- تعليقات على سورة الإسراء (17)
الإسراء:
سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المَسْجِدِ الحرام إلى المسجد الأقصى (آية 1).
اختلف المفسرون فيما يتعلق بالإسراء فقالوا إنه كان من الكعبة أو من الحِجْر، أو من بيت أم هانئ.
وقال محمد: بينما كنت نائماً في بيت أم هانئ بعد صلاة العِشاء، أُسري بي . فارتدّ كثير من قريش ورأوا أن هذا من أضغاث الأحلام، أو الأوهام. ومن أقواله في الحديث إن الصلاة كانت خمسين، فتوسّط لدى الله وجعلها خمسة وقت الإسراء (ابن كثير في تفسير هذه الآية).
وقد أورد الرازي عدة شبهات حول أحاديث الإسراء والمعراج:
- 1 - الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحدّ غير معقولة. وصعود الجرم الثقيل إلى السموات غير معقول. وصعوده إلى السموات يوجب انخراق الأفلاك، وذلك محال.
- 2 - هذا المعنى لو صحّ لكان أعظم من سائر المعجزات. وكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع الناس حتى يستدلّوا به على صدقه في ادّعاء النبوّة. فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه أحد ولا يشاهده أحد، فإنه يكون عبثاً، وذلك لا يليق بالحكيم.
- 3 - تمسّكوا بقوله وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فِتْنةً للناس (الإسراء 60). وما تلك الرؤيا إلا حديث المعراج، وإنما كان فتنة للناس لأن كثيراً ممن تبع محمداً لما سمع هذا الكلام كذَّبه وكفر به، فكان حديث المعراج سبباً لفتنة الناس، فثبت أن ذلك رؤيا رآها في المنام.
- 4 - اشتمل حديث المعراج على أشياء بعيدة منها ما روي من شق بطنه وتطهيره بماء زمزم وهو بعيد، لأن الذي يمكن غسله بالماء هو النجاسات العينية، ولا تأثير لذلك في تطهير القلب من العقائد الباطلة والأخلاق المذمومة. ومنها ما روي من ركوب البُراق وهو بعيد، لأن الله لما سيّره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك، فأيّ حاجةٍ إلى البراق. ومنها ما رُوي أنه تعالى أوجب خمسين صلاة ثم إن محمداً لم يزل يتردد بين الله وبين موسى إلى أن أعاد الخمسين إلى خمس بسبب شفقة موسى. قال القاضي: وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضوره، وإنه يوجب البداء وذلك على الله محال، فثبت أن ذلك الحديث مشتمل على ما لا يجوز قبوله، فكان مردوداً (الرازي في تفسير الإسراء 17: 1).
وبالإضافة إلى كل ما قاله المفسرون عن هذه القصة، فهي باطلة من أصلها لأن بيت المقدس (هيكل سليمان أو المسجد الأقصى) كان قد هُدم عام 70م ولم يُبْنَ إلا في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، بعد محمد بنحو مئة عام. فبعد أن بدأت دولة الأمويين بحكم معاوية، آلت الخلافة لعبد الملك بن مروان عام 65 ه (684م) فنالت مدينة القدس عنايةً كبرى في عهده. وبعد أن زارها بعث إلى وُلاته في أرجاء العالم الإسلامي يقول إن الله وجَّهه لبناء قبَّة الصخرة والمسجد الأقصى، وأنه لا يريد أن ينفذ هذا الأمر إلا إذا إمرته الرعية. فجاءته الرسائل من أنحاء العالم الإسلامي تحبِّذ الأمر، وتقول إن عليه أن يمضي في ما عزم عليه. ويقول كتاب الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل لمؤلفه قاضي القضاء مجيد السيد الحنبلي (وقد كتبه سنة 90ه) إن عبد الملك بن مروان جدَّ في بناء القبة والمسجد الأقصى ليصرف الناس عن الحج إلى مكة وقت سيطرة عبد الله بن الزبير على الحجاز.
وجمع عبد الملك بن مروان أمهر رجال الهندسة والبناء والزخرفة فأقاموا نموذجاً لقبة الصخرة عُرض على الخليفة ، فشاور أعوانه وأقرّوه وتمّ تنفيذه. (عن كتاب القدس ومعاركنا الكبرى لمحمد صبيح).
وقصة المعراج هذه أُخذت من كتب الفرس ومن خرافاتهم القديمة، فإنها مذكورة في كتبهم 400 سنة قبل الهجرة في كتاب يسمى ارتيوراف نامك (معراج).
