انتشار المسيحية خارج فلسطين
عندما أعلن بطرس العقيدة الإنجيلية يوم الخمسين سمعه يهودٌ من أمم كثيرة وَكَانَ يَهُودٌ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ سَاكِنِينَ (مقيمين للاحتفال بالعيد) فِي أُورُشَلِيمَ.. فَرْتِيُّونَ وَمَادِيُّونَ وَعِيلَامِيُّونَ، وَالسَّاكِنُونَ مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ، وَاليَهُودِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَبُنْتُسَ وَأَسِيَّا وَفَرِيجِيَّةَ وَبَمْفِيلِيَّةَ وَمِصْرَ، وَنَوَاحِيَ لِيبِيَّةَ التِي نَحْوَ القَيْرَوَانِ، وَالرُّومَانِيُّونَ المُسْتَوْطِنُونَ يَهُودٌ وَدُخَلَاءُ، كِرِيتِيُّونَ وَعَرَبٌ (أعمال 2:5 و9- 11). وقد آمن كثيرون من هؤلاء لما سمعوا وعظ بطرس وغيره من الرسل. ولما عادوا إلى بلادهم في إيران والعراق وتركيا وجزيرة العرب كرزوا في بلادهم لشعوبهم برسالة الإنجيل.
وحدث اضطهاد على المسيحيين في فلسطين استُشهِد البعض فيه، وتفرق البعض في اليهودية والسامرة فَالَّذِينَ تَشَتَّتُوا جَالُوا مُبَشِّرِينَ بِالكَلِمَةِ . وكرز فيلبس المبشر لوزير المالية الحبشي، فحمل معه الإنجيل للحبشة (أعمال 8). واضطهَد شاول (الذي آمن في ما بعد وعُرف باسم بولس) المسيحيين، وسافر إلى دمشق ليلقي القبض عليهم. وهذا يعني أن المسيحية قد بلغت سوريا (أعمال 9). وقد وصل المضطَهَدون إلى فينيقية (صور وصيدا) وقبرص. ورجال قبرصيون وقيروانيون (من ليبيا) ذهبوا إلى أنطاكية في شمال سوريا (الآن جنوب تركيا) (أعمال 11:19 و20). ويذكر أعمال 11 حدوث مجاعة أيام حكم كلوديوس قيصر (الذي كان حاكماً عام 41 م) فنفترض أن الإنجيل كان قد انتشر في كل هذه البلاد خلال فترة تتراوح بين 12 إلى 15 سنة. وهكذا انتشرت العقيدة الإنجيلية في تركيا واليونان. وعندنا ما يثبت أنها وصلت روما عام 49م، ففي تلك السنة بدأ الإمبراطور كلوديوس يضطهد اليهود والمسيحيين، كما كتب المؤرخ سيوتنيوس عام 120م كان اليهود يُحدِثون اضطرابات مستمرة لأن اسم المسيح كان يُثيرهم، فطردهم كلوديوس من روما . وقدم البشير لوقا الخبر نفسه فَوَجَدَ (بولس) يَهُودِيّاً ا سْمُهُ أَكِيلَا، بُنْطِيَّ الجِنْسِ، كَانَ قَدْ جَاءَ حَدِيثاً مِنْ إِيطَالِيَا، وَبِرِيسْكِلَّا ا مْرَأَتَهُ - لِأَنَّ كُلُودِيُوسَ كَانَ قَدْ أَمَرَ أَنْ يَمْضِيَ جَمِيعُ اليَهُودِ مِنْ رُومِيَةَ. فَجَاءَ إِلَيْهِمَا (أعمال 18:2) (30).
وهذا يعني أن كثيرين من الرومان اعتنقوا المسيحية وقتها، وأثار وعظهم غضب اليهود فأثار اليهود الاضطرابات. ففي سنة 49م كانت المسيحية قد انتشرت غرباً على الأقل إلى روما، ولا بد أن عددهم بلغ مئات الآلاف.
وهناك عبارة أخرى في سفر الأعمال تقدم تاريخاً محدداً: فَأَقَامَ (بولس) سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ يُعَلِّمُ بَيْنَهُمْ (في كورنثوس) بِكَلِمَةِ اللّ هِ. وَلَمَّا كَانَ غَالِيُونُ يَتَوَلَّى أَخَائِيَةَ، قَامَ اليَهُودُ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى بُولُسَ، وَأَتَوْا بِهِ إِلَى كُرْسِيِّ الوِلَايَةِ (أعمال 18:11 و12).
