ترتيب القرآن اجتهادي واختلاف نسخه:
لا نتعجب إذا لم يتيسّر للمسلمين ترتيب القرآن حسب أصله، فقد كان ترتيبه اجتهادياً. أخرج ابن أبي داود في المصاحف، من طريق محمد بن اسحق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه. قال: أتاني الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة التوبة، فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله ووعيتهما. فقال عمر وأنا أشهد لقد سمعتهما. ثم لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة. فانظروا آخر سورة من القرآن فألْحقوها في آخِرها . قال ابن حِجْر: ظاهر هذا أنهم كانوا يؤلفون آيات السور باجتهادهم، ولما رأوا أن هذا يحط بمقام القرآن استشهدوا بأحاديث (الإتقان باب الجمع).
على أن ترتيب الآيات هو بتوفيق. والأقرب إلى الحق أنه كان باجتهاد الصحابة. وقال جمهور العلماء إن ترتيب السور كان اجتهادياً. قال السيوطي في الإتقان : مما استدل به على أن ترتيب السور هو اجتهادي، اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور، فمنهم من رتبها على النزول، وهو مصحف علي، كان أوله إقرأ ثم المدثر ثم ن ثم المزمل ثم تبَّت ثم الكوثر وهكذا إلى آخر المكي والمدني. وكان أول مصحف ابن مسعود البقرة ثم النساء ثم آل عمران على اختلاف شديد. وكذا مصحف أُبيّ وغيره (الإتقان باب ترتيب القرآن).
وأخرج ابن أشته في المصاحف قال: أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال . ولهم كلام طويل في ذلك. وإنما نقول إنه لم يتيسّر لعثمان ولا لغيره ترتيب القرآن حسب نزوله، فقد كان محمد تارة يقول بنزول آياتٍ في السفر، وأخرى في الحضر، وتارة في النهار وأخرى في الليل، وتارة في الصيف وأخرى في الشتاء، ومرة في الفرش وأخرى في النوم، ومرة في الأرض وأخرى في السماء، حتى قسموه إلى سَفَري وحضري ونهاري وليلي وصيفي وشتائي وفراشي ونومي وأرضي وسمائي. فمن ذا الذي كان معه في جميع هذه الأزمنة والأمكنة حتى يعرف أوقات نزوله بالتقريب؟ وزد على هذا أن بعضه نزل مفرَّقاً، وبعضه نزل جمعاً، وغير ذلك. فلا عجب إذا اختلفوا فيه اختلافاً كبيراً جداً، وإذا سقط منه وزيد عليه شيء كثير (راجع الفصول الأولى من كتاب الإتقان للسيوطي).
ومما يؤيد حصول الزيادة والنقصان ما جاء في المستدرك عن ابن عباس قال: سألت علياً بن أبي طالب: لِمَ لم تكتب في التوبة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأنها أمان، والتوبة نزلت بالسيف . وعن مالك أن أول التوبة لما سقط سقطت معه البسملة، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها. وفي مصحف ابن مسعود 112 سورة، لأنه لم يكتب المعوَّذتين، وفي مصحف أبيّ 116 ، لأنه كتب في آخره سورتي الحفد والخلع، وهما غير موجودتين في القرآن المتداول بين المسلمين الآن. وأخرج أبو عبيد عن ابن سيرين قال: كتب أبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين، واللهمّ إنّا نستعينك، واللهمّ إياك نعبد. وتركهنّ ابن مسعود. وكتب عثمان منهنّ فاتحة الكتاب والمعوذتين . ومع ذلك يقولون إن القرآن الموجود هو الذي كان في اللوح المحفوظ، وإنه أُنزل كما هو. فليخبرونا: هل القرآن الذي كان في اللوح المحفوظ هو حسب قرآن علي، أو قرآن ابن مسعود، أو أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو عائشة؟
أخرج الطبراني (وهنا حذفنا الأسانيد لطولها) قال: قال لي عبد الملك بن مروان: لقد علمت ما حملك على حب أبي تراب، إلا أنك أعرابي جاف. فقلت: والله لقد جمعتُ القرآن من قبل أن يجتمع أبواك، ولقد علّمني منه علي بن أبي طالب سورتين علّمهما إياه رسول الله ما علِمتهما أنت ولا أبوك: اللهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك. اللهمّ إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد. نرجو رحمتك ونخشى عذابك. إن عذابك بالكفار ملحق . وأخرج البيهقي أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهمّ إنّا نستعينك إلى آخر ما تقدم. وإنما عوضاً عن ونخشى عذابك قال: ونخشى نقمتك . وقالوا في مصحف ابن عباس: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير، ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك . وفيه: اللهمّ إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك ونرجو رحمتك. إن عذابك بالكفار ملحق . قال العلماء (ومنهم الإمام فخر الدين) إن ابن مسعود كان ينكر أن سورة الفاتحة والمعوذتين من القرآن. وقال ابن حجر في شرح البخاري: قد صحَّ عن ابن مسعود إنكار ذلك . وأخرج أحمد وابن حبان عنه أنه كان لا يكتب المعوّذتين في مصحفه. وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وغيره، قال: كان عبد الله بن مسعود يحكّ المعوذتين من مصاحفه، ويقول إنهما ليستا من كتاب الله (الإتقان باب الجمع).
