الفصل السادس
المسيح العبد المتألم والشفيع
بعد أن درسنا ما يقوله القرآن بخصوص الشفاعة نوجّه أنظارنا إلى التوراة والإنجيل، فنرى النبي إشعياء يتنبأ بقدوم العبد البار الذي له الشفاعة، الذي هو المسيح.
وعندما يتكلم مسيحي مع مسلم عن معجزات المسيح كشاهدٍ ثانٍ على أن رسالة المسيح هي من عند الله، يقول المسلم لقد أجرى المسيح معجزاته بإذن الله وإن المسيح عبد الله ويقتبس ما ورد في القرآن على لسان المسيح: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (سورة مريم 19:30).
ونورد ملاحظتين:
أولاً: نؤكد أن إجراء المسيح المعجزات بإذن الله لا يُنقِص من أنها شاهد ثانٍ لصدق إرساليته، فقد برهنت على أن كلماته وأعماله هي من عند الله.
ثانياً: قد يندهش المسلم من أن المسيحيين يؤمنون أن المسيح عبد الله ورسوله، ولكن هذا هو ما نؤمن به فعلاً، وهو ما يصدق على فترة ثلاث وثلاثين سنة أقامها على كوكب الأرض. هكذا تنبأت التوراة، وهكذا قال الإنجيل. فقد تنبأت التوراة عن مجيء عبد مميَّز لله لينفّذ مشيئة الله. ولُقِّب المسيح بالعبد في الإنجيل أيضاً، فيقول عن المسيح: أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ (فيلبي 2:7 و8).
المسيح الذي لم يخطئ
شهد المسيح أنه يطيع الله، بقوله: لِأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي، ل كِنَّ الآبَ الذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ. وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ، فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هك ذَا أَتَكَلَّمُ (يوحنا 12:49 و50). وقال أيضاً: طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ (يوحنا 4:34). وقال: أَنَا لَا أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ، وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ، لِأَنِّي لَا أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الذِي أَرْسَلَنِي (يوحنا 5:30). وقال: لِأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لِأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الذِي أَرْسَلَنِي (يوحنا 6:38).
ويظهر من هذه الآيات أن المسيح جاء للعالم طاعة لأمر الله، وكان كل ما فعله وقاله من عند الله، فهو العبد البار .
وقال الرسول بولس بوحي الروح القدس: إِنَّ يَسُوعَ المَسِيحَ قَدْ صَارَ خَادِمَ الخِتَانِ، مِنْ أَجْلِ صِدْقِ اللّ هِ، حَتَّى يُثَبِّتَ مَوَاعِيدَ الآبَاءِ (إبرهيم وإسحق ويعقوب). أَمَّا الأُمَمُ فَمَجَّدُوا اللّهَ مِنْ أَجْلِ الرَّحْمَةِ (رومية 15:8 و9). وهذا يعني أن المسيح جاءنا عبداً ليخدمنا، سواء كنا يهوداً أم أمماً، وقال: لِأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ (مرقس 10:45).
وقد شهد الإنجيل للمسيح بخلوِّه من الخطية. وقال: مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي، بَلْ أَتَكَلَّمُ بِه ذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي. وَالذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي، لِأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ (يوحنا 8:28 و29).
وبعد أن وبَّخ المسيح اليهود لأنهم لم يؤمنوا به، ودعاهم أبناء إبليس تحدّاهم قائلاً: مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ . فلم يجرؤ أحدٌ أن يجاوبه!
وعندما وعظ بطرس اليهود بالمسيح الذي قام من الموت، قال لهم: أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ القُدُّوسَ البَارَّ، وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ (أعمال 3:14).
وقال الملاك للعذراء مريم ا لْقُدُّوسُ المَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللّهِ (لوقا 1:35).
ويعلن القرآن كمال المسيح في قول الملاك لمريم العذراء: أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً (سورة مريم 19:19). والزكي هو الطاهر النقي الكامل الذي لا نقص فيه. فالمسيح هو النبي الوحيد الذي (بحسب القرآن) لم يستغفر الله قط لأجل نفسه.
وقال كاتب الرسالة إلى العبرانيين (4:15): لِأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلَا خَطِيَّةٍ . وقال أيضاً: (7:25 و26): يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ إِلَى التَّمَامِ الذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللّ هِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ. لِأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هذَا، قُدُّوسٌ بِلَا شَرٍّ وَلَا دَنَسٍ، قَدِ انفَصَلَ عَنِ الخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ . وقال أيضاً: (9:14) دَمُ المَسِيحِ، الذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّ هـ بِلَا عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللّه الحَيَّ .
وقال الرسول بطرس، بعد أن عاش مع المسيح عدة سنين: عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ا فْتُدِيتُمْ.. بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلَا عَيْبٍ وَلَا دَنَسٍ، دَمِ المَسِيحِ (1بطرس 1:18 و19).
واضحٌ من كل هذه الآيات أن المسيح هو النبي الذي بلا خطية، والرسول الذي بلا وِزر. صحيح أنه لا تزر وازرة وزر أخرى (سورة الأنعام 164). لكن ماذا عن الرسول الذي بلا وزر؟ لا شك أنه هو الشفيع الكامل. وواضح أن الآيات القرآنية التي اقتبسناها في الفصل الأول من القسم الأول والفصل الخامس من هذا القسم لم تتعرض لهذه الحالة الفريدة، ولكن الكتاب المقدس يتحدث عنها. فلنتأمل الآيات الكتابية التي تتحدث عن الشفاعة.