صحة الكتاب المقدس بشهادة الحديث
رأينا في الفصل السابق أن بالقرآن نحو مئة إشارة للتوراة والإنجيل، فلا غرابة أن تجيء أحاديث كثيرة عنهما.
عن أبي هريرة قال رسول الله: يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم. فإياكم وإياهم. لا يُضلونكم ولا يفتنونكم (مشكاة المصابيح حديث 154 - رواه مسلم).
وعن أبي هريرة أن أهل الكتاب كانوا يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الإسلام، فقال رسول الله: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم، ولكن قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ (سورة البقرة 2:136) (مشكاة المصابيح حديث 155 - رواه البخاري).
واضح أن محمداً لم يؤيد ولم يناقض تفسير أهل الكتاب لكتابهم، ولا علّق على نص التوراة. ولم يعرف المسلمون إن كان تفسير اليهود لكتابهم يتفق مع نصوص التوراة أو لا يتفق.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله لأُبي بن كعب: كيف تقرأ في الصلاة؟ فقرأ أمَّ القرآن، فقال رسول الله: والذي نفسي بيده ما أُنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أُعطيته (مشكاة حديث 2142 - رواه الترمذي).
وعن جابر أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله بنسخة من التوراة فقال: يا رسول الله، هذه نسخة من التوراة. فسكت. فجعل يقرأ ووجه رسول الله يتغير. فقال أبو بكر : ثكلتك الثواكل! أما ترى ما بوجه رسول الله؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله. رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً. فقال رسول الله: والذي نفس محمد بيده، لو بدا لكم موسى فاتَّبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حياً وأدرك نبوَّتي لاتَّبعني (مشكاة حديث 195 - رواه الدارمي).
عن سلمان، قال: قرأت في التوراة أن بركة الطعام الوضوء بعده، فذكرتُ ذلك للنبي، فقال: بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده (المشكاة حديث 4208 - رواه الترمذي وأبو داود).
ومحمدٌ هنا لا يمنع قراءة التوراة ولا ينكر وجودها. وسكوته برهان على وجودها. ولنتأمل الحديث التالي:
عن خيثمة بن أبي سبرة، قال: أتيت المدينة فسألت الله أن ييسّر لي جليساً صالحاً، فيسَّر لي أبا هريرة، فجلست إليه فقلت: إني سألت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً فوُفّقتَ لي. فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من الكوفة، جئت ألتمس الخير وأطلبه. فقال: أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة، وابن مسعود صاحب طهور رسول الله ونعليه، وحذيفة صاحب سر رسول الله، وعمار الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه، وسلمان صاحب الكتابين؟ يعني الإنجيل والقرآن . (مشكاة حديث رقم 6224 - رواه الترمذي).
واضح أن الحديث يعرّف الكتابين بأنهما الإنجيل والقرآن، لا التوراة والإنجيل، وهذا يؤكد وجود إنجيل صحيح يقرأونه.
عن زياد بن لبيد، قال: ذكر النبي شيئاً فقال: ذاك أوان ذهاب العلم . قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونعلّمه أبناءنا ويقرأه أبناؤهم، ويعلّمونه أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال: ثكلتك أمك زياد! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة. أوَليس هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟ (مشكاة، حديث 277 - رواه أحمد وابن ماجه).
ويوضح هذا الحديث أن محمداً قال إن اليهود والنصارى يقرأون كتبهم، ولم يذكر أنها محرّفة ولا منسوخة. وربما كان يشير إلى اليهود والنصارى العرب الذين لا يفهمون لغة التوراة العبرية ولغة الإنجيل اليونانية. ونحن نسأل: كم عدد الذين يقرأون كتبهم المقدسة ويفهمونها؟
ولكن ماذا عن حديث بدء الوحي فانطلقت به (بمحمد) خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بنعبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرأً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي (بخاري جزء 1 ص 2). وهذا يعني أن الكتاب كان موجوداً معروفاً بين العرب.
وجاء في الحديث أن التوراة تنبأت عن محمد.
عن عطا بن يسار قال: لقيتُ عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفات رسول الله في التوراة، فقال: أجَل والله، إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين. أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ القلب ولا صخّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يأخذه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، يفتح بها أعيناً عمياً وآذاناً صُماً وقلوباً غُلفاً (السيرة النبوية لابن كثير 1:327 - رواه البخاري).
وقد جاءت هذه النبوة في سفر إشعياء بالتوراة، ويرجع تاريخها إلى 700 سنة قبل المسيح، و1300 سنة قبل محمد، وهي مقبولة شرعياً من عطا بن يسار، وتقول: هُوَذَا عَبْدِي الذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الحَقَّ لِلْأُمَمِ. لَا يَصِيحُ وَلَا يَرْفَعُ وَلَا يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَا يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لَا يُطْفِئُ,,, أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالبِرِّ، فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلْأُمَمِ، لِتَفْتَحَ عُيُونَ العُمْيِ، لِتُخْرِجَ مِنَ الحَبْسِ المَأْسُورِينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ (إشعياء 42:1-3 و6 و7).