وأكد ابن حجر أنه حذفهما من قرآنه. وأخرج أبو عبيد بسند صحيح أنه أسقط الفاتحة أيضاً من مصحفه، ولما رأوا أن ذلك يحط بقدر القرآن قالوا إنه ترك الفاتحة لشهرتها. فهل تَرَك المعوّذتين لشهرتهما أيضاً؟ فإذا فعل ذلك فلا مانع إذا كان يترك القرآن كله لشهرته!
ورُوي أن عبد الله بن مسعود، لما أُمر بالمصاحف أن تُغيَّر وتُكتب على مصحف عثمان، ساءه ذلك وقال: أفأترك ما أخذتُ من فم رسول الله؟ لقد أخذت من فم رسول الله بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب النبي أني من أعلمهم بكتاب الله . فهذا يدل على أن تغيير المصاحف كان جسيماً جداً، فكأن الذي تولّى مسألة التغيير والتبديل أقل منه علماً، ولم يأخذ من الرسول قدر ما أخذ هو. وانقلبت المسألة إلى تفاخرٍ وتنافسٍ وحب رئاسة. ولو كانوا أخذوا منه السبعين سورة واعتمدوا على نقله لكان ذلك يرضيه، والظاهر أنهم لم يفعلوا ذلك. (المصاحف للساجستاني باب كراهية ابن مسعود لنسخ المصحف).
اختلافهم في عصر محمد: كان الاختلاف حاصلاً في عصر محمد ذاته، فروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله، فكدت أساوره في الصلاة. فتربّصت حتى سلّم، فلبَبْته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأها؟ قال: أقرأنيها رسول الله. فقلت: كذبتَ، فإن رسول الله قد أقرأنيها على غير ما قرأتَ. فانطلقتُ به أقوده إلى رسول الله، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تُقرئنيها. فقال رسول الله: إقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعتُه يقرأها. فقال رسول الله: هكذا أُنزلت. ثم قال النبي: إقرأ يا عمر، فقرأت بقراءتي التي أقرأني، فقال رسول الله: هكذا أُنزلت. إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسّر منه (صحيح البخاري باب أُنزل القرآن على سبعة أحرف).
والذي نعلمه أن الحق واحد، ولا بد أن أحد هذين الشخصين كان مخطئاً، والآخر كان مصيباً. ولكن محمداً لم يرد أن يغضب واحداً ويُرضي آخر، فأرضى كليهما على حساب الحقيقة.
ولما رأى علماء المسلمين أن الساقط من القرآن شيء كثير، وأن هذا يخل به، اغتفروا عن السواقط بقولهم إنه يوجد من أنواع الناسخ ما نُسخت تلاوته دون حكمه. ولكن: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ ولماذا لم تبقَ التلاوة ليجتمع العمل بحكمهما وثواب تلاوتهما؟ وأجاب صاحب الفنون بأن ذلك ليُظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به بأيسر شيء . وهو أمر غريب، فإنه إذا كانت الأمة تنكص مع صراحة النصوص عن طاعة الأوامر واجتناب النواهي، فهل نتَصوَّر أنها تأتي بأعمالٍ لم يرد عنها نص؟ وهل يليق بعدل الله أن يدين الناس بحسب شريعةٍ مفقودة غير موجودة؟ فإذا كان الحاكم الأرضي الميَّال إلى الظُلم لا يؤاخِذ أمته بقوانين لا وجود لها، فكيف نتصوّر أن الديان العادل الحكيم العليم يؤاخذ الناس ويدينهم بحسب شريعة لا وجود لأقوالها، ويكلّفهم فوق وسعهم؟
ولكن لما رأى العلماء أنه لا يوجد شيء يغتفرون به عن السواقط القرآنية وعن المناقضات سوى الناسخ والمنسوخ، تستَّروا به، لأن السواقط والمناقضات كثيرة ومربكة وتحيّر العقول.