حالة وحي محمد:
ورد في الأحاديث الصحيحة أنه كان إذا نزل عليه الوحي يُغشى عليه، وفي رواية يصير كهيئة السكران (السيرة النبوية لابن كثير ج1 فصل كيفية إتيان الوحي). يعني يقرب من حال المغشي عليه، لتغيّره عن حالته المعهودة تغيُّراً شديداً، حتى تصير صورته صورة السكران.
وقال علماء المسلمين إنه كان يُؤخذ من الدنيا (القرآن المجيد لدَرْوزة). وعن أبي هريرة: كان محمد إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة وفي رواية كرُب لذلك وتزبَّد له وجهه وغمّض عينيه، وربما غطَّ كغطيط البَكَر (صحيح البخاري باب كيفية نزول الوحي). وعن عمر بن الخطاب: كان إذا نزل عليه الوحي يُسمع عند وجهه دوي كدوي النحل. (عن القرآن لمحمد صبيح) وسُئل محمد: كيف يأتيك الوحي؟ (قال علماء المسلمين المراد بالوحي هنا حامل الوحي جبريل) فقال: "أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليَّ، فيُفصم (أي يقلع) عني وقد وعيت ما قال" (صحيح البخاري باب كيفية نزول الوحي). وأجمع علماؤهم ومحدثوهم على أن محمداً كان يجد ثقلاً عند نزول الوحي، ويتحدَّر جبينه عرقاً في البرد كأنه الجُمان، وربما غطّ كغطيط البَكَر (أي: كهدير الإبل) ، محمرَّة عيناه . وعن زيد بن ثابت: كان إذا نزل الوحي على محمد ثقل لذلك. ومرة وقع فخذه على فخذي، فوالله ما وجدت شيئاً أثقل من فخذ محمد (صحيح البخاري كتاب التفسير باب سورة النساء). وربما أُوحي إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينقسم وربما بَرَكت. وعن أسماء بنت عميس: كان محمد إذا نزل عليه الوحي يكاد يُغشى عليه وعن أبي هريرة: كان محمد إذا نزل عليه الوحي صدع فيغلف رأسه بالحناء (السيرة النبوية لابن كثير ج1 باب كيفية إتيان الوحي). وفي مسلم عن أبي هريرة: "كان محمد إذا نزل عليه الوحي لم يستطع أحد منا أن يرفع طرفه إليه حتى ينقضي الوحي"
المكان
المفضَّل للوحي:
جاء في صحيح البخاري (ج
3 كتاب الهبة وفضلها) : عن
عائشة أن نساء رسول الله كنَّ حزبين، فحزب فيه
عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر فيه
أم سلَمة وسائر نساء رسول الله. وكان المسلمون
قد علموا حب رسول الله عائشة، فإذا كانت عند
أحدهم هدية يريد أن يهديها إليه أخّرها، حتى
إذا كان في بيت عائشة بعث إليه بها. فقال حزب
أم سلَمة لها: كلّمي رسول الله أن يكلم الناس
فيقول: من أراد أن يُهدي إلى رسول الله هدية،
فليُهدها إليه حيث كان من نسائه. فكلَّمته أم
سلَمة بما قلن لها، فلم يقل لها شيئاً.
فسألنها، فقالت: ما قال لي شيئاً. فقلن لها:
فكلميه. فكلَّمته حين دار إليها، فلم يقل لها
شيئاً، فسألنها؟ فقالت: ما قال لي شيئاً. فقلن
لها: كلميه حتى يكلمك. فدار إليها فكلمته فقال
لها: "لا تؤذيني
في عائشة، فإن الوحي لم يأتني،
وأنا في ثوب إمرأة إلا عائشة.
قالت: فقلتُ: أتوب إلى الله من أذاك يا رسول
الله" (ورد
الحديث أيضاً في مشكاة المصابيح تحقيق
الألباني حديث رقم 6180).
فهذا غير حال أنبياء التوراة الكرام، الذين تكلموا بالحِكَم الإلهية، وأعلنوا الحق أمام الملوك والأمراء والعلماء والفهماء والفلاسفة، وهم بصحة عقلٍ وجسمٍ وفهم. ولم يرِدْ أن نبياً منهم كان عند نزول الوحي يُغشى عليه، أو يصير كالسكران، أو تحمرّ عيناه، أو تجزع الناس من منظره، أو يغط كغطيط البَكَر.
