- تعليقات على سورة يونس (10)
موسى وفرعون:
ثم بعَثْنا من بَعْدهم موسى وهارون إلى فرعون وملإيْهِ بآياتنا، فاستكبروا (آية 75).
لم يُرسَل موسى ليدعو فرعون وقومه إلى ديانته، بل لإنقاذ بني إسرائيل من العبودية، وإخراجهم من أرض مصر.
أجئْتَنا لتَلْفِتنا عمّا وجدنا عليه آباءنا وتكونَ لكما الكبرياءُ في الأرض؟ (آية 78 - يعني تستوليان على أرض مصر - الجلالان في تفسير يونس 10: 78).
يعلمنا سفر الخروج 5: 1 5 أنه لما طلب موسى وهارون من فرعون أن يطلق بني إسرائيل قال فرعون: مَنْ هو الرب حتى أستمع لقوله فأُطلق إسرائيل؟ لا أعرف الرب، وإسرائيل لا أطلقه. لماذا يا موسى وهارون تبطّلان الشعب من أعماله؟ اذهبا إلى أثقالكما . ولم يقل لهما: وتكون لكما الكبرياء في الأرض.
وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوَّءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قِبلة (آية 87).
اختلف المفسرون في معنى هذه القِبلة ومعنى هذا الكلام، فقال بعضهم: كانت الكعبة قِبلة لموسى وهارون. وقيل: كانت القِبلة إلى جهة بيت المقدس. وقيل: إنه قصد أن يجعلوا بيوتهم قِبلة يصلّون إليها. وعلى كل حال لم يأمر الله موسى وأخاه أن يتبوّءا بيوتاً في مصر، بل أمر موسى بإخراج بني إسرائيل من أرض العبودية ليرثوا أرض الموعد (القرطبي في تفسير يونس 10: 87).
دعاء موسى على فرعون:
وقال موسى: ربَّنا إنك آتيتَ فرعون وملأَهُ زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا، ربنا ليُضِلّوا عن سبيلك. ربنا اطمس على أموالهم واشدُد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يَرَوُا العذاب الأليم. قال: قد أُجيبت دعوتُكما فاستقيما ولا تتَّبعانِ سبيل الذين لا يعلمون (آيتا 88 ، 89).
قال المفسرون: الطّمس إزالة أثر الشيء بالمحو، ومعنى اطمس على أموالهم أزل صورها وهيئاتها. وقال أكثر المفسرين: مسخها وغيَّرها عن هيئتها. قال ابن عباس: إن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقرشة كهيئتها صحاحاً وأنصافاً وأثلاثاً. وقيل إن عمر بن عبد العزيز دعا بكيس فيه شيء من بقايا آل فرعون فأخرج منه البيضة منقوشة والجوزة مشقوقة وهي حجارة (ابن كثير في تفسير يونس 10: 88).
قلنا لم يرد أن موسى دعا على فرعون وقومه بهذه الدعوة وأن الله استجاب له، وأنه أزال صور أموالهم أو أهلكها. بل قالت التوراة إن موسى وهارون طلبا من فرعون أن يأذن بخروج بني إسرائيل من مصر، فاستعمل المراوغة والمخاتلة، فضربه الله ليُظهر قدرته، وليوضّح للمصريين أن أصنامهم لا تفيدهم شيئاً. ولكن أموال المصريين التي طمس الله عليها تعمِّر متاحف العالم، وهي غير مطموسة!.
إيمان فرعون:
وجاوَزْنا ببني إسرائيل البحر، فأَتْبَعهم فرعونُ وجنوده بَغْياً وعَدْواً، حتى إذا أدركه الغرق قال: آمنتُ أنه لا إله إلاّ الذي آمنَتْ به بنو إسرائيل، وأنا مِن المسلمين. الآن وقد عصَيْتُ قبْلُ وكنتُ من المفسِدين. فاليومَ ننجِّيك ببدنِك لتكون لمَن خلْفَك آيةً (آيات 90 92).
قال المفسرون: اجتمع يعقوب وبنوه وهم 72 وخرجوا مع موسى من مصر، وهم 600 ألف. وأدركهم فرعون وكان معه في عسكره 800 ألف حصان على لون حصانه سوى سائر الألوان، ولما دخلوا في البحر انطبق عليهم. فلما أدرك فرعون الغرق أتى بكلمة الإخلاص ظناً منه أنها تنجّيه.
