المبحث الثاني
هل نسخ القرآن التوراة والإنجيل؟
إذا كبا جواد العالِم المسلم في ميدان المناظرة ،وخانه البرهان والدليل ،ولم يجد بداً من التسليم بسلامة التوراة والإنجيل من التحريف والتبديل ،علاوة على أنهما منزلان من عند الله الحكيم هدىً ونوراً للناس أجمعين ،عمد إلى الدعوى بأن القرآن قد نسخ التوراة والإنجيل, ولكنها دعوى من غير بينة ،وافتراء عظيم ،لأن القرآن نفسه لم يدّعِ هذا ،بل صرح على رؤوس الملأ بلسان عربي مبين أنه نزل مصدقاً للتوراة والإنجيل ومهيمناً عليهما ،كما ترى من الآيات التالية :
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ذْكُرُوا نِعْمَتِيَ التِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ - سورة البقرة 2 :40 و41 - ,
مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ - سورة البقرة 2 :97 - ,
ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ - سورة آل عمران 3 :81 - ,
نَّزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بالحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ - سورة آل عمران 3 :3 - ,
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَّزَلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ - سورة النساء 4 :47 - ,
وَمَا كَانَ هَذَا القُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكِتَابِ - سورة يونس 10 :37 - ,
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بالحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ - سورة المائدة 5 :48 - ,
يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ والإِنْجِيلَ - سورة المائدة 5 :68 - ,
إن العاقل لا يقدم على دعوى إلا إذا كان واثقاً من نفسه المقدرة على إثباتها بألف دليل ،ولكن بعض إخواننا المسلمين يقدمون على هذا الأمر دون تروٍ, وإذا قلنا لهم هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ،جاءونا بأدلة واهية واهنة ،مثل قولهم إن الخلف ينسخ السلف, وبعبارة أخرى أن القرآن نزل بعد التوراة والإنجيل لذلك قد نسخهما, وبعضهم يقولون بما أن القرآن قد حوى التوراة والإنجيل ،لذلك لم يبق بعد لزوم لهما, وأراني غير محتاج مع ذكاء القارئ إلى إفساد هذه البراهين الواهية ،وخصوصاً لأن القرآن قد كفاني مؤونة هذا التعب ،لأن الآيات السبع السالفة مع عشرات مثلها تصرح صراحة لا تقبل التأويل أن القرآن نزل مصدقاً لصحة التوراة والإنجيل ومثبتاً إياهما ومهيمناً عليهما أي رقيباً وحافظاً ،ولم يدّعِ قط أنه جاء ناسخاً لأحكامهما, ولا يشتم رائحة هذا من كلامه بل نستفيد منه عكس ذلك ،لأنه زيادة على تصديقه وشهادته لهما ،كان يطلب من اليهود والنصارى علناً قائلاً ·يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ,
فلو كان أمر النسخ صحيحاً لما رأينا محمداً يحث اليهود والنصارى على إقامة حدود التوراة والإنجيل ،ولما رأيناه يطلب من المسلمين أن يؤمنوا بهما, ولم يذكر القرآن قط أنه حوى التوراة والإنجيل لكي يقول المسلم إنه قد صار في غنى عنهما ،بل إن القرآن صرح بعكس هذا كما ترى في سورة الشعراء 26 :193 196 ·نَزَلَ بِهِ - بالقرآن - الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِّيٍ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَّوَلِينَن - كتب الأولين أي التوراة والإنجيل - فترى أن الآية الأخيرة تثبت أن التوراة والإنجيل قد حوت القرآن ·إنه لفي زُبر الأولين فما بال أصحابنا المسلمين يدعون أن القرآن قد حواهما دون دليل؟
وافرض أن القرآن ضرب صفحاً عن القول بتصديقه للتوراة والإنجيل فلا يُستدل من سكوته أنه قد نسخهما إلا إذا جاهر بالقول الصراح إنه نسخهما وإنه لم يبق بعد من حاجة إليهما, والحمد لله أنه لم يفعل ذلك ،بل كثيراً ما كان يحاول إثبات صحة أقواله من موافقته لهما ووضع نفسه بإزائهما ·فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا - سورة القصص 28 :49 - , وكثيراً ما كان يحاول إقناع العرب بصحة أقواله والحاجة الماسة إليه بقوله إن التوراة والإنجيل قد نزلا بلغات أجنبية لقوم أجانب ·وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ - سورة الرعد 13 :7 - ولما كنتم أيها العرب لا تفهمون تلك اللغات أنزل الله القرآن من نوع تلك - التوراة والإنجيل - بلغتكم بلسان عربي مبين ·وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ - سورة الأحقاف 46 :12 - ,
ألا تزحزح هذه الآيات اعتقادك أيها المسلم بالدعوى أن القرآن قد نسخ التوراة والإنجيل؟ ألم تر أن دعوى النسخ لا يقوم على صحتها دليل؟ هلاّ تؤمن إذاً بثبوت أحكامهما إلى يوم الدين وتقيم حدودهما فتحصل على السعادة والخلاص الثمين؟