لزوم الكفارة وغايتها
ما هي الأدلة علي لزوم الكفارة ؟
ما هي الاعتراضات التي يعترض بها البعض علي لزوم الكفارة ؟ وما هو الرد عليها ؟
ما هي أقوال الكتاب المقدس للتعبير عن كفارة المسيح وغايتها ؟ وكيف نقسمها باعتبار أوجه المعنى فيها؟
بين صحة قولكم بأن كفارة المسيح كافية في ذاتها لإيفاء العدل الإلهي ؟
بين صحة القول بأن كفارة المسيح إيفاء لعدل الله ؟
بين أن عمل المسيح الكفاري إيفاء لما يطلبه الناموس ؟
ما هي الأدلة علي صدق التعليم السابق في أن كفارة المسيح إيفاء لعدل الله عن الخطاة ؟
كيف تبين من الكتاب أن المسيح يخلصنا بناء علي كونه كاهناً ؟
كيف تبين من الكتاب أن المسيح يخلصنا بناء علي كونه ذبيحة ؟
كيف تبين من الكتاب أن المسيح يخلصنا بناء علي كونه فادياً ؟
كيف تبين أن المسيح يخلصنا بالإيفاء الكفاري من شرط نوالنا الخلاص به والفوائد التي نقبلها منه ؟
ما هو البرهان علي موت المسيح كفارة من اختبار المؤمنين الديني ؟
ما هي الأدلة علي لزوم الكفارة ؟
يتبين لزوم الكفارة من الأدلة الآتية :
1 – البرهان العقلي .
2 – موافقتها لاحتياج الإنسان الأدبي .
3 – موافقتها لمقتضى الشريعة .
4 – وقوعها في تاريخ الديانة الإلهية .
5 – مقتضى حكم الله الأدبي .
6 – وجودها في كل الأديان البشرية .
ولننظر الآن إلي كل من هذه الأدلة بالتفصيل :
1 – البرهان العقلي : وصورة هذا البرهان أن الله القدوس والإنسان خاطئ فخطية الإنسان ضد القداسة الإلهية. ولهذا البرهان وجه آخر وهو أن الخطية تستحق الدينونة ولا يصح مغفرة الخطية إلا بواسطة تزيل تلك الدينونة وتحمل عن الخاطئ جرمه. وذلك لا يتم بمجرد توبة الخاطئ وإصلاحه لأنه ولو صار صالحاً لا يزيل ذلك عنه دينونة الخطايا التي ارتكبها. ولو غفر الله له خطاياه بدون كفارة لم يبق عنده إكرام لشريعته تعالي بل يحسبها طبعاً بلا كرامة وحينئذ لا يعتبر قداسة الله ولا يميز سمو حكمه الأدبي ولا يعرف حقيقة رحمته ولا يمجده في كمال صفاته ولذلك لابد من الكفارة لرفع دينونة الخطية وإظهار صفات الله بأكمل بيان.
2 – موافقتها لاحتياج الإنسان الأدبي : إن للإنسان طبيعة أدبية وضميراً يعلمه سمو العدل والقداسة وإذا اقتنع بخطيته ولم يعرف كفارة انزعج ضميره واضطربت طبيعته الأدبية وأما المغفرة بواسطة الكفارة فتوافق مطاليب ضمير الإنسان وتسد كل احتياجاته الأدبية.
3 – موافقتها لمقتضى الشريعة : لأن الشريعة الإلهية والبشرية قصاص المذنب طبعاً والشريعة التي بدون قصاص ليست شريعة حقيقية والقصاص ضروري لكرامتها وشرف مطاليبها فلذلك تطلب قصاص الخاطئ أو كفارة ترفع عنه القصاص لأن العفو بدون كفارة ولا قصاص إهلاك الشريعة وملاشاتها. قال المسيح فإني الحق أقول لكم إلي أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل (مت 5 : 18) وهو أتي تكميلاً للشريعة وإكراماً لها فالعفو بدون كفارة بمثابة القول أن الخطية لا تستحق القصاص غض النظر عنها بدون إهانة القداسة والعدل وهو بعيد.
4 – وقوعها في تاريخ الديانة الإلهية : فلو كان لا لزوم للكفارة لما أراد الله إيجادها. ولزومها واضح من أقوال الكتاب قال البشير وابتدأ يعلمهم أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل (مر 8 : 31) وقال السيد كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان (يو 3 : 14) وقيل أيضاً كان يحاجهم بولس موضحاً ومبيناً أنه كان ينبغي أن المسيح يتألم (أع 17 : 3) وقال الرسول لأن كل رئيس كهنة يقام لكي يقدم قرابين وذبائح فمن ثم يلزم أن يكون لهذا أيضاً شئ يقدمه (عب 8 : 3) وقال وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة (عب 9 : 22).
5 – مقتضى حكم الله الأدبي : إن الله باعتبار كونه حاكماً أدبياً وجب أن يراعي نظام حكمه ولذلك لا يسمح بوقوع العصيان والتشويش في الكون الأدبي ولا بإهانته تعالي وبأوامره بدون أن يحاسب المعتدين ويحكم عليهم بالقصاص علي أنه قد بين بواسطة الكفارة كراهيته للخطية وغضبه علي الخطاة مع الإكرام لشريعته وفتح باب المصالحة للمذنبين فاتضح من لزوم الكفارة أن الله لا يكتفي بالعفو عن الخطية بدون ما يوفي العدل حقه ويثبت أحكامه الأدبية.
6 – وجودها في كل الأديان البشرية : وذلك يبين أن ضمير الإنسان يطلبها عموماً ولا يكتفي بمجرد التوبة عن الخطية بل يطلب كفارة. وطريق التكفير هي سفك دم أي بدل المذبوح عن المذنب في احتمال القصاص بالنيابة عنه وكل ذلك دليل علي لزوم الكفارة في الديانة.
ما هي الاعتراضات التي يعترض بها البعض علي لزوم الكفارة ؟ وما هو الرد عليها ؟
الاعتراض الأول أن الله أب صالح فلا يطلب كفارة عن الخطية. والجواب علي ذلك أن نسبة الله إلي البشر ليست مجرد نسبة أب صالح بل هي نسبة حاكم أدبي بار أيضاً وأنه لابد من اعتبار اجتماع هاتين الصفتين في كل تصورنا إياه تعالي والملاءمة بينهما. وإذا كان من الخطأ أن ننسب إليه العدل الواجب في الحاكم بقطع النظر عن الرحمة الواجبة في الأب كان من الخطأ أيضاً أن ننسب إليه المحبة الأبوية في معاملته لأولاده الخطاة بقطع النظر عن الاهتمام الدائم بسلطان شرائعه واستقامة حكمه. ومن الخطأ أيضاً الظن أن في هاتين الصفتين شيئاً من التناقض بل الصواب أنهما متوافقتان مجتمعتان في كل أحكامه وأعماله ولا سيما في مسألة الكفارة. لأنه لا يجوز أن نغفل عن أنه تعالي الذي اقتضى عدله الصارم هذه الكفارة العظيمة عن خطايا البشر هو نفسه الذي اقتضت رحمته الفائقة أن أعدتها حتى التأم الحق والرحمة أي ثبتت استقامة الحاكم عاملة مع محبة الآب لأجل خلاص الخطاة.
ومن جملة هذا الاعتراض قول بعضهم أن الكفارة تظاهر سياسي قصد الله به تشييد سلطان الشريعة والنظام الأدبي في العالم. وهذا القول مخالف لما نعلمه من صفات الله الجوهرية التي تطلب بالضرورة طريقة للتكفير عن خطايا الذين ينالون المغفرة. ومما ورد من هذا القبيل في الكتاب أن الرب بار في كل طرقه (مز 145 : 17) إله أمانة لا جور فيه صديق وعادل هو (تث 32 : 4) عيناه أطهر من أن تنظرا الشر ولا تستطيع النظر إلي الجور (حب 1 : 13) يجازي كل واحد حسب أعماله ويرسل السخط والغضب علي كل نفس إنسان يفعل الشر (رو 2 : 6 و 8). فهذه هي أقوال الله الصادقة بشأن بعض صفاته التي لا يجوز إهمال النظر فيها. قال المعترض أن الله أب وهو صحيح ولكن هذا الأب إله بار قدوس يكره الخطية ويعاقب الخطاة. ومن المحقق أنه في معاملة الأب لنا لا يمكن أن تكون هذه المعاملة مضادة لطبيعته الأدبية ومكروهة لديها.
الاعتراض الثاني أن الكفارة غير ضرورة لأنه لا مانع عند الله من رجوع الخطاة إليه وإنما المانع الوحيد هو عدم إيمانهم بما أعلنه تعالي من محبته ورحمته وعدم قبولهم إياها. والجواب علي ذلك أنه إذا كان المراد بالمانع عند الله شيئاً من الحقد والضغن وعدم الرحمة فنفيه صواب لأنه ليس في الله شئ من ذلك. لكن من الواضح في الأسفار الإلهية أن المانع كراهيته تعالي الشديدة للخطية ودينونته العادلة عليها وعزمه المعلن بأنه إذ كان واضع الشريعة والديان العادل لزم بالضرورة أنه يعاقب الخطاة. ولو لم يكن الأمر كذلك لتعذر علينا أن نفهم أقوال الكتاب الكثيرة بهذا الشأن ومنها قوله. الله قاض عادل وإله يسخط في كل يوم (مز 7 : 11) وقوله وجه الرب ضد عاملي الشر (مز 34 : 16) وقوله آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع (أش 59 : 2) وقوله لأن غضب الله معلن من السماء علي جميع فجور الناس وإثمهم (رو 1 : 18). بل وجب إهمال قسم عظيم من الكتاب المقدس حتي يمكن إلغاء ما فيه من الأدلة القاطعة الواضحة علي غضب الله الطاهر علي الخطاة وعلي عزمه البار أن يدينهم لأجل خطاياهم.
