الفصل الثاني
نقد صيغة العهد الجديد اللغوية، وتأثير هذا على الإنجيل والقرآن
نشأت في ألمانيا فكرة نقد الصيغة اللغوية لتحاول أن تحلل الإنجيل على أساس صِيَغه الأدبية، كما فعلت نظرية الوثائق بتوراة موسى. وقال ناقدو الإنجيل إنه مؤلَّف من وحدات مستقلة وسلسلة أحداث مرويَّة شفاهاً. ويقول النقاد إنه في السنوات الثلاثين، بين صعود المسيح وتدوين الإنجيل الأول، تغيَّرت تلك الوحدات المستقلة (التي سمّوها بريكوبس pericopes) وأخذت صيغة الأدب الشعبي، شأنها في ذلك شأن الخرافات والقصص والأساطير والأمثال. ولم يكن تكوين تلك الوحدات وحفظها تحت حكم الله، بل تحت حكم احتياجات الجماعة المسيحية. فعندما كانت تواجه الجماعة مشكلة ما، كانوا يتذكرون مثلاً شائعاً من أمثال المسيح، أو يختلقون مثلاً من عند أنفسهم. وهذا يعني أنهم افتروا على المسيح ما لم يقُله ليجدوا حلاً لمشاكلهم الخاصة.
وقدّم د. بوكاي تلخيصاً وافياً لهذه الفكرة (ص 91-98) والتي يمكن أن نسميها نظرية لأنها تفتقر للبرهان. ولكن يبدو أن د. بوكاي لم يدرك أن أصحاب هذه الفكرة كانوا كافرين بالخوارق والمعجزات، ينكرون أن الله يكلم البشر بالأنبياء بواسطة الملائكة أو الروح القدس، ولم يصدقوا أن المسيح جاء برسالة سماوية في الإنجيل. وقد قال أحد قادتهم (هو رودلف بولتمان):
أية حقيقة تاريخية تتضمن فكرة القيامة تكون غير قابلة للتصديق (23).
وقال دافيد شتراوس:
لا يمكن أن نسمح بإعلان حقيقة كالقيامة (24).
ويقول أصحاب هذه الفكرة إن الرواة الأربعة لتاريخ المسيح (الأناجيل الأربعة) لم يكونوا شهود عيان لما فعله المسيح أو قاله، ولكنهم جمعوا أقوال مصادر سابقة. وقال أحدهم (وهو مارتن ديبليوس): لم يكن هناك شاهد عيان واحد ممن كتبوا عن المسيح (25). ولخّص إدوارد إلوين أفكار بولتمان في قوله:
من هو هذا الرجل يسوع؟ إنه رجل مثلنا وليس أسطورة. لم يُجرِ معجزة. لا بريق مسياوي له. ولكنه جدَّد الاحتجاج ضد أنبياء العهد القديم وقاوم التقيُّد الحرفي بالدين والعبادة الباطلة لله. وقد سلّمه اليهود للرومان الذين صلبوه. أما ما عدا هذا من معلومات عنه فهو خرافي وغير أكيد (26).
المصادر
وعلى العكس من هؤلاء العلماء المنحرفين يوجد في كل مكان علماء دين ومؤمنون جادون يؤمنون أن المسيح شخصية تاريخية ويعرفون تاريخه. ولا يعني هذا أن المسيحية تنكر أن هناك مصادر شفاهية ومكتوبة من شهود عيان، فالبشير لوقا قال هذا في فاتحة إنجيله: إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ المُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الذِينَ كَانُوا مُنْذُ البَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَّوَلِ بِتَدْقِيقٍ، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا العَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الكَلَامِ الذِي عُلِّمْتَ بِهِ (لوقا 1:1-4).
ولا بد أن نبي الإسلام أخذ عن مصادر وهو يروي قصة الفتية المسيحيين الذين ناموا 309 سنة في سورة الكهف 18:9-26. وقد يقول قائل: ولكن الله أمر محمداً أن يضمّن القصة وحياً بالقرآن. فنقول: هذا هو عين ما نقصده نحن المسيحيين بقولنا إن الروح القدس ساق البشير لوقا ليكتب ما كتب.
وعندما يقتبس د. بوكاي (ص 97) أقوال نقّاد الصيغة اللغوية ويدّعي وجود لوقا الوسيط و مرقس الوسيط مستقاةً من وثيقة ق ووثيقة ج، ثم يقول إن كل شيء خرافي وغير أكيد، فإنه يشترك مع هؤلاء النقاد المتطرفين في إنكار ثلاثة أمور متيقّنة زمن كتابة الإنجيل:
1 - وجود تلاميذ المسيح وقت تدوين الأناجيل، وكان بوسعهم أن يصححوا ما يُكتب ويُقال عن المسيح.
2 - وجود شهود أحياء رأوا معجزات المسيح، التي شاهدها العشرات والمئات والآلاف، لما أقام لعازر من القبر، وأطعم الخمسة الآلاف من خمسة أرغفة وسمكتين، وفي غيرهما من المعجزات.
3 - وجود أعداء للمسيحيين الأولين كان يمكن أن يهاجموا أية قصة مختلَقَة (27).
الكفر بصحة الحديث الشفاهي
واضح من ادعاءات نقّاد الصيغة اللغوية أنهم لا يؤمنون أن أحداً يقدر أن يحفظ الأحاديث الشفاهية وينقلها صحيحة. وعلى ذلك يكون تلاميذ المسيح الأولين عاجزين عن حفظ كلمات المسيح وقصص معجزاته بعد مرور 30 أو 35 سنة من حدوثها. وإن كان النقاد الأوربيون المتطرفون قد شكوا في قوة ذاكرة تلاميذ المسيح، فما هو عذر د. بوكاي في شكه وقد التقى بآلاف المسلمين الذين يحفظون القرآن كله عن ظهر قلب؟ إننا لا نقبل منه اتفاقه مع بعض الغربيين الكافرين!