- تعليقات على سورة الكهف (18)
أصحاب الكهف:
أَمْ حسِبْتَ أن أصحاب الكهف والرَّقيم كانوا من آياتنا عجباً، إذْ أوى الفتيةُ إلى الكهف، فقالوا: ربنا آتِنا من لدُنك رحمة وهيِّىء لنا من أمرنا رشَداً. فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً، ثم بعثناهم لنعلم أيَّ الحزبين أَحْصَى لِما لبثوا أمداً. نحن نقصُّ عليك نبأَهم بالحقِّ، إنهم فتيةٌ آمنوا بربِّهم وزِدْناهم هُدى... وتحسَبهم أَيْقاظاً وهم رقودٌ ونُقلِّبهم ذات اليمين وذات الشمال، وكلبُهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد .. وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم. قال قائل منهم: كم لبِثتُم؟ قالوا: لبِثنا يوماً أو بعض يوم. قالوا: ربُّكم أَعْلمُ بما لبِثتم، فابعثوا أحدَكم بورقِكم هذه إلى المدينة فلينظر أيُّها أزكى طعاماً فليأْتِكم برزقٍ منه ... سيقولون ثلاثةٌ رابعُهم كلبهم، ويقولون خمسةٌ سادسهم كلبهم، رَجْماً بالغيب. ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم... ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعاً (آيات 9 - 25).
شرح المفسرون هذه القصة شرحاً مطوّلاً ملخّصه أن أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا، وطغت الملوك حتى عبدوا الأصنام، وفيهم بقايا على دين المسيح. وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم دقيانوس ملك الروم عبد الأصنام، وقتل كل من رفض عبادتها. فلما نزل مدينة أصحاب الكهف واسمها فسوس اضطهد المسيحيين وقطّعهم إرباً إرباً، فلما عظمت الفتنة. ورأى الفتية ذلك فحزنوا وصلّوا وصاموا. فلما طلب منهم الملك أن يعبدوا آلهته قال أكبرهم: إن لنا إلهاً عظمته ملء السموات والأرض. لن ندعو من دونه إلهاً أبداً. وأما الطواغيت فلن نعبدها أبداً . فنزع ثيابهم وأعطاهم مهلة. ثم سافر دقيانوس إلى مدينة أخرى، فهرب الفتية إلى كهف قريب من المدينة، وتبعهم كلب. وقال ابن عباس: هربوا من دقيانوس وكانوا سبعة، فمرّوا براعٍ معه كلب فتبعهم على دينهم، وتبعهم الكلب. وكانوا يرسلون أحدهم إلى المدينة ليشتروا لهم الطعام. ولما رجع دقيانوس واستفهم عنهم أمر أن يُسدَّ الكهفُ عليهم ليموتوا جوعاً وعطشاً، ويكون كهفهم قبراً لهم. وقد توفى الله روحهم وفاة نوم، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم. ووضع أحد الناس كوم رصاص على كهفهم يشرح قصتهم. وناموا ثلثمائة سنة وسعاً، كما قال القرآن. فمات دقيانوس وتولى ملكٌ بعد آخر. وكان من الملوك الصالحين بيدروس، فجعل يدعو الناس إلى الحق، فانقسموا إلى قسمين: أهل الباطل وأهل الحق، فكثر أصحاب الباطل، فأراد الله أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف آيةً، فاتفق أن راعياً فتح باب الكهف، فأيقظ الله الفتية، فخرج أحدهم يشتري لهم طعاماً بالنقود التي كانت عندهم. ولما أبرز النقود استغربها الناس وظنوا أنه وجد كنزاً، فأمسكوه ثم اطّلعوا على حقيقة الأمر، وأن الله جعلهم آيةً لتأييد أنصار الحق ولخذلان أنصار الباطل. قال ابن عباس: اسم كلبهم قطمير، وليس في الجنة دواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم (الرازي، ابن كثير، الطبري في تفسير الكهف 18: 9 22).
ونقول: (1) حقيقة هذه الحادثة أنه لما تولّى دقلديانوس حكم روما اضطهد المسيحيين وأذاقهم العذاب، ولا سيما الذين كانوا في الإسكندرية. فارتدّ كثير منهم. غير أن الأمناء احتملوا النار ولا العار، وهرب كثير إلى الجبال والكهوف وماتوا جوعاً. ومن الذين التجأوا إلى الكهوف شاب اسمه أنبا بولا، أول عابد متوحِّد، فعاش في كهف 90 سنة، وكان النخل يظلل مغارته، وكان يشرب من ينبوع ماء قريب منها.
