الفصل الرابع

صلب المسيح في القرآن

 

يعتقد المسلم أن الصلب قد حصل ،ولكنه ليس على المسيح ،بل على شخص آخر وقع شبه المسيح عليه ،بدليل قول القرآن في سورة النساء 4 :157 ،158 وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ , مع أن عبارة القرآن ملتبسة ومبهمة لا يُبنى عليها حكم ،وكأني بالقرآن لم يرد أن ينفي الصلب قطعياً عن المسيح فقال ما رأيت,

ومن الجائز أن تفسر آية القرآن على هذه الطريقة :وما قتلوه وما صلبوه يقيناً أي لم يقدروا على إيصال الأذى إلى نفسه ،لأن اليهود ظنوا أنهم بصلبهم للمسيح قد أبادوا ذكره وجعلوا أمره محتقراً بين الناس, فالآية تبين لليهود أنهم لم يقدروا على هذا ،لأن موته صار واسطة لإذاعة اسمه وتعظيم شأنه ،وأن الصلب لم يُبده ،لأن الموت الجسدي ليس إبادة أو فناء, والمسيح وإن مات ،فقد رفعه الله وكان هذا الموت سبباً لرفعه, ولإيضاح هذا أضرب لك مثلاً : افرض أنني أهنتك وشتمتك وحقرتك ،ولكنك كنت حليماً ولم تعاملني بالمثل ،ألا يجوز لك أن تقول لي :إنك لم تهنّي ولم تحقرني ،بل رفعتني وعظمتني في أعين الناس ،نظراً لحلمي ،وحقرت نفسك نظراً لسفاهتك , والحقيقة أن الصلب يُنسب إلى الحاكم الروماني بيلاطس الآمر به ،وليس إلى اليهود!

وقوله شُبه لهم مسند إلى ماذا؟ فإذا جعلته مسنداً إلى المسيح فهو مشبه به وليس بمشبه, وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر, لذلك ترى أن الآية غير صريحة, لو كان قصد الله أن يخلص المسيح من الموت على الصليب لكان خلصه بمعجزة ظاهرة باهرة ،وأظهر لليهود عدم قدرتهم على إيصال الأذى إلىنبيه ورسوله, ولكن المعجزة التي يتوهمها المسلمون لخلاص المسيح لم تفد الفائدة المطلوبة ،مع ما فيها من الغش الذي لا يصدر عن المولى ،لأنها لم تُظهر لليهود قدرة الله وعجزهم, وإذا كان الله رأى الصلب مخلاً بشرفه الأقدس ،أيعقل أنه عمل معجزة تظهر احتقاره فعلاً؟ مع أنه رفع المسيح إليه كي يتقي ذلك الاحتقار ،حسب اعتقاد جمهور المسلمين,

وقد وجدنا آيات في القرآن تبين تلميحاً إن لم يكن تصريحاً أن المسيح قد مات فعلاً ،وهي تفسّر ما أُبهم من الآية السابقة كما ترى في سورة آل عمران 3 :55 إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ , قال بعض المفسرين إن كلمة متوفيك معناها منّومك ،ولكن لم يدر أحد في العالمين الحكمة في التنويم قبل الرفع, ولعل الراسخين في العلم الأواخر ،يفيدوننا بما لم تستطعه الأوائل!

والحق أن معنى متوفّيك مميتك ،وهذا مروي عن ابن عباس ومحمد بن اسحاق, واختُلف في مدة الموت ،فقال وهب توفي المسيح ثلاث ساعات ثم رُفع, وقال محمد بن اسحاق توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه, وقال الربيع بن أنس أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء, والإمام البيضاوي يعتقد أن المسيح مات حقاً ثلاث ساعات, قيل في معجم اللغة توفاه الله قبض روحه وتوفي فلان على المجهول قُبضت روحه ومات ,