وقد كان حال محمد قبل الوحي كذلك. روى ابن اسحق أنه كان يُرقَى من العين وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن، فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه قبل ذلك. فكان يصيبه قبل نزول القرآن ما يشبه الإغماء بعد حلول الرعدة به وتغميض عينيه وتزبُّد وجهه، أي تغيُّره، وغطيطه كغطيط البَكَر. فقالت له خديجة: "أوجّه إليك من يرقيك" قال: "أما الآن فلا" وقرر علماء المسلمين أن آمنة أم محمد رقَتْهُ من العَيْن. وقيل لما كانت حاملاً به جاءها الملَك وقال لها قولي إذا ولدتيه: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد (سيرة ابن هشام). وقال مفسّرو المسلمين إنه كان لمحمد عدوّ من شياطين الجن يقال له الأبيض، كان يأتيه في صورة جبريل. واعترض بعضهم بأن هذا يعني عدم الوثوق بالوحي (وهو اعتراض في محله). ولكنهم أجابوا عن ذلك بأن الله جعل في محمد عِلماً ضرورياً يميّز به بين جبريل وبين هذا الشيطان. قالوا: ولعل هذا الشيطان غَيْر قرينه الذي أسلم . وفي كلام ابن العماد: وشيطان الأنبياء يُسمَّى الأبيض. قالوا: وهذا الشيطان هو الذي أغوى صيصا الراهب العابد بعد عبادته 500 سنة، وقيل 70 سنة. وهو المعنيُّ بقوله في القرآن: "كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ" (سورة الحشر 59: 16). وقال الخازن: إن الشيطان المُسمَّى الأبيض تصدّى لمحمد وجاءه في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي، فلحقه جبريل فدفعه إلى أقصى الهند (الرازي في تفسيره للحج 22: 52 ، وتفسيره للتكوير 81: 20).
ولنا التعليق التالي:
() أحوال الأنبياء الصادقين منافية لهذا، فإنهم تربّوا في مهد التقوى وعبادة الله الصحيحة. لما وُلد صموئيل النبي كرَّستْهُ أمه لخدمة هيكل الله. فتربَّى عند عالي الكاهن، وتعلم الشريعة، وأوحى الله إليه إرادته الصالحة، فتنبأ عن الشر الذي يحل بالفجار. فلا رقَتْه أمه من الحاسد أو العين، لأنها كانت من شعب الله، وتعرف أن الحركة والسكون والمرض والموت هي بيد الله فقط. وهذا بخلاف الأمهات اللواتي يعتقدن بالعين وغيرها من الخرافات.
(2) لم يرد في كتاب الله أن نبياً كان له قرينٌ من الجنّ أو شيطان من الشياطين، فإن الشيطان لا يكون قريناً إلا لمن خلا من النعمة الإلهية! أما الذي فيه نعمة الله فيسكن فيه الروح القدس، فالإنجيل يقول لكل مؤمن: "جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ" (1كورنثوس 6: 19) فما بالك بأنبيائه؟ وهل يُعقل أن الله يأتمن من له قرين من الجن أو شيطان من الشياطين على كلمته الإلهية وإعلان إرادته للناس؟
(3) من تأمل التوراة والإنجيل رأى أن أنبياء الله منزَّهون عن الاعتقادات والخرافات الفاسدة، مؤيَّدون بالروح القدس، الذي كان يرشدهم إلى ما يقولون ويفعلون. لقد تهذَّب موسى النبي في أعظم مدارس مصر، التي انفردت بالعلوم في ذلك العصر. وكان بولس الرسول تلميذاً لأشهر أساتذة عصره. وبصرف النظر عن ذلك فكان الروح القدس هو الهادي لهم، فلا ينطقون إلا بإرادة الله، ولم تكن للشياطين والأبالسة سلطة عليهم في شيء، بل كان الأبالسة يجزعون منهم لأن قوة الله كانت فيهم.