الإنجيل تاريخياً.
بدء الإنجيل
يؤمن المسيحيون أن المسيح بدأ يعظ بالإنجيل عندما بلغ الثلاثين من العمر، فيقول لوقا 3:23 وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلَاثِينَ سَنَةً .
والمشكلة التي يواجهها المسيحيون في هذه التواريخ المبكرة تشبه تأريخ المسلمين لأحداث حياة محمد قبل الهجرة، فقد كان المسيحيون مكروهين مضطهَدين لمدة 300 سنة بعد صعود المسيح للسماء، فلم يحتفظ الرومان بسجلات دقيقة لتاريخ المسيحيين. غير أن هناك حادثتين في الإنجيل تعاوناننا على تحديد وقت ميلاد المسيح: أولاهما: أن هيرودس الكبير كان الملك وقت ميلاد المسيح (متى 2:1) وثانيتهما: أن بيلاطس كان الحاكم عندما بدأ المسيح خدمته العلنية (لوقا 3:1 و23).
ويقول التاريخ المدني إن هيرودس الكبير مات عام 4ق م، وإن حكم بيلاطس بدأ عام 26م. فإن كان ميلاد المسيح عام 4ق م قبل موت هيرودس، وبدء خدمته العلنية وهو في عمر الثلاثين عام 26م في بدء ولاية بيلاطس لأورشليم، نكون محقّين إن قلنا إن المسيح وُلد عام 4 ق م، وبدأ خدمته الجهارية عام 26م. أما التقويم الميلادي فقد وُضع عام 550م، ولا بد أن به خطأً قدره أربع سنوات.
وأخذ المسيح يتجوَّل في أورشليم يكرز بالإنجيل، فسمعه كثيرون يدعوهم لاتّباعه. وقد تبعه بعضهم. وبعد بضعة شهور اختار اثني عشر ليدرّبهم تدريباً مكثَّفاً (لوقا 6:13). وندعوهم التلاميذ الاثني عشر، أو الرسل الاثني عشر، لأنه أرسلهم ليعلنوا للبشر جميعاً أخبار الإنجيل السارة. ويسمّيهم القرآن الحواريين ويتحدث عنهم بتوقير كبير باعتبارهم أنصار الله الذين أوحى إليهم أن يؤمنوا (سورة آل عمران 3:52 و53 وسورة المائدة 5:110 و111).
ولقد ترك هؤلاء الرجال كل شيء وتبعوا المسيح. ترك بعضهم مهنة صيد السمك، وترك متّى وظيفته كجابي ضرائب، ورافقوا المسيح ثلاث سنوات ونصف في كل مكان ذهب إليه، يسمعون مواعظه ويشاهدون معجزاته. وقال بابياس (الذي جمع الأحاديث المسيحية وسجَّلها بين عامي 120 و130م): سجَّل متّى أحاديث المسيح باللغة العِبرية . وأعتقد أن متى جمع أحاديث المسيح أثناء حياة المسيح على الأرض، ولو أنه رتَّبها في صورتها النهائية بعد صعود المسيح للسماء (كما فعل زيد بن ثابت بالقرآن). وكان أولئك الحواريون حاضرين وقت ارتفاع المسيح، فنقرأ في أعمال 1:9 وَلَمَّا قَالَ (المسيح) هذَا ا رْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ .
وقد كانت أمُّ المسيح وإخوته شهوداً لتعاليم المسيح وأعماله. ويمضي سفر الأعمال فيقول: حِينَئِذٍ رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنَ الجَبَلِ الذِي يُدْعَى جَبَلَ الزَّيْتُونِ، الذِي هُوَ بِالقُرْبِ مِنْ أُورُشَلِيمَ عَلَى سَفَرِ سَبْتٍ. وَلَمَّا دَخَلُوا صَعِدُوا إِلَى العِلِّيَّةِ التِي كَانُوا يُقِيمُونَ فِيهَا: بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ وَتُومَا وَبَرْثُولَمَاوُسُ وَمَتَّى وَيَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى وَسِمْعَانُ الغَيُورُ وَيَهُوذَا بْنُ يَعْقُوبَ. هـ ؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلَاةِ وَالطِّلْبَةِ، مَعَ النِّسَاءِ، وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ، وَمَعَ إِخْوَتِهِ. وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ قَامَ بُطْرُسُ فِي وَسَطِ التَّلَامِيذِ، وَكَانَ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ مَعاً نَحْوَ مِئَةٍ وَعِشْرِينَ. فَقَالَ,.. (أعمال 1:12- 16).