ولما كان عندنا شاهدان: نبوة إشعياء التوراتية، وكلمات الحديث، وهما متوافقان، ندرك أن نبوة إشعياء لم تتحرف. وقد أعلن الإنجيل أن النبوة تحققت في المسيح، فهو الذي لم يكن صخّاباً، وهو الذي عفا وغفر، وهو الذي فتح عيون العمي (متى 12:18-21).
عن ابن صخر العقيلي، قال: حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله، فلما فرغت قلت لألقَينَّ هذا الرجل فلأسمعَن منه. قال: فتلقّاني الرسول وأبو بكر وعمر يمشون فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرأها، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجملهم. فقال له رسول الله: أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجدني في كتابك ذا صفتي ومخرجي؟ فقال برأسه هكذا - أي لا. فقال ابنه: إي والذي أنزل التوراة إنّا لنجدك في كتابنا صفتك ومخرجك. أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . فقال رسول الله: أقيموا اليهودي عن أخيكم . ثم ولي كفنه والصلاة عليه (السيرة النبوية لابن كثير 1:232).
لقد اختلف الفتى مع أبيه في تفسير التوراة، ولكن لم يقل أحد إن التوراة محرّفة ولا منسوخة!
عن عبد الله بن عمر، أن اليهود جاءوا إلى رسول الله فذكروا له أن رجلاً وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ قالوا: نفضحهم ويُجلَدون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم، فإن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها. فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع، فإذا آية الرجم. فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما النبي فرُجما (المشكاة حديث رقم 3559 - رواه البخاري ومسلم).
لقد طلب محمد التوراة فجيء بها، وسمع ما حكمت به، ثم قضى بحسب حكمها. ولم يقل أحد إن التوراة محرفة ولا منسوخة. وهذه حادثة يشير القرآن فيها إلى أن اليهود أخفوا الألفاظ، وذلك في قراءتها دون أن يغيّروا نصَّها.
وعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى أن الحق لليهودي، فقضى له. فقال له اليهودي: والله لقد قضيتَ بالحق. فضربه عمر بن الخطاب بالدرة، ثم قال له: وما يدريك (أني قضيت بالحق)؟
فقال له اليهودي: إنّا نجد (في التوراة) أنه ليس قاضٍ يقضي بالحق إلا كان عن يمينه ملَك وعن شماله ملَك يسددانه ويوفقانه للحق ما دام يريد الحق. فإذا ترك الحق عرجا وتركاه (الموطأ - أنس بن مالك ص 448).
لقد استمع عمر بن الخطاب لاقتباس اليهودي من توراته ولم يرفض كلمات التوراة، ولم يقل إنها من كتاب محرّف ولا منسوخ. وفي الحديث السابق وهذا الحديث نرى محمداً وعمراً يقبلان كلام التوراة الذي عند يهود عصرهم باعتبار التوراة صحيحة وموقَّرة. على أن هناك حديثاً واحداً يشذّ عن هذه القاعدة، رواه البخاري عن ابن عباس. ولقد كان ابن عباس في الرابعة عشرة من عمره يوم مات محمد، ثم ولّاه علي بن أبي طالب على البصرة:
قال ابن عباس:
كيف تسألون (أيها المسلمون) أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله أحدث؟ تقرأونه محضاً لم يُشَب، وقد حدّثكم أن أهل الكتاب بدّلوا كتاب الله وغيّروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً. ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم. لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أُنزل إليكم (صحيح البخاري ج 9 ص 136).
هذا هو الحديث الوحيد الذي يشير للكتب السابقة للقرآن باعتبارها محرّفة، من بين أحاديث عديدة تشير إلى وجود توراة وإنجيل سليمين صحيحين بين المسلمين الأوائل.
وصحيح أن اقتباسنا من الحديث لن يغير شيئاً من موقف المسلمين الذين لا يضعون الكثير من الثقة في الحديث، ولكننا نزيد أن مشكاة المصابيح لا تحوي حديثاً واحداً سلبياً عن الكتب السابقة للقرآن، كما أن كل الأحاديث جاءت إيجابية ما عدا حديث ابن عباس.
ويمكن أن يُقال إن نفراً من اليهود الجهلة أو الأشرار ربما حرفوا نسخة كانت معهم، تحدث عنها ابن عباس. ولكن سائر النسخ بقيت صحيحة، شهدت لها سائر الأحاديث. لقد كان الشيخ ورقة يكتب الكتاب من الإنجيل بالعبرانية، ولم يكن ما أخذ عنه أو ما كتبه محرفاً. وقال محمد إن اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل، ولم يقل إنهما محرفان. وحكم بما جاء في التوراة التي بين يديه برجم اليهوديين الزانيين.
ونصل إلى النتيجة التي وصلنا إليها من دراسة الآيات القرآنية، فالقرآن والحديث يقولان إن توراةً وإنجيلاً صحيحين كانا بين يدي محمد في مكة والمدينة.