(2) هناك قصة تشبه قصة القرآن وردت في كتاب بعنوان قصة السبعة النيام وهي من خرافات اليونان القديمة.
(3) واضح من هذا أن القرآن يتبع المشهور من الروايات. ومن العرض السابق لقصة أصحاب الكهف كما وردت في القرآن ندرك أنه لا يسجل الحقيقة التاريخية، بل يتبع في رواياته المشهور في بيئته. فلم يقطع القرآن بعدد الفتية الذين لبثوا في الكهف، ولا الفترة الزمنية التي مكثوها فيه، لا لشيء إلا لأن ذلك لم يكن مقطوعاً به في البيئة العربية حينذاك، بل كانت الروايات مختلفة متضاربة غير جازمة. قال الإمام النيسابوري في سبب نزول هذه الآيات إن قريشاً أرسلت من يأتيهم بخبر محمد من أهل الكتاب في المدينة: هل محمدٌ نبي أم مُدَّعي نبوّة؟ فلما أتى مندوب قريش المدينة وقابل يهودها، قالوا: سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإن حديثهم عجب. وسَلوه عن رجلٍ طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان خبره؟ وسَلوه عن الروح، ما هو؟ فإن أخبركم فهو نبي، وإلا فهو متقوِّل. وعندما سُئل محمد هذه الأسئلة ردّ بما كان معلوماً عنده من إجابات غير مقطوعة ولا جازمة، فلم يكن متوقَّعاً من محمد أن يفوق علمه علم أساتذته. ولذلك وقفت إجابات القرآن عند حد قالوا ربُّكم أعلمُ بما لبثتُم قُلْ ربّي أعلمُ بِعِدَّتهم . (آيتا 19 ، 22)
(4) عندما انقطع الوحي عن محمد قال له جبريل إنه لا يدخل بيتاً فيه كلب. (راجع التعليق على المائدة 4). فإن صدق هذا فكيف تمَّ تقليب أهل الكهف وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد؟
ماذا منع الإيمان؟
وما مَنَعَ الناسَ أن يؤمنوا إذْ جاءهمُ الهُدى ويستغفروا ربهم إلاّ أن تأتيهم سُنَّةُ الأوَّلِين أو يأتيهم العذاب قُبُلاَ (أي عياناً) (آية 55).
تحصر هذه الآية المانع من الإيمان في أحد هذين السببين، مع أنه قال: وما منع الناس أن يؤمنوا إذْ جاءهمُ الهُدى إلاّ أن قالوا: أَبَعَثَ الله بشراً رسولاً؟ (الإسراء 17: 94). وهذا سبب ثالث. وأجاب مفسرو المسلمين أن الحصر الأول هو حقيقي، لأن الله هو المانع في الحقيقة، ومعنى الآية الثانية هو استغراب بَعْثه بشراً، فهو مانع عادي غير حقيقي.
موسى والخضر:
وإذْ قال موسى لفتاهُ لا أبرحُ حتى أبلُغَ مَجْمعَ البَحْرَيْن، أو أمضِي حُقُباً (أي دهراً طويلاً). فلما بلغا مجمع بينِهَما نسيَا حوتَهما، فاتخذ سبيلَه في البحر سَرَباً (أي مسلكاً). فلما جاوزا قال لفتاه: آتِنا غداءنا. لقد لَقِينا من سفرنا هذا نَصَباً. قال: أرأيت إذْ أوينا إلى الصخرةِ فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطانُ أن أذكره، واتَّخذ سبيله في البحر عَجَباً. قال: ذلك ما كنا نبغِ. فارتدّا على آثارهما قصَصاً (أي رجعا يتبعان الذي جاءا منه). فوجداعبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدُنّا علماً (هو الخضر). قال له موسى: هل أَتَّبعك على أن تعلّمنِ مما عُلِّمْتَ رُشْداً؟ قال: إنك لن تستطيع معي صبراً. وكيف تصبر على ما لم تُحِط به خُبْراً. قال: ستجدني إن شاء اللهُ صابراً ولا أعصِي لك أمراً. قال: فإن اتّبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أُحدِثَ لك منه ذِكراً. فانطلقا حتى إذا ركِبا في السفينة خَرَقَها. قال: أَخَرَقْتَها لتُغرِق أهلها؟ لقد جئتَ شيئاً إمْراً. قال: ألم أقُل إنك لن تستطيع معي صبراً. قال: لا تؤاخذني بما نسيتُ ولا ترهقني من أمري عُسْراً. فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله. قال: أَقتلتَ نفساً زكيَّة بغير نفسٍ؟ لقد جئتَ شيئاً نُكراً. قال: ألم أقُل لك إنك لن تستطيع معي صبراً. قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تُصاحبني، قد بلغتَ من لدُني عذراً. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قريةٍ استطعما أهلها فأَبَوْا أن يُضَيِّفوهما، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه. قال: لو شئتَ لاتَّخذت عليه أجْراً. قال: هذا فِراقٌ بيني وبينِك. سأُنبِّئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً. أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فأردتُ أن أَعيبها، وكان وراءهم مَلِكٌ يأخذ كلَّ سفينةٍ غَصْباً. وأما الغلام فكان أبواه مؤمنَيْن، فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً، فأردنا أن يُبْدلهما ربُّهما خيراً منه زكاةً وأقرب رُحْماً. وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنزٌ لهما، وكان أبوهما صالحاً، فأراد ربُّك أن يبلغا أشُدَّهما ويستخرجا كنزَهما رحمةً مِن ربّك وما فعلتُه عن أمري. ذلك تأويل ما لم تسطِعْ عليه صبراً (آيات 60 82).