وفي مطلع هذا القرن اعترض البعض على ما كتبه البشير لوقا، وقالوا إنه لم يكن هناك حاكم باسم غاليون في كورنثوس. ولكن اكتُشفت كتابة على حجر في دلفي باليونان، ترجع لعام 52م، تقول لما كان لوسيوس جونيوس غاليون صديقي حاكماً في أخائية . ومن مراجع أخرى تبيَّن أنه تولى الحكم في أول يوليو (تموز)، ولمدة سنة. فيكون المؤرخ المقدس صادقاً، وتكون إقامة بولس في كورنثوس قد تمت عام 52م.
وفي عام 55م لما كان بولس في أفسس كتب رسالة لكنيسة كورنثوس (نسميها رسالة كورنثوس الأولى). ويتفق علماء الكتاب المقدس على هذا التاريخ، ولنفحص في ذلك نصَّين:
بُولُسُ، المَدْعُوُّ رَسُولاً لِيَسُوعَ المَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللّ هِ,,, إِلَى كَنِيسَةِ اللّه التِي فِي كُورِنْثُوسَ,,, نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلَامٌ مِنَ اللّه أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ المَسِيحِ, أَمِينٌ هُوَ اللّه الذِي بِهِ دُعِيتُمْ إِلَى شَرِكَةِ ابْنِهِ يَسُوعَ المَسِيحِ رَبِّنَا (1كورنثوس 1:1 و2 و3 و9).
أما النص الثاني فيقول: وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِالإِنْجِيلِ الذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ، وَبِهِ أَيْضاً تَخْلُصُونَ، إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلَامٍ بَشَّرْتُكُمْ بِهِ. إِلَّا إِذَا كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثاً! فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَّوَلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضاً: أَنَّ المَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الكُتُبِ,,, وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لِلِاثْنَيْ عَشَرَ. وَبَعْدَ ذ لِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاقٍ إِلَى الآنَ. وَل كِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا. وَبَعْدَ ذ لِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ. وَآخِرَ الكُلِّ,,, ظَهَرَ لِي (1كورنثوس 15:1-8).
ومن هذا نرى أن بولس يؤمن بالعقيدة أ أن المسيح مات من أجل خطايانا، وقام من الموت في اليوم الثالث.
وهو يؤمن بالعقيدة ب أن المسيح ابن الله.
وقد وعظ بهذه العقيدة الإنجيلية لأهل كورنثوس شفاهاً لما كان بينهم عام 52م ليخلصوا. وها هو يسجل كتابةً في رسالة عام 55م نفس ما وعظ به شفاهاً.
والأغلب أن متّى دوَّن أقوال المسيح كتابة أثناء وجود المسيح على أرضنا، لأن لوقا يقول: كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقَّنة عندنا (لوقا 1:1). لكن رسالة كورنثوس الأولى هي أول جزءٍ من العهد الجديد يمكن أن نحدّد تاريخ كتابته. ويقول بعض علماء الكتاب إن إنجيل مرقس و رسالة يعقوب كُتبا عام 50م، إلا أن هذا اجتهاد لا يقدرون أن يبرهنوه. ولكننا متأكدون أن بولس سجّل في النصَّين اللذين اقتبسناهما أعلاه العقيدة الإنجيلية المتداولة بين الكنائس شفاهاً، فجعل منها إنجيلاً مكتوباً ظل متداولاً بلا تغيير حتى يومنا هذا.
ويجد القارئ في الصورة 1 جزءاً من 1كورنثوس 14 و15 من مخطوطةٍ على ورق البردي محفوظة في مكتبة تشستر بيتي في دبلن بأيرلندا، يرجع تاريخها إلى عام 200م، وهي النص الأساسي الذي أخذنا ترجماتنا الحديثة عنه.
ويواجهنا السؤال ثانيةً: كيف نعرف أن الإنجيل حُفظ سليماً بدون تحريف أثناء سنوات نقله شفاهاً؟ ربما نسي أحدٌ منه شيئاً. ربما لم يُقِم المسيح لعازر من الموت، وربما لم يقُل أبداً إنه القيامة والحياة . ربما لم يصعد المسيح أبداً للسماء.