وقد وردت كلمة متوفيك وما يشتق من هذا الفعل بمعناها ثلاثاً وعشرين مرة في القرآن, وكلها تدل على قبض الروح والموت مطلقاً إلا في موضعين ،حيث دلت القرينة على قبض الروح مجازاً في النوم الأول وَهُوَ الذِي يَتَوَفَّاكُمْ باللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بالنَّهَارِ - سورة الأنعام 6 :60 - والثاني - في سورة الزمر 39 :42 - ا للَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا والتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ,

قال بعض المفسرين إن الواو في جملة متوفيك ورافعك للتعقيب وليس للترتيب تضليلاً للعقول ،فيكون المعنى حسب رأيهم أن المسيح سيأتي ثانية فيموت, اللهم قِنَا شر المخاتلة, وما ضرهم لو حسبوا أن الواو للتعقيب والترتيب معاً فيصح المعنى, لو كان قصد القرآن ما أرادوا لأفصح عن هذا بعبارة لا تقبل الالتباس!

وكما ترى في سورة مريم 19 :15 وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ - الضمير راجع إلى يحيى - يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ,

وفي سورة مريم 19 :33 أيضاً وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ - عيسى - يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً,

لا خلاف أن المسلمين قاطبة يعتقدون أن يحيى - يوحناالمعمدان - وُلد ومات بناء على الآية الأولى ،فلماذا لا يعتقدون هذا في عيسى المسيح بناء على الآية الثانية, لأن ترتيب الآيتين واحد والألفاظ واحدة تقريباً ،والقرينة في الثانية لا تدل على غير ذلك,

وكما ورد في سورة مريم 19 :31 وَأَوْصَانِي بالصَّلاَةِ والزَكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ,

الزكاة شرعاً قدر معين من المال يخرجه الحر المسلم المكلف لله تعالى إلى الفقير المسلم غير الهاشمي ولا عبده مع قطع المنفعة عنه من كل وجه, وفي الكليات كل ما في القرآن من زكاة فهو المال إلا قوله حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً سورة مريم 19 :13 فإن المراد به الطهارة,

فإذا كان المسيح ارتفع إلى السماء دون أن يموت كما يعتقد جمهور إخواننا المسلمين ،فالواجب عليه أن يزكي طوعاً للوصية, وهل في السماء يا ترى من فقراء المسلمين كي يعطيهم الزكاة؟ وإذا كان المسيح لم يزل حياً في الأرض ،فأين هو ومن هم الذين يتناولون منه الزكاة؟

وإذا علمنا أنه ليس على الأرض ،وأنه لا يزكي ،نعلم أنه قد مات حقيقة, ولذلك قد انتفى عنه فرض الزكاة!

وكما ورد في سورة المائدة 5 :117 وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ قال الرازي والجلالين إن هذه الآية سيقولها المسيح عيسى لله يوم الحشر على الأرجح, ويفسر الرازي توفيتني بالرفع ،وقد سها أنه فسرها بالنوم في الآية يا عيسى إني متوفيك ورافعك فإذا جارينا الرازي وغيره من المفسرين على أن التوفي هنا بمعنى الرفع ،وأن هذا الكلام سيحصل يوم الحساب الأخير ،تكون النتيجة أن المسيح لا يموت أبداً ،وهذا مخالف لنص القرآن الصريح كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ والإِكْرَامِ - سورة الرحمن 55 :26 و27 - ,

كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ - سورة القصص 28 :88 - ,

ويكون هذا مخالفاً أيضاً لاعتقاد كثيرين من علماء المسلمين الذين يعتقدون أن المسيح مات حقاً, ومخالفاً للذين يعتقدون منهم أن المسيح لا بد من أن يموت في هذا العالم قبل يوم الحشر, وما ضرهم لو اعتقدوا أن التوفي هنا بمعنى الموت ،وأن هذا الكلام حصل قبل القرآن حسبما يفيد ظاهر الآية وإذ قال التي تدل على الماضي وليس علىء الاستقبال ،فتصير إذ ذاك الآية القرآنية موافقة للتوراة والإنجيل واعتقاد النصارى في صلب المسيح وموته, اللهم أرِ الحق لطالبيه, وامنح النور لمريديه, إنك خير من دُعي يا أكرم الأكرمين,

 الصفحة الرئيسية