ورُوي عن ابن عباس أن محمداً قال: لما أغرق الله فرعون قال آمنتُ أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل. قال جبريل: يا محمد، فلو رأيتني وأنا آخذ من حمأة البحر فأَدُسُّه في فمه مخافة أن تدركه الرحمة. وفي رواية أخرى أن جبريل جعل يدسّ في فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلاّ الله فيرحمه الله، أو خشية أن يرحمه الله (الطبري في تفسير يونس 10: 90 92).
اعترض الإمام الرازي فقال: هل يصحُّ أن جبريل أخذ يملأ فم فرعون بالطين لئلا يتوب غضباً عليه؟ والجواب الأقرب أنه لايصحّ، لأن في تلك الحالةإما أن يُقال: هل التكليف كان ثابتاً أم لا؟ فإن كان ثابتاً، لا يجوز لجبريل أن يمنعه من التوبة، بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة. وإن كان التكليف زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت، فحينئذٍ لا يبقىلهذاالذي نُسب إلى جبريل فائدة. ولومنعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر، والرضا بالكفر كفر. وكيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل أن يمنعه من الإيمان؟ ولو قيل إن جبريل فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله، فهذا يبطله قول جبريل: وما نتنزَّلُ إلاّ بأمر ربك (مريم 19: 64). فرُدَّ على الإمام الرازي بأن هذا الحديث صحيح، وأن الله يحول بين المرء وقلبه وغير ذلك (الرازي في تفسير يونس 10: 90 92).
والتوراة تعلّمنا أن فرعون لم يؤمن بربِّ موسى حتى في الساعة الأخيرة، فإنه رأى بعينيه الضربات التي حلّت به وبقومه ولم يرقّ قلبه. ولم يؤمن، بل أرسل جنوده لإعادة بني إسرائيل إلى أرض مصر ليستعبدهم ويذلهم ثانية.
ويقول القرآن إن فرعون خُصَّ بمزية فقيل له: فاليوم ننجِّيك . ولما كانت نجاته منافية لقول القرآن إن الله استجاب دعاء موسى عليه بالبوار، فسَّروا عبارة فاليوم ننجيك بقولهم: ننقذك ممّا وقع فيه قومك من قعر البحر، ونجعلك طافياً، أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيل. ومعنى قوله ببدنك أي عارياً عن الروح، أو كاملاً سوياً، أو عرياناً من غير لباس، أو بدرعك، حتى يكون آيةً لبني إسرائيل، إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خُيِّل إليهم أنه لا يهلك، حتى كذبوا موسى حين أخبرهم بغرقه (الرازي في تفسير الآية).
ولكن التوراة تعلّمنا أن الله أغرق كل الذين اقتفوا أثر بني إسرائيل ليردّوهم ثانية، ولم يميّز بين كبير ولا صغير، ولما رأى بنو إسرائيل هذا الخلاص العظيم سبّحوا الله وشكروه. ولم تُلْقَ جثة فرعون على الساحل وأُغرقت جثث غيره في البحر، بل كان الحكم على الكل على حد سواء، فإنه متى امتلأت الجثة غازات طَفَت من ذاتها على البحر.
ولم يرد خبر في التوراة عن غرق فرعون. وقد أيّدت التواريخ أن فرعون موسى لم يغرق، لأنه لم يخرج مع جيشه.
مُبَوَّأ صِدق:
ولقد بوَّأْنا بني إسرائيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ (آية 93).
المعنى أن الله بوَّأ بني إسرائيل منزلاً صالحاً مرضياً، فأجمع المفسرون على أن المراد بذلك مصر والشام، وقالوا إن الله أورث بني إسرائيل جميع ما كان تحت يد فرعون وقومه من ناطقٍ وصامتٍ وزرعٍ وغيره. وهذا منافٍ للوحي والتاريخ (تفسير الجلالين والطبري على الآية).
إكراه أو لا إكراه:
ولو شاء ربُّك لآمَنَ مَن في الأرض كلِّهم، أفأنت تُكرِه الناسَ حتى يكونوا مؤمنين (آية 99).
قاتلوهم حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكون الدِّينُ كلّه لله (الأنفال 8: 39).
نقول: كيف تتفق آيات الإكراه وعدم الإكراه؟
في بداية دعوة محمد في مكة رأى أنه ليس من صالحه إعلان الحرب على خصومه. ولكن حينما استتبَّ له الأمر في المدينة أعلن هذه الحرب، حتى قال في الحديث أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (متفق عليه مشكاة المصابيح حديث رقم 12). وغاية ما اعتذر به المسلمون عن هذا قولهم إن بعض هذه الآيات ناسخ للآخر.