ونجاوب ثانيةً: لا يمكن أن يكون قد حدث تحريف خلال أول 25 سنة بعد صعود المسيح، لأن التلاميذ حفظوا كلامه. فإن نسي أحدهم يذكّره زميله. كما أن التلاميذ الأقربين للمسيح، وهم يوحنا وبطرس ويعقوب وغيرهم كانوا أحياء، ويمكنهم منع أي تحريف. وكان آلاف ممن شاهدوا المعجزات أحياء، فلا يمكن إدخال تحريف على الإنجيل الذي انتشر حتى روما (على الأقل) غرباً وإلى سوريا والعراق شرقاً، ومن تركيا إلى جنوب ليبيا.
ونحن نؤمن أن الرسالة إلى كورنثوس صحيحة حتى لو لم تكن النسخة الأولى منها بين أيدينا . ونؤمن أن ما سجّله لوقا من تاريخ الكنيسة في سفر الأعمال هو تسجيل صادق، لأن الروح القدس أرشده ليكتبه، كما أن تأريخ المؤرخين الرومان والحفريات يؤيدان تأريخ لوقا.
(ب) الجمع الأخير للقرآن والإنجيل
القرآن الذي جمعه زيد بن ثابت ولجنته
في القسم السابق رأينا كيف تجهّزت النسخة الأولى من القرآن في عهد الخليفة الأول أبي بكر. وكانت هناك نسخ أخرى من القرآن مع بعض الصحابة، حسب ما سمعوه من محمد، أو بنَسْخه ممن كانت لديه نسخة منه. وكان عبد الله بن مسعود واحداً من أشهرهم، وكان خادماً شخصياً للنبي وحضر بدراً وأُحداً، وكان يقول إنه حفظ سبعين سورة من فم النبي مباشرة، ويقول الحديث إنه كان من أول من علّموا الناس تلاوة القرآن. ومعروف أن مصحف ابن مسعود كان يختلف في ترتيب سوره، ولم يكن يحتوي على المعوَّذتين (سورتي الفلق والناس).
وكان هناك مصحف آخر مع أُبيّ بن كعب، وهو أنصاري كان كاتب محمد في المدينة. وكان مصحف أُبيّ يحتوي على سورتين غير موجودتين في مصحف عثمان هما سورتا الخلع والحفد وآية عن طمع الإنسان أوردها بعد آية 24 من سورة يونس. وكان مصحف أُبيّ مستخدَماً في سوريا قبل ظهور مصحف عثمان. وكان أُبيّ أحد مساعدي زيد في تجهيز مصحف عثمان.
وبالإضافة إلى ابن مسعود وأُبيّ، يذكر التاريخ الإسلامي والحديث وجود مصحف علي بن أبي طالب مرتباً حسب ترتيب نزول الآيات، فكان يبدأ بسورة العلق (رقمها 96). ويذكر السيوطي في الإتقان مصحف ابن عباس الذي كان يحتوي على سورتي الخلع والحفد، كما يذكر مصحف أبي موسى المستعمل في البصرة والذي كان يحتوي على سورتي الخلع والحفد والآية التي تتحدث عن طمع الإنسان (راجع المصاحف للسِّجستاني، باب اختلاف المصاحف).
جاء في صحيح البخاري (جزء 6 ص 226 طبعة دار الشعب بالقاهرة، وفي كتاب المصاحف للسجستاني طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1985، وفي مقدمة تفسير الطبري، طبعة دار الفكر، بيروت 1984 ص 26) أن حذيفة بن اليمان قدِم على عثمان بن عفان، وكان يغزو مع أهل العراق قبل أرمينية وأذربيجان في غزوهم ذلك الفوج ممن اجتمع من أهل العراق وأهل الشام، ويتنازعون في القرآن حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما ذعره.
فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى في الكتب. وقال: غزوت أرمينية فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل الشام يقرأون بقراءة أُبيّ بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، فتكفّرهم أهل العراق. وإذا أهل العراق يقرأون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فتكفّرهم أهل الشام .
ثم يقول البخاري: فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان،فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلغة قريش، فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به. فذاك زمان حُرقت المصاحف بالعراق بالنار .
وجاء في صحيح البخاري (جزء 6 ص 226):
قال ابن شهاب: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، سمع زيد بن ثابت قال: فقدتُ آيةً من الأحزاب حين نسخنا المصحف، فقد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها. فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه (سورة الأحزاب 23) فألحقناها في سورتها بالمصحف .
والآن وقد رأينا أسلوب زيد بن ثابت في جمع سور القرآن، تعالوا نر كيف جُمع الإنجيل، وسنركز على إنجيل لوقا لأننا نملك معلومات أوفر على أسلوبه في الجمع: