الفصل الرابع
المسيح المتألم
إن كان المسيح هو المخلّص المنتظَر، فلماذا رفض أن يصير ملكاً؟.. لقد تأملنا ثلاث نبوات لثلاثة أنبياء تقول إن المسيح هو الملك من سبط يهوذا. فلماذا رفض أن يملك؟
تجيئنا إجابة السؤال مِن نبوّات أخرى تصف المسيح بأنه العبد البار الذي يتألم ويموت, أولى هذه النبوات من سفر دانيال 9:21-26 وقد كُتبت قبل المسيح بستمئة سنة، وتقول:
وَأَنَا مُتَكَلِّمٌ بَعْدُ بِالصَّلَاةِ، إِذَا بِالرَّجُلِ جِبْرَائِيلَ الذِي رَأَيْتُهُ فِي الرُّؤْيَا.. لَمَسَنِي عِنْدَ وَقْتِ تَقْدِمَةِ المَسَاءِ. وَفَهَّمَنِي وَتَكَلَّمَ مَعِي وَقَالَ: يَا دَانِيآلُ، إِنِّي خَرَجْتُ الآنَ لِأُعَلِّمَكَ الفَهْمَ.. سَبْعُونَ أُسْبُوعاً قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ المُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ المَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الخَطَايَا، وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ، وَلِيُؤْتَى بِالبِرِّ الأَبَدِيِّ.. فَاعْلَمْ وَافْهَمْ أَنَّهُ مِنْ خُرُوجِ الأَمْرِ لِتَجْدِيدِ أُورُشَلِيمَ وَبَنَائِهَا إِلَى المَسِيحِ الرَّئِيسِ سَبْعَةُ أَسَابِيعَ وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ أُسْبُوعاً.. وَبَعْدَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أُسْبُوعاً يُقْطَعُ المَسِيحُ وَلَيْسَ لَهُ .
والقول يُقطَع المسيح وليس له معناه أن هذا القطع ليس من أجل نفسه بل من أجل سواه. فالواضح أن المسيح لن يملك في هذا الوقت، لأن مجيئه هذا هو لكفّارة الإثم، وليُؤتَى بالبر الأبدي .
أما النبوة الثانية فقد كتبها إشعياء قبل المسيح بسبعمئة وخمسين سنة، وتراها في أصلها العبري (صورة رقم 8) وهي لمخطوطة وُجدت في كهوف قمران، ويعود تاريخها إلى 150 سنة قبل المسيح، وتمَّ اكتشافها عام 1948. وواضح أنه لم يجرِ فيها أي تغيير طيلة تلك السنين، وهي تشبه المخطوطة التي كانت بين يدي المسيح من التوراة وصدّق عليها. تقول تلك النبوة:
مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ ا سْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟.. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الحُزْنِ.. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لِأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لِأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلَامِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا.. وَعَبْدِي البَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ العُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي المُذْنِبِينَ (إشعياء 53:1-12).
تقول هذه النبوّة إن المسيح عَبْد الرب البار سيموت ليحمل خطية كثيرين ويشفع في المذنبين. وقد روى لنا اليهودي المتنصّر ستانلي روزنتال (5) كيف حاول علماء الدين اليهود مصالحة فكرة المسيح الملك مع فكرة عبد الرب المتألم، قال:
كتب علماء اليهود القدامى في التلمود اليهودي عن مسيحَيْن يظهران على مسرح التاريخ، أحدهما المسيح ابن داود الذي سيملك، وثانيهما دعوه المسيح ابن يوسف لأنه سيتألم كما تألم يوسف بن يعقوب .
لم يكن يهود القرن المسيحي الأول يملكون ما يصالح الفكرتين. ولكن جاء المسيح بالحل عندما أوضح أنه ابن الإنسان الذي يُقطَع لكفارة الإثم ليحمل خطية كثيرين. ثم أنه سيجيء ثانية إلى أرضنا بقوة ومجد عظيم ليملك. فما حسبه قدامى علماء اليهود مسيحَيْن، نفهمه اليوم على أن المسيح الواحد يظهر مرتين.
وإذ قد عرفنا هذا التفسير، دعونا نرجع إلى إلياس، صديقنا من قرية نايين:
مناقشة في أورشليم
قال إلياس: لعلكم تتذكرون المعلّم الشاب وما ذكرتُه عنه. لم تتضح الأمور بخصوصه في ذهني تماماً. وقد زارني تاجر يسكن أورشليم (وهو أصلاً من نايين) ليشتري حملان الفصح، وهي عادة أفضل الأغنام. وقال لي كلاماً تطن له الآذان. قال إن المسيح زار أورشليم قبل بضعة أشهر بمناسبة عيد المظال، وقال لليهود الذين آمنوا به: إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلَامِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تَلَامِيذِي، وَتَعْرِفُونَ الحَقَّ وَالحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ . فتضايق علماؤنا وقالوا له: إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لِأَحَدٍ قَطُّ. كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَاراً؟ فأجابهم: ا لْحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ.. فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً (يوحنا 8:31-36).
وقال لي التاجر الأورشليمي إن المسيح قال: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كَلامِي فَلْنْ يَرَى المَوْتَ إِلَى الأَبَدِ . فصرخ فيه شيوخ اليهود: الآن علِمْنا أن بك شيطاناً. قد مات إبرهيم والأنبياء، وأنت تقول: إن كان أحدٌ يحفظ كلامي فلن يذوق الموت إلى الأبد. ألعلّك أعظم من أبينا إبرهيم الذي مات. والأنبياء ماتوا. من تجعل نفسك؟ . فأجابهم: أَبُوكُمْ إِبْرَهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ (كان إبرهيم قد مات قبل ذلك بنحو 1800 سنة). فقالوا له ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبرهيم؟ . وبدون أن يتردد لحظة قال لهم: ا لْحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَهِيمُ أَنَا كَائِنٌ . (والقول أنا كائن هو اسم الجلالة الذي لا يسوغ لأحد أن ينطق به!). وبدأ البعض يفتشون على حجارة يرجمونه بها لأنه جدَّف، غير أنهم كانوا مترددين، فخرج من الهيكل مجتازاً في وسطهم ومضى (يوحنا 8:51-59). ولو أن أحداً غير المسيح نطق بهذه الكلمات لكان كافراً.
وأكمل التاجر حديثه في اليوم التالي وقال إن المسيح فتح عيني رجل.. تفل على الأرض وصنع طيناً طلى به عيني الأعمى وأمره أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام. وساعده البعض ليذهب ويغتسل، فعاد بصيراً. وقال المسيح بعد تلك المعجزة: مَا دُمْتُ فِي العَالَمِ فَأَنَا نُورُ العَالَمِ . ولما سأله البعض عن المعجزة قال: لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا العَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ الذِينَ لَا يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الذِينَ يُبْصِرُونَ (يوحنا 9:1-39).
هكذا هو المسيح، يقول أشياء تحير، ويُجري معجزات تفوق العقل!
ثم أخبرني التاجر الأورشليمي أن المسيح بدأ أخيراً يقول إنه سيُقتَل، وإن هذا أمر سبق تدبيره. قال: إِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي، كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الخِرَافِ.. لِه ذَا يُحِبُّنِي الآبُ، لِأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لِآخُذَهَا أَيْضاً (يوحنا 10:14-17).
ا لْأَجِيرُ يَهْرُبُ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَلَا يُبَالِي بِالخِرَافِ. أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي، كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الخِرَافِ. وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ. لِه ذَا يُحِبُّنِي الآبُ، لِأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لِآخُذَهَا أَيْضاً .
فمن يقدر أن يعقل هذا؟ صحيح أنه يتكلم بأمثال وتشبيهات، ولكن مَن يمكنه ألّا يفهم مِن كلامه أنه سيموت ثم يعود للحياة ثانيةً؟ ولكن أي مسيحٍ هذا؟ ولماذا؟.. قال لي التاجر إن بعض السامعين قالوا بِهِ شَيْطَانٌ وَهُوَ يَهْذِي. لِمَاذَا تَسْتَمِعُونَ لَهُ؟ ولكن آخرين قالوا لَيْسَ هذَا كَلَامَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ. أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَعْيُنَ العُمْيَانِ؟ (يوحنا 10:20 و21).
وعندما سمعت هذا من التاجر هدأت، فلستُ وحدي الحائر، بل إن قادة ديننا أيضاً حائرون، حتى قالوا له إنْ كنتَ أنت المسيح فقُل لنا جهراً فأجابهم: إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلْأَعْمَالُ التِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِا سْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي.. إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فَلَا تُؤْمِنُوا بِي. وَل كِنْ إِنْ كُنْتُ أَعْمَلُ، فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي فَآمِنُوا بِالأَعْمَالِ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا أَنَّ الآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ .
فطلبوا أيضاً أن يمسكوه، فخرج من أيديهم (يوحنا 10:24-39).
ثم قال لي تاجر الحملان إن المسيح شفى عشرة رجال مرضى بالبرص بكلمة واحدة، فقد صرخوا يا يسوع، يا معلم، ارحمنا فنظر، وقال لهم: ا ذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ وفيما هم منطلقون طهروا (لوقا 17:12-14).
يقول إِنَّ الآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ فلا غرابة إن أرادوا أن يرجموه! ولكنك تستريح إلى صِدق قوله وإلى رغبته في أن يُريح قلبك باعتبار أنه الحق الماثل أمامك.
وكان آخِر ما قاله لي التاجر إنه يعرف واحداً من تلاميذ المسيح (ليس واحداً من الاثني عشر، بل من الدائرة الأكبر، دائرة السبعين) أخبره أن المسيح قال: اِبْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلى أَيْدِي الكَهَنَةِ وَالكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلى الأُمَمِ، فَيَهْزَأُونَ بِهُ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفي اليَوْم الثَّالِثِ يَقُومُ (مرقس 10:33 و34).
فلماذا يتنبأ بموته؟ إن عنده كل القوة ليجري المعجزات. لقد أسكت الريح وهدّأ الأمواج بكلمة (مرقس 4:37-41). فمن يجرؤ على لمسه أو إيقاع الأذى به وهو يملك هذه القوة الخارقة؟ صحيح أني سمعت أحد علمائنا يتكلم عن مسيح متألم ولكني عارضتُه لأن المسيح قوي جبار، يملك ويسحق أعداءنا الرومان الغُلف. ولم يعقِّب عالِم الدين، ولو أنه تحدث عن المسيح عبد الرب المتألم .
وكثيراً ما تساءلتُ: تُرى كيف يكون الحال في مُلك المسيح؟ لقد كان قاسياً في توبيخ الناس يوم أطعم الخمسة الآلاف، ولكنه كان رقيقاً بنا وتحدث عن الله كآبٍ سماوي يحبنا. ولن أنسى قوله: إِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالحَرِيِّ أَبُوكُمُ الذِي فِي السَّمَاوَاتِ يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ! .
ومضى إلياس يقول:
وعندي أخبار مفرحة: عمي الذي يعيش في القيروان في ليبيا، الذي لم أرهُ منذ 15 سنة سيجيء هذا العام لحضور احتفال الفصح ويوم الخمسين معنا. ولأني لن أذهب لأورشليم للفصح، إذ يجب أن أعتني بالقطعان، فسأذهب إليها مع عمي في عيد الخمسين. وقتها أرجو أن أسمع أكثر من مواعظ المسيح الذي أعتقد أنه يشهد للحق. وهم يعلمون ذلك.