الفصل الثالث

هل قبل المسيح الصلب اختيارياً؟

إذا سألت المسلم : لماذا لا تصدِّق أن المسيح صُلب فعلاً؟ أجابك : لأنه نبي من الأنبياء أولي العزم ،والله لا يمكن أن يسلم نبيه الكريم ليد اليهود الأشرار كي يميتوه على الصليب شرّ ميتة, ولكن المسلم نسي شيئاً في قرآنه أن الله قد سمح بمثل هذا كما جاء في سورة النساء 4 :155 فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ,

وفي سورة البقرة 2 :87 أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ ا سْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ؟ حتى أن محمداً نفسه أقر بأنه مات بدس السم بخيانة امرأة يهودية - كما ترى في تاريخ المغازي والسير لمحمد بن اسحاق وفي الأحاديث - , وزد على ذلك أن التوراة والزبور والإنجيل قد صرحت أن صلب المسيح اختياري كما عيَّن الله منذ البدء, والمسيح نفسه قال صريحاً إن القصد من مجيئه إتمام عمل الفداء, أي لكي يقدم نفسه ضحية على الصليب, ولما قال له أحد الحواريين :حاشا لك يا رب من الصلب وبّخه قائلاً : أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي ،لِأَنَّكَ لَا تَهْتَمُّ بِمَا لِلّهِ ل كِنْ بِمَا لِلنَّاسِ - متى 16 :23 - ولما أراد أحد تلاميذه أن يدافع عنه عندما جاء اليهود ليمسكوه قال له : رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ,,, أَتَظُنُّ أَنِّي لَا أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ ا ثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً مِنَ المَلَائِكَةِ؟ فَكَيْفَ تُكَمَّلُ الكُتُبُ : أَنَّهُ ه كَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُون - متى 26 :52 54 - ,

يقول بعض إخواننا المسلمين, كيف يعاقب الله المسيح بالصلب لأجل خطايا الآخرين؟ وقد ورد في - 2 مل 14 :6 - لَا يُقْتَلُ الآبَاءُ مِنْ أَجْلِ البَنِينَ ،والْبَنُونَ لَا يُقْتَلُونَ مِنْ أَجْلِ الآبَاءِ قلت إن الله لم يحكم على المسيح بالقتل لأجل خطايا الناس ،بل إن المسيح حباً لنا تبرع وقدم نفسه عنا, وهذا أقصى درجات الحب ،فاستحق التعظيم, نعم إن القاضي لا يحكم عليّ بوفاء دين الآخرين ،ولكن إذا تبرعت بإيفاء ذلك الدين فماذا له أن يقول غير الاستحسان والمدح؟

وقال المسيح لليهود عندما أمسكوه ليصلبوه : كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ أَجْلِسُ مَعَكُمْ أُعَلِّمُ فِي الهَيْكَلِ وَلَمْ تُمْسِكُونِي. وَأَمَّا هذَا كُلُّهُ فَقَدْ كَانَ لِكَيْ تُكَمَّلَ كُتُبُ الأَنْبِيَاءِ - متى :55 و56 - والمسيح صُلب ليس لأنه ارتكب خطيئة ،لأن اليهود لم يجدوا فيه علة واحدة من جهة آدابه وأعماله ،بل صُلب ليقدم نفسه عنا ضحية ،وناب عنا في القصاص وأقام ذاته مقامنا, فإذا حُسب لعنة لأجلنا لا يكون هو مستحقاً ذلك ،بل لأنه رضي أن يضع نفسه موضع الخاطئ الأثيم المستحق اللعنة, فترى مما تقدم أن الله يسمح بقتل أنبيائه لمقاصد سامية ،وأن المسيح مات طوعاً باختياره حباً لنا كي يفدينا من لعنة الناموس ويوفي العدل الإلهي حقه وينيلنا الخلاص والحياة الأبدية, لذلك لا يغفر الله للمؤمن ولا يرحمه إلا بواسطة المسيح يسوع,

هذه هي الطريقة الوحيدة التي عيَّنها الله لخلاص المؤمنين ،التي بها يُظهر عدله ورحمته معاً, وأما الطريقة التي سنَّها الشرع الإسلامي فلا توفق بين عدل الله ورحمته, وليس في القرآن ولا في الأحاديث بيان شاف لكيفية الدينونة والحساب والغفران,

وأما الآيات التي يستند إليها إخواننا المسلمون في أمر الدينونة فهي :

وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ - سورة البقرة 2 :284 - ,

فإذا حاسب الله الناس حسب هذه الآية فلا مظهر لعدله ورحمته معاً, نعم إن الله يفعل ما يريد ،ولكنه لا يريد ما يخالف صفاته الأصلية وشريعته الإلهية, افرض أن القاضي عفا عن قاتل أخيك بعد ثبوت الذنب وغفر له ،فهل تحسبه عادلاً؟ كلا! بل ظالماً لأنه خالف الشريعة, وهذا لا يمكن في الله ،لأنه لا ينطبق على أحكامه ،وهو يخالف العقل السليم,

