مسألة تحريف الكتاب المقدس
نفتتح هذا البحث ، كما سنختتمه ، بعد استقراء القران ، بهذا التحدي الصارخ :
إننا نتحدى أيا كان أن يرينا في القران آية واحدة تتهم النصارى بالتحريف أو تلقي
على الإنجيل شبهة التحريف ، وذلك تصريحا أو تلميحا ! .
قد يذكر الفران
لليهود ، ولليهود وحدهم (تحريفا) في
الكتاب . وسندرس هنا معناه ومداه .
لكته لا ينسب
للنصارى والإنجيل أية شبهة من التحريف
.
وشبهة التحريف عند
اليهود تأتى في المدينة ، ولا ذكر لها في القران المكي : فهي من زمن الصراع بين
محمد واليهود في
العهد المدني الأول
، لان تصفية اليهود من المدينة
كانت قد تمت في مطلع العهد الثاني بالمدينة .
وسنرى ان(التحريف)
المذكور إنما هو تأويل فاسد لآية
(النبي الأمي) او نعت النبي في التوراة، ولآية جلد الزاني بدل رجمه .
تأخذ شبهة التحريف
في القران ثلاثة أشكال:
كتمان بعض الكتاب
عن الناس ،
واللي بالسان طعنا
في الدين ،
وتحريف الكلام عن
موضعه .
السورة الأولى من
المدينة وهي البقرة . فيها صور الصراع الذي نشب بين محمد واليهود على زعامة المدينة
. وبالتالي على صحة نبوة محمد، التي ظل اليهود يكفرون بها طيلة عهد الدعوة القرآنية . وفيها يتهم اليهود
بكمان الحق الذي في التوراة : ( يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِي وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا
تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِي وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا
الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ … أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ
أَفَلَا تَعْقِلُونَ . البقرة 40 –44.
فالقران يردع
اليهود عن الكفر به قبل الجميع ؛ مع انه ؛ (مصدق لما معهم) ! : فالقران اذن يصدق ما
هو مع بني إسرائيل من الكتاب، وهذا التصديق شاهد انه لا تحريف عندهم.
ويقول : ( ولا
تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) فآيات
الكتاب الذي مع اليهود لم تزل آيات الله، (آياتي)، في زمن محمد .
ويقول ( وانتم
تتلون الكتاب) فالكتاب الذي معهم لم يزل كتاب الله ؛ ولو دخله تحريف لما نوه
بتلاوته شاهدا عليهم .
ثم يتهمهم ( تلبيس
