سادساً: موفق سعيد

كتب الأستاذ موفق سعيد محاولاً التوفيق بين الآراء المختلفة في هذه القصة. وهذا ما كتبه:

"هل حقاً مات المسيح؟"

أ - كلا لم يمت كسائر المخلوقات: ولم تتم عليه أحكام الموت وفقاً لقانون الموت وأحكامه الثابتة التي لا بد من توافرها لكي يتم الموت بمعناه الصحيح. وهذه الأحكام هي:

1 - تخلص الروح من الجسد -أو بمعنى أصح- انفصال النفس عن الجسد.

2 - سكون الحركة.

3 - انحلال الجسم وفنائه.

4 - حشر الروح نهائياً مع بقية الأرواح المتجانسة - الشريرة أو الصالحة- بانتظار يوم البعث الأكبر أي يوم القيامة.

فإذا توافرت هذه الشروط، نستطيع أن نقول بأن الموت قد تم فعلاً. أما إذا أنقصت أحكامه شرطاً واحداً فقد فسد ولا نستطيع أن نسميه موتاً صحيحاً.

وفي مدلول الآية الكريمة التالية تفسيراً لما أعنيه تماماً "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون" آل عمران 169.

"ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، بل أحياء ولكن لا تشعرون" البقرة 154. فهؤلاء الشهداء قد جرت عليهم أحكام الموت الثلاثة الأول، غير أن الشرط الأخير وهو عدم حشر أرواحهم مع بقية الأرواح* هو التفسير الوحيد لاستمرار حياتهم "ولكن لا تشعرون" وبذلك لا ينطبق عليهم الموت تماماً. حسبما ذكرت الآية، لأن أرواحهم لو حشرت مع من سبقهم، لكان موتهم كاملاً. وفي هذا ما يناقض مدلول الآية الكريمة.

ولكننا بحسب واقع الحياة، وعدم لمسنا مادياً للشرط الأخير من أحكام الموت "ولكن لا تشعرون" لا نستطيع إلا أن نقول عنهم، بأنهم أمواتاً، صعدت أرواحهم وسكنت حركتهم، وانحلت أجسادهم.

فالقرآن دل بصورة غير مباشرة على انطباق مدلول الآية الكريمة على السيد المسيح، ولكن لانفراده بميزات خاصة عن البشر، لمح تلميحاً على هذا الاستشهاد. فالمسيح مات شهيداً ولكنه لم يمت في عرف القرآن.¨

جاء في أسباب النزول " وقوله تعالى(لا تحسبن) عن ابن عباس قال: قال رسول الله: لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقبلهم، قالوا يا ليت أخوتنا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يذهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله الآية (ولا تحسبن الذين قتلوا) وما بعدها. أسباب النزول. جلال الدين عبد الرحمن أبي بكر السيوطي. تحقيق وتعليق الأستاذ أبوعميرة. مكتبة نصير. ص65.

وأنظر أيضاً:

أ - أسباب النزول لأبي الحسن على بن أحمد الواحد النيسباوري. مؤسسة الحلبي.1968. ص85-88.

ب - تفسير الجلالين. طبعة دار التراث. ص22،64.

جاء في المجلس العشرين بعد المائة من المجالس المؤيدية "للمؤيد في دين الله هبة الله بن أبي عمران الشيرازي الإسماعيلي، داعي الدعاة في عصر الخليفة المستنصر بالله":

" موضوع كلام المتكلم في كون المسيح بشرا يأكل الطعام، في مضماره وجوب الموت والقتل عليه، وجميع ما يعرض للصور البشرية، قال القائل أو لم يقل. وفي مضمار قول القائل إنه كان إلهاً نفي الموت عنه والقتل عنه، قال القائل أو لم يقل. وقوله سبحانه "وما قتلوه وما صلبوه" أخبار عن حقيقة حاله أنه عند الله سبحانه حي مرزوق يوافق ذلك قوله في موضع "لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون 3 :1.

