ليلاً ونهاراً. ومن ثم ليس من المعقول إطلاقاً أن يكونوا قد ظنوا أن شخصاً ما هو المسيح، حتى إذا كان يشبهه. لأنه إذا تشابه بعض الناس إلى حد ما في وجوههم، فإنهم يختلفون من جهة أصواتهم ومعلوماتهم وعاداتهم وأخلاقهم وتجاربهم مع غيرهم.
2 - (إن المسيح ظهر لتلاميذه بروحه في رؤيا، فانخدعوا واعتقدوا أنه قام من بين الأموات) .
الرد: فضلاً عن أن الأرواح بعد خروجها من أجسادها لا تظهر للبشر، وأن ما يقال عن ظهورها لهم، لا يتعدى مجال الحلم بها أو التوهم بحضورها، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا الإعتراض نقول:
(أ) إن المسيح لم يظهر لتلاميذه في هيئة روح بل في ذات جسده كما ذكرنا فيما سلف. وقد تأكد من هذه الحقيقة ليس تلميذ واحد بل تلاميذه جميعاً، فقد نظروه بعيونهم ولمسوه بأيديهم وسمعوا صوته بآذانهم. فضلاً عن ذلك قدموا له طعاماً فأكل قدامهم، كما أخذ يعلمهم ويجيبهم عن أسئلتهم مثلما كان يفعل من قبل تماماً.
(ب) إن تلاميذ المسيح كانوا يفرقون تماماً بين الرؤيا والرؤية. فأطلقوا على الأولى إسم الغيبة أو الغيبوبة . ومن أمثلتها الرؤيا التي ظهرت لحنانيا (أعمال 9: 10) ، ولبطرس (أعمال 10: 10) . ولكن عند حديثهم عن ظهور المسيح لهم كانوا يعلنون أنهم رأوه بذاته، كما ذكرنا.
وهكذا الحال من جهة بولس الرسول الذي آمن بالمسيح بعدهم، فإنه كان يفرق بين الرؤيا والرؤية مثلهم، فيسجل لنا في (أعمال 16: 9 ، 22: 17 ، 2 كورنثوس 12: 1) ما شاهده من رؤى. ولكن عند حديثه عن ظهور المسيح له (أعمال 9) يقرر أنه كان في وقت اليقظة وليس في رؤيا أو غيبوبة.
3 - (إن ظهور المسيح لتلاميذه بعد موته، تم بعملية استحضار الأرواح) .
الرد: بالرجوع إلى الظروف التي كان التلاميذ يرون المسيح فيها، لا نجد هناك شرطاً من الشروط التي يقال بوجوب توافرها لاستحضار الأرواح. فالتلاميذ (أولاً) لم يأتوا بوسيط يحضر روح المسيح (لو فرضنا جدلاً إمكانية حدوث ذلك) حتى يتحدثوا معه (ثانياً) إنهم لما رأوه، لم يكونوا في حجرة مظلمة أو في حجرة بها لون خاص من الإضاءة، كالحجرات التي تستخدم في استحضار الأرواح (كما يقولون) ، بل كانوا إما في حجرة ضوءها معتاد، أو في بستان في الخلاء، أو في طريق عام، أو على شاطئ بحر، أو سفح جبل. (ثالثاً) إنهم لم يروا المسيح في أي مكان من هذه الأمكنة في هيئة روحية كالأرواح التي يقال باستحضارها، بل رأوه في ذات جسده الذي عرفوه من قبل. وقد تأكدوا بوسائط متعددة من وجود هذا الجسد له، إذ رأوا المسيح فيه بعيونهم ولمسوه بأيديهم، كما أعطوه طعاماً فأكل قدامهم كما ذكرنا.
ولذلك ليس هناك مجال للظن بأن ظهوره لهم كان بواسطة عملية استحضار الأرواح، إن كان هناك مجال لاستحضارها.
4 - (إن قول تلاميذ المسيح بظهوره لهم بعد موته، يرجع إلى اعتقادهم بالرجعة التي كان يؤمن بها فريق من اليهود من قبل) .
الرد: بالرجوع إلى تاريخ اليهود نرى أن الذين كانوا يتمسكون بالإعتقاد بالرجعة، أو بالحري برجوع يشوع ابن نون (الذي كان يقود أجدادهم في حروبهم بعد موسى النبي) إلى الأرض بعد موته، لكي يقودهم مرة أخرى في الحرب ضد أعدائهم من الفرس وغيرهم. وبرجوع إيليا النبي بعد صعوده إلى السماء، إلى الأرض أيضاً لكي يرشدهم ويهديهم كما كان يفعل من قبل، كانوا قد عدلوا عن اعتقادهم المذكور قبل الميلاد بمدة طويلة، إذ طغى عليه الإعتقاد بمجيء المسيا الذي سيقوم (حسب ظنهم) بإعادة الملك إليهم إلى الأبد. ومن ثم ليس هناك مجال للظن بأن تلاميذ المسيح قالوا بقيامته من بين الأموات بسبب اعتقادهم بالرجعة المزعومة.
5 - (إن تلاميذ المسيح كانوا يعتقدون أنه سيقوم بعد موته كما قال لهم من قبل، ومن ثم خيل لهم أنه قام، وأنه ظهر لهم وتحدث معهم أيضاً. ولذلك فأقوالهم عن قيامته كانت مجرد أوهام أو تهيؤات لا وجود لها في عالم الحقيقة، شأنها في ذلك شأن أوهام بعض الناس وتهيؤاتهم) .
الرد: (أ) إن المسيح وإن كان قد قال لتلاميذه إنه سيقوم بعد موته، لكن هذا القول لم يكن له وقع في نفوسهم، ومن ثم لم يفهموا منه شيئاً (مرقس 9: 30-32 ، لوقا 18: 31-22) ، لأن فكرة بقاء المسيح (أو المسيا) على الأرض إلى الأبد، وعدم تعرضه للموت بحال، كانت متسلطة وقتئذ على أذهانهم جميعاً، إذ أنها من صميم اعتقاداتهم القومية (يوحنا 12: 34) . ومن ثم عندما رأوه قد صلب ومات، تبددت ثقتهم فيه كالمسيا، وقطعوا الأمل نهائياً من جهته. والدليل على ذلك أن مريم المجدلية عندما وجدت القبر فارغاً، اعتقدت أن شخصاً ما أخذ جسد المسيح. وأن التلاميذ عندما سمعوا منها أنها رأت المسيح، لم يصدقوا في أول الأمر، كما بدا لهم حديثها وحديث غيرها من النساء كالهذيان. فضلاً عن ذلك فإن المسيح عندما ظهر فجأة لهم في الغرفة التي كانوا قد أحكموا غلقها، اعتقدوا في أول الأمر أنه روح من الأرواح. ولما أخبروا توما بعد ذلك أنهم رأوا المسيح، لم يصدق. وقال لهم: إن لم أبصر في يديه أثر المسامير، وأضع أصبعي في أثرها، وأضع يدي أيضاً في جنبه (مكان الحربة) لا أؤمن.
وهكذا الحال من جهة تلميذي عمواس، فإنهما لم يفطنا في أول الأمر أن المسيح هو الذي كان يسير معهما، لأنه لم يكن يدور في خلدهم أن المسيح سيقوم من بين الأموات.
(ب) ولكن الحقيقة الواقعة هي أن تلاميذ المسيح آمنوا بقيامته، ليس لأنه قال لهم من قبل إنه سوف يقوم من الأموات، بل لأنهم (كما ذكرنا فيما سلف) تأكدوا من قيامته بأدلة متعددة. وبالإضافة إلى ذلك فإن الذين أعلنوا أنهم رأوا المسيح بعد موته، ليس رسله فحسب (حتى كان يظن أن تأثرهم الشخصي بقوله عن وجوب قيامته بعد موته، هو الذي جعلهم يعتقدون أنه قام) ، بل إن الذين أعلنوا أنهم رأوه بعد موته كانوا أكثر من خمسمائة من أتباعه (1 كورنثوس 15: 6) .
وهؤلاء، فضلاً عن اختلاف أحدهم عن الآخر من جهة السن والطباع والثقافة والنشأة والمركز الإجتماعي، لا يمكن أنهم كانوا جميعاً على درجة واحدة من التأثر بقول المسيح السابق ذكره. ولذلك لا يعقل إطلاقاً أن يكونوا جميعاً قد انخدعوا، فاعتقدوا أنهم رأوا المسيح، والحال أنهم لم يروا إلا صورة ذهنية كانت تختلج في نفوسهم من جهته.
(ج) كما أن الذين رأوا المسيح، لم يروه عن بعد، أو رأوه برؤية خاطفة (حتى كان يظن أنهم لم يتحققوا من شخصيته) ، بل رأوه عن قرب، وفي فترات طويلة أيضاً. كما أنهم لم يروه فقط وهم مجتمعون معاً (حتى كان يظن أنهم انخدعوا تحت تأثير ما) ، بل رأوه أيضاً كأفراد في أوقات متفرقة، وتجاذب كل منهم أطراف الحديث معه بصفة شخصية.
أضف إلى ما تقدم أنهم لم يروه في مكان مهجور أو مظلم (حتى كان يظن أنهم رأوا شبحاً لا حقيقة له) ، بل كانوا يرونه في بيت اعتادوا الإقامة فيه، وفي طريق ألفوا السير عليه، وعند شاطئ بحر كانوا يعرفون كل بقعة منه، وفي مكان من الجليل كانوا يترددون بكثرة عليه. كما أنهم لم يروه فقط في المساء (حتى كان يظن أن بصرهم قد خدعهم) ، بل رأوه أيضاً في الصباح (يوحنا 21: 4-17 ، ومرقس 16: 2) ، وفي العصر (لوقا 24: 13-21) ، حيث تظهر الأمور على حقيقتها - ومع كل فتلاميذ المسيح لم يكونوا من الأشخاص ضعاف الأعصاب الذين تبدو أمامهم الأشباح في بعض الأحيان حقائق، بل كان معظمهم من طبيعة خشنة اعتادت السير في البحار وركوب الأخطار، وكان الباقون بحكم نشأتهم وأعمالهم يتميزون (كما يتضح من تاريخ حياتهم والمهن التي كانوا يقومون بها) ، إما بالتدقيق والتأني، أو الحيطة والحذر، أو الشك والتردد، الأمر الذي يجعلهم أبعد ما يكون عن التأثر بالأوهام والتخيلات.
(د) أخيراً نقول (أولاً) لو كانت رؤية التلاميذ للمسيح من باب التهيؤات، لكانوا قد قابلوها بفرح وابتهاج وليس بشك واضطراب كما رأينا فيما سبق، ولكانوا أيضاً قد سمعوا أمراً بالكرازة بالإنجيل ليس لكل الأمم، بل لليهود فحسب، لأنهم كانوا يريدون أن يحتفظوا بالمسيح لشعبهم اليهودي بسبب احتقارهم لهذه الأمم. (ثانياً) إن التهيؤات التي يمكن أن تجول في أذهان بعض الناس عن شخص ما، لا يمكن أن تكون بعينها عند البعض الآخر، بل لا بد أنها تختلف من إنسان إلى آخر تبعاً لحالته النفسية أو اختباراته الشخصية، بينما الحالة التي أعلن تلاميذ المسيح (على الرغم من الإختلافات الكثيرة التي كانت بين بعضهم والبعض الآخر) أنهم رأوه بها، في كل مرة من المرات التي كانوا يشاهدونه فيها، هي حالة واحدة، وهذه الحالة هي وجوده في ذات جسده الذي عرفوه من قبل. (ثالثاً) إن التلاميذ عندما أعلنوا عن رؤية المسيح، لم يكونوا في حالة التفكير فيه أو الشوق إليه، حتى كان يظن أن تفكيرهم وشوقهم هما اللذان جعلاهم يتوهمون أن المسيح ظهر لهم، بل كانوا منصرفين وقتئذ إنصرافاً تاماً إلى المحافظة على أرواحهم (يوحنا 20: 19) ، أو الحصول على الطعام اللازم لهم (يوحنا 21: 13) . كما أننا إذا نظرنا إليهم كأفراد نرى أن مريم كانت تجهش في البكاء، والنساء كن خائفات مرتعبات، وبطرس كان يقع تحت تأنيبات ضميره اللاذعة، وتلميذي عمواس كانا يتأسفان لعدم تحقيق أملهما في الخلاص من الرومان، وتوما كانت تساوره الشكوك وتستبد به. (رابعاً) إن التهيؤات والتخيلات تكون في أول الأمر واضحة، ثم تقل في الوضوح شيئاً فشيئاً حتى تتلاشى بمرور الزمن، بينما منظر المسيح بالنسبة إلى تلاميذه، كان واضحاً كل الوضوح في كل مرة قالوا برؤيتهم له فيها، كما أنهم لم يسمعوا من المسيح حديثاً واحداً في كل مرة كان يظهر لهم فيها، بل كانوا يسمعون منه في كل مرة حديثاً يختلف عن الحديث الذي كانوا يسمعونه منه في المرة السابقة لها، وذلك تبعاً للأسئلة التي كانوا يتقدمون بها إليه، واستمر الأمر على هذا المنوال زهاء أربعين يوماً، انقطعت بعدها رؤيتهم له وأحاديثه معهم دفعة واحدة. (خامساً) إن حماس التلاميذ في نشر خبر قيامة المسيح لم ينته بانتهاء الأربعين يوماً، التي أعلنوا أنهم كانوا يرونه فيها، بل ظل طوال حياتهم على الأرض، على الرغم من الإضطهاد الذي كانوا يقابلون به من كهنة اليهود، والتهكم الذي كانوا يقابلون به من فلاسفة اليونان. ولذلك لا يمكن أن تكون رؤيتهم للمسيح ضرباً من التهيؤات أو التخيلات على الإطلاق.