اختلافات في قراءات الإنجيل
كما أن للقرآن قراءات مختلفة، كذلك الحال مع الإنجيل. وقد خصَّص د. بروس متزجر (أستاذ لغة العهد الجديد وآدابه في كلية لاهوت برنستون) فصلاً من كتابه نص العهد الجديد (33) شرح فيه أسباب تلك القراءات المختلفة، ومنها:
1 - اختلافات بسبب أخطاء الكتَبة والنسَّاخ:
أ - اختلاف من عين الناسخ: فالحروف اليونانية سيجما و إبسيلون و ثيتا و أوميكرون متشابهة، فكانت عين الناسخ تخطئ فتكتب إحداها بدل الأخرى. وطبعاً لو جاء حرف مكان آخر تغيّرت القراءة.
وكان سطر يسقط أحياناً، لأن سطرين متتاليين ينتهيان بنفس الكلمة، فتقفز عين الناسخ من السطر الأول إلى السطر التالي له، ويسقط أحدهما. والقارئ اللبيب يدرك إمكانية حدوث هذا، لأننا لا زلنا نقع فيه ونحن ننقل (مثلاً) اقتباساً من كتاب.
ب - اختلاف من أُذُن الناسخ: أحياناً كان ناسخٌ يملي وسائر النسّاخ يكتبون. فكانت أذن أحدهم تخلط بين كلمتين متقاربتين، فيكتب إحداهما بدل الأخرى.
ج - اختلاف يرجع إلى أن الناسخ يحفظ جملة، فيكتبها بدل الجملة الصحيحة، لأنه لا ينقل، بل يكتب من الذاكرة.
ولا تشكّل هذه الأخطاء خطورة، ويمكن التغلّب عليها بمقارنة المخطوطات ببعضها.
2 - اختلافات بسبب دخول كلمات من هامش المخطوطة القديمة إلى متن المخطوطة الجديدة:
يحتوي هامش المخطوطة القديمة عادةً على تعليقات من قارئها ليوضّح لنفسه كلمة صعبة، كما قد يضيف ملاحظات تعينه على معرفة فقرة معينة. فكان الناسخ يُضيف الهامش التوضيحي إلى النص الأصلي. ومثال ذلك ما نجده في خاتمة إنجيل لوقا، إذ تُختم المخطوطة القديمة بالقول وكانوا (التلاميذ) كل حين في الهيكل يباركون الله وكانت إضافة على الهامش تقول يسبحون . فأدخل الناسخ يسبحون مع يباركون، فجاءنا النص وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله .
3 - اختلافات بسبب إضافة:
ومثال لذلك أن ناسخاً كتب كلمات المسيح في متى 9:13 لأني لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاة فظنها ناقصة، وأضاف إليها إلى التوبة لأنها هكذا جاءت في لوقا 5:32.
وفي رومية 13:9 ذكر الرسول بولس أربعاً من الوصايا العشر، فأضاف الناسخ وصية خامسة من ذاكرته لا تشهد بالزور .
أمانة النسّاخ
وكما رأينا مع القرآن، فإن ترك النسّاخ للفقرات الصعبة في المتن دليل واضح على أمانتهم ودقّتهم في عملهم. ولولا تقواهم لغيّروا ما بدا لهم أنه يسبب المشاكل. وهناك دليل على أمانة الناسخ في المخطوطة الفاتيكانية (وترجع لعام 350م)، فقد كان لكل أجزاء الرسائل البولُسية أرقام، وُضعت يوم كانت رسالة العبرانيين موجودة بين رسالتي غلاطية وأفسس. ثم نُقلت رسالة العبرانيين إلى مكانها الحالي (بين رسالتي فليمون ويعقوب). ووضع ناسخ الفاتيكانية رسالة العبرانيين في مكانها الجديد، ولكنه أبقى الترقيم القديم، كما وجده في النسخة التي نقل عنها، رغم معرفته أن الترقيم يجب أن يتغيّر بسبب تغيير مكان رسالة العبرانيين. ومن الغريب أن المخطوطة الفاتيكانية هي المخطوطة الوحيدة التي هاجمها د. بوكاي في كتابه، فقال:
إن صحة أي نص، حتى أكثر النصوص احتراماً، قابلة دائماً للنقاش. إن المخطوطة المعروفة باسم Codex Vaticanus تعطي مثالاً على ذلك. فطبعتها المطابقة للأصل التي أعادتها الفاتيكان عام 1965 تحتوي على تنبيه من محرريها يخبرنا أنه بعد مرور قرون عدة على النسخة حبَّر أحد النسّاخ كل الحروف، ما عدا التي رأى أنها خطأ. وهناك عبارات من النص ما زالت فيه الحروف الأولى، وهي بُنّية اللون، تُرى بشكل واضح، وتصرّ على البقاء وتتباين مع بقية النص الذي كُتب بحبر بني غامق. ولا شيء يسمح بتأكيد أن ترميم النص كان أميناً (ص 101).
