خامساً: ما أخذه من كتب الفرس
1 - موجّه التهمة: النضر بن الحارث
يشهد القرآن أن النضر بن الحارث كان يعيّر محمداً بأنه ناقل أقوال الفرس ولم يأخذ من الوحي شيئاً. ومن المعلوم أن الفرس كانوا متسلطين على كثير من قبائل العرب قبل مولد محمد وفي عصره، فانتشرت قصص ملوكهم وعقائدهم وخرافاتهم بين العرب، فتركت تأثيرها على محمد ودوَّن منها الشيء الكثير في قرآنه. وكان النضر بن الحارث يحدث الناس عن أخبار ملوك الفرس ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثاً مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتُها . فرد عليه محمد في قرآنه بقوله: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (القلم 68: 15). وجعل يسبّ النضر قائلاً: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (سورة الجاثية 45: 7 و8).
ونحن نسأل: كيف يسمح محمد لنفسه أن يشتم النضر وقد اقتبس في قرآنه من أساطير الفرس ما كان من معراج أرتيوراف، ووصف الفردوس بحوره وولدانه؟ وقد جعل محمد فعلاً معلّمه سلمان الفارسي واحداً من الصحابة؟
2 - من الموضوعات المقتبَسة
أ - معراج أرتيوراف
جاءت قصة فارسية قديمةفي كتاب باللغة الفارسية اسمه أرتيوراف نامك كُتبسنة 400 قبل الهجرة. وموضوع القصة أن المجوس أرسلوا روح أرتيوراف إلى السماء. ووقع على جسده سبات. وكان الغرض من رحلته هو الاطلاع على كل شيء في السماء والإتيان بأنبائها. فعرج إلى السماء وأرشده أحد رؤساء الملائكة فجال من طبقة إلى طبقة وترقى بالتدريج إلى أعلى فأعلى. ولما اطلع على كل شيء أمره أورمزد الإله الصالح أن يرجع إلى الأرض ويخبر الزردشتيه بما شاهد. فأخذ محمد قصة معراج أرتيوراف وجعل نفسه بطلها وقال: سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (سورة الإسراء 17: 1).
وقال محمد في الحديث عن ليلة الأسراء: أُوتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض يقال له البُراق يضع خطوة عند أقصى طرف. فجلست عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح ورأى آدم. ثم صعد بي إلى السماء الثانية فرأيت عيسى ويحيى، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فرأيت يوسف ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فرأيت إدريس. ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فرأيت هرون. ثم صعد بي إلى السماء السادسة فرأيت موسى. ثم صعد بي إلى السماء السابعة فرأيت إبراهيم. ثم رجعت إلى سدرة المنتهى فرأيت أربعة أنهارٍ فيها النيل والفرات. ثم أوتيتُ بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن. فقال هي الفطرة أنت عليها وأمتك (مشكاة المصابيح صفحة 518-520).
ب - الجنة حورها وولدانها
أخذ القرآن الاعتقاد بوجود الحور في الجنة مما قاله الزردشتية القدماء عن وجود أرواح الغادات الغانيات المضيئات في السماء، وأن مكافأة أبطال الحروب هي الوجود مع الحور وولدان الحور. وكان الاعتقاد بوجود الحور سارياً عند الهنود أيضاً. وكلمة حوري في لغة أوستا (وهي من لغات الفرس القديمة).تعني الشمس وضوءها، وفي اللغة البهلوية هور وفي لغة الفرس الحديثة حنور ولفظها العرب حور (كتاب شرائع منوا فصل 5 البيت 89). فجرياً على هذه العقيدة الفارسية والتعبير الفارسي قال القرآن: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ (سورة الرحمن 55: 72). وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُون (سورة الواقعة 56: 22 و23).
3 - ملقِّن محمد: سلمان الفارسي
شهد القرآن أن المقصود بإملائه القصص الفارسية على محمد هو سلمان الفارسي فقال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَالسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (سورة النحل 16: 103).
وسلمان هذا فارسيٌّ أسلم، وكان من الصحابة، وهو الذي أشار على محمد وقت حصار المدينة بحفر الخندق، فنفّذ محمد نصيحته. وهو الذي أشار على محمد باستعمال المنجنيق في غزوة ثقيف الطائف. وقد اتهم العرب محمداً أن سلمان هذا هو الذي ساعده على تأليف قرآنه ومنه استقى الكثير من قصصه وعباراته. ومع أن محمداً قال إن سلمان أعجمي والقرآن عربي، ولكن هذا لا يمنع أن تكون المعاني لسلمان وصياغتها في أسلوبها العربي لمحمد.
سادساً: ما أخذه من كتب الحُنفاء
1 - مدح القرآن للحنفاء
جاء في سورة النساء 4: 125 وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَا تَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَا تَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً . وجاء في سورة آل عمران 3: 95 قُلْ صَدَقَ اللهُ فَا تَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ . وجاء في سورة الأنعام 6: 161 قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً . وكلمة حنيف في اللغة العبرية والسريانية تعني نجساً أو مرتداً وُصِم بها العرب الذين هجروا عبادة الأصنام وارتدوا عن دين أسلافهم. وكان هؤلاء الزاهدون في آلهة العرب هم الذين أضاءوا الأفق لمحمد فنقل آراءهم واتخذها مبدالدينه كما هو منطوق الأقوال القرآنية الواردة عنهم.
2 - نشأة الحنفاء
جاء في كتاب السيرة لابن هشام: قال ابن إسحاق، اجتمعت قريش يوماً في عيدٍ لهم عن صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه ويخرّون له ويعكفون عنده ويديرون به. وكان ذلك عيدالهم في كل سنة يوماً. فخلص منهم أربعة نفرٍ نجياً. قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، قالوا: أجل. وهم: ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى بن قُصي بن كِلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وعبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صيرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دوران بن أسد بن خزيمة. وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب. وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي. وزيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّى بن عبد الله بن قرط بن رباح بن رزاح بن عدّي بن كعب بن لؤي. وقال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما قومكم على شيء. لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم. ما حجر نطيّف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع. يا قوم التمسوالأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء. فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحقيقة.
3 - مصير الحنفاء
فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علماً من أهل الكتاب. وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة مع امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة. فلما قدم الحبشة تنصر وفارق الإسلام ومات نصرانياً. وأرسل محمد وتزوج أرملته أم حبيبة. وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده. وأما زيد بن عمرو فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان، ونهى عن قتل الموؤودة، وقال: أعبد رب إبراهيم. ونادى قومه بعيب ما هم عليه. وكان يجهر في الكعبة بمبادئه، فطرده عمه خطاب من مكة وألزمه أن يقيم على جبل حراء أمام تلك المدينة. ولم يأذن له بالدخول إلى مكة.
وكان محمد يذهب إلى جبل حراء ويصرف هناك شهراً كل سنة حيث طبع زيد على محمد في ذلك الغار أكبر أثر في أفكاره وتوجيهه.
4 - أقوال زيد بن عمرو وأثرها في القرآن
قال زيد بن عمرو في فراق دين قومه:
أربّاً واحداً أم ألف ربّ
أدين إذا تقسمت الأمور
عزلتُ اللاّت والعزَّى جميعاً
كذلك يفعل الجَلِد الصبور
فلا عزّى أدينُ ولا ابنَتَيْها
ولا صنمَيْ بني عمْرو أزور
ولا هُبلاً أدين وكان رباً
لنا في الدهر إذ حلمي يسير
عجبت وفي الليالي معجبات
وفي الأيام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالاً
كثيراً كان شأنهمُ الفجور
وأبقى آخرين ببر قوم
فيربل منهم الطفل الصغير
وبينا المرء يفتر ثاب يوماً
كما يتروَّح الغصن المطير
ولكن أعبد الرحمن ربي
ليغفر ذنبيَ الربُّ الغفور
فتقوى الله ربكم احفظوها
متى ما تحفظوهالا تبور
ترى الأبرار دارهم جنان
وللكفّار حامية سعير
وخزي في الحياة وإن يموتوا
يلاقوا ما تضيق به الصدور
سيرة ابن هشام فصل شعر زيد في فراق الوثنية
فهذه القصيدة العامرة تبيّن مبادئ الحنفاء التي تأثر بها محمد وجعلها من مقوّمات دينه. فقصيدة زيد بن عمرو قبل الإسلام وتعلن المبادئ الآتية:
1 - رفض عبادة الأوثان
2 - الإقرار بوحدانية الله
3 - الوعد بالجنة
4 - الوعيد بالعذاب في سعير جهنم
5 - أسماء الله: الرحمن، الرب، الغفور
6 - المناداة بدين إبراهيم
وقد أخذ الإسلام أهمَّ مبادئه عن الحنفاء، كما علّمها زيد بن عمرو لمحمد.
سابعاً: ما أخذه مما سمعه من الكتب السماوية
جاء في سورة الأعلى 87: 18 و19 إِنَّ هذا لفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى .
وفي هذا اعتراف صريح أن القرآن (عدا قصص نساء محمد وغاراته).مأخوذ عن الكتاب المقدس. فمن سفر التكوين اقتبس قصة الخليقة وآدم وحواء وقايين وهابيل وأخنوخ ونوح وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب ويوسف. وعن سفر الخروج أخذ قصة موسى وفرعون وعامود السحاب والمنّ والسلوى والصخرة والوصايا العشر والعجل الذهبي واللوحين والتابوت. وعن سفر اللاويين أخذ شريعة العين بالعين والسن بالسن والذبائح الدموية. وعن سفر العدد أخذ قصة الجواسيس وقورح والبقرة الحمراء وبلعام. وعن سفر التثنية أخذ أن موسى كتب التوراة وأن الكهنة حفظوها. ومن سفر يشوع اقتبس قصة دخول بني إسرائيل أرض الموعد. وأخذ قصة جدعون عن سفر القضاة، وقصة شاول وداود وجليات وتوبة داود عن سفري صموئيل، وقصة سليمان وملكة سبأ وإيليا وأليشع وسبي بابل عن أسفار الملوك والأيام. وقصة أيوب عن سفر أيوب. كما اقتبس آيات من سفر المزامير وإشعياء وحزقيال. وقصة يونان عن سفر يونان. وقصة زكريا ويحيى ومريم العذراء وميلاد المسيح ومعجزاته وموته وصعوده عن الأناجيل. وانتشار المسيحية ومجمع أورشليم ورسامة القساوسة عن أعمال الرسل. وبعض الآيات اقتباساً من رسائل بولس الرسول إلى أهل رومية وكورنثوس وغلاطية وفيلبي وتسالونيكي والعبرانيين. ومن رسائل يعقوب وبطرس ورؤيا يوحنا اللاهوتي.