الاعتراض الثالث أنه إذا كان الإنسان يستطيع أن يغفر للذين يخطئون إليه بدون أن يطلب إيفاء أو كفارة فلماذا لا يستطيع الله أن يفعل ذلك. فإننا نخالف أمر الله القائل كونوا رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيم (لو 6 : 36) إن لم نغفر لأخينا المذنب إلينا ونخجل من الإقرار بأن عقابه قد أوجب لنا سروراً ورضى فكيف يجوز الظن أن الله لا يستطيع أن يغفر الخطية بدون الإيفاء عنها. ألا يكون ذلك من باب القول أن الإله الذي أمرنا أن نشابهه في رحمته أقل رحمة منا أو لا ننسب بذلك إلي الإله العظيم ما نحسبه معيباً وملوماً في الإنسان.
ومنشأ هذا الاعتراض الغفلة عن الفرق العظيم بين الحقد الشخصي والحكم الشرعي. فإن الناس قد يصفحون عن الذنوب والإهانات التي ينحصر عملها في أنفسهم وهذا لا يستلزم أنه يجب علي ديان كل الأرض أن يفعل كذلك ويصفح عن مخالفة الشرائع الخاصة بملكوته العام والتي تتعلق بخير جميع خلائقه العاقلة. لأن الإيفاء الذي يطلبه الله ليس إيفاءً شخصياً فإنه تعالي قد صرح أنه لا يريد موت الخاطئ ولكنه إيفاء شرعي يطلبه لا دفعاً للشعور بالغضب أو الانتقام بل مراعاة لعدله في مغفرة الخطية وصيانة لاستقامة حكمه وسلطان أوامره من الخلل والنقص والتقلب. وفضلاً عن ذلك يغفل في هذا الاعتراض عن أن الله لا يطلب فقط بل هو يعطي أيضاً الإيفاء عن الخطايا التي يصفح عنها وأنه تعالي قد جهز مجاناً ما يطلبه لأجل الصفح. ومن هذا النظر التام الصحيح إلي المسألة بجملتها يتضح أنه تعالي ليس أقل رحمة من البشر إذا غفر بعضهم لبعض بدون طلب شئ من التعويض بل بالعكس أن رحمته تظهر جلياً من قيمة الكفارة التي يطلبها عدله وقد جهزتها محبته الفائقة.
الاعتراض الرابع أنه لا يمكن إزالة عقاب الخطية إلا بإزالة الخطية نفسها أي أن السبيل الوحيد لتخليص الإنسان من عواقب الخطية هو تقديسه فإذا حصل علي ذلك خلص من عقابها. وقالوا أيضاً أن الكفارة ليست واسطة لتخليص الإنسان من عقاب الخطية بل هي تعرض لنظام حكم الله الأدبي وسلطان شرائعه. والجواب علي ذلك أنه لما كان الإنسان عاملاً أدبياً مكلفاً كانت علاقته بالإله الحي الديان العادل ذي السلطان الأعلى لا بشرائع علة بنفسها. وصوت الطبيعة الأدبية التي فينا متي كانت صحيحة يرشدنا إلي اليقين أن الخطية قد طردتنا من رضاه تعالي وعرضتنا لعقاب غضبه العادل. وشهادة الكتاب المقدس بهذا الشأن لا تقبل زيادة التصريح وهي أنه علي الخطاة فضلاً عن العواقب الطبيعية التي قد توجبها خطيتهم " غضب الله المعلن من السماء علي جميع فجور الناس وإثمهم " (رو 1 : 18) " والدينونة التي يحضر الله كل عمل إليها علي كل خفي إن كان خيراً أو شراً " (جا 12 : 14). ويتضح من ذلك أنه ولوا زالت بزوال الخطية عواقبها الطبيعية وشرورها الزمنية وهو غير الواقع غالباً لا نزال نحتاج إلي الخلاص من غضب الله البار ودينونته العادلة. لأن الخطية ليست مرضاً روحياً فقط يحتاج إلي البرء بل هي جناية يعاقب الديان العظيم عليها أو يصفح عنها. ويثبت ذلك فضلاً عن شهادة الكتاب الصريحة بهذا الشأن شعور الإنسان أو شهادة ضميره بكونه أثيماً وهو شاهد صادق بوجوب الدينونة التي تستحقها الخطية المفعولة في الزمن الماضي وبأن مجرد الإصلاح في المستقبل لا يستطيع أن يرفعها أو يمحوها.
الاعتراض الخامس أن التوبة كافية لنوال المغفرة فلا حاجة إلي الكفارة. وقالوا أن للتوبة فائدة ذاتية قائمة في نفسها فإذا حملت علي معناها التام حتي تشمل الحزن علي الخطية والرغبة في إصلاح الحياة كانت كل ما يطلبه الحق من التعويض عما فرط من الخطأ. وأنها تقر إقراراً تاماً بسلطان شريعة الله وتعترف بإثم التعدي عليها. وأنه بناء علي ما سبق يجب اعتبارها بمنزلة العقاب وأنها كافية لإيفاء مطاليب واضع الشريعة العظيم والقيام بمقاصده الحكيمة الصالحة. وليس في هذه الأقوال شئ من القوة أو الإصابة مهما كان ظاهرها في أول وهلة صحيحاً كما يظهر مما يأتي :
1 – أنه لا يصح اعتبار التوبة في أتم معناها أكثر من عمل ما يجب علينا في الزمن الحاضر. وذلك لأنها ليست إلا رجوعاً إلي سبيل الطاعة يصحبها ما يجب علي الخطاة من الاعتراف والحزن والانسحاق. فمهما كانت تامة لم يكن لها شئ من عمل التكفير عن الخطايا السابقة هذا فضلاً عن أنها دائماً قاصرة عن الواجب. وهي عارية عن التكفير عن الخطايا السابقة كما أنها عاجزة عن تحصيل الإباحة لارتكاب الخطايا في الزمن المستقبل. ولا يصح القول أنها تقوم عند الله مقام العقاب لأنها ربما أشارت إلي حكم الخاطئ في الخطية ولكنها لا تشير إلي حكم الله فيها أي فرط كراهيته لها وشدة عقابه عليها ومخالفتها أشد المخالفة لقداسة طبيعته وسلطان شرائعه واستقامة حكمه وخير خلائقه.
2 – إنه يرد علي هذا الاعتراض من النظر إلي الشرع البشري. فإنه من المعلوم أن توبة الجاني جناية كبيرة كالسرقة والقتل والخيانة للدولة لا تعتبر أبداً بمقام التكفير عن الذنب. وقد تقضي مدة طويلة من زمن ارتكاب الجناية إلي زمن كشف الجاني تمر عليه بالأسف والحزن الشديد علي ما فعل وتكون حياته الظاهرة علي غاية الصلاح والاستقامة إلا أن كل ذلك لا يمنع الحكم عليه بالعقاب. لأن الحاكم ولو مال في مثل هذه الحال إلي معاملة المذنب بالرحمة يري أن المراعاة لمقامه ووظيفته ومطاليب الشريعة وخير الجمهور يقضي عليه بإشهار الحكم علي المذنب حسب منطوق الشرع.
3 – أنه فضلاً عن أن كل توبة يستطيعها الإنسان قاصرة ناقصة لا تكفر عن الخطية هي نفسها تحتاج إلي التكفير. ومن المعلوم من ماهية التوبة أنها لا تدعي بوجه القبول عند الله. لأن التائب الحقيقي يحكم علي نفسه بالخطأ ويدين نفسه ويسلم تسليماً تاماً بصدق كل ما توجبه عليه شريعة الله وبعدل كل ما تحكم عليه من الويل ويقر إقراراً قلبياً أنه لا يري من نفسه شيئاً يحتج به دفعاً للحكم عليه. فكيف يصح إذاً أن ينسب إلي التوبة فضل أو عمل لتحصيل مغفرة الخطية مع أن ماهية التوبة نفسها تنفي ذلك.
4 – إنه في قلب الإنسان شعور طبيعي بديهي يظهر منه أنه يري لزوماً لطريقة أخرى تعجز عنها التوبة لنوال الصفح عن الخطايا. وإلا فبماذا نعلل انتشار الذبائح بين جمهور عظيم من البشر من الزمن القديم إلي الآن. لأنه وإن ترجح أنها فريضة إلهية وضعها الله بعد سقوط الإنسان وسلمها أولاد نوح إلي ذريتهم يتعسر الظن أنها نالت من التقليد والتواتر ما نالته من شدة التمسك الدائم بين كل الشعوب وفي كل العصور لو لم يكن لها مبدأ موافق لما يشعر به القلب الخاطئ من الاحتياج إلي الكفارة. ويعسر أيضاً التعليل علي غير هذا الوجه للقوة العجيبة التي تصاحب دائماً التبشير بكفارة المسيح. فإن طبيعتنا الأدبية تلجئنا إلي احترام ما تطلبه القداسة ولو كانت سيرتنا مخالفة لها ويظهر أن ضمائرنا لا تطمئن بالنجاة من عواقب خطايانا علي سبيل آخر غير التبرير بواسطة الكفارة. وبناء علي ذلك لا نجد أنه يتعسر علي الذين انتبهوا لما فيهم من الخطأ أن يقبلوا بكل رضى تعليم الكفارة ولو كانت أسراره غامضة عن أذهانهم من بعض الوجوه.
ومما يقال في هذا المعني أنه لا يصح أن تحمل أقوال الكتاب بشأن غضب الله علي الخطية علي سبيل المثال المجاز. ولنا حجتان في ذلك. الأولي شعور ضمائرنا بأن الله يغضب علي الخطية فإن كان هذا القول مجازاً فالقول أنه يرضى بالبر مجازاً أيضاً وإن لم يكن في هذه الأقوال حقيقة ثابتة لم يكن لله ذات حقيقية. والثانية أن المسيح الله في جسد إنساني وكان يغضب أحياناً (مر 3 : 5 و 10 : 14) وذلك دليل علي أن ما يشعر الله به هو ما يعبر عنه الإنسان بالغضب. وليس لنا كلمة غيرها تفي بما يشعر الله به من هذا القبيل فإذا أولناها علي غير هذا المعنى زال التمييز بين الحلال والحرام بل إذا تصرفنا علي هذا الوجه في كل ما يشعر الله به أفضى الأمر بنا إلي نفيه جل وعلا.
يظهر إقناع الكفارة لطبيعة الإنسان الأدبية إقناعاً تاماً من النظر إلي علاقتها بالضمير. وبيان ذلك علي ما يأتي :
إن الضمير لم يزل في الإنسان بعد سقوطه في الخطية وهو من القوى التي تشيدها الديانة فيه وله أهمية كبرى ويعرف بأنه القوة الأدبية التي تميز الحلال من الحرام في أعمالنا وتنشئ فينا عند العمل شعوراً باستحقاق الخير أو الشر وتحكم علي العمل بالثواب أو العقاب. وهذه القوة لا نراها إلا صوت سلطان الله الذي خلقها علي غاية الموافقة في وظائفها وأحكامها لشريعة الله الأدبية التي نزلت علي جبل سيناء فهما شريعتان الواحدة ظاهرة في الخارج والأخرى باطنة في الداخل لهما سلطان من الإله الواحد الحقيقي الذي أعلنهما للإنسان علي طريقتين متميزتين متوازيتين. وكما أن " بأعمال الناموس لا يتبرر كل ذي جسد " (رو 3 : 20) لأنه لا يستطيع أحد أن يحفظ فرائضه الطاهرة هكذا لا يخلص أحد من الدينونة بمجرد صوت الضمير. فإن الوصايا العشر والقوة الأدبية هما سواء خدمة الموت لجميع الذين يسمعون صوتهما فقط. وكما أن الناموس كان من نفس صرامته " مؤدبنا إلي المسيح " (غل 3 : 24) هكذا صوت دينونة الضمير والشعور بالإثم العام علي جميع الجنس البشري هما ما يبني عليه تعليم الإنجيل في أمر الخلاص بالكفارة.
هذا وأن تأنيب الضمير مصحوب دائماً برجاء الغفران واليقين أن الله يصفح عن الخطية كما أنه يعاقبها. وهو ما نشاهده في الناموس الموسوي وديانة الإسرائيليين الذين كان عندهم اعتقاد شدة العقاب مصحوباً باعتقاد المغفرة الإلهية. ويتضح من ذلك من أن العقل البشري إذا ترك لاستنباط عبادة من تلقاء نفسه لم يضع أبداً ديانة من تعاليمها القنوط واليأس. ولما كانت جميع الأديان تفرض إمكان المغفرة وتعلم سبيلاً لنوالها كان ذلك دليلاً واضحاً علي أن تهديدات الضمير مهما كان حكمها صارماً لا تمنع من رجاء الغفران. علي أنه يتعسر علي الإنسان التوفيق بين هذين الأمرين كما يتعسر عليه التوفيق بين ما ظاهره التناقض في مطاليب الناموس والنعمة. وقد نشأ من ذلك طريقتان مختلفتان لحل هذا المشكل العظيم في الديانة وهو كيف ينال الإنسان السلام مع الله. أما الأولي فلما عجزت عن التوفيق المذكور أهملت حكم الضمير بالعقاب والتجأت إلي الميل الأقوى في طبيعة الإنسان أي رجاء الرحمة. وهذه الطريقة هي ما يعول عليها الذين لا يعتقدون الديانة المسيحية بل يرجون الغفران رجاءً مبهماً ويسدون آذانهم عن مناجاة الذنوب. وهي طريقة بعض الأديان التي تعلم النظر عما يتعرض من المشاكل في سبيل القبول عند الله. ومن ذلك مذهب الديانة البوذية التي توصي الإنسان بالجد في الكمال بدون ذبيحة أو كفارة أو إقرار بالذنوب. ومنها أيضاً قول أصحاب مذهب سوسينيوس الذين لا يرون شيئاً في الحكم الإلهي مانعاً لخلاص الخطاة الذين يتوبون عن خطاياهم.
وقد شهدت علي خطأ جميع هذه الأقوال المخالفة للطبيعة البشرية كل ذبيحة يقدمها الإنسان ولو في ظلام الأديان الوثنية وعلي الخصوص ذبائح الديانة اليهودية المفروضة من الله التي شهدت أنه " بدون سفك دم لا تحصل مغفرة ". ويفوق هذه الأنوار المظلمة ضياء صليب المسيح الساطع الذي يعلن إعلاناً جلياً لا إبهام فيه ناموس الحكم الإلهي العام وهو أنه لابد من العقاب علي الخطية أو التكفير عنها وأنه بالذبيحة فقط يوفق بين مطاليب الناموس والنعمة المباينة لها وبين شجب الضمير ورجاء الغفران. وهذان الميلان المتضادان في طبيعتنا الروحية يجدان ما يوفق بينهما في كفارة المسيح فقط وذلك لأنها تقر من الوجه الواحد بما لشريعة الله التي يتعداها الخاطئ من حق القصاص العادل ومن الوجه الآخر بما عند الله المحب للبشر من الرحمة غير المحدودة. وعلي ذلك لا يخدع الضمير ولا يقهر لأن الكفارة تثبت شهادته لذنب الخطية والقصاص الهائل الذي تستحقه ومن الجهة الأخرى ننال كل ما نتوق إليه من السعادة والشركة مع الله بواسطة " غني نعمته الفائق " (أف 2 : 7). وهذا يعلل قوة الكفارة التي ينظر فيها إلي جميع أقسام طبيعة الإنسان المركبة المتعلقة بالديانة لا إلي بعضها فقط وتوقظ فينا الشعور بالخطية والذنب وخوف العقاب ورجاء الغفران والمحبة الفائقة لله. فإن هذه الاحساسات لا تنتبه في الإنسان الغافل في الخطية إلا بواسطة عمل النعمة الإلهية وبشري الخلاص فإذا انتبهت صارت كوثاق لا يحل يربط الخاطئ بصليب المسيح. ولأن الطبيعة الدينية في الإنسان تجد موضوعاً موافقاً لها في الكفارة نري في الذين يحيون في الإيمان بابن الله اتفاقاً عجيباً في طبيعتهم الروحية ما استطعنا أن نحكم بإمكان وقوعه لو لم نره واقعاً بالفعل فإننا نرى شعور الضمير الشديد بالذنوب وعدم الاستحقاق مجتمعاً فيهم مع اليقين التام بخلاص كأنه فوز حاضر.
ما هي أقوال الكتاب المقدس للتعبير عن كفارة المسيح وغايتها ؟ وكيف نقسمها باعتبار أوجه المعنى فيها؟
بما أن كفارة المسيح من تعاليم الوحي يجب أن نلتفت إلي كتاب الله لنحقق أقوال الأسفار المقدسة فيها لأن ليس لنا ما نعتمد عليه في إيضاح مبادئها الأساسية وغايتها ونتائجها غير كتابه تعالي ولذلك يفيدنا في هذا المقام أن نجمع عبارات الكتاب ونراجعها باعتبار أوجه التعليم فيها ومن ذلك ما يأتي :
1 – العبارات التي تفيد أن المسيح مات لأجل الخطاة (مت 20 : 28 ومر 10 : 45 ولو 22 : 19 و 20 ويو 6 : 51 و 10 : 11 و 15 و 18 و 15 : 12 و 13 ورو 5 : 6 – 8 و 8 : 32 و 2كو 5 : 14 و 15 و21 وغل 2 : 20 و 3 : 13 وأف 5 : 2 و 25 و 1تس 5 : 9 و 10 و 1تي 2 : 5 و 6 و تي 2 : 14 وعب 2 : 9 و 1بط 3 : 18 و 1يو 3 : 16).
2 - العبارات التي تفيد أن المسيح مات بسبب خطايانا ( رو 4 : 25 و8 : 3 و 1كو 15 : 3 وغل 1 : 4 وعب 10 : 12 و 1بط 3 : 18 وأش 53 : 5 و 8).
3 - العبارات التي تفيد أن المسيح حمل خطايانا (عب 9 : 28 و 1بط 2 : 24 وأش 53 : 6 و 11 و 12).
4 - العبارات التي تفيد أن المسيح جعل خطية وأنه صار لعنة لأجلنا (2كو 5 : 21 وغل 3 : 13).
5 - العبارات التي تفيد أن المسيح مات لأجل رفع الخطايا ومغفرتها (يو 1 : 29 وعب 9 : 26 ومت 26 : 28 و 1يو 1 : 7 و 9 ولو 24 : 46 و 47 وأع 10 : 43 و 13 : 38 و 39 وأف 1 : 6 و 7 وكو 1 : 13 و 14 ورؤ 1 : 5 و 6).
6 - العبارات التي تفيد أن موت المسيح ينقذنا من الدينونة والقصاص (يو 3 : 17 ورو 8 : 1 و 3 و 4 وغل 3 : 13 و 1تس 1 : 10 و 5 : 9 و 10).
7 - العبارات التي تفيد أن موت المسيح أساس التبرير (أش 53 : 11 ورو 5 : 8 و 18 و 19 و 3 : 24 و 26 و 2كو 5 : 21).
8 - العبارات التي تفيد أن آلام المسيح ثمن مدفوع لأجل خلاصنا أو فدية موضوعة لأجل فدائنا (مت 20 : 28 وأع 20 : 28 ورو 3 : 23 و 24 و 1كو 6 : 19 وغل 3 : 13 و 4 : 4 و 5 وأف 1 : 7 وكو 1 : 14 و 1تي 2 : 5 و 6 و تي 2 : 14 وعب 9 : 12 و 1بط 1 : 18 و 19 ورؤ 5 : 9).
9 – العبارات التي تفيد أننا ننال المصالحة مع الله بواسطة آلام المسيح (رو 5 : 10 و 11 و 2كو 5 : 18 – 20 وأف 2 : 16 وكو 1 : 21 و 22).
10 – العبارات التي تفيد أن موت المسيح كفارة عن الخطية (عب 2 : 17 و 1يو 2 : 2 و 4 : 10 ورو 3 : 25).
11 – العبارات التي تنسب إلي المسيح الكهنوت (مز 110 : 1 و 4 وعب 3 : 1 و 2 : 17 و 5 : 4 – 6 و 9 : 11 و 12 و 10 : 11 و 12 و 21 و 4 : 14 و 7 : 1 – 17 و 26).
12 - العبارات التي تفيد أن المسيح كان نائب الخطاة (رو 5 : 12 و 18 و 19 و 1كو 15 : 20 – 22 و 45 – 49).
13 - العبارات التي تفيد أن موت المسيح كان ذبيحة أو تقدمه لأجل الخطاة (لو 22 : 19 و 20 ويو 1 : 29 ورو 3 : 25 و 1كو 5 : 7 وأف 5 : 2 و 1بط 1 : 18 – 21 و 1يو 2 : 2 و 4 : 10 ورؤ 1 : 5 و 6 و 5 : 9 و 10 و 7 : 14 و 15 وعب 2 : 17 و 7 : 26 و 27 و 9 : 12 – 14 و 22 – 28 و10 : 11 – 14).
14 – العبارات التي تفيد أن آلام المسيح علي الأرض كانت أساساً لشفاعته في السماء (عب 4 : 14 – 16 و 7 : 24 و 25 و 9 : 23 و 26).
15 – العبارات التي تفيد أن وساطة المسيح تأتينا بموهبة الروح القدس (يو 7 : 39 و 14 : 16 – 26 و 15 : 26 و 16 : 7 وأع 2 : 33 وغل 3 : 13 و 14 و تي 3 : 5 و 6 وأف 1 : 3 و 4).
16 – العبارات التي تفيد أن وساطة المسيح وآلامه ينقذاننا من قوة الشيطان ويؤديان إلي انقلاب مملكة الشيطان في العالم (يو 12 : 31 و 32 و 16 : 11 وعب 2 : 14 و 15 وكو 2 : 15 ورو 8 : 38 و 39 و 1يو 3 : 8 ورؤ 11 : 15).
17 – العبارات التي تفيد أن بركات الحياة الأبدية وأمجادها نتيجة آلام المسيح وتوسطه (يو 3 : 14 – 16 و 5 : 24 و 6 : 40 و 47 و51 و 10 و 27 و 28 و14 : 2 و 3 و 17 : 1 و 2 ورو 5 : 20 و 21 و 6 : 23 و 2تي 2 : 10 وعب 5 : 9 و9 : 15 و 1بط 5 : 10 و 1يو 5 : 11 ويه 21).
18 – العبارات التي تعبر عن أفكار المسيح في آلامه (يو 18 : 11 ولو 12 : 50 ويو 12 : 27 ومت 26 : 36 – 44 ولو 22 : 44 ومت 27 : 46).
19 – العبارات التي تفيد أن المسيح وعمله هما الواسطة لأجل خلاصنا (يو 14 : 6 وأع 4 : 12 و 1كو 3 : 11 و 1تي 2 : 5 ومت 11 : 28 ويو 6 : 37 وأع 16 : 31 و 2كو 5 : 20 و 6 : 1 وعب 2 : 3 و 1يو 3 : 23 ورؤ 21 : 6 و 22 : 17).
20 – العبارات التي تفيد أننا ننال فوائد الخلاص بواسطة الإيمان بالمسيح (يو 1 : 12 و 3 : 18 و 36 و 6 : 35 وأع 13 : 38 و 39 و 16 : 31 ورو 1 : 16 و3 : 28 و 5 : 1 و10 : 4 وغل 5 : 6 وأف 2 : 8 و 19).
21 – العبارات التي تفيد أن المسيح أتي وتألم ومات إتماماً للعهد بينه وبين الآب (عب 7 : 22 و 8 : 6 و 12 : 24 و 13 : 20).
22 – العبارات التي تفيد أن المؤمنين متحدون بالمسيح اتحاداً حياً سرياً (يو 15 : 1 – 8 و 17 : 21 و 22 ورو 6 : 5 و 2كو 4 : 10 وغل 2 : 20 وأف 2 : 5 و 6 و 4 : 15 و 16 و 5 : 25 – 32 وفي 3 : 10 وكو 2 : 12 و 3 : 1).
23 – العبارات التي تفيد أن موت المسيح هو إثبات لمحبة الله وبيانها (يو 3 : 16 ورو 5 : 8 و 8 : 32 و 1يو 4 : 9 و 10).
فمما سبق من أقوال الكتاب بياناً لوساطة المسيح وآلامه وموته والغاية في ذلك يظهر منه ما يأتي:
1 – أن المسيح مخلص.
2 – أن آلامه كانت كفارية.
3 – أنها كانت نيابية.
4 – أنها واسطة لمصالحتنا مع الله.
5 – أن المسيح فادي وموته فدية عنا.
6 – أن موت المسيح إيفاء العدل حقه.
7 – أن خطايانا حسبت علي المسيح.
8 – أن آلام المسيح كانت من نوع القصاص.
9 – أن كفارة المسيح دليل علي محبة الله وثمرها.
10 – أن الكفارة واسطة للمغفرة.
11 – أن كفارة المسيح كاملة ومنفعتها غير محدودة.
12 – أن فوائد الكفارة مقدمة للجميع وينالها الإنسان بالإيمان.
ومما سبق من عبارات العهد الجديد بشأن الكفارة وفوائدها ثابت واضح الصحة من مراجعة نبوات العهد القديم بآلام المسيح ومن النظر في غاية الذبائح اليهودية التي كانت رموزاً إلي ذبيحة المسيح.
غاية كفارة المسيح هي إيفاء عدل الله إيفاءً كاملاً لينال بها المؤمنون المصالحة مع الله والميراث الأبدي في ملكوت السماء وقد تمت تلك الغاية بقيام المسيح مقام الخطاة وعمله كل ما يطلبه ناموس الله وعدله من الخاطئ سواء كان من باب الطاعة أو من باب احتمال لعنة الشريعة وقصاصها حتي أن الناموس لا يدين بعد ذلك من آمن بالمسيح لأنه لم يبق بعد للعدل أن يطلب من الخاطئ غير ما عمله المسيح واحتمله لأجل الخطاة. ولا ريب أن عمل المسيح هذا هو إيفاء كاف لسبب ماهيته الذاتية ولذلك كان للمؤمنين به نصيب في رحمة الله ورضوانه فلا يمكن إجراء الدينونة عليهم لأنه لم يبق بعد للعدل ما يطلبه كما أن الجارم حسب الشرع البشري إذا احتمل ما يفرضه الشرع جزاء لذنبه لا يبقى عرضة للدينونة ولا يعاقب عدلاً علي ذلك الذنب وهذا ما يراد إيضاحه عند تشبيه عمل المسيح بإيفاء دين في الأسفار المقدسة وكتب اللاهوتيين أي أنه لا يبقي لصاحب الدين بعد الإيفاء التام طلب آخر.
وهذا الكمال في عمل المسيح الإيفائي كما تقدم لا يعود إلي أنه قد تألم في النوع أو في المقدار نفس الآلام الواجبة علي الخاطئ بل يعود علي الخصوص إلي مقام شخصه الفائق لأنه لم يكن إنساناً فقط بل إلهاً وإنساناً في شخص واحد فكانت طاعته وآلامه طاعة شخص إلهي وآلامه. وليس المعنى بذلك أن الطبيعة الإلهية نفسها تألمت بل لأنه ذات واحد ذو طبيعتين متميزتين صح أن ينسب إليه ما ينسب إلي إحدى طبيعتيه كما أن الإنسان إذا أهين في جسده كان الإهانة لذاته. فإن لم يكن هذا المبدأ صحيحاً لا يكون في صلب المسيح ذنب أعظم مما في قتل واحد من عامة الناس ظلماً. وقد جاء في الكتاب أن الله اشترى الكنيسة بدمه وأن رب المجد صلب. فيلزم عما تقدم أن لإيفاء المسيح كل القيمة الخاصة بطاعة ابن الله الأزلي وآلامه وأن بره غير محدود الاستحقاق. وقد أوضح الرسول ذلك في قوله لأنه إن كان دم ثيران وتيوس … يقدس إلي طهارة الجسد فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي (عب 9 : 13 و 14). فنسب في هذا القول فضل فاعلية ذبيحة المسيح إلي فضل مقام شخصه الفائق.
ونشأ عن كمال عمل المسيح الإيفائي أنه يتفضل علي كل أنواع الإيفاء عن الخطية حتي لا يبقى لها محلاً علي الإطلاق. وأما ما فرض علي المؤمنين المبررين من الآلام فليس من باب العقاب لأن الله لا يقصد به الإيفاء عن الخطية بل هو تأديب لخير المتألم وبنيان الكنيسة ومجد الله وقد أجمعت الكنائس الإنجيلية كافة علي هذا القول.
بين صحة قولكم بأن كفارة المسيح كافية في ذاتها لإيفاء العدل الإلهي ؟
أجمع الإنجيليون والكنيسة بوجه العموم علي أن إيفاء المسيح لسبب مقامه السامي وماهية آلامه ودرجتها ذو استحقاق غير متناه وأن قيمته الذاتية في غاية الكمال وكافية للتكفير عن جميع خطايا البشر. علي أن البعض أنكروا كفاية قيمة عمل المسيح الذاتية لإيفاء العدل الإلهي وقالوا أن الله يقبلها إيفاء علي سبيل غير استحقاقها وهو باطل وفساده ناشئ من عدم التمييز بين الإيفاء المالي والإيفاء العقابي المتباينين. نعم أن بينهما مشابهة ولكن بينهما كذلك مباينة أما وجوه المشابهة فهي أن النتيجة واحدة أي خلاص الموفي عنه لا محالة وأيضاً أن المؤدي في كلاهما ما يساوي الدين بالحقيقة وأيضاً أنه في كلا الحالين يطلب العدل تحرير المديون. وأما وجوه المباينة فهي أن الإيفاء العقابي لا يستلزم مقداراً خاصاً أو نوعاً خاصاً من الآلام وأن قيمة الإيفاء العقابي تتعلق بذات الموفي خلافاً للإيفاء المالي وأن فوائد الإيفاء العقابي إنما توهب علي شروط مقررة عند الواهب والموهوب له خلافاً للإيفاء المالي.
ثم أن القول بأن عمل المسيح إيفائي لا لسبب قيمته الذاتية بل لمجرد إحسان الله في قبوله مبني علي رأي باطل وهو أن الله ينسب إلي شئ قيمة وهمية وأن ذلك الشيء يساوي ذات القيمة الوهمية التي يقبله الله بها وهو فاسد بدليل ما يأتي :
1 – أن معني هذا القول هو أنه ليس لشيء قيمة حقيقية فكأن الله يقبل أي شئ كان عوضاً عن أي شئ آخر كالكل عوضاً عن الجزء أو الجزء عوضاً عن الكل والصواب عوضاً عن الخطأ أو الخطأ عوضاً عن الصواب ودم التيس عوضاً عن دم ابن الله الأزلي. وهذا مستحيل لأن طبيعة الله لا تتغير فلا يتغير حكمه وحقه وصلاحه ولا يمكن أن يقبل شيئاً علي سبيل الإيفاء وهو دون الإيفاء المطلوب.
2 – أنه يلزم عنه إنكار ضرورية عمل المسيح. ولكن هل يحتمل التصديق أن الله يرسل ابنه الوحيد إلي العالم ليتألم ويموت لأجل خلاص العالم ونوال تلك الغاية ممكن علي وجه آخر لأنه لو أمكن أن الإنسان يكفر عن خطاياه أو أن يكفر أحد عن خطايا جميع العالم لكان موت المسيح عبثاً.
3 – أنه يلزم عنه بطل قول الرسول لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا. فإن كانت كل تقدمة من المخلوقات تساوي نفس القيمة التي يقبلها الله بها (كما قال أحد القائلين بهذا المذهب) فلماذا لم تكف ذبائح العهد القديم لرفع الخطية. فما جعلها عديمة الكفاية والفاعلية هو عدم فائدتها الذاتية وما يجعل إيفاء المسيح فعالاً هو فائدته الذاتية.
4 – نص الكتاب. فإنه لا يعلم ضرورية موت المسيح بالتلميح فقط بل بالنص الصريح أيضاً. ومن ذلك قول الرسول " إن كان بالناموس بر فالمسيح إذاً مات بلا سبب " (غل 2 : 21). أي لو أمكن تحصيل البر اللازم لخلاص الناس علي وجه آخر لكان كل عمل المسيح نافلة وإسرافاً. وقوله لو أعطى ناموس قادر أن يحيي لكان بالحقيقة البر بالناموس (غل 3 : 21). وهو واضح مثل قوله السابق ومعناه لو وجدت طريق أخرى لخلاص الخطاة لاختارها الله. وقال المخلص أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا (لو 24 : 26) أي كان لابد من الضرورة التي دعت إلي آلامه لأجل خلاص الخطاة. وقال الرسول أيضاً لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو يأتي بأبناء كثيرين إلي المجد أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام (عب 2 : 10). أي كان لآلام المسيح اقتضاء ناشئ عما يطلبه عدل الله لا عن مجرد لزوم حكمه ولا لأجل إيجاد قوة أدبية تعمل في قلب الخاطئ. ومعنى قوله لاق به أي كان موافقاً لكمالاته وصفاته وهو أشد أنواع الحاجة الضرورية.
5 – تعليم الكتاب في عدل الله. أي ما يعلم الكتاب في عدله تعالي يؤدي إلي هذه النتيجة لأن العدل نوع من الفضل الأدبي وهو من جملة الصفات الإلهية ويطلب قصاص الخطية فإذا غفرت لابد أن تكون مغفرتها علي نوع يوافق العدل الإلهي أي بناء علي الإيفاء العقابي الشرعي الحقيقي. ولذلك قال الرسول " أن الله أرسل المسيح كفارة بالإيمان بدمه فيكون الله باراً في تبرير من هو من الإيمان بيسوع " (رو 3 : 25 و 26).
6 – تعليم الكتاب في أن هبة المسيح أعظم ما ظهرت به المحبة الإلهية. فيلزم من ذلك أولاً : أن الغاية المقصودة تستحق تلك الهبة وثانياً : أن الهبة كانت ضرورية لنوال تلك الغاية فلو أمكن تحصيلها علي وجه آخر لما ظهرت المحبة الإلهية في هبة المسيح أعظم ظهور.
7 – كل ما يعلمه الكتاب في صدق الله وعدم تغير الناموس وضرورية إكرامه وعدم فائدة الذبائح لأجل الخطية إلا ذبيحة المسيح واستحالة الخلاص إلا بواسطة عمل ابن الله المتجسد يدل علي بطل القول أن قيمة إيفائه أمر عرضي أو أن الحصول علي الخلاص ممكن بواسطة أخرى. فإن كان ذلك من الضروري المطلق يتضح جلياً أنه ليس في شئ آخر إيفاء لما يطلبه ناموس الله. والحاصل أن الكتاب وقلب كل مؤمن يشهدان أن لدم المسيح فقط قيمة كافية للتكفير عن الخطايا.
بين صحة القول بأن كفارة المسيح إيفاء لعدل الله ؟
المراد بهذا القول أن عدل الله يطلب قصاص الخاطئ وأن المسيح أخذ علي نفسه قصاص خطايانا ليوفي العدل حقه بالنيابة عنا. وجاءت لفظة عدل في الكتاب المقدس بمعنى الاستقامة في الصفات والعمل كما في إنصاف الحاكم القائم بمراعاة ما يتعلق به من حقوق الرعية ومصالحهم واستقامة المعاملة وهو العدل المعروف بين الناس. وجاءت أيضاً بمعنى العدل الجزائي أو العقابي وهو نوع من الفضل الأدبي يطلب جزاءً باراً للثواب والعقاب أي ثواب الطائع وعقاب الأثيم لما في أثمه من الشر الذاتي بدون التفات إلي ما ينشأ عن العقاب من النتائج الصالحة. وهو من صفاته تعالي فيلزم من ذلك أن عمل المسيح هو بالضرورة إيفاء لهذا النوع من العدل وأن الكفارة متعلقة بالعدل العقابي وقد سبق الكلام عليه في باب صفات الله.
ولا يخفى أن الكتاب المقدس يعلم أن الله عادل أي أن فضله الأدبي يحمله علي معاقبة كل خطية وأن إيفاء المسيح الذي يحصل المغفرة للخطاة قدم للعدل الإلهي وغايته الأصلية الجوهرية ليس التأثير الأدبي في المذنبين أنفسهم ولا العمل التعليمي في غيرهم من الخلائق العاقلة بل الإيفاء لما يطلبه العدل حتى يكون الله عادلاً إذا برر الخاطئ.
بين أن عمل المسيح الكفاري إيفاء لما يطلبه الناموس ؟
ربما ظهر أن ذلك داخل في السؤال السابق وجوابه إذا كان عمل المسيح إيفاء للعدل فهو بالضرورة إيفاء للناموس. غير أن لفظة ناموس في الاصطلاح الجاري أعم من العدل لأن العدل يطلب عقاب الخطية وأما الناموس فيطلب أكثر من ذلك فهو أعم من إيفاء العدل.
ويقتضي بيان ذلك النظر في القضايا الآتية وهي :
1 – أن ناموس الله لا يتغير فلا يمكن إبطال وصاياه ولا عقابه. وأن الله قدوس طبعاً فلابد أن يطلب دائماً القداسة في خلائقه العاقلة ولابد أنه يكره الخطية دائماً ولأنه عادل لابد من أن يدين جميع الخطاة.
2 – أن نسبتنا إلي الناموس علي نوعين عهدي وأدبي. أما النسبة العهدية فقال الكتاب فيها تحفظون فرائضي وأحكامي التي إن عملها إنسان يحيا بها وأيضاً ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به.
3 – أننا بالإنجيل عتقنا من هذه النسبة العهدية للناموس فلم يبق علينا أن نكون خالين من كل خطية وأن نطيع الناموس طاعة تامة وإلا لما استطاع حي أن يخلص. قال الرسول لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة (رو 6 : 14).
4 – أن هذا العتق من الناموس لا يتم بإبطاله ولا ينقض مطلوبة بل بعمل المسيح إتماماً له عنا. قال الرسول مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني (غل 4 : 5).
ويلزم من القضايا السابق ذكرها :
1 – أن عمل المسيح إيفاء لما يطلبه الناموس. فإنه بنيابته عنا وقيامه مقامنا عمل واحتمل بطاعته وآلامه وبره كل ما يطلبه الناموس.
2 – أن من يقبل بر المسيح بالإيمان ويتكل عليه يتبرر بحسبان ذلك البر وينال الخلاص لا محالة. ومن أبى قبول بر الله هذا وحاول إثبات بر نفسه ترك للناموس أي يطلب منه أن يكون خالياً من الخطية وإلا وجب عليه العقاب.
ما هي الأدلة علي صدق التعليم السابق في أن كفارة المسيح إيفاء لعدل الله عن الخطاة ؟
لقد سبق وبينا في الكلام السابق :
1 – أن عمل المسيح لأجل خلاصنا هو إيفاء حقيقي لا يحد مقامه وفائدته وقيمته في ذاته.
2 – أنه إيفاء العدل العقابي الذي يطلب ضرورة عقاب الخطية.
3 – أنه كان إيفاء لناموس الله قام بما يطلبه من البر الكامل لأجل تبرير الخطاة.
أما الأدلة علي صدق هذا التعليم في غاية الكفارة فهي خمسة :
الأول : كون المسيح كاهننا.
الثاني : كونه ذبيحتنا.
الثالث : كونه فادينا.
الرابع : شرط نوالنا الخلاص به والفوائد التي نقبلها منه.
الخامس : اختبار المؤمنين الديني.
كيف تبين من الكتاب أن المسيح يخلصنا بناء علي كونه كاهناً ؟
ورد في الكتاب أن المسيح يخلص الناس لأنه كاهن أي ليس بمجرد استعمال السلطان ولا التعليم ولا التنوير العقلي ولا العمل الخارجي الأدبي لأجل الإقناع ولا العمل الداخلي سواء كان طبيعياً أم فوق الطبيعة مفهوماً أم سرياً بل يخلصهم علي سبيل النيابة عنهم والقيام مقامهم والاستغفار لهم والشفاعة فيهم بدليل ما جاء في نبوات العهد القديم من أن المسيح يكون كاهناً وملكاً معاً وأنه يكون كاهناً علي رتبة ملكي صادق.
وجاء في العهد الجديد ولا سيما الرسالة إلي العبرانيين (التي تكاد تكون محصورة في بيان كون المسيح كاهناً وعمله كهنوتياً) القضايا الآتية :
1 – أن الكاهن نائب عن الخطاة أقامه الله مقامهم ليعمل عنهم ما لا يستطيعون أن يعملوه لأنفسهم. فإذ لم يكن لهم وصول إلي الله بسبب إثمهم ونجاستهم اقتضى إقامة شخص بسلطان إلهي ليظهر عنهم أمام الله لأجل مصالحته تعالي إياهم.
2 – إن هذه المصالحة لا تتم إلا بواسطة كفارة عن الخطية. أي لا ينزع ذنب الخطية إلا علي هذا الوجه لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة. ولذلك الكاهن من يقام عوضاً عن الناس لينوب عنهم في تقديم القرابين والذبائح عن الخطية.
3 – أن هذه الكفارة تمت بإقامة ذبيحة مقام الخاطئ احتملت عنه الموت أي حملت خطاياه حسب عبارة الكتاب المقدس. فلا ينزع الذنب إلا بالعقاب الفعلي أي بالكفارة فإما أن يعاقب الخاطئ نفسه أو يقام شخص آخر مقامه ليحمل ذنبه وعقابه ويعتقه من ذنبه ويبرره منه وهذه هي المسألة الجوهرية في الرسالة إلي العبرانيين.
4 – أنه لما كانت حقيقة الكهنوت والكيفية التي بها يخلص الكاهن الذين ينوب عنهم علي ما ذكر بين الرسول أولاً : أن الكهنة في العهد القديم خدموا علي هذه الطريقة التي عينها الله والتي بها ينال المذنب مغفرة خطاياه الطقسية ويرد إلي فوائد الشعب الإسرائيلي. وثانياً : أن الذبائح لم تستطع أن ترفع الخطية لأنها خالية من الفائدة الذاتية (عب 9 : 9).
5 – أنه بناء علي ذلك كان الكهنوت الهاروني وذبائحه من الأمور الزمنية. فلم تكن إلا رموزاً وظلاً للكاهن الحقيقي والذبيحة الحقيقية الموعود بهما منذ البدء.
6 – أن المسيح ابن الله الأزلي اتخذ طبيعتنا ليكون رئيس كهنة رحيماً أميناً يكفر عن خطايا الشعب.
7 – أن المسيح كاهن حقيقي لأن فيه كل الصفات اللازمة للكهنوت فكان إنساناً ونائباً وقدم ذبيحة وكان قادراً أن يرثي لشعبه. ولأنه دعي من الله للكهنوت كهرون ولأنه قام فعلاً بكل ما يستلزمه الكهنوت. وذلك مثبت من كل الكتاب ولا سيما الرسالة إلي العبرانيين (عب ص 5).
8 – أن الذبيحة التي قدمها عنا رئيس كهنتنا العظيم لم تكن دم بهائم بل دم نفسه الكريم.
9 – أنها الذبيحة الواحدة التي أكملت إلي الأبد المقدسين (عب 10 : 14).
10 – أنها أبطلت كل ما سواها من الذبائح فلم تبق حاجة إليها ولا داع إلي تجديدها.
11 – إن رافض هذه الطريقة للخلاص هالك لا محالة. إذ لا تبقي له ذبيحة عن الخطايا (عب 10 : 26).
فهذه هي القضايا الأولية الواردة في الرسالة إلي العبرانيين ويوافقها كل ما جاء في هذا الشأن في العهدين القديم والجديد ولذلك إذا اعتقدنا صدق الكتاب وجب أن نؤمن أن المسيح يخلصنا لا بمجرد قدرته ولا بالاقتناع الأدبي بل لكونه كاهناً ولأنه قدم نفسه ذبيحة كفارة لأجل خطايانا.
كيف تبين من الكتاب أن المسيح يخلصنا بناء علي كونه ذبيحة ؟
إن كون المسيح ذبيحة عن الخطية لا ينفك عن كونه كاهناً. وقد ورد هذا التعليم في آيات كثيرة من الكتاب خلاصتها أن قرابين العهد القديم بعضها دموي وبعضها غير دموي وأن القصد ببعض القرابين الدموية شئ وببعضها شئ آخر وأن ما يتعلق منها بهذه المسألة هو المسمى بقرابين الخطية التي أخص أمثلتها ذبائح يوم الكفارة العظيم ومذهب جمهور اللاهوتيين فيها هو :
1 – أن القصد بها استعطاف الله واستغفاره حتى يرضى وتصير مغفرة الذنب التي تقدم لأجله أمراً موافقاً ولائقاً بالصفات الإلهية.
2 – إن الذين غفرت خطاياهم نالوا هذا التعطف الإلهي بواسطة التكفير عن الذنب أي أنهم قدموا قرباناً يستر الخطية حتى لم يرها الله توجب القصاص.
3 – إن هذا التكفير تم بالعقاب البدلي بمعني أن الحيوان المذبوح جعل مكان المذنب فحمل ذنبه واحتمل القصاص الذي استوجبه.
4 – أن نتيجة قرابين الخطية العفو عن المذنب ورضى الله عنه وتمتعه بالفوائد التي خسرها. فإذا كان ما ذكر هو المعنى الصحيح لذبيحة الخطية حسب الكتاب فيكون معنى قوله أن المسيح ذبيحة هو أنه نائب مناب الخطاة أي حمل ذنبهم واحتمل عقاب الناموس عوضاً عنهم فصالحهم مع الله ليس بمعنى أنه تعالي أخذ يحبهم بناء علي الكفارة بل أنه صار من الموافق لصفات الله أن يغفر لهم ويردهم إلي الشركة معه وإلي رضوانه تعالي.
والأدلة علي صدق هذا التعليم ، أي أن المسيح يخلصنا لأنه ذبيحة :
1 – كون ذبائح العهد القديم عن الخطية كانت للتكفير ويتضح هذا الأمر مما يأتي :
1 – كلام الكتاب الصريح فيها فإنها سميت فيه قرابين الخطية وقرابين الإثم أي قرابين يقدمها الخطاة لأجل الخطية وقيل أنها تحمل خطايا المذنب وتكفر عن الخطية أي تسترها عن نظر العدل الإلهي وأن القصد بها تحصيل المغفرة الذي لا يكون بالتوبة أو الإصلاح علي أنهما مطلوبان قبل تقديم القربان بل بسفك الدم أي بدفع نفس عن نفس وحياة عن حياة. وذكر في سفر اللاويين أن سبب النهي عن استعمال الدم في الطعام هو أنه أفرز للتكفير عن الخطية (لا 17 : 1 و 11).
2 – شروط تقديمها لتكون مقبولة وهي أربعة :
الأول : أن تكون الحيوانات الطاهرة المعينة لتلك الخدمة بدون عيب وذلك رمز إلي عدمالخطأ في المسيح الذي صار بدلاً عن الخطاة.
الثاني : أن المذنب نفسه يقدم الحيوان إلي المذبح إظهاراً لاعترافه بكونه مستحقاً العقاب لأجل خطيته عدلاً.
الثالث : أن يضع يديه علي رأس الحيوان إظهاراً لمعنى الإبدال وتحويل الذنب أي وضع ذنبه علي رأس الحيوان.
الرابع : أن الكاهن الذي يذبح الحيوان يأخذ دمه بناء علي كونه خادم الله ويرشه علي المذبح أو يحمله عظيم الكهنة في يوم الكفارة العظيم إلي قدس الأقداس حيث كان رمز المحضر الإلهي ويرشه علي غطاء تابوت العهد دلالة علي أن الخدمة قد انتهت إلي الله وعلي أنه قصد بها رد غضبه تعالي أي إيفاء عدله وفتح السبيل إلي غفران الخطية المجاني. وكان وضع يدي المذنب علي رأس الحيوان ضرورياً لهذه الخدمة. والمعني العام لوضع الأيدي تسليم الشيء ولذلك جرت ممارسة هذا العمل في أحوال مختلفة منها التعيين للوظيفة وذلك للدلالة علي تسليم السلطان إلي الذي وضعت عليه الأيدي. وكذلك في منح موهبة أو بركة روحية وفي إقامة واحد مكان آخر للدلالة علي تحويل المسؤولية منه إليه وهو المراد بوضع اليدين علي رأس الحيوان المقام بدلاً عن الذي يقدمه ليتحول إليه ذنبه علي نوع رمزي. وبناء علي ذلك قيل أن الحيوان المذبوح يحمل خطايا الشعب أو أن خطاياهم وضعت عليه. وكان مدلول هذا العمل واضحاً علي نوع خاص في خدمة يوم الكفارة العظيم فإن الله أمر بانتخاب تيسين من المعز ليكون أحدهما ذبيحة خطية وليطلق الآخر في البرية وكان الاثنان ذبيحة واحدة لأنه لم يمكن أن يدل الواحد منهما علي كل ما قصد تعليمه. وأما التيس الذي يطلق فقيل في شأنه ويضع هرون يديه علي رأس التيس الحي ويقر عليه بكل ذنوب بني إسرائيل وكل سيآتهم مع كل خطاياهم ويجعلها علي رأس التيس ويرسله بيد من يلاقيه إلي البرية ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلي أرض مقفرة (لا 16 : 21 و 22). فيتضح من ذلك أن القصد بوضع اليدين هو الدلالة علي تحويل الذنب من المذنب إلي الحيوان. ومما يزيد الأمر وضوحاً من جهة حقيقة هذه القرابين ما قيل من أن الحيوان يحمل خطية المذنب. ومن ذلك ما ورد في أشعياء ص 53 أن عبد الرب جعل نفسه ذبيحة إثم وفسر النبي ذلك بقوله أنه حمل خطية كثيرين وأن تأديب سلامنا عليه وأن الرب وضع عليه إثم جميعنا. فهذه العبارات وأمثالها في الكتاب تدل علي أن الخطية لا تنزع بالإصلاح ولا بالتجديد الروحي بل بحمل ذنبها وعقابها.
والآيات التي تدل علي أن المسيح ذبيحة لأجل الخطية كثيرة جداً لا يسعنا أن نذكرها بالتفصيل. وخلاصة الأمر أن أسفار العهد الجديد ولا سيما الرسالة إلي العبرانيين كما تقدم تعلم صريحاً أن كهنوت العهد القديم هو رمز إلي كهنوت المسيح وأن ذبائح ذلك النظام رموز إلي ذبيحته وأنه كما أن دم الثيران والتيوس كان يقدس الجسد تقديساً طقسياً كذلك دم المسيح يطهر النفس من الذنب وكما كانت في مجالها الخاص كفارة تقوم بالقصاص البدلي كذلك ذبيحة المسيح في المجال الأعلى غير المحدود الذي يتعلق به عمله. وبناء علي هذه النسبة بين العهد القديم والجديد تكون الذبائح في الفرائض الموسوية عند المسيحيين تعليم صريح وبرهان قاطع علي أن عمل المسيح هو كفارة عن خطايا العالم وإيفاء للعدل الإلهي.
2 – شهادة العهد القديم ولا سيما الأصحاح الثالث والخمسين من أشعياء فإن هذا التعليم العظيم لم ينحصر في نظام العهد القديم الرمزي بل نص عليه بالاستيفاء في الأصحاح المذكور حيث لم يقتصر النبي علي الأنباء بأن المسيح يكون رجل أوجاع وأنه يحتمل أعظم الإهانات ويقتل قتلاً فظيعاً وأنه يحتمل تلك الآلام لأجل خير الآخرين بل صرح أن ذلك بدلي بالحقيقة أي أنه احتمل عوضاً عنا العقاب الذي استوجبناه لكي يخلصنا.
3 – أقوال العهد الجديد التي تتضمن نصوصاً كثيرة يتضح منها أن عمل المسيح ذبيحة عن الخطية وقد اخترنا منها ما يأتي :
1 – قول بولس الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه (رو 3 : 25). وفي رسالته إلي العبرانيين (9 : 14) كلام صريح في هذا الشأن فإن الرسول بعدما قابل ذبائح الناموس بذبيحة المسيح قال ما معناه أنه إذا كان دم البهائم الذي ليس هو إلا قوام الحياة الحيوانية أفاد في التطهير الخارجي أو الطقسي فكم بالحري يفيد دم المسيح الذي له روح أزلي أي طبيعة إلهية وقدم نفسه لله بلا عيب في تطهير الضمير أي في إقامة كفارة حقيقية عن الخطية. والمراد بالتطهير المذكور في كلا الأمرين المتقابلين التطهير من الذنب لا التجديد الروحي لأنه كما أن ذبائح العهد القديم كانت للكفارة لا لإصلاح السيرة كذلك ذبيحة المسيح. والنتيجة أو الغاية في كلتا الحالين هي مصالحة الله والاتحاد به غير أن الشرط الأول الجوهري في تلك المصالحة هو التكفير عن الذنب. وعند نهاية الأصحاح المذكور قال الرسول أنه لم يطلب من المسيح أن يقدم نفسه مراراً كثيرة … فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم ولكنه الآن قد أظهر مرة واحدة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه. أي أن الذبيحة التي قدمها هي نفسه والقصد بها ونتيجتها الإيفاء عن الخطية كعمل ذبائح الكفارة في العهد القديم. ومما يؤيد ذلك قوله التابع أن المسيح جاء المرة الأولي ليحمل خطايا كثيرين وسيأتي المرة الثانية بلا خطية أي بلا ذلك الحمل الذي أخذه بإرادته علي نفسه في مجيئه الأول. لأنه كان مثقلاً حينئذ بخطايانا وهو بمعنى القول نفسه أن الذبائح القديمة حملت خطايا الشعب أي أن المسيح حمل ذنب خطايانا بمعنى أنه اتخذ مسؤولية الإيفاء عنها للعدل الإلهي. فإذا جاء المرة الثانية لا يكون ذلك علي سبيل الذبيحة للإثم بل لإكمال خلاص شعبه. ومثل هذه الآية قوله جعل الذي لم يعرف خطية خطية (2كو 5 : 21) يريد به تفسير الكيفية التي بها يصالح الله العالم إذ لم يحسب لهم خطاياهم. وعلي ذلك يحق له أن يغفر للخطاة ويعاملهم معاملة الأبرار وهم خالون من البر لأن الذي كان بلا خطية عومل معاملة الخاطئ لأجلنا وبالنيابة عنا.
2 – قول بولس أننا مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة (عب 10 : 10) والمراد بالتقديس حسب الأصل اليوناني التطهير. فإن الخطية تعد دائماً في الكتاب المقدس نجاسة لسبب جرمها وفسادها الأدبي. أما جرمها فيظهر بالدم علي وجه التكفير بالذبيحة وأما فسادها فبتجديد الروح القدس ويتميز المراد بالتطهير (في المعنيين) من سياق الكلام. فإذا قيل أنه يتم بالذبيحة أي بموت المسيح أو دمه كان المراد به نزع الجرم حتي يكون كل ما قيل في شأن خلاصنا أو مصالحتنا مع الله أو تطهيرنا أو تقديسنا بدم المسيح أو بموته هو نص صريح علي أنه ذبيحة كفارة عن الخطية.
3 – قول يوحنا أن المسيح كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً (1يو 2 : 2). واللفظة اليونانية المترجمة كفارة مشتقة من فعل معناه مشهور في الكتاب المقدس وهو إيفاء العدل حقه واستعطاف الله بذبيحة عن الخطية وقال أيضاً هذه هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا (1يو 4 : 10).
وما أوردناه من الآيات ليس إلا بعض ما جاء من النصوص في العهد الجديد علي كون المسيح قرباناً للإثم بالمعنى الخاص بهذه اللفظة في الكتاب المقدس. علي أن فيه عبارات كثيرة تتضمن هذا المعنى وتدل علي أن موته من نوع الذبيحة أو تدل علي كهنوته في عمل الإيفاء عن الخطية. ومنها قول بولس أن المسيح قدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين (عب 9 : 28) وقول بطرس الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده علي الخشبة (1بط 2 : 24). وهذا التعليم بين في وظيفة رئيس الكهنة التي هي التكفير عن الخطية ورد الشعب إلي رضى الله ونوالهم بركات العهد الذي كانوا في زمانه وكل ذلك رمز إلي المسيح وعمله لأنه جاء ليخلص البشر من خطاياهم ويرد لهم رضى الله ويحصل لهم التمتع ببركات العهد الجديد الأفضل الذي هو وسيطه. ولذلك اتخذ طبيعتهم لا طبيعة الملائكة لكي يموت ويصالحهم بموته مع الله. فصار شبيهاً باخوته في كل شئ لكي يكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً في ما لله حتى يكفر عن خطايا الشعب (عب 2 : 17).
فيتضح مما تقدم أن العهد الجديد يعلم جلياً أن الرب يسوع المسيح خلص شعبه بممارسة وظيفة كاهن لأجلهم وكانت فيه كل الأهلية اللازمة لتلك الوظيفة فعين لها ومارس جميع لوازمها. وأنه كان ذبيحة كفارة عن خطايا الناس فقيل مراراً كثيرة أنه قربان عن الخطية بالمعنى المشهور في العهد القديم لهذه العبارة وأنه حمل خطايانا وأنه كفر عن خطايا الشعب وأنه صالح مع الله بموته وصليبه وذبيحة نفسه الذين استوجبوا عدلاً الغضب الإلهي. وهذه الأقوال في الكتاب كثيرة موضحة بشواهد وأمثلة عديدة توضيحاً لا يقبل الإبهام. وهي بالحقيقة الجزء الجوهري في تعليم الكتاب المقدس في كيفية الخلاص.
كيف تبين من الكتاب أن المسيح يخلصنا بناء علي كونه فادياً ؟
المراد بالفداء الإنقاذ من الشر والبلية بتأدية الفدية. والأفعال المعبر بها عن هذا المعني في الأصل اليوناني معناها الأول اشترى ثم اشترى بدفع الثمن فدية (أع 20 : 28 وأف 1 : 7 و 1بط 1 : 18 و 19) فجاء في الكتاب أن الثمن أو الفدية المؤداة عنا هي المسيح نفسه أو دمه أو موته. ولما كانت الشرور أو البلايا الناشئة عن ارتدادنا عن الله متنوعة ذكر فيها فداء المسيح علي أنواع مختلفة أيضاً وهي :
1 – الفداء من عقاب الناموس : فإنه من أهم من نشأ عن معصية آدم الوقوع تحت عقاب الناموس وهو أول تأثيراتها لأن أجرة الخطية هي الموت وكل خطية تعرض الخاطئ لا محالة لغضب الله ولعنته. ولذلك كان الأمر الأول في خلاص الخطاة فداءهم من هذه اللعنة التي بها يبقون مبتعدين عن الله إلي أن يتم ذلك وابتعادهم هذا يوجب ضرورة الشقاء والخضوع لسلطان الخطية لأن الإنسان ما دام تحت اللعنة يكون منقطعاً عن المصدر الوحيد للقداسة والحياة. فهذا هو تعليم الكتاب وهو واضح ولا سيما قول الرسول أن المسيح فدي شعبه من لعنة الناموس لا بمجرد إجراء سلطان مطلق ولا بترجيعهم إلي حال البر بواسطة عمل أدبي في أنفسهم بل بصيرورته لعنة لأجلهم (رو ص 6 و 7) وقال أشعياء أن الرب سر أن يسحقه وأنه مضروب من الله ومذل وأن هذه الآلام بسبب الخطية لا خطيته هو بل خطيتنا نحن التي حملها وأن تأديب سلامنا عليه. فالقصد بهذه الآلام التكفير أو إيفاء العدل وفيها كل الصفات الجوهرية للقصاص حتي أن المسيح صار لعنة لأجلنا (أنظر غل 3 : 13 وما يتعلق به من سياق الكلام).
2 – الفداء من الناموس : لأن الكتاب يقول أن المسيح أنقذنا من الناموس والفداء من العبودية للناموس لا ينحصر في الإنقاذ من عقابه بل يعم أيضاً الخلاص من الالتزام بإتمام ما يطلبه. وهذا هو المعنى الجوهري في تعليم بولس في التبرير. وتفصيل ذلك أن الناموس يطلب الطاعة التامة ضرورة بحسب مقتضى الصفات الإلهية فيقول اعمل هذا فتحيا وأيضاً ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به ومنذ السقوط إلي الآن لم يستطع أحد أن يقوم بهذا الطلب علي أنه لابد من ذلك أو الهلاك ولذلك لم يكن طريق للخلاص حسب الكتاب المقدس إلا الإنقاذ من هذا الالتزام بالطاعة التامة هو عمل المسيح عن البشر. قال الرسول أن المسيح ولد تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس (غل 4 : 4 و 5) ولذلك قال للمؤمنين لستم تحت الناموس بل تحت النعمة. وقال أن هذا الإنقاذ من الناموس حصل بجسد المسيح. وأننا لذلك نتبرر لا بطاعتنا بل بطاعته (رو 6 : 14 و 7 : 4 و 5 : 18 و 19). والفداء المراد ليس مجرد الإنقاذ بل هو فداء حقيقي قائم بإتمام كل ما علينا للناموس.
3 – الفداء من سلطان الخطية : تقدم أن المسيح فدانا من عقاب الناموس ولعنته وأن ذلك يعيد لنا رضى الله ومن نتائج عمله أيضاً تجديد قلب المؤمن بالروح القدس وذلك يوجب أن يفدينا أيضاً من سلطان الخطية. قال له المجد من يعمل الخطية هو عبد للخطية وهذه العبودية لا يستطيع أحد أن يعتق نفسه منها ولذلك كان هذا هو الغرض العظيم الذي جاء المسيح لأجله. فبذل نفسه لكي يطهر شعباً خاصاً غيوراً علي الأعمال الصالحة ومات البار بدل الأثمة لكي يأتي بنا إلي الله وأحب الكنيسة وبذل نفسه لأجلها لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شئ من ذلك. وهذا الإنقاذ من الخطية فداء حقيقي لأن تأدية الفدية أو الإيفاء للعدل شرط ضروري لرد رضى الله إلي الخاطئ وهذا شرط ضروري للقداسة. وعلي ذلك قول الكتاب أن المسيح بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا من العالم الحاضر الشرير (غل 1 : 4). وقوله الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم (تي 2 : 14). وقوله أنكم أفتديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح (1بط 1 : 18 و 19). ولأن الخلاص بالذبيحة خلاص بالفدية اجتمعت العبارتان في هذه الآية وغيرها. ومن أمثلة ذلك قول المخلص جاء ابن الإنسان … ليبذل نفسه فدية عن كثيرين (مت 20 : 28 ومر 10 : 45). فلا يمكن التعبير عن معنى الإبدال بكلام أصرح من هذه الأقوال لأنه ذكر فيها أن خلاصنا قائم بالفدية. وقوله أن دمه يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا (مت 26 : 28). فذكر موته هنا علي سبيل الذبيحة والعبارتان المتعلقتان بنوعي الإنقاذ واحدة لأن الفدية إيفاء للعدل والذبيحة كذلك.
4 – الفداء من سلطان إبليس : لأنه ورد في الكتاب أن المسيح فدانا من سلطان إبليس وأن إبليس هو رئيس هذا العالم وإلهه وملكوته ملكوت الظلمة وأن جميع الناس منذ آدم يولدون ويبقون فيه إلي أن ينقلوا إلي ملكوت ابن الله الحبيب وأنهم رعية إبليس وقد اقتنصهم لإرادته (2تي 2 : 26). وفيه أيضاً أن الوعد الأول هو أن نسل المرأة يسحق رأس الحية وأن المسيح جاء ليبطل أعمال الشيطان أي ليطرحه من ملكه المغتصب ويحرر الخاضعين له (2كو 4 : 4 وكو 2 : 15). وقد نص في العبرانيين علي حقيقة وقوع هذا الفداء من سلطان إبليس وكيفية إتمامه (عب 2 : 14 و 15). وذلك أن الرسول بعد ما أثبت في الأصحاح الأول أن ابن الله إله تعبده الملائكة وأنه خالق السموات والأرض وأنه أزلي غير متغير قال في الأصحاح الثاني أنه صار إنساناً لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية. ففي هذا الكلام ثلاثة أمور:
الأول : أن الناس في حال العبودية لسبب الخوف من غضب الله علي الخطية.
والثاني : أنهم في تلك الحال خاضعون لإبليس الذي له سلطان الموت عليهم أي الاستطاعة والسبيل إلي تعذيبهم بما تستوجبه خطاياهم.
الثالث : أنهم ينقذون من العبودية المذكورة والخضوع لسلطان إبليس بواسطة موت المسيح الذي يعتقهم من عقاب الناموس لأنه أوفي عدل الله حقه.
والعتق من لعنة الناموس يعم التحرير من سلطان إبليس الذي يجري العقاب. وقيل أن قوة الخطية هي الناموس (1كو 15 : 56) ولذلك ما يوفي الناموس ينزع من الخطية قوتها لسبب إخضاعها لغضب الله فيكون الفداء من الناموس هو الفداء من اللعنة وهو الفداء من سلطان إبليس.
فتبين مما سبق أن تعليم الكتاب المقدس في هذا الشأن هو أن المسيح يخلصنا ليس بمجرد إجراء سلطانه أو تعليمه أو بمثاله أو بما أحدثه من التأثير الأدبي فينا أو بعمل داخلي في شعبه بل علي الخصوص بإيفائه العدل الإلهي حقه والتكفير عن الخطية والفداء من لعنة الناموس وسلطانه. فيصالحنا مع الله علي الكيفية المذكورة حتي يوافق صفاته تعالي أن يرحم الخطاة ثم يجددهم حسب صورته وأخيراً يرفعهم إلي كل ما يختص بأبناء الله من المقام والفضل والسعادة.
كيف تبين أن المسيح يخلصنا بالإيفاء الكفاري من شرط نوالنا الخلاص به والفوائد التي نقبلها منه ؟
الدليل علي صدق تعليم إيفاء المسيح هو الشرط الذي يتعلق عليه نصيبنا في الفداء وهو ظاهر مما كلف به الخطاة لكي يمكنهم نوال فوائد الفداء. فإنه لا يكفي أن نقبل تعاليم المسيح ولا أن نجتهد في السلوك حسب وصاياه الأدبية ولا أن نثق بحمايته أو نخضع لسلطانه ولا أن نفتح قلوبنا لجميع التأثيرات الصالحة الناشئة من شخصه أو عمله بل يجب أيضاً أن نتكل عليه أي أن نقبل ذبيحته ونرفض بر أنفسنا ونثق ببره لأجل القبول لدي الله. ولذلك ندفع من أنفسنا الظن أننا نستطيع إيفاء ما يطلبه عدل الله وناموسه بما نعمله أو نحتمله أو نشعر به ونتكل اتكالاً تاماً علي ما عمله واحتمله هو باعتبار كونه نائبنا وبدلنا وضامننا. فهذا ما يطلبه الإنجيل وما يعمله كل مسيحي بالحق مهما كانت آراؤه اللاهوتية. وكل ما ذكر من وجوب رفض البر الذاتي ووجوب الإيمان بالمسيح علي أنه علة الغفران والقبول عند الله مبني علي كونه البدل الذي قام مقامنا في إيفاء كل ما يطلبه منا الناموس والعدل.
وما تقدم من الكلام علي حقيقة عمل المسيح يتضمنه قول الكتاب في الفوائد التي نقبلها منه. ومن ذلك التبرير فإننا نتبرر بواسطته فهو برنا ونحن نصير بر الله فيه. ومن المعلوم أن التبرير هو نقيض الدينونة وإعلان إيفاء حقوق العدل حسب معني كلمة التبرير الشائع دائماً في العهدين القديم والجديد فإن الله أعلن في تبرير الخطاة أن ما يطلبه العدل منهم قد أوفي ولكن ليس الخاطئ نفسه أوفاه بل المسيح.
ما هو البرهان علي موت المسيح كفارة من اختبار المؤمنين الديني ؟
يتبين صدق ما سبق من التعاليم في موت المسيح الكفاري من شهادة المؤمنين في كل القرون لأن كل المسيحيين يتكلون علي المسيح في أمر خلاصهم ويحسبونه بدلاً عنهم في الطاعة والتألم حاملاً خطاياهم ولعنة الناموس عوضاً عنهم ويعدونه ذبيحة كفارة تمحو ذنبهم وتوفي عدل الله عنهم ويشكرونه لأنه بذل نفسه عنهم ليفديهم من عقاب الناموس ومن سلطان الشيطان وقوة الخطية وجميع الأسواء الناتجة منها ومن المحقق أن تلك حقائق إلهية أعلنها الروح في كلمة الله وعلمها كل الذين يخضعون لإرشاده فهي الاقتناعات والاحساسات الباطنة التي شعر بها شعب الله من زمن الرسل إلي الآن كما يتضح من قوانين إيمانهم وصلواتهم وترنيماتهم الروحية وكل ما كتبوه في شأن حياتهم الدينية الباطنة مع اختلافهم في العرضيات. فهو الرأس ونحن الأعضاء وهو الكرمة ونحن الأغصان. ولسنا نحن الأحياء بل هو الحي فينا وهو الذي صار لنا حكمة وبراً وقداسة وفداء الذي دمه يطهرنا من كل خطية والذي فدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا وحمل خطايانا في جسده علي الخشبة وهو رئيس كهنتنا العظيم الحي إلي الأبد ليشفع فينا. ومن أسهل الأمور ذكر الأدلة من تاريخ حياة الكنيسة الروحية علي أن اعتقاد المؤمنين في المسيح في كل عصر هو كما سبق.