احتياطات عثمان لحفظ وحدة نصوص القرآن
ذكرنا في هذا القسم بعض الأحاديث عن كيفية جمع القرآن بإشراف زيد بن ثابت، والتي ورد في أحدها: حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به. فذاك زمان حُرقت المصاحف بالعراق بالنار .
لقد قرر عثمان ألا يكون هناك اختلاف في القرآن، فأحرق كل النسخ ما عدا نسخة زيد. أحرق نسختي علي وأُبيّ بن كعب. وروى السِّجستاني أن بعض العراقيين طلبوا من ابن أُبي أن يريهم مصحف أبيه، فقال لهم إن عثمان قبضه . وقد أمر عثمانُ ابنَ مسعود في العراق أن يحرق نسخته، ولكن ابن مسعود رفض ذلك. ولا بد أنها أُبيدت بعد موته. ولو أن عثمان لم يحرق المصاحف لبقيت أربع نسخ (أو أكثر) تشهد لصحّة القرآن، فهي شهادة شاهدِي عيان وسامعين بالآذان لما قاله محمد. ولقد رأينا أن التوراة تطلب شاهدَين، ولكن عثمان لم يُبقِ إلا على شاهد واحد.
وإني أسأل القارئ المسلم: على أي أساس تبرهن لنفسك (ودعْكَ من بَرْهَنة ذلك للمسيحيين) أنه لم يحدث تحريف لفظي لنصوص القرآن؟.. وما هو رأي د. بوكاي في ما فعله عثمان؟ يكتب بوكاي في كتابه الرجل (ص 163) جملة صاغها بتدقيق: نعلم أن الإسلام انتشر بسرعة كبيرة بعد موت محمد إلى مناطق بعيدة عن منشئه، بين أقوام لم تكن أغلبيتها تعرف العربية، فاتَّخذوا بعض الاحتياطات الخاصة حتى لا يعاني النص القرآني من هذا التوسع .
ولو أن أحد المسيحيين كتب عبارة كهذه، أما كان د. بوكاي يتَّهمه بالدفاع البهلواني وإخفاء الحقائق وخداع المؤمنين!
ويدين د. بوكاي المسيحيين بقسوة ويتهمهم ب .. استبعاد لكثيرٍ من المؤلفات. وربما كان ما حُذف مائة إنجيل (ص 99) ولو أنه لا يقدم برهاناً على ما يقول. ومعروف أنه لم تكن لدى المسيحيين الأولين أية سلطة سياسية حتى تولى قسطنطين الحكم عام 324م. فلم يكن بإمكانهم أن يستبعدوا مؤلفات أو يحذفوا مئة إنجيل! صحيح أن بعض الكتب المقدسة المسيحية أُحرقت، ولكن هذا كان تنفيذاً لأوامر غير المسيحيين، ففي عام 303م أمر الإمبراطور الوثني دقلديانوس بإحراق كتب المسيحيين القانونية والأبوكريفية، ولكن الكنيسة لم تفعل هذا.
وفي عام 393م انعقد سنودس (مجلس كنسي أعلى) في هِبو بشمال أفريقيا، أقرَّ قائمة بأسماء الكتب القانونية التي اعتبرها مكتوبة بإشراف الرسل. ولما كنا نعلم أن المخطوطتين الفاتيكانية والسينائية قد كُتبتا قبل اجتماع هذه السنودس ب 40-50 سنة، وكلاهما تحتويان على 27 سفراً، ندرك أن المسيحيين الأولين قد قبلوا هذه الأسفار السبعة والعشرين نتيجة مناقشة حرة، في وقت لم تكن الكنيسة تملك فيه أية قوة سياسية تفرض رأيها!
وكان يجب على د. بوكاي أن يذكر هذا، خصوصاً وأنه أغفل ما فعله عثمان. ومع ذلك فهو يقول: ولا نستطيع إلا أن نأسف مع الأب بومار على اختفاء كمٍّ ضخمٍ من الكتب التي اعتبرَتها الكنيسة مزوَّرة (ص 100). ومع ذلك فهو لا يأسف على إحراق عثمان نسخ المصاحف الأصلية، ولا يتكرم حتى بذكر ذلك، ويكتفي بذكر احتياطات عثمان الخاصة ! لقد قال المسيح: وَلِمَاذَا تَنْظُرُ القَذَى الذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ,,, وَهَا الخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ! (متى 7:3 و4). إن ما ينتقد به د. بوكاي الكتاب المقدس قشَّة بالنسبة لما فعله عثمان بنُسخ القرآن التي كانت بيد كبار الصحابة.
ونضيف أن العدد الوفير من الأناجيل والرسائل التي ذكرها د. بوكاي (وسنشير إلى بعضها في قسم د ) تورد كلها العقيدة الإنجيلية باستثناء إنجيل برنابا، الإنجيل المزيف الذي يناقض القرآن والأناجيل الصحيحة (انظر كتابنا إنجيل برنابا إنجيل مزيف لعوض سمعان).