معنى النَّسْخ:
النسخ بمعنى الإزالة كقوله في الحج (22: 52) “فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ “فإن الشيطان عندهم له دَخْل في الوحي، وقد أوحى إلى محمد عبادة اللات والعُزَّى، حتى قال إنها الغرانيق العُلى . ثم نسخها، (أسباب النزول للواحدي سبب نزول الحج 22 : 52).
ومعنى النسخ التبديل، ومنه “وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ; (النحل 16: 101) أي بالنسخ، فجعلنا الآية الناسخة مكان المنسوخة لفظاً أو حكماً.
وأجمع علماء المسلمين على أن النسخ مما خصّ الله به الأمة الإسلامية لحِكَم، منها التيسير. كأنه سبحانه لم يدْرِ أن الأحكام التي أنزلها أول الأمر لا تلائم الناس، ثم خفّفها عنهم.
(1) واختلف العلماء فقيل: لا يُنسخ القرآن إلا بقرآنٍ، لقوله: “مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ; (بقرة 2: 106). فقالوا: ولا يكون مثل القرآن وخيراً منه إلا قرآن . بل قد نُسخ القرآن بالسُنّة.
(2) قالوا: لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي مثل: افعلوا، ولا تفعلوا، وعلى الأخبار التي معناها الأمر والنهي كقوله في النور 24: 3 “ا لّزَانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالّزَانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ “يعني لا تنكحوا زانية ولا مُشركة. والأخبار التي معناها الأمر كقوله في يوسف 12: 47 “تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً “بمعنى: ازرعوا. فالأوامر والنواهي والأخبار التي بهذه الصفة يجوز نسخها. أما الأخبار بمعنى رواية الحوادث وذكرها فلا يجوز نسخها. غير أن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والسدي قالا: يدخل النسخ على الأمر والنهي وجميع الأخبار . وتابعهما على هذا القول جماعة. وعلى هذا الرأي يكون النسخ في أوامر القرآن ونواهيه وأخباره وقصصه! (راجع كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس).
(3) كان محمد إذا رأى أن أمراً من الأوامر لم يُرْضِ الصحابة يغيّره في الحال ويقول إنه منسوخ. فمن ذلك تغييره القِبْلة، فكان محمد وأصحابه يصلّون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس بعد الهجرة 16 أو 17 شهراً يأتلف بذلك اليهود. فقال اليهود: يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قِبلتنا! . فلما رأى أن ذلك يضر بطريقته تحوَّل إلى قِبلة الكعبة، فرجع كثير من العقلاء إلى اليهودية، وقالوا: رجع محمد إلى دين آبائه وترك قِبلة اليهود التي هي حق . وقال بعضهم في عصره: لا يخلو محمد من أمرين: إما أن يكون على حق فقد رجع عنه، وإما أن يكون على باطل فما كان ينبغي أن يكون عليه (الرازي في تفسير البقرة 2: 142).
ومن ذلك مسألة القتال، فلما كان محمد في مبدأ أمره ضعيفاً أمر أصحابه بالصفح عن أعدائه، ولما تقوّى حضّهم على قتالهم. قال ابن العربي: كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتولي والإعراض والكف عنهم فهو منسوخ بآية السيف (التوبة 9 : 5) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . فهذه الآية نسخت 124 آية في حُسن معاملة المشركين .
ومن ذلك قوله في البقرة 2: 284 “وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ “فقال المسلمون في عصر محمد إنه يجول الأمر في نفوسنا. لو سقطنا من السماء إلى الأرض لكان ذلك أهون علينا. وقالوا لمحمد: لا نطيق. فقال محمد لهم: لا تقولوا سمعنا وعصينا، ولكن قولوا سمعنا وأطعنا . ثم قال إن الله أنزل عليه “لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّاوُسْعَهَا ; (البقرة 2: 286). ولم يكتفوا بذلك، فخفف الوسع أيضاً بقوله: يريد الله بكم اليُسر ولا يريد بكم العُسر (البقرة 2: 185).
ورُوي عن محمدقوله: إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه . ومما يشبه ذلك قوله: يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله حق تُقاته . فقال العرب: يارسول الله، ما حق تقاته؟ قال: أن يُطاع فلا يعصَى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يكفر . فشقَّ عليهم ذلك، فنزلت: وجاهدوا في الله حق جهاده . فكان هذا أعظم من الأول ومعناها اعملوا حق عمله. وكادت عقولهم تُذهل فخفف عنهم ذلك بقوله: فاتّقوا الله ما استطعتم . فصارت ناسخة لما قبلها (أسباب النزول للواحدي سبب نزول البقرة 2: 284).
ألم يكن عارفاً في أول الأمر بما يوافق الطبيعة البشرية فيأتي من أول وهلة بما يلائمها؟ وهل البشر أحكم من المولى حتى إذا طلبوا تغيير الوحي أجابهم إلى طلبهم؟ أو هل تلبية محمد لهم هو من باب المداراة، لأنه كان يخشى نفورهم منه وتفرُّقهم عنه، وهم كانوا يحبون ديانةً سهلةً على الطبيعة البشرية؟
ورد في النساء 4: 17 “إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “فسُئل محمد: ما حدّ التائبين؟ قال: من تاب قبل موته بسنة قَبِل الله توبته . ثم قال: ألا وإن ذلك لكثير . ثم قال: من تاب قبل موته بنصف سنة قَبِل الله تعالى توبته . ثم قال: ألا وإن ذلك لكثير . ثم قال: من تاب قبل موته بشهر قَبِل الله توبته . ثم قال: ألا وإن الشهر كثير . ثم قال: من تاب قبل موته بجُمعة قَبِل الله توبته . ثم قال: ألا وإن ذلك كثير . ثم قال: من تاب قبل موته بيوم قَبِل الله توبته . ثم قال: ألا وإن ذلك لكثير . ثم قال: من تاب قبل موته بساعة قَبِل الله توبته . ثم قال: ألا وإن ذلك لكثير . ثم قال: من تاب قبل أن يغرغر قَبِل الله توبته . ثم تلا قوله: ثم يتوبون من قريب (راجع تفسير النساء 4: 17).