أمرنا مُترَفيها ففسقوا:
وإذا أرَدْنا أن نهلك قريةً أمرنا مُتْرَفيها ففسَقوا فيها فحقَّ عليها القولُ فدمَّرْناها تدميراً (آية 16).
مع أنه يقول في الأنعام 6: 131 ذلك أن لم يكن ربُّك مهلكَ القرى بظلمٍ وأهلها غافلون .
فكيف يأمرنا الله بالفسق لكي تكون له ذريعة لإهلاك الناس مع أن هناك من لم يخطئ فيهم؟
سبع سماوات:
تُسبِّحُ له السمواتُ السَّبْعُ والأرضُ (آية 44).
وكذلك ورد في المؤمنين 23: 17 ولقد خَلَقْنا فوقَكم سَبْعَ طرائِقَ وفي فصّلت 41: 12 فقَضاهُنَّ سَبْعَ سمواتٍ في يومين وفي الطلاق 65: 12 اللهُ الذي خلق سَبْعَ سمواتٍ، ومن الأرضِ مِثْلَهُنّ وفي المَلك 67: 3 الذي خَلق سبْعَ سمواتٍ طِباقاً وفي نوح 71: 15 ألم تَرَوْا كيف خلق الله سبع سموات طِباقاً .
والظاهر أن محمداً حسب السماء الدنيا هي المركز، ويليها كوكب القمر، ثم كوكب عطارد، ثم كوكب الزهرة، ثم كوكب الشمس، ثم المريخ، ثم كوكب المُشتَرَى، ثم كوكب زُحَل. أما كوكب الثوابت فهو المعبَّر عنه في القرآن بالكرسي، وقال علماؤهم: وكوكب الأطلس هو الذي عبَّر عنه بالعرش المجيد . فدعواه أن السموات سبع وأن الأرض سبع هو حسب طريقة بطليموس التي أظهرت الاكتشافات الفلكية خطأها.
- أشراف قريش ومحمد:
وقالوا: لن نؤمن لك حتى تَفْجُر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكونُ لك جَنَّةٌ من نخيلٍ وعنب، فتُفجِّر الأنهارَ خلالها تفجيراً، أو تُسقِطَ السماءَ كما زعَمْتَ علينا كِسَفاً، أو تأتي بالله والملائكة قَبِيلاً، أو يكونَ لك بيتٌ من زُخْرفٍ، أو تَرْقَى في السماء. ولن نؤمنَ لِرُقِيِّك حتى تُنَزِّلَ علينا كتاباً نقرؤه. قل: سبحان ربي، هل كنتُ إلا بشراً رسولاً؟ (آيات 90 93).
قال ابن عباس إن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، والنضر بن الحرث، وأبا البختري والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيهاً ومنبّهاً ابني الحجاج، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلّموك. فجاءهم محمد سريعاً، وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدء. وكان حريصاً يحب رشدهم حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد، إنّا بُعثنا إليك لنُعذَر فيك، وإنّا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك. لقد شتمتَ الآباء، وعِبْتَ الدين، وسفّهت الأحلام، وشتمْتَ الآلهة، وفرَّقت الجماعة، وما بقيَ من قبيحٍ إلاّ وقد جئتَه فيما بيننا وبينك. فإن كنتَ جئتَ بهذا الحديث تطلب به مالاً جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنتَ تريد الشرفَ سوَّدناك علينا. وإن كان هذا الذي بك رئى تراه قد غلب عليك لا تستطيع ردّه، بذلْنا لك أموالنا في طلب الطب، حتى نبرئك منه، ونُعذَر فيك . (وكانوا يسمّون التابع من الجن الرئى) فقال محمد: ما بي ما تقولون. ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم، ولا للشرف عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً . قالوا: يا محمد، إن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمتَ أنه ليس أحدٌ أضيق بلاداً ولا أشدّ عَيْشاً منا، فسَلْ لنا ربك الذي بعثك فليُسيِّر عنا هذه الجبال التي قد ضيَّقت علينا، ويبسط لنا بلادنا، ويفجّر لنا الأنهار كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن منهم قُصيّ بن كلاب، فإنه كان شيخاً صَدوقاً، فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل؟ فإن صدَقوك صدّقناك. فقال محمد: ما بهذا بُعثت، فقد بلغتكم ما أُرسلت به . قالوا: فإن لم تفعل هذا فسَلْ لنا ربك أن يبعث مَلَكاً يصدقك، واسأله أن يجعل لك جناتٍ وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضةً يعينك بها على ما تريد، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمس . فقال: ما بُعثتُ بهذا . قالوا: فأسقِط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنّا لا نؤمن لك إلا أن تفعل . وقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً . فلما قالوا ذلك قام محمد، وقام معه عبد الله بن أبي أمية، وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم. ثم سألوك لأنفسهم أموراً يعرفون بها منزلتك من الله فلم تفعل. ثم سألوكأن تعمل ماتُخوِّفهم به من العذاب فلم تفعل. فوالله ما أؤمن لك أبداً حتى تتَّخذ إلى السماء مَرْقى ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها، فتأتي بنسخةٍ منشورة معك، ونفرٍ من الملائكة . وفي رواية وأربعةٍ من الملائكة يشهدون لك بما تقول . فانصرف محمد إلى أهله حزيناً (الطبري في تفسير هذه الآيات).