من هذه الرواية نرى أن أحد عشر تلميذاً كانوا موجودين (لأن التلميذ الثاني عشر وهو يهوذا الإسخريوطي الذي خان المسيح كان قد انتحر) كما كان هناك 120 مؤمناً قوي الإيمان بالمسيح قد تركوا بيوتهم بسبب إيمانهم.
شهود آخرون
بالإضافة إلى التلاميذ الاثني عشر كان مئات آخرون قد سمعوا تعاليم المسيح وشاهدوا معجزاته. فذات يوم شفى مرضى وأخرج شياطين، واجتمع حوله خمسة آلاف، عدا النساء والأولاد، فأشبعهم من خمس خبزات وسمكتين، وفاضت اثنتا عشرة قفة من الخبز. وأقام المسيح ثلاثة أشخاص (على الأقل) من الموت، أوّلهم ابن أرملة في قرية نايين، وثانيتهم فتاة في الثانية عشرة من عمرها، ابنة قائد يهودي كبير، وثالثهم لعازر من أعيان بيت عنيا. وقد شهد القرآن لمعجزات المسيح بقوله وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ (سورة آل عمران 3:49).
وبناءً على المعلومات الواردة في الإنجيل أجرى المسيح ما بين 900 و1000 معجزة، شاهدها نحو 15 ألف شخص، ولا بد أن نحو 85 ألف آخرين من أهل المرضى الذين نالوا الشفاء عرفوا بالمعجزات وشهدوا قدرة المسيح المعجزية، وهذا يشكل خُمس عدد سكان فلسطين وقتها. وهذا يساعدنا لندرك ما حدث بعد ذلك، فبعد صعود المسيح بعشرة أيام كان العيد اليهودي المعروف بيوم الخمسين، وفيه وعَظ التلاميذ العقيدة الإنجيلية فقبلها وآمن بها نحو 3000 نفس في يوم واحد. ويدوّن سفر الأعمال هذا الحدث فيقول: وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الخَمْسِينَ كَانَ الجَمِيعُ (الرسل) مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.. فَوَقَفَ بُطْرُسُ مَعَ الأَحَدَ عَشَرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِسْرَائِيلِيُّونَ ا سْمَعُوا هذِهِ الأَقْوَالَ: يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللّه بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا اللّه بِيَدِهِ فِي وَسَطِكُمْ، كَمَا أَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ. هذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ اللّه المَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ. اَلَّذِي أَقَامَهُ اللّه نَاقِضاً أَوْجَاعَ المَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً أَنْ يُمْسَكَه الموت (أعمال 2:1 و14 و22- 24).
وواضح من كلام الرسول بطرس أنه كان متأكداً أن سامعيه يعرفون سيرة المسيح ومعجزاته، ولن ينكروا ذلك. وعندما انتهى من وعظه سألوه وسائر الرسل: ماذا نفعل أيها الرجال الإخوة؟ فأجاب: تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ا سْمِ يَسُوعَ المَسِيحِ لِغُفْرَانِ الخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُسِ,,, فَقَبِلُوا كَلَامَهُ بِفَرَحٍ، وَاعْتَمَدُوا، وَانْضَمَّ فِي ذ لِكَ اليَوْمِ نَحْوُ ثَلَاثَةِ آلَافِ نَفْسٍ (أعمال 2:38 و41).
كان هذا أول إعلان جهاري للإنجيل العقائدي، بعد صعود المسيح للسماء بعشرة أيام، نحو سنة 30م. وقد آمن بالمسيح يومها نحو ثلاثة آلاف نفس.
والآن دعنا نثير نفس الأسئلة التي أثرناها بخصوص القرآن: كيف نعرف أن نقل الإنجيل كان صحيحاً بينما لم يكن هناك إلا 120 مؤمناً يحبون المسيح؟ ربما ضاعت بعض أوراق البردي من مجموعة متّى وهم يسافرون مع المسيح في أنحاء فلسطين. وربما التهمت بهيمة شيئاً من مجموعة يوحنا وهم نيام في أحد البيوت. كيف نعرف أنه لم يحدث تحريف؟
وسنجيب أن تلاميذ المسيح حفظوا كلماته. صحيح أن المسيح لم يعطِ أمراً مباشراً بكتابة الإنجيل، ولكن هناك سببان لاعتقادنا أن التلاميذ حفظوا الإنجيل، أولهما أن اليهود كانوا يحفظون كتبهم بكل تدقيق، وكان التلميذ اليهودي يحفظ تعاليم معلّمه، وتقول المشنا التلميذ الصالح يشبه الحوض المطلي الذي لا تتسرب منه نقطة واحدة . وثانيهما أن المسيح قال: وَلِمَاذَا تَدْعُونَنِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، وَأَنْتُمْ لَا تَفْعَلُونَ مَا أَقُولُهُ؟ كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ وَيَسْمَعُ كَلَامِي وَيَعْمَلُ بِهِ، يُشْبِهُ إِنْسَاناً بَنَى بَيْتاً، وَحَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ الأَسَاسَ عَلَى الصَّخْرِ. فَلَمَّا حَدَثَ سَيْلٌ صَدَمَ النَّهْرُ ذ لِكَ البَيْتَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُزَعْزِعَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى الصَّخْرِ. وَأَمَّا الذِي يَسْمَعُ وَلَا يَعْمَلُ، فَيُشْبِهُ إِنْسَاناً بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الأَرْضِ مِنْ دُونِ أَسَاسٍ، فَصَدَمَهُ النَّهْرُ فَسَقَطَ حَالاً، وَكَانَ خَرَابُ ذ لِكَ البَيْتِ عَظِيماً (لوقا 6:46-49). فإن كنتَ تلميذاً للمسيح فإنك ستحفظ كلماته وتطبّقها على حياتك حتى لا تخرب.
ثم نجيب أن تلاميذ المسيح كانوا حاضرين وهو يُلقي تعاليمه. وكان المسيح معهم نحو أربع سنوات، آخرها قبل أن يلقي بطرس موعظته بعشرة أيام. فلو حدث خطأٌ لصحَّحه المسيح فوراً. وعلى ذلك فحتى لو لم تكن معنا مخطوطة متّى الأولى، ولو لم يكن لدينا تسجيل لموعظة بطرس الأولى، فإننا نؤمن أن ما عندنا صحيح. هذا افتراض أساسي.
من صعود المسيح إلى أول مخطوطة مكتوبة
في الشهور التالية لصعود المسيح أخذ عدد المسيحيين يزيد. وبعد معجزة الشفاء التي أجراها الله باسم المسيح على يدي بطرس ويوحنا وَكَثِيرُونَ مِنَ الذِينَ سَمِعُوا الكَلِمَةَ آمَنُوا، وَصَارَ عَدَدُ الرِّجَالِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلَافٍ (أعمال 4:4).
وقد ألقى اليهود القبض على الرسل، لكن المسيحيين وَكَانُوا لَا يَزَالُونَ كُلَّ يَوْمٍ فِي الهَيْكَلِ وَفِي البُيُوتِ مُعَلِّمِينَ وَمُبَشِّرِينَ بِيَسُوعَ المَسِيحِ.. وَكَانَتْ كَلِمَةُ اللّه تَنْمُو، وَعَدَدُ التَّلَامِيذِ يَتَكَاثَرُ جِدّاً فِي أُورُشَلِيمَ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الكَهَنَةِ يُطِيعُونَ الإِيمَانَ ,
(أعمال 5:42 و6:7).