المبحث الأول
الفصل الأول
صحة التوراة والإنجيل
لما كان الكتاب المقدس - التوراة والإنجيل - ركن عقائد الدين المسيحي وأساسه ،والحَكَم الوحيد الذي يرجع إليه المسيحيون في حل المشاكل ،والقاضي العادل الذي لا يخاف في إظهار الحق وإزهاق الباطل لومة لائم ،والشاهد الأمين في القضايا الشرعية ،فقد جعلته فاتحة مباحثي حتى إذا أَثبتُّ صحته لأخي المسلم بالحجة الدامغة والبرهان المنطقي أمكننا كلينا أن نستفتيه في كل دعوى ونرجع إليه عند كل اختلاف ،خاضعين لأحكامه ومستنيرين بمشكاة هداه ،إنه نورٌ وهدىً للعالمين,
- 1 - ورد في القرآن في سورة آل عمران 3 :3 و4 : ·وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ والإِنْجِيلَ 4 مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ ,
إن الله أنزل التوراة والإنجيل لهداية الناس,
- 2 - وفي سورة المائدة 5 :68 : ·قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ والإِنْجِيلَ , وهذه تبيّن صحة التوراة والإنجيل ،وإلا لما كان محمد يطلب إقامة حدودهما,
- 3 - وفي سورة المائدة أيضا 5 :47 : ·وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أي أنّ الإنجيل منزل من عند الله ،وأنّ محمداً خاضع لأحكامه,
- 4 - وفي سورة النساء 4 :136 : · يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا باللَّهِ وَرَسُولِهِ والكِتَابِ الذِي نَّزَلَ عَلَى رَسُولِهِ والكِتَابِ الذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ باللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً , إنها تحكم بضلال المسلم الذي لا يؤمن بالتوراة والإنجيل إيمانه بالقرآن,
- 5 - وفي سورة سبأ 34 :31 : ·وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا القُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ , فأهل مكة كانوا يعرفون التوراة والإنجيل كما كانوا يعرفون القرآن,
- 6 - وفي سورة القصص 28 :49 : ·قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا - القرآن والكتاب المقدس - أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ , تبيّن إقرار محمد بصحة التوراة والإنجيل ومساواتهما بالقرآن,
- 7 - وفي سورة المائدة 5 :43 : ·وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ , الإقرار صريح أنّ التوراة صحيحة ،فيها حكم الله ،وعلى متبعها أن لا يحكم سواها,
إنّ معاني الآيات السالفة الذكر واضحة غاية الوضوح ،حتى أنها لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير مما درج عليه السلف,
وخلاصة هذه الآيات أن الكتاب المقدس - التوراة والإنجيل - تنزيل الحكيم العليم ،نور وهدى للعالمين ،وأن أحكامه مرعية وواجبة الاتباع ،وأنّ من لا يؤمن أو من يكفر به من المسلمين يكون دينه ناقصاً ويضلّ ضلالاً بعيداً, وأنّ أهل مكة كانوا يعرفونه كما كانوا يعرفون القرآن,
هل تُعرض بعد هذه الآيات الصريحة أيها الأخ المسلم عن الإيمان بهذا الكتاب وتحسب كأنه لم يكن شيئاً مذكوراً؟ بماذا تعتذر عن عصيانك أوامر الله يوم الحشر يوم تناقش الحساب؟ أنصح لك أن تقرأ هذا الكتاب - التوراة والإنجيل - وتؤمن به وتعمل بأحكامه ،فتجد فيه الوسيلة الوحيدة للتوفيق بين عدل الله ورحمته ،والتطهير من الخطايا والحصول على السعادة الأبدية بالمسيح يسوع ،الوجيه في الدنيا والآخرة,