وهذا يعني:
(1) أن الخضر خرق السفينة حتى لا يأخذها الملك نهباً.
(2) إنه رأى غلاماً فأضجعه ثم ذبحه بالسكين لئلا يضل والديه.
(3) كان الجدار لرجل صالح له ولدان، وكان تحت الجدار كنز فأخفاه إلى أن يبلغ هذان الولدان، فإن الله يحفظ أبناء العبد الصالح.
ورد في الحديث أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يارب، فكيف لي به؟ قال: فخذ معك حوتاً فاجعله في مكتل، فحيث فقدت الحوت فهو هناك. وقيل إن موسى خطب في الناس بعد هلاك القبط ودخوله مصر خطبة بليغة فأُعجب منها، فقيل له: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا. فأوحى الله إليه: بل أَعْلم منك عبدنا الخضر، وهو بمجمع البحرين. وكان الخضر في أيام أفريدون، وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر. وبقى إلى أيام موسى (تفسير الكشاف على هذه الآيات).
ولا نعرف أساساً لهذه القصة الخرافية، فإن موسى لم يدَّعِ أنه أعلم أهل عصره:
(1) نعم إنه كان علاّمة، إلا أنه كان حليماً متواضعاً كما تشهد التوراة.
(2) الخضر اسم أو لقب عربي، وموسى كان إسرائيلياً. ولا مناسبة بينهما. وكذلك قولهم إن ذا القرنين كان معاصراً لموسى مع أن بينهما مئات السنين. ومن الغرائب تفضيلهم الخضر على موسى.
ذو القرنين والشمس:
ويسألونك عن ذي القرنين، قُل: سأتلو عليكم منه ذِكراً. إنّا مكنّا له في الأرض وآتيناه من كل شيءٍ سبباً. فأَتْبع سبباً. حتى إذا بلغ مَغْرب الشمس وجدها تَغْرُبُ في عينٍ حِمئة، ووجد عندها قوماً. قلنا: ياذا القرنين، إما أن تُعذِّب وإما أن تتَّخذ فيهم حُسْناً (آيات 83 86).
حتى إذا بلغ بين السدَّيْن وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً. قالوا: ياذا القرنين، إن يأجوج ومأجوج مُفْسِدون في الأرض (آيتا 93 و94).
(1) ورد في الحديث عن ابن عباس قال: إن الشمس تغرب في عينٍ حمئة، وإنه سأل كعباً فقال له إنها تغرب في طينة سوداء (تفسير الطبري على الكهف 86).
(2) جعل محمدٌ الاسكندرَ الأكبرَ نبياً، لأن الله لا يخاطب إلا نبياً. (كما يقولون). والحقيقة هي أنه كان ملكاً فاتحاً للبلاد سافكاً للدماء، عابداً للوثن.
(3) قال إن أمة صالحة أخبرت ذا القرنين أن بين هذين الجبلين خَلْقاً أشباه البهائم، يفترسون الدواب والوحوش والسباع ويأكلون الحيَّات والعقارب، وطلبت منه أن يجعل بينها وبينهم سدّاً. فطلب منهم أن يأتوه بزُبَر الحديد يسيل مكانه حتى لزم الحديد النحاس، وكان عرضه خمسين ذراعاً وارتفاعه مائة ذراع وطوله فرسخاً. قال: هذا (السدّ) رحمةٌ من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكّاء (آية 98).