ومن تأمل في أقوال أشراف العرب رأى أنها مبنيّة على حكمة وفطنة، فإنهم عقلاء الأمة. لقد طلبوا منه أن يأتيهم بمعجزةٍ يؤيّد بها دعوته، فعجز عن ذلك واعتراه الغم. فلو فعل شيئاً مما نسبه إليه أصحابه من انشقاق القمر ونبع الماء بين أصابعه وغير ذلك لاحتجَّ بها عند عقلاء قومه، ولكنه لم يدَّع بشيء من هذا، فأفحمه العرب، وانصرف والغم ملء فؤاده. وهم معذورون إذا قاوموه فإن الله لم يؤيده بمعجزة كما فعل مع الأنبياء الصادقين. وليس ذلك فقط، بل إنه كثيراً ما كان يعجز عن إجابة أسئلة المستفهمين، وكان يقول إن جبريل كان يغيب عنه. روى البخاري أن محمداً سأل جبريل: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فقال: وما نتنزّل إلا بأمر ربك (مريم 19: 64). وكان جبريل قد أبطأ عنه أربعين يوماً. ولما سأله قريش عن أصحاب الكهف أبطأ 15 ليلة لا يعطيه الله في ذلك وحياً.
تسع آيات موسى:
ولقد آتينا موسى تسع آياتٍ بيِّنات، فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم، فقال له فرعون: إني لأظنُّك يا موسى مسحوراً. قال: لقد علمتَ ما أنزل هؤلاء إلاّ ربُّ السموات والأرض بَصَائِرَ، وإني لأظنك يا فرعون مَثْبوراً. فأراد أن يَسْتَفِزَّهُم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعاً، وقلنا من بعده لبني إسرائيل، اسكنوا الأرض (آيات 101 104).
قال ابن عباس: هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلَّها، وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم . وقيل: عوض فلق البحر واليد السنون ونقص من الثمرات وقيل: الطمي والبحر بدل السنين والنقص. قيل: كان الرجل منهم مع أهله في الفراش وقد صارا حجرين، والمرأة تخبز وقد صارت حجراً . ورُوي أن يهودياً قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر: لا تقُل نبي، فإنه لو سمع صارت له أربعة أعين . فسألناه عن معنى قوله: ولقد آتينا موسى تسع آيات فقال: لا تشرِكوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تأكلوا الربا، ولا تسحروا، ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله، ولا تسرقوا، ولا تقذفوا المحصَّنات، ولا تفرقوا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت (الطبري في تفسير الإسراء 101).
قلنا: (1) إن الضربات التي ضرب بها الله المصريين هي عشر (خروج أصحاحات 7 12). هذا خلاف المعجزات التي صنعها موسى، منها وضع يده في عبّه وصيرورتها برصاء، وصيرورة العصا حية، وفَلْق البحر الأحمر، ونزول المنّ والسلوى، وضرب الصخرة بعصاه فخرج الماء منها، وابتلاع الأرض لدوثان ورفيقيه، وصعوده إلى الجبل وغيره.
(2) وإذا كان مراده بالتسع آيات الوصايا التي أنزلها الله، فنقول إنها عشر، مذكورة في سفر الخروج 20.
وقد ذكر القرآن أن موسى وفرعون تشاتَماً، مع أن موسى لم يشتم فرعون، كما أن فرعون لم يلعن موسى. ولا يُعقل أن موسى المشهور بالحلم والوداعة يتطاول على ملكٍ مستبد.
(3) قوله فأراد فرعون أن يستفزّهم من الأرض أي يُخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر، فأغرقه ربنا، وأمر بني إسرائيل أن يسكنوا أرض مصر. مع أن مُنية بني إسرائيل كانت الخروج من مصر، أرض العبودية، ولم يَرْضَ فرعون أن يُخرجهم إلا رغماً عن أنفه، فإن الله أخرجهم بيدٍ قوية وذراعٍ رفيعة، كما قالت التوراة.