المجالس المؤيدية ص 79. من تاريخ الإلحاد في الإسلام. د.عبد الرحمن بدوي. ط2. 1993م. ص107-108.

إن ما يريد الكاتب قوله هنا هو:

1 - إن المسيح بشر فلذلك هو يأكل الطعام، ويوجب عليه القتل وجميع ما يعرض للصور البشرية.

2 - "ما قتلوه وما صلبوه" لا تنفي موته، فهو مات ولكنه في نظر الله حي يرزق مثل الذين قتلوا في سبيل الله.

وإذا اعترض أحدهم بالقول بأن جميع الأموات هم أحياء بأرواحهم عند الله، إذاً لماذا أختص الله الشهداء بهذا الامتياز؟ ويكون التخصيص هنا بلا جدوى.

ب - نفي موت المسيح معنوياً:

وذلك بعدم التسليم للقائلين بتغلب قوى الشر على قوى الخير، فهو يسفه اليهود على تبجحهم الفارغ، لا على حقيقة الصلب والقتل والموت. فقتلهم للمسيح ليس بالقتل الذي يتوهمون، وصلبهم له ليس بالصلب الذي يظنون، إذا ما لبث أن أنبعث حياً وصعد إلى السماء حيث رفعه الله إليه.

لقد ظن اليهود أنهم قضوا على المسيح قضاء مبرماً ولاشوا ذكراه إلى الأبد فلا حاجة لأحد أن يذكره لهم. ولكن خاب فألهم، فهم لم يقتلوه نهائياً ولم يقضوا عليه قضاً مبرماً أي "وما قتلوه (يقيناً)" إذا أحياه الله في الحال ورفعه إليه، وكان الله عزيزاً حكيماً..

أجل أن القرآن يكذب اليهود على تبجحهم الفارغ* لا على حقيقة القتل والصلب والموت. خطوات نحو إنهاء الصراع بين المسيحية والإسلام. موفق سعيد. بيروت. 1961م . ص 94-97، 112.

 

ونضيف هنا ما كتبه د.الدر

"إن هذه الآية لا تقول أن المسيح لم يمت على الصليب، ولكنها تقرر أن اليهود لم يقتلوه ولم يصلبوه، وهذا تاريخياً صحيح، فرغم أنهم كانوا مسئولين عن ذلك إلا أن الجنود الرومان هم الذين قاموا بهذا العمل حقاً..

ولكن هناك معنى آخر، وهو أنه ليس اليهود ولا الرومان هم الذين صلبوا المسيح، ففي أثناء محاكمة المسيح أمام بيلاطس، "أجاب يسوع لم يكن لك عليّ سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق" يو19: 11

إن اليهود اعتقدوا أنهم قتلوا المسيح، على الرغم من أنهم لم يقتلوه بالتأكيد، ففي الحقيقة أنهم لا يستطيعوا أن يقتلوا المسيح، ولكن الله فقط يستطيع ذلك. وهذا ما نجد ما يشبهه في سورة 8: 17 عندما فرح المسلمون بانتصارهم في موقعة بدر، فذكرهم بأن الإنسان لا يستطيع أن يفعل شئ بنفسه "فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" الأنفال 17. \ انظر المراجع التالية

1 - Jesus in the Quron. Geaffrey parrinder.

London. 1979. p.p 108-120.

2 - Muslim world . 13.p 242.

3 - Muslim world . 14.p 23.

4 - Call of Minarat. Keneth Karag. 2nd edition. p. 266.

 

أو كما قال الأستاذ عبد المجيد الشرفي: فليس من المستبعد أن يكون إنكار قتل اليهود عيسى وصلبه من باب المجادلة المقصود بها التنقيص من شأن المجادلين". الفكر الإسلامي في الرد على النصارى إلى نهاية القرن الرابع/ العاشر. ص119

.

العودة الي الصفحة الرئيسية