أما متزجر، الذي قضى عمره يدرس المخطوطات، وكتب كتاباً عن هذا الموضوع، فإنه يذكر تحبير النسخة الفاتيكانية، ولكنه يصل إلى نتيجة تخالف النتيجة التي وصل إليها د. بوكاي، فيقول:
يعتبر علماء كثيرون النص الذي تحتويه النسخة الفاتيكانية مماثلاً بطريقة ممتازة لنصوص العهد الجديد الإسكندرية.. والنسخة الفاتيكانية هي أثمن مخطوطات الكتاب المقدس باللغة اليونانية .
ومع أن د. بوكاي يقول لا شيء يسمح بتأكيد أن ترميم النص كان أميناً إلا أنه لا يقدم دليلاً واحداً على اتهامه هذا، ولا مثالاً واحداً عن خطإ في الترميم، ولا أعطانا النسبة المئوية للخطأ! لكنه اكتفى بأن يفترض أن الترميم لم يكن أميناً تاركاً لغيره مسئولية إيجاد البرهان على الاتهام!
فإذا نظرنا ملياً إلى الصورة رقم 3 سنجد آثار الحروف الأولى التي تمَّ ترميمها، وهذا يعني أننا نملك الأصل كما نملك الترميم. ولو أن القارئ يعرف اللغة اليونانية لاكتشف بنفسه صدق ما نقول.
والمشكلة أن هجوم د. بوكاي على الكتاب المقدس يمكن أنيوجَّه إلى كل وثيقة ، بما في ذلك القرآن الذي ترى صورته (رقم 2) فصحَّة أي نص، حتى أكثر النصوص احتراماً، قابلة دوماً للنقاش . فليُثبِت لنا د. بوكاي إذاً أن هذه النسخة الأولى الكاملة من القرآن هي نسخة صحيحة. وحتى يفعل ذلك سنظل نؤكد أن النسخة الفاتيكانية (صورة 3) صحيحة تماماً، كما يؤكد كل مسلم مخلص أن صورة 2 للقرآن صحيحة تماماً.
مزيد من البراهين
على أن النساخ نسخوا الأسماء والكلمات غير العادية بدقّة وأمانة
نقل النُّساخ أسماء البلاد والملوك، عِبرية وأجنبية، بأمانة ودقة كاملتين، برغم موت أولئك الملوك ودمار تلك البلاد قبل النسخ بمئات السنين. ويعترف د. بوكاي بهذا فيقول اسم رمسيس لم يُحفظ إلا في التوراة وفي بعض الكتب اليونانية واللاتينية التي شوّهت الاسم قليلاً أو كثيراً.. أما التوراة فقد احتفظت بمنتهى الدقة باسم رمسيس، وهي تذكره أربع مرات في أسفار موسى الخمسة (ص 262).
وإليك مثالاً آخر: في 1صموئيل 13:21 الذي كان يُترجَم عندما كلّت حدود (كلمة حدود في اللغة العبرية هي pim) السكك والمناجل والمثلّثات والأسنان والفؤوس . ولم تكن كلمة حدود pim العِبرية معروفة وقتها، فخمَّن المترجمون معناها من القرينة. وبعد وقت اكتشف رجال الحفريات قطعة عملة مكتوب عليها pim وهي تساوي ثُلثي مثقال، فأُعيدت ترجمة النص في نور المعرفة الجديدة ليصبح وكانت كلفة التحديد ثلثي مثقال للسكك والمناجل، وثلث مثقال للفؤوس .
