- 5 -
كيف جُمع القرآن؟
أجمع أئمة
المسلمين على أن محمداً مات ولم يكن القرآن
جُمع في شيء، وقالوا إن سبب ذلك ما كان يترقبه
محمد من ورود ناسخٍ لبعض أحكامه أو تلاوته.
فلما انقضى نزوله بوفاته شرع الخلفاء
الراشدون في جمعه، لئلا تغتال أيدي الضَّياع
ما بقي منه.
ولا يخفى أن الكتب المقدسة (أي التوراة والإنجيل) لم تكن بهذه الصفة، فقد دوَّنها أنبياء الله لهداية المؤمنين إلى طرق الحق اليقين، وكانت تُقرأ في المعابد مدة حياتهم، وكثيراً ما حضَّ الرسول بولس على قراءة رسائله في الكنائس، فكانوا يتعبّدون بتلاوتها مدة وجود الأنبياء والرسل، بخلاف القرآن، فإنه كان مبعثراً قابلاً للضياع والزيادة والنقصان.
كانت معرفة القرآن قاصرة على أربعة فقط، والدليل على ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن العاص، قال: سمعت محمداً يقول: خذوا القرآن من أربعة (1) عبد الله بن مسعود و(2) سالم و(3) معاذ و(4) أبيّ بن كعب (صحيح البخاري باب القُرَّاء من أصحاب النبي). أي تعلَّموا منهم. والأربعة المذكورون أولهما من المهاجرين، والثالث والرابع من الأنصار. وسالم هو ابن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ هو ابن جبل. وقُتل سالم مولى أبي حذيفة في موقعة اليمامة، ومات معاذ في خلافة عمر، ومات أبيّ وابن مسعود في خلافة عثمان. أما زيد بن ثابت فتأخر عنهم، وقالوا عنه: انتهت إليه الرئاسة في القراءة، وعاش زمناًطويلاً.وروى البخاري أيضاً عن قتادة قال: سألتُ أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله؟ فقال: أربعة كلهم من الأنصار، أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قلت: من أبو زيد؟ قال أحد عمومتي (صحيح البخاري باب الجمع). وروي أيضاً من طريق ابن ثابت عن أنس قال: مات النبي ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد . وفيه مخالفة لحديث قتادة من وجهين: أحدهما التصريح بصيغة الحصر في الأربعة، والآخر ذكر أبا الدرداء بدل أبيّ بن كعب. وقد استنكر جماعة من الأئمة الحصر في الأربعة، ولكن تمسَّك بقول أنس جماعة من الملاحدة، يعني أنهم استدلوا بذلك على ضياع كثير من القرآن، ولا سيما الآيات التي تساعدهم على تأييد مذهبهم، فإن هؤلاء الأربعة ماتوا قبل جمع القرآن. وقالوا إنه كان يوجد كثير من القراء ماتوا قبل جمع القرآن. قال القرطبي: قُتل يوم اليمامة 450 قارئاً، وقتل في عهد النبي ببئر معونة مثل هذا العدد (البداية والنهاية ابن كثير موقعة اليمامة).
ولما رأى أبو بكر هذا الحال جزع من ضياع القرآن، فقد روى البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت، قال: أرسل إليّ أبو بكر وقت مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده. فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقُرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرَّاء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن. وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلتُ لعمر: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟ قال: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد، قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله، فتتبَّعْ القرآن فاجمَعْه . فوالله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله؟ قال هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب واللِّخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره. لقد جاءكم رسول حتى خاتمة التوبة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياتَهُ، ثم عند حفصة بنت عمر (صحيح البخاري باب جمع القرآن). وفي رواية أخرى أن أبا بكر سأل زيد بن ثابت في ذلك فأبى، حتى استعان عليه بعمر، ففعل. وفي مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: لما أُصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر، وخاف أن يذهب من القرآن طائفة، فأقبل الناس بما كان معهم وعندهم (القرآن المجيد دروزة ص54).
فهذه النصوص وغيرها ناطقة بأنه مات جلُّ حفَّاظ القرآن إذا لم نقل كلهم، حتى جزع أبو بكر من ضياعه كله، فكلّف زيداً بجمعه من الشتات، فقال زيد: لو كلّفوني نقل جبل لكان أسهل عليّ من جمع القرآن .
فأخذ زيد يجمعه من العُسُب واللِّخاف، وفي رواية والرِّقاع وفي أخرى وقِطَعِ الأديم وفي أخرى والأكتاف وفي أخرى والأضلاع وفي أخرى والأقتاب . والعُسب جمع عسيب، وهو جريد النخل. كانوا يكشفون الخوص ويكتبون في الطرف العريض. واللِّخاف (جمع لَخْفة) وهي الحجارة الدقاق. قال الخطابي صفائح الحجارة. والرقاع جمع رقعة وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد. والأكتاف جمع كتف وهو العظم الذي للبعير أو الشاة، كانوا إذا جف كتبوا عليه. والأقتاب جمع قتب وهو الخشب الذي يُوضع على ظهر البعير ليُركب عليه.
وقال أبو بكر لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه . وكان زيد لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل. ولم توجد آخر سورة التوبة إلا مع أبي خزيمة بن ثابت، فقال: اكتبوها فإن الرسول جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده، وسبب كل ذلك أن القرآن كان مفرَّقاً في الرقاع والأكتاف والعسُب (الإتقان للسيوطي باب جمع القرآن).
وعلى هذا لابد أنه ضاع كثير منه إذا نظرنا إلى اشتغال محمد بالغزوات وغيرها، فإنه كان يقول بنزول الآيات في رحلاته وهجرته، ووقت تقسيم الغنائم.
ولا مجال لمقارنة هذا بحال الأمة اليهودية التي ظهر بينهم المسيح، الذي كان يعلّم جهاراً على رؤوس الأشهاد أمام نبلاء الأمة اليهودية وعلمائها وأئمة ديانتها، حتى تعجّبوا من حكمته التي بهرت عقولهم، ودُوِّنت تعاليمه في الصحف والكتب كالطريقة الجارية عند الأمة اليهودية. وكان المؤمنون يقرأونها في معابدهم، وكذلك الرسل الذين كانوا يقفون أمام الفلاسفة والقياصرة والملوك ويوضحون لهم طريقة الفداء العجيب، وكانت تُدوّن أقوالهم في الصحف للاهتداء بها. وبالاختصار إن الكتب المقدسة لم تكن مكتوبة على العسب أو دقاق الحجارة أو قطع الجلود أو عظام البعير أو قطع الأخشاب، بل كانت تُكتب على هيئة درج في الرق وتوضع في محل خصوصي في المعابد وفي البيوت. ولم يكن الحال قاضياً إلى شهادة لأخذ أقوال الله من أفواه البشر الذين خطأهم أكثر من صوابهم، ولا سيما أن الإنسان ابن النسيان.