القسم الثالث
الكتاب المقدس والقرآن
كتابان متشابهان في جمعهما
الفصل الأول
نظرية الوثائق وتأثيرها على التوراة والقرآن
درسنا في القسم الأول (فصل 2) بعض الافتراضات، كان آخرها افتراض د. بوكاي أن نظرية الوثائق في أصل التوراة وتطويرها نظرية صحيحة، وهي تُسمى أحياناً نظرية النقد العالي أو تُسمى باسم الرجلين اللذين أسساها، وهما جراف، وولهاوزن عام 1880م، وقد بُنيت على الافتراضات التالية:
1 - حدث تطوّر وارتقاء في الدين من تعدُّد الآلهة إلى التوحيد، وعلى هذا تكون التوراة نتاج التطوّر الطبيعي للأحاسيس الدينية عند الشعب اليهودي. ولا دخل في ذلك للوحي الإلهي عن طريق الملائكة أو الروح القدس.
2 - لم يرِد للعادات المذكورة في حياة إبرهيم ذِكرٌ خارج التوراة (مثل زواجه من أخته غير الشقيقة، وطرد إبرهيم لجاريته هاجر بناءً على طلب سارة). كما لم يرد ذكر الحثيين خارج التوراة. فتكون أحداث حياة إبرهيم وإسحق ويعقوب وسائر الآباء بلا أساس تاريخي، بل هي مجرد قصص أو أساطير.
3 - لم يكن موسى وبنو إسرائيل يعرفون الكتابة، لأنها لم تكن قد عُرفت بعد.
4 - إذاً لم يكتب موسى الأسفار الخمسة الأولى من التوراة سنة 1400 أو 1300 ق م، كما تقول التوراة والقرآن. ولكن كتبها أو جمعها كُتّاب مجهولون بعد ذلك بمئات السنين.
وبحسب هذه النظرية يكون أول الذين كتبوا شخصٌ أطلق على الله اسم يهوه عام 900 ق م ومعناه السرمدي الذي بلا بداية ولا نهاية. ويقولون إنه كتب تكوين أصحاحي 1 و2 مع أجزاء أخرى. ويقولون إنه جاء كاتب ثانٍ أطلق على الله اسم إلوهيم وكتب أجزاء كثيرة من التوراة. ثم جاء كاتب ثالث نسج هاتين الكتابتين معاً في قصة واحدة نحو سنة 650ق م. ويقولون إنك تقدر أن تميّز بين إنتاج الكاتبين الأوَّلين بملاحظة إطلاق اسم يهوه أو إلوهيم على الله.
ولم يكن هذا الدليل كافياً بحد ذاته للتفريق بين إنتاج الكاتبَين، فأخذ هؤلاء النقاد المتطرفون بعين الاعتبار عاملي الأسلوب و الأفكار اللاهوتية والتي ظنوا أنها تساعدهم للتمييز بين نصَّي يهوه و إلوهيم . أما السفر الخامس من التوراة (وهو التثنية) فيقولون إنه كُتب سنة 621 ق م. وهذا بالطبع كذبة كبيرة. ثم تدَّعي النظرية أن بعض الكهنة أضافوا وثيقة رابعة تبدأ بقصة الخلق في تكوين 1 ، ثم قاموا بإعادة ترتيب التوراة في صورتها الحالية نحو عام 400 ق م، بعد نحو ألف سنة من حياة موسى. وأطلقوا على هذه النظرية اسمJEDP وقد جاءت من الحروف الأولى من Jehovah, Elohim, Deuteronomy, Priestly.
واضح من هذا التقديم المختصر لنظرية الوثائق أنها تشكك في صحة وحي التوراة. ولو صدَقت لكان العهد القديم خدعة أدبية كبيرة!
5 - ولم يكن أصحاب نظرية الوثائق يؤمنون بالمعجزات التي أجراها موسى والمسيح، ولا بمعجزة إعلان الله عن ذاته بالوحي، فلا كلّم الله موسى ولا تكلم بواسطة غيره. ولو أن هؤلاء المتطرفين درسوا أيضاً القرآن لرفضوا أن يكون الله قد أوحى بشيء إلى محمد، لأن الكفر بالمعجزات والوحي هو الاعتقاد الأساسي من وراء هذه النظرية. وقد خصّص د. بوكاي عدة صفحات من كتابه ليقدم هذه النظرية، ونتيجة لذلك أعلن أن الكتاب المقدس مليء بالمتناقضات والحقائق غير الأكيدة. ولما كان المسلمون يقولون إن المسيحيين حرّفوا كتابهم، فإن أقوال د. بوكاي (الذي يجيء من خلفية مسيحية، والذي يؤكد نفس أقوالهم) ستزيدهم بما يقولون اقتناعاً، وستملأ نفوسهم بالانشراح.
وأذكر أن أستاذ الدين في جامعة ووستر المشيخية بأمريكا (أثناء دراستي التمهيدية لدراسة الطب) علّمنا هذه النظرية كحقيقة واقعة. فسأله زميلٌ لي:
ولكن لو صدَقت النظرية لكان الكتاب المقدس عارٍ عن الصدق . فأجابه (وكأنه يخاطب صبياً في السادسة من عمره): يمكنك أن تصدّق الكتاب المقدس إن شئت ذلك .
ولما لم أكن وقتها أمتلك حقائق تدحض ما قاله الأستاذ من أن موسى لم يكتب التوراة، (مع أن المسيح قال إنه كتبها) قبلتُ ما قال، مما زعزع ثقتي في التوراة كوحيٍ إلهي، فرفضتُ المسيحية وأصبحت لاأدرياً . لم أكن ملحداً، لكني لم أكن أدري ماذا أعتقد في الله. ولكن شكراً لله ا لَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الحَقِّ يُقْبِلُونَ (1تيموثاوس 2:4) أنه لم يتركني في جهلي، بل قادني إلى من علّموني الحقائق التي تثبت صحّة كتب التوراة والأنبياء، والتي أشارك القارئ فيها في هذا الفصل.