الفصل الثاني

إثبات صحة التوراة والإنجيل عقلياً

 

يعلم كل عاقل أن الله الذي أبدع الكائنات ،السموات والأرضين وما بينهما ،بكلمة قدرته الأزلية هو قادر, ويتحقق من إتقان صنع هذه المخلوقات وكمال شرائع الكون ونواميسه وسيرها مئات السنين على نظام واحد لا يتغير أن الله حكيم, وبما أن الله قادر وحكيم فلا بد أنه يضع دستوراً ويكتب شريعة لمخلوقاته الناطقة العاقلة كي تعلم نسبتها إلى خالقها ،وواجباتها بعضها نحو بعض ،وتعرف مصير العالمين وقصاص العصاة وثواب الطائعين المؤمنين, وإلا لأصبح الناس فوضى لا وازع لهم ولا مشترع كالأسماك التي يأكل كبيرها صغيرها ،ويفني الناس بعضهم بعضاً كالأقوام المتوحشة التي بادت, وتستوي إذ ذاك الفضيلة والرذيلة بل لا يعرف لهما اسم أو مميز ،وهذا ما لا يرضى به القادر الحكيم,

فإذا لم يكن ذاك الدستور وتلك الشريعة هما التوراة والإنجيل فقل لي إذاً : ما هما؟ هل من كتاب قديم مقدس يفي بالغرض المقصود كالتوراة والإنجيل؟ كلا!

ولا شك أن الله القدير الحكيم إذا نزَّل كتاباً دستوراً وهدىً للعالمين يحفظه من التلف والتغيير والزيادة والنقصان ،وإلا لتمزق الدين كل ممزق ،وأصبحت الكتب متعددة واختلفت الآراء وضاعت الحقيقة ووقع الناس في حيص بيص ،وحاشا الله أن يفعل ذلك! لأنه قد حفظ كتابه التوراة والإنجيل قرناً بعد قرن من كل تغيير وتبديل ،وأبقاه نبراساً يهدي به كل الضالين,

إن الإجماع على تغيير الكتاب - التوراة والإنجيل - مستحيل ،لأن الديانة المسيحية والديانة اليهودية كانتا وقتئذ منتشرتين في الشرق والغرب ،في الشام والأناضول ومصر والحبشة والهند وأوروبا ،وكان الكتاب ولا سيما الإنجيل مترجماً إلى كل لغات الأقوام التي دخل بينهم ،كالعبرية والأرمنية والحبشية والقبطية واللاتينية من اللغتين اليونانية والعبرانية الأصليتين فكيف يعقل أن هؤلاء الألوف يجتمعون ويتفقون على تغييره مع اختلافهم في اللغة والعقيدة ،ولا سيما أن المسيحيين كانوا شيعاً متعددة ،كل واحدة تناظر الأخرى؟

ولا شك أن قول المسلمين بتغيير الكتاب هو دعوى دون دليل ،وإلا فليخبرونا أين الآيات التي تغيرت ،وما هي وما أصلها وما الغاية من تغييرها؟ فإن عجزوا ،ولا مراء أنهم عاجزون ،أسألهم : كيف جاز لكم هذا الادعاء ،والعالِم الحكيم لا يُقدم على أمر إلا ولديه ما يثبت مدعاه؟ ترجم الإنجيل إلى العربية قبل ظهور الإسلام ،لفائدة قبائل العرب المتنصرة كحِمْيَر وغسان وربيعة وأهل نجران والحيرة وغيرها, وإلا فكيف عرف هؤلاء النصرانية؟ ويؤيد هذا ما جاء في كتاب ·الأغاني أن ورقة بن نوفل - وهو أشهر كتبة العرب لزمن محمد - كان يكتب الكتاب ،فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب, فلو حصل تبديل في الإنجيل لكان المسلمون حفظوا الأصل إثباتاً لدعواهم,

وأما اليهود فقد ضُرب المثل بشدة حرصهم على كتابهم ،فهم يعرفون عدد كلماته وحروفه ،كما يعرف هذا كل من عاشر رؤساءهم, فالكتاب المقدس جميعه إذاً لم يعتره تغيير ،ولن يعتوره تبديل ،كما شهد لذلك النقل والعقل,

وإذا تعددت الكتب فلا يشتبه عليك الحق ،فافحص وفتش وقابل ،تتضح لك الحقيقة, فالكتاب الذي يضرب على أيدي الشهوات والأميال النفسية ،وله اليد الطولى في تغيير القلوب الشريرة ،وهو موافق لصفات الله الطاهرة ،وصالح للعمران ،وهو مصدر المحبة لله والناس على اختلاف أديانهم ،والآمر بمحبة الأعداء ومسامحة المعتدين والذي يعتبر كل بني آدم إخوة ،هو الكتاب الذي أنزله واجب الوجود للعمل به بين العباد في كل قطر,

الصفحة الرئيسية