(ه ) السنوات المئة الثانية للإنجيل
لقد تتبَّعنا التطوّر التاريخي للعهد الجديد منذ بدأ المسيح تعليمه حتى سجّل يوحنا روايته للإنجيل بين عام 80 و95م، فلم نجد أي دليل على تحريف أو تبديل.
وفي الصورتين 1 و5 رأينا المخطوطة البردية التي تعود للعام 200م، وهما تحتويان على 40 % من العهد الجديد، وعنهما أخذت الترجمات العربية والفرنسية والإنكليزية. وهذا يترك لنا فترة ما بين عام 90 إلى 200م تقريباً التي يمكن أن يتصوّر أحد أنه قد جرى أثناءها تحريف في الإنجيل. فلنوجّه التفاتنا إلى هذه الفترة.
شهود فترة ما بعد الرسل
1 - أكليمندس الروماني - 96م
في الفقرة (أ) من هذا الفصل رأينا أن رسالة كورنثوس كُتبت عام 55م. وبعد هذا بنحو خمسين سنة (نحو عام 96م) كتب أكليمندس أسقف روما رسالة لكنيسة كورنثوس (39) (كما فعل الرسول بولس من قبل) يقول: جعل الله يسوع المسيح باكورةً بإقامته من الموت . واقتبس في رسالته تلك من رسالة كورنثوس الأولى، كما اقتبس من إنجيل متى ومن خمس رسائل هي بطرس الأولى ويعقوب والعبرانيين ورومية وأفسس.
ومن المعقول أن يقتبس من رسالة رومية، لأنها أُرسلت للكنيسة التي كان يرعاها، ولكن ماذا عن بقية الرسائل التي كانت قد أُرسِلت إلى بلاد أخرى في اليونان (تركيا الحالية)؟ وهذا يبرهن أن تلك الرسائل كانت ذائعة بين الكنائس الأولى، تماماً كما أذاع المسلمون الأولون أول ما أُنزل لهم من القرآن.
ومن اقتباسنا من رسالة أكليمندس نرى أن العقيدة الإنجيلية كانت معروفة ومقبولة، ولم تتغيّر عمّا سجّله بولس كتابةً عام 55م.
2 - رسالة بوليكاربوس إلى فيلبي - 107م
وُلد بوليكاربوس عام 69 أو 70م في آسيا (تركيا الحالية)، وقد سمع الإنجيل من الرسول يوحنا الذي قضى سنوات شيخوخته في آسيا. ويقول إيريناوس إن بوليكاربوس كانت له أحاديث حميمة مع كثيرين ممّن رأوا المسيح (40). ثم صار بوليكاربوس أسقفاً لسميرنا التي تبعُد عن أفسس 40 ميلاً للشمال. وسميرنا معروفة اليوم باسم إزمير في تركيا.
ونحو عام 107م كتب بوليكاربوس رسالة لكنيسة فيلبي (وهي كنيسة أنشأها الرسول بولس عام 49 أو 50م) فيها تحدَّث بوليكاربوس عن الرسل الذين جاءونا بالإنجيل، والأنبياء الذين أنبأوا بمجيء الرب المسيا . وذكر الرسول بولس باسمه ثلاث مرات على الأقل، وأكّد أن بولس وعظ الفيلبيينوكتب لهم. وسمّى رسالة أفسس كتاباً مقدساً وهو نفس لقب توراة موسى، فيقول:
لا شك عندي أنكم تعرفون الكتب المقدسة جيداً. إنها تقول اغضبوا ولا تخطئوا، ولا تغرب الشمس على غيظكم (مقتبسة من أفسس 4:26). وطوبى للإنسان الذي يعي هذا في قلبه. وليساعدكم الله أبو ربنا يسوع المسيح وكاهننا الأبدي يسوع المسيح نفسه، ابن الله، لتنموا في الإيمان والحق (41).. ولقد احتمل المسيح حتى الموت من أجل خطايانا. ومع أنكم لم تروه بعيونكم، إلا أنكم تؤمنون به، عالمين أنكم بالنعمة مخلَّصون. ليس من أعمال (مقتبسة من أفسس 2:8) .
وواضح من هذا الاقتباس إيمان بوليكاربوس بالعقيدة الإنجيلية. وفي رسالته (وهي من 7 صفحات) اقتبس من إنجيل متى وسفر الأعمال ورسالة رومية و1كورنثوس وغلاطية و2تسالونيكي و1تيموثاوس و1بطرس و1يوحنا، كما من أفسس. وهذا يُظهر أنه اقتبس من عشرة أسفار من أسفار العهد الجديد السبعة والعشرين. وقد كُتبت هذه الأسفار العشرة في بلاد مختلفة: في فلسطين وتركيا واليونان وروما، وعرف عنها بوليكاربوس بعد عشر أو 15 سنة من موت الرسول يوحنا، مما يُظهر سعة انتشار أسفار العهد الجديد.
3 - بلني الصغير - 112م
ونقتبس أخيراً من مؤرخ روماني، كان حاكماً لولاية بيثينية (في شمال تركيا) عام 112م، وقد كتب رسائل للإمبراطور تراجان يطلب نصيحته، ويشكو من أن الأغلبية لم تعد تذبح لأصنام الرومان وأن المعابد أصابها اليأس بسبب المسيحيين. وقد أخذ بلني يقتل المسيحيين الذين يرفضون أن يذبحوا لتمثال الإمبراطور، وحاول أن يجبرهم أن يلعنوا المسيح، لأنه كان يعلم أن المسيحي الحقيقي لن يفعل هذا. وقال: إن خطأهم الوحيد أنهم اعتادوا أن يجتمعوا في يوم معيّن قبل الشروق، ليغنّوا للمسيح باعتباره إلهاً، ثم يتعاهدون معاً على عدم ارتكاب أي خطإ، من سرقة أو احتيال أو زنا أو كذب، وإنهم لا ينكرون وديعة أُعطيت لهم .
ومن شهادة هذا الحاكم الوثني نرى أن المسيحيين الأولين كانوا يعلنون إيمانهم بالعقيدة الإنجيلية، بل إنهم قبلوا الموت في سبيل إعلانها.