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ - سورة الأعراف 7 :8 و9 - ,

وهذه الآية تبين أن طريقة الحساب طريقة بسيطة ،وهي طريقة المصريين القدماء والمجوس ،وهي أن الله يضع حسنات المرء في كفة من الميزان والسيئات في الكفة الأخرى ،فإذا رجحت كفة الحسنات كان المرء من الفائزين بالنجاة ،وإذا رجحت كفة السيئات كان من الخاسرين وفي جهنم من الخالدين, وهذا لا ينطبق على الحقيقة ،لأن السماء أو الجنة التي يرغب الإنسان في الدخول إليها هي بقعة طاهرة لا يدخلها إلا المطهرون المقدسون ،فالذي يصنع سيئة واحدة فقد أذنب وتنجس, ومن المستحيل أن يدخل الجنة وهو على تلك الحال, وها أنا أضرب لك مثلاً على هذا لزيادة الإيضاح :

افرض أن مسلماً متشحاً بحلة بيضاء ،وبينما هو ذاهب للصلاة علقت بثوبه الأبيض أو بجسده النظيف قمحة من الأقذار ،ألا يُعد نجساً؟ ألا يتوجب عليه وهو بتلك الحال أن يعود فيتطهر كي يجوز له مباشرة الصلاة؟ هذه هي حالة الإنسان مع الله من جهة الطهارة والنجاسة ،لذلك لا يتمكن المؤمن من الدخول إلى الجنة قبل التطهير تماماً وتجديد القلب أيضاً ،لأنه إذا طهُر من الخطايا وغُفرت له ذنوبه ،ولكن جرثومة الشر بقيت متأصلة في القلب ،يبقى شريراً وغير صالح للسماء, وإذا كفَّر المسلم عن سيئاته في النار كما يعتقد هو وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ ا تَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً - سورة مريم 19 :71 و72 - ولم يتغير قلبه وأمياله الفاسدة ،فلا يصلح للجنة ولا تصلح له, وهكذا عقاب السارق بالسجن أو قطع اليد أو جلد الزاني لا يغير أميال الأول للسرقة وأميال الثاني للزنا ،بل ربما زادهما العقاب شراً على شر إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ - سورة يوسف 12 :53 - , ولكن الدين المسيحي بالأحرى الكتاب المقدس - التوراة والإنجيل - قد أعدَّ طريقة لا اعتراض حقيقي عليها ،لأنها تدبير الله ،بها يتمكن المؤمن من الحصول على الطهارة والمغفرة بواسطة ضحية المسيح ،ويحصل على التجديد أو تغيير القلب بواسطة الروح القدس ،فيصبح المؤمن إذ ذاك لائقاً بأن يدخل الجنة مسروراً بها,

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَاإ - سورة النساء 4 :40 - ,

وهذه الآية تطمع في الله ،لأنها تبين أن الله يضاعف حسنات المرء ،وأنت تعلم أن تضعيف الحسنات ليس بعدل,

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً - سورة الأسراء 17 :13 و14 - ,

وهذه الآية تبين أن لكل إنسان كتاباً ينشر يوم القيامة فيقرأه ويحاسب نفسه ،ولكن لم تبين طريقة الكتابة في الكتاب وكيف يحاسب الإنسان نفسه ،وما هي القاعدة التي يجري عليها,

إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ - سورة هود 11 :114 - ,

وهذه الآية تبين أن كل حسنة تُذهب سيئة ،فإذا كانت الحسنات أكثر من السيئات نال المرء الخلاص ،وإلا فالهلاك محتم, وقال علماء المسلمين : وليس لأحد أن يتظلم من أن الله لم يُثبْهُ على حسناته ،هذا إذا كانت سيئاته أكثر ،لأن الأشرار يثابون على حسناتهم في الدنيا,

وقالوا إذا انقضى الحساب ووُزنت أعمال كل امرئٍ بميزان عدل ،شرعت الخلائق في المقاصّة أي المقابلة بالمثل ،فيستوفي كل فرد حقه من غريمه ،وينتصف كل مظلوم من ظالمه, وهذا ما يسميه المسلمون بالخصومة ورد المظالم ،فتأخذ الملائكة من حسنات الظالم ما يساوي ظلمه ،ويضيفونها إلى حسنات المظلوم, فالذي يبقى من حسناته ولو مثقال ذرة يضاعفها له الله رحمة منه ،ليدخل الجنة, والذي تفنى حسناته ولا يزال عليه مظالم لم ترد ،يطرح الله عليه من أوزار مظلوميه ما يساوي تلك المظالم ،ويلقيه في جهنم ليعاقب على إثمه وإثمهم ،وكل هذا ليس بعدل,

ألا ترى أن كل هذه لا تفي بالغرض المطلوب ،ألا وهو تطهير القلب من أدناس الخطيئة واستئصال جرثومة الأميال الباطلة منه ،كي يصير صالحاً لعِشْرة الله الطاهر في السماء الطاهرة؟

ولا شك في أن الطريقة التي دبرها الله وعيَّنها في التوراة والإنجيل لخلاص الإنسان هي الطريقة المثلى ،فعلينا أن نتبعها لننال المغفرة وتطهير القلوب وندخل الجنة ونكون فيها خالدين,

 الصفحة الرئيسية