وواضح أن كلمة pim ليست هامة، ولا تؤثر في العقيدة بشيء، ولكن النسّاخ نقلوها بأمانة مدة ألفي سنة (1000 ق م إلى 1000م) دون أن يعرفوا معناها بالتحديد. ولا شك أن القارئ أدرك أن الاختلافات في القراءة (في التوراة والإنجيل والقرآن) ليست هامة ولا أساسية، ولا تؤثر بالمرة على جوهر الرسالة. فما الفرق بين يباركون الله، أو يسبحون الله، أو يسبحون ويباركون الله؟ (لوقا 24:53). وما الفرق بين أن المسيح غسلنا من خطايانا أو حررنا من خطايانا؟ إن العقيدة الإنجيلية في الحالتين باقية لم تتأثر!
ويوجد اليوم أكثر من 5300 مخطوطة قديمة من العهد الجديد أو أجزاء منه باليونانية فقط، فلا غرابة أن تكون هناك آلاف الاختلافات التافهة في القراءات. وهناك كتيب عنوانه خمسون ألف خطإ في الكتاب المقدس وهو محض هراء، كما لو قلنا إن بالقرآن خمسة آلاف خطإ. فقد استخدم المؤلف كلمة خطإ بدل تعبير اختلاف قراءات ولم يخبر القارئ أن هذه الاختلافات تم إصلاحها بمقارنة المخطوطات. وقد ارتكب د. بوكاي الخطأ نفسه في قوله: بهذا تتَّضح ضخامة ما أضافه الإنسان إلى العهد القديم. وبهذا أيضاً يتبيَّن القارئ التحوّلات التي أصابت نص العهد القديم الأول من نقلٍ إلى نقلٍ آخر، ومن ترجمة إلى ترجمة أخرى، بكل ما ينجم حتماً عن ذلك من تصحيحات جاءت على أكثر من ألفي عام (ص 19).
ولكننا لا نتعامل مع ألفي عام، فإن الإنجيل الذي بين أيدينا مترجم من نُسخٍ تمَّ نسخها في القرون 2-4م، فنحن لا نترجم ما كتبه ناسخ قام بالنسخ في القرن التاسع مثلاً، بل نترجم من الفاتيكانية (350م) ومن برديات تعود إلى عام 200م.
وقد قضى العالِمان وستكوت، وهورت 28 عاماً (1853-1881) (36) يجهّزان نسخة يونانية للعهد الجديد من أقدم النسخ المعروفة لهما، فوجدا 60 فقرة (سبعة منها في الأناجيل الأربعة) اعتبرا أن فيها أخطاء بدائية (الخطأ البدائي معناه الاختلاف مع نسخة أقدم). فما أبعد الفرق بين هذا وبين الاتهام بوجود 50 ألف خطإ!
ومنذ 1881 اكتُشفت مخطوطات وبرديات، برهنت أن اعتماد وستكوت وهورت صحَّة الأصل كان في محله.
وقال محررو الترجمة الإنكليزية المنقَّحة (عام 1946):
واضح للقارئ المدقق أنه في عام 1946 كما في عامي 1881 و1901 لم تتأثر أية عقيدة مسيحية بتنقيح الترجمات، لسبب بسيط هو أن آلافاً من اختلاف القراءات في المخطوطات لم يتطلّب تنقيح العقيدة المسيحية .
ولخَّص متزجر عام 1968 الحالة الحاضرة بقوله:
من المتَّفَق عليه أن محرري النسخة الإسكندرية كانوا علماء أكفاء مدرَّبين في التقليد العلمي الإسكندري. وقد أيَّدت المخطوطتان السينائية والفاتيكانية (وتعودان إلى منتصف القرن الرابع الميلادي) صحة النص الإسكندري. وباكتشاف البردية p66 (انظر صورتها رقم 9 في الجزء التاسع من هذا الكتاب فصل 4) وبردية p75 (انظر صورتها رقم 5 في هذا الفصل) وترجعان إلى أواخر القرن الثاني الميلادي وأوائل القرن الثالث تَبَرْهَن أن هذا النص يعود إلى نسخة أقدم ترجع إلى بدء القرن الثاني .
وهذا يعني أن المخطوطة تعود إلى 170 سنة بعد صعود المسيح، وإلى 110-120 سنة بعد كتابة بشارة يوحنا. في ذلك الوقت كان هناك مسيحيون أحياء سمعوا العقيدة الإنجيلية من آبائهم، ومن رجال عرفوا الرسل معرفة شخصية.
وهذا برهان هام يؤيد اعتقادنا أن النص الذي بين أيدينا اليوم هو النص الذي أعطاه لنا رسل المسيح.