3 الآراء الخاصة بهروب المسيح دون صلبه، أو بهروبه بعد صلبه
1 - (إن المسيح هرب عندما حاول اليهود القبض عليه، ولذلك صلبوا شخصاً آخر عوضاً عنه ظنوا أنه المسيح، وفي اليوم الثالث وقف المسيح على قبر الشخص المذكور، وأعلن لتلاميذه أنه قام من بين الأموات، فصدقوه) .
الرد: (أ) إن المسيح لم يكن جباناً أو رعديداً، بل كان شجاعاً وجريئاً، فقد واجه الأعداء الجبابرة قبل أن يواجهوه، ومن ثم سقطوا جميعاً صرعى عند قدميه (يوحنا 18: 6) . كما كان في وسعه (لو أراد) أن يتجنب تألب اليهود عليه من أول الأمر، وذلك بالكف عن توبيخ رجال الدين على شرورهم ونقائصهم (متى 23: 13-36) ، لذلك فالقول بأن المسيح هرب عندما حاول اليهود القبض عليه لا نصيب له من الصواب.
(ب) كما أن اليهود لا يمكن أن يكونوا قد صلبوا شخصاً عوضاً عن المسيح ظنوا أنه هو، لأنه كان معروفاً لديهم كل المعرفة، فقد كانوا يلتفون حوله من وقت لآخر لكي يجادلوه في أمور الدنيا والدين، وكان يفحمهم ويوقعهم في الشراك التي كانوا ينصبونها له (متى 22: 15-40) ، كما أنه كثيراً ما كان يوبخهم بسبب نقائصهم وشرورهم، كما ذكرنا. فضلاً عن ذلك فإن المعجزات الباهرة التي كان يقوم بها بين الفينة والفينة، وتعاليمه السماوية الرائعة التي كانت تنطلق من شفتيه في كل مكان يحل فيه (يوحنا 7: 45 و46) ، لا بد أن هذه جعلته معروفاً لديهم كل المعرفة أيضاً.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم (أولاً) أن الشخص الذي قبض اليهود عليه ليصلبوه، حوكم أمام رجال الدين ثلاث مرات، آخرها أمام السنهدريم في الصباح الباكر، وبعد ذلك حوكم أمام كل من هيرودس الملك وبيلاطس الوالي من الساعة السادسة إلى التاسعة صباحاً، وذلك بحضور جماهير كثيرة من الناس (ثانياً) أنه ظل مصلوباً من الساعة التاسعة صباحاً إلى الساعة الثالثة بعد الظهر على مرأى من الخاص والعام، الأمر الذي ينفي وقوع أي اشتباه بشأن شخصيته (ثالثاً) أنه كان قد قال لليهود قبيل القبض عليه أَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ! 53éإِذْ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي الهَيْكَلِ لَمْ تَمُدُّوا عَلَيَّ الأَيَادِيَ. وَل كِنَّ هذهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ (لوقا 22: 52-53) ، وقال للنساء اللاتي كن يبكين عليه لَا تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلَادِكُنَّ، لِأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ التِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ التِي لَمْ تُرْضِعْ (لوقا 23: 28 و29) . وقال لبيلاطس عندما كان يحاكمه مملكتي ليست من هذا العالم (يوحنا 18: 30) و مملكتي ليست من هذا العالم (يوحنا 18: 30) و الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ (يوحنا 19: 11) . وقال للّه عن صالبيه يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ (لوقا 23: 34) . وقال بعد ذلك للعذراء مريم عن يوحنا الرسول يا إمرأة هوذا إبنك ، وقال ليوحنا عنها هوذا أمك لكي يعتني بها ويرعاها (يوحنا 19: 26-27) اتضح لنا أنه كان هو المسيح بعينه.
(ج) أخيراً نقول إن المسيح كان كاملاً كل الكمال في كل تصرفاته، لذلك لا يمكن أن يكون قد خدع تلاميذه، فقال لهم إنه قام بعد موته، والحال أنه قد هرب من الموت. فإذا أضفنا إلى ذلك أنه لو كان شخص غير المسيح قد صلب عوضاً عنه، لكان قد ظل في قبره إلى الأبد. اتضح لنا أن القبر الفارغ دليل لا يقهر على أن المسيح هو الذي صلب. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الدعوى التي أمامنا لا نصيب لها من الصواب مثل غيرها من الدعاوى.
2 - (إن التلاميذ، وفي مقدمتهم يوسف الرامي، طلبوا من بيلاطس الوالي أن يأمر بوضع مساند تحت قدمي المسيح عندما كان معلقاً على الصليب، حتى لا يقع ثقل جسده على ذراعيه ويسبب له الإرهاق المميت. كما طلبوا منه أن يأمر بعدم كسر ساقيه حتى لا يسيل منه دم غزير ويموت في الحال. ومن ثم فالمسيح عندما أنزل عن الصليب لم يكن ميتاً بل مغمى عليه فحسب، والدليل على ذلك أنه لما طعن بالحربة خرج منه دم وماء. وعندما وضع في القبر البارد بعد ذلك، استعاد نشاطه وهرب إلى بلاد فارس، متنكراً في زي بستاني كما رأته مريم المجدلية. وفي هذه البلاد أخذ يعلم الناس ويرشدهم حتى وافته المنية. ومما يثبت ذلك أن الفرس كانوا يعتقدون أن ماني فيلسوفهم هو رسول المسيح) .
الرد: (أ) إن تلاميذ المسيح كانوا من الفقراء الذين لا حول لهم ولا طول، ومن ثم لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام اليهود عندما قبضوا على المسيح، بل هربوا وتواروا عن الأنظار، مما يدل على أنه لم يكن لهم المركز الذي يؤهلهم للتوسط لدى الوالي لكي يظهر شيئاً من العطف على المسيح. كما أن يوسف الرامي لم يكن ليقوى على التوسط لديه من جهة هذا الأمر، لأن بيلاطس نفسه لم يستطع التوسط لدى اليهودمن جهته من قبل، حرصاً على وظيفته التي كان يعتز بها. ولذلك كان الإلتماس الذي قدمه يوسف الرامي لبيلاطس مقصوراً على السماح له بدفن جسد المسيح بعد موته. وحتى هذا الإلتماس البسيط لم يكن من السهل على يوسف القيام به، لأن الوحي يسجل عنه أنه تجاسر وطلب جسد يسوع من بيلاطس. وقد أجابه بيلاطس إلى التماسه هذا، لأن دفن المسيح في قبر يوسف لا يغضب اليهود أو يثيرهم، إذ أن غرضهم الأول والأخير كان ينحصر في القضاء على المسيح. وما دام المسيح قد مات، فإن الحقد الذي كان في قلوبهم من نحوه لم يعد له أثر فيها. أما لو كان بيلاطس قد وضع مساند تحت قدمي المسيح، لكان اليهود قد قاوموه، بل وهددوه أيضاً برفع أمره إلى قيصر، ولكان بيلاطس قد أذعن لهم كما فعل من قبل، حرصاً على وظيفته كما ذكرنا.
(ب) أما السبب في عدم كسر ساقي المسيح، فلا يرجع إلى الرغبة في الإبقاء على حياته كما يقول المعترضون، بل يرجع إلى أنه كان قد مات فعلاً على الصليب، لأن الغرض من كسر ساقي المصلوب هو التعجل بموته. وما دام المسيح كان قد مات من تلقاء نفسه كما يتضح لنا من الكتاب المقدس، لم يكن هناك ما يدعو إلى كسر ساقيه - وطبعاً ما كان اليهود والرومان الذين كان هدفهم الوحيد أن يقضوا على المسيح قضاء تاماً، ليتركوا ساقيه دون كسر، لولا أنهم كانوا على يقين تام من أنه مات فضلاً عن ذلك، فإن واحداً من الرومان وجه إلى جنب المسيح بعد موته، بوحشية لا مثيل لها، طعنة قوية بالحربة، خشية أن يكون فيه بعد (حسب ظنه) رمق من الحياة، فيقضي بالطعنة المذكورة على هذا الرمق. وذلك لكي لا يبقى هناك مجال للشك لدى أحد ما، في أن المسيح مات فعلاً، ولكي يجنب أيضاً نفسه وزملاءه مسئولية المحاكمة القانونية التي كان يتعرض لها كل من يسمح بنزول مصلوب قبل موته.
(ج) كما أن خروج الماء والدم من جنب المسيح بعد طعنه بالحربة، لا يدل على أنه كان على قيد الحياة وقتئذ، لأن الدم (كما يقول الأطباء) يتحلل في بعض حالات الوفاة الفجائية إلى خثارة حمراء ومصل مائي، ويظل على هذا الحال بضع ساعات. وبما أن المسيح مات على الصليب قبل المدة التي يموت فيها أضعف شخص يعلق عليه بأكثر من 18 ساعة، كان من البديهي أن يخرج منه دم وماء عندما طعن بالحربة - فإذا أضفنا إلى ذلك أن موت المسيح كان قد تأيد على لسان الذين فحصوه (يوحنا 21: 33) ، كما أن رؤساء الكهنة كانوا حريصين على التحقق من موته قبل دفنه، لأنهم كانوا ينظرون إليه كألد عدو يهدد كيانهم (يوحنا 12: 19) كما ذكرنا، لا يبقى أي مجال للظن بأنه كان حياً قبل دفنه.
(د) ولو فرضنا جدلاً أن المسيح دفن قبل أن يموت، فليس من المعقول أن يكون قد خرج من القبر، لأن شخصاً جلد 40 جلدة، واجتازت المسامير في يديه ورجليه وقطعت بعض عروقه وأعصابه، ثم اخترقت الحربة بعد ذلك جنبه ومزقت بعض أحشائه، لا يستطيع (إن كان لم يمت) أن يستعيد قواه ويسحب نفسه من تحت 50 كيلو جراماً من المر والعود (ألصقت طيات أكفانه بعضها ببعض من جهة، وألصقتها بجسده من جهة أخرى) تاركاً إياها كلها كما كانت حول جسده. ثم يرفع بمفرده من الداخل حجراً عن القبر لا يستطيع أقل من بضعة رجال أشداء وهم في الخارج أن يرفعوه، وبعد ذلك يفلت من أيدي حراس مدججين بالسلاح في غاية اليقظة والإنتباه، ويقطع على قدميه رحلة شاقة طويلة إلى بلاد نائية ليس له فيها أقرباء أو أصدقاء، ولا يعرف شيئاً عن لغة أهلها أو عاداتهم.
كما أنه ليس من المعقول أن يكون المسيح بعد خروجه من القبر (إن كان لم يمت كما يقال) ، قد قام بالهروب إلى البلاد المذكورة، تاركاً تلاميذه (أحب الناس إليه) معرضين لبطش اليهود وعدوانهم، وتاركاً أيضاً الرسالة التي سلمها لهم تحت رحمة الظروف والأقدار، لكي يموت في هذه البلاد موت الضعيف الجبان. لأنه كان في وسعه (لو كان قد أراد) أن يتجنب الصلب من أول الأمر كما ذكرنا، ومن ثم كان يستطيع أن يعيش دون ألم أو عناء.
(ه ) أما من جهة القول (بتنكر المسيح في زي بستاني) ، ففضلاً عن أن المسيح لم يكن جباناً، الأمر الذي لا يدع مجالاً للقول المذكور، فالمسيح لم يلبس مطلقاً هذا الزي، بل أن مريم المجدلية هي التي ظنت أنه البستاني، لأنه لم يكن يخطر ببالها أن الشخص الذي أتت لتضع الحنوط على جسده في القبر، هو الذي كان يقف على مقربة منها. ومما يثبت أن عدم توقع حدوث أمر، يكون مدعاة للشك فيه إذا حدث، أنه عندما سجن بطرس الرسول وأعدت العدة لقتله، أخذ المؤمنون يصلون لأجله، فأنقذه اللّه من السجن بمعجزة عظمى، ومن ثم ذهب في الحال إلى هؤلاء المؤمنين لكي يبشرهم بالإحسان الذي صنعه اللّه معه، وأخذ يقرع على بابهم لكي يفتحوا له، لكنهم لم يصدقوا في أول الأمر أنه هو بعينه (أعمال 12) .
أخيراً نقول إن المعترضين لا يعتمدون على الحقائق التاريخية الثابتة، بل على الشائعات التي لا سند لها، إذ فضلاً عن أنه ليس كل من قال عن نفسه إنه رسول للمسيح، أو قال غيره إنه كذلك، يكون في الواقع رسولاً له، فليس هناك كتاب تاريخي يثبت أن ماني كان رسولاً من رسل المسيح. إذ أن كل الكتب التاريخية تثبت أن رسله جميعاً كانوا من سكان فلسطين ومن ثم لا يجوز الأخذ بالرأي الذي نحن بصدده أيضاً.