ولربّ معترض من إخواني المسلمين يقول :·إن الآيات التي استشهدت بها حق ،وما استنتجته منها حقيقة لا ريب فيها ،ولكن التوراة والإنجيل اللذين تطلب مني الإيمان بهما ،واللذين شهد بصحتهما القرآن ،قد تغيّرا وتبدّلا ،ولعبت بهما أيدي التحريف, وما تسمونه الآن بالتوراة والإنجيل يخالف الأصل الذي شهد له القرآن تمام المخالفة ،لذلك ترى المسلمين معرضين عنهما ونابذين أحكامهما ،ولا لوم عليهم بذلك ولا تثريب فأجيب المعترض وأمثاله بما يأتي ،راجياً ،من القارئ الكريم أن ينعم النظر في جوابي وينصف في الحكم وله الفضل فأقول : قد علمت من الآيات القرآنية المذكورة آنفاً أن الكتاب - التوراة والإنجيل - كان في أيام محمد على غاية من الأحكام والصحة ،وإلاّ لما كان محمد أمر بوجوب الإيمان به والخضوع لأحكامه وإقامة حدوده ،أو وجب عليك أن تقرّ أنه كان يوماً ما على الأقل صحيحاً لا تغيير فيه ولا تبديل,
ثم أرجو منك أن تقرأ الآيات التالية ،لترى بنفسك : هل يمكن أن يحصل هذا التغيير ،وهل يستطيع البشر ذياك التبديل؟
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ - سورة الكهف 18 :27 - ,
وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ - سورة الأنعام 6 :34 - ,
لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ - سورة الأنعام 6 :115 - ,
لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ - سورة يونس 10 :64 - ,
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً - سورة الفتح 48 :23 - ,
لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ - سورة فصلت 41 :42 - ,
إِنَّا نَحْنُ نَّزَلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ - سورة الحجر 15 :9 - ,
فترى مما تقدم أنه لا يقدر أحد أن يبدل كلام الله
،لأن الله أنزل كتاباً ووعد بحفظه, فإذا قلت إن المقصود بالذكر هنا هو القرآن،
قلت بل يعني أيضاً التوراة والإنجيل ،بدليل قول القرآن : · فاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ - التوراة والإنجيل - إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ - سورة الأنبياء 21 :7 -
بل إن التوراة نفسها قد سميت القرآن ·لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ - سورة الأنبياء 21 :48 - ,
وإن قلت إن الآيات تدل على حفظ القرآن ،قلتُ إن كل ما يصدق على القرآن يصدق على التوراة والإنجيل ،فالتوراة والإنجيل كلام الله ،والقرآن حسب اعتقادك كلام الله ،وأنت تعتقد أن الله قال في القرآن أن لا مُبدِّل لكلماته ،وأنه يحفظ ما أنزله من التبديل والتحريف والزيادة والنقص - كما أفاد الجلالين - , فهل تستطيع بعد ذلك أن تحكم أن التوراة والإنجيل قد تغيّرا؟
فإذا سلَّمت بهذا ،لزمك أن تسلّم بتغيير القرآن أيضاً ،لأن ما جاز عليهما يجوز عليه, وإذا قدر الناس على تغيير كلام الله التوراة والإنجيل ،فهم يقدرون على تغيير القرآن أيضاً لا محالة ،كما صرح الإمام الرازي, وتغيير القرآن ما لا تسلم به, إذاً وجب عليك أن تقول باستحالة تغيير التوراة والإنجيل وتبديلهما ،وتقرَّ بصحتهما وتعمل بأحكامهما وتتخذهما مرشداً إلى المسيح الطريق والحق والحياة,
وأما التحريف الذي أشار إليه القرآن في سور المدنية فهو واقع بحق بعض اليهود فقط ،والإنجيل خالص من تهمة القرآن هذه, والتحريف المشار إليه قد حصل في المعاني ،أي في تفسير الآيات ،إذ كان اليهود يفسرون الآيات خلافاً لما أراد محمد ،كما أثبت هذا الرازي والبيضاوي عند تفسيرهما آيات التحريف ،وإلا لكان كلام القرآن في السور المدنية مناقضاً لكلامه في السور المكية,