الفصل الثاني
ما يقوله الحديث عن الكتاب المقدس
درسنا في الفصل السابق شهادة القرآن لصحّة التوراة والإنجيل. ولكن هذه ليست نهاية دراستنا، فإن عند المسلمين مصدراً آخر للعقيدة هو الحديث . وينقسم الحديث إلى: حديث قدسي، وهو كلام الله غير المدوَّن في القرآن، وحديث نبوي وهو ما قاله نبي المسلمين أو فعله، وقد رواه صحابته. وهناك السُّنَّة، وهي الممارسات المسجلة عن النبي. وكانت كلمة السُّنة و الحديث أول الأمر مترادفتين، ولكن كلمة السنة أصبحت تحمل معنى دينياً آخر، فبالإضافة إلى أن أقوال النبي وأفعاله كانت تُتلى لفائدة المؤمن الدينية، أصبحت قانوناً دينياً يُمارَس في حياة كل يوم. وأصبحت السنَّة مصدراً ثانياً للتشريع إلى جوار القرآن. ويعتبر المسلمون أن الأحاديث التي جمعها كلٌّ من البخاري ومسلم (ويدعونهما الشيخين) هي أصحّ الأحاديث.
ويقول المسلمون إن القرآن يقدم العقائد الأساسية، بينما يوضح الحديث الشرائع الغامضة في القرآن، ولذلك لا يمكن فهم الدين بدون الاثنين معاً.
ولكن الصعوبة التي تواجه الباحث هي معرفة مدى صحة أي حديث، فقد رُويت عن محمد أحاديث كثيرة عبر السنين، أدرك معها المسلمون أن ليست كل هذه الأحاديث صحيحة، فقام الفقهاء بدراسات مضنية لتحقيق الصحيح من الضعيف من المدسوس! وقد درس الإمام البخاري 600 ألف حديث قبل منها 7397 حديثاً فقط على أنها صحيحة. (ويقول البعض إن الصحيح كان 7295 فقط). فإذا استبعدنا الأحاديث المكررة وجدنا مجموع الأحاديث 2762 حديثاً.
ولكن لماذا نجد حديثاً كاذباً أو ضعيفاً أو مدسوساً؟ أظن الإجابة تكون: إما لإكرام الإسلام، أو إكرام رسوله، أو لإثبات فكرة ما. قال الأستاذ فضل الرحمن في كتابه الإسلام :
بنموّ التمزُّق الداخلي بين الممارسات الصوفية من جانب وقوة الإسلام الأصولي من جانب آخر، جاءت مجموعة جديدة من الأحاديث. لقد أراد الصوفيون أن يعززوا موقفهم، فاختلقوا أحاديث خيالية، لا صحة لها تاريخياً وعزوها إلى النبي . ثم قال: وهكذا ترى أن المواقف الفقهية بالنسبة للحرية الإنسانية والصفات الإلهية (إلخ) نُسبت إلى النبي نفسه .
ويبقى السؤال الملحّ: أية أحاديث هي الصحيحة؟.. عندما وجَّهتُ هذا السؤال إلى أحد المسلمين قال لي: أَقبل الحديث الذي يبدو لي معقولاً . وقال لي مدرّس مسلم: لقد سألت نفسي هذا السؤال منذ عشر سنوات، وحتى اليوم لم أجد له جواباً . وقرر بعض المسلمين أن يرفضوا الحديث تماماً، ولعل عذرهم في ذلك أن بعض معلّمي الدين الإسلامي لا يزالون يستخدمون الأحاديث المشكوكة التي تتناسب مع أغراضهم. وقد اختار الإمام محيي الدين النووي أربعين حديثاً في القرن السابع الهجري، وذكر في مقدمة كتابه سبب ذكرها:
عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري.. (حذفنا العنعنة، وفيها عبد الملك بن هارون) أن رسول الله قال: من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء وفي رواية أخرى بعثه الله فقيهاً عالِماً .
ولكن الغريب أن الإمام النووي يقول بعد ذلك:
واتفق الحفّاظ على أنه حديث ضعيف، فيه عبد الملك بن هارون، قال عنه ابن معين إنه كذاب. وضعَّفه النووي في خطبة الأربعين النووية (مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني، حديث رقم 258).
فإن كان حديث الأربعين معزوّاً إلى رواية كل هؤلاء الأبطال، ثم يكون ضعيفاً، فماذا يكون موقف صاحب المعرفة الدينية العادية من الحديث القدسي أو النبوي؟ أعتقد أنه أقل ما يكون، سيجد نفسه في حيرة! كتب الدكتور أحمد النشاش في مجلة منار الإسلام (يناير وفبراير 1981) مقالاً بعنوان المسيح الدجال بين الحقيقة والخيال اقتبس فيه كتابات كُتّاب معروفين توضح معايير قياس صحة الحديث. قال: بعد أن قال الأستاذ عبد الرزاق نوفل أن لا ذكر للمسيح الدجال في القرآن، وبعد أن برهن أن الأحاديث فيه موضوعة، تساءل: كيف إذاً نتمسك بالأحاديث التي لا تساندها آيات قرآنية؟.. ثم اقتبس من الدكتور مصطفى محمود قوله إن المسلمين يأخذون عقيدتهم عن مصدرين هما الكتاب (القرآن) والسنّة، لا يفرّقون بينهما، لأن السّنّة وحي. واقتبس تأييداً لقوله سورة النجم 53:3 و4 وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى . والنتيجة أننا يجب أن نقبل كل حديث صحيح، سواء اتفق أو اختلف مع القرآن. ويعالج الدكتور أحمد النشاش مشكلة أخرى: ماذا عن الحديث الصحيح الذي يناقض آية قرآنية؟ يقول: هذه مسألة أخرى، تحتاج إلى تفسير الحديث، وهل هو سابق للآية أم الآية سابقة له .
من هنا نرى أن الأستاذ نوفل يطلب أن يسند القرآن الحديث، بينما يرى الدكتور مصطفى محمود أن هذا ليس ضرورياً، لأن كل ما نطق به الرسول سواء كان قرآناً أو حديثاً هو وحي يوحى. فإذا تعارض القرآن والحديث فيجب أن تُجرى دراسة متأنية.
ولا شك أن هناك أحاديث صحيحة، وهناك أحاديث تتشابه مع أقوال الكتاب المقدس. ويقول الأستاذ حميد الله (في مقدمة ترجمته للقرآن إلى الفرنسية) إن كل ما جاء في صحيح البخاري صحيح، ويقول:
لنفترض أن البخاري قال: سمعتُ من أحمد بن حنبل أنه أخذ عن عبد الرزاق عن معمر عن همام الذي سمع من أبي هريرة أن الرسول قال كذا وكذا. لقد اكتُشفت في أواخر الحرب العالمية الثانية مخطوطات عن همام ومعمر وعبد الرزاق (ولو أن الأستاذ حميد الله لا يعطي تاريخ تلك المخطوطات). وعندما نبحث المصادر السابقة للبخاري نجد أنها لم تكذب، ولا حوت أساطير زمانها، ولكنه بنى عمله على أسانيد مكتوبة صحيحة .
ولكن بالرغم من دفاع الأستاذ حميد الله عن الحديث، يبقى عدم التأكّد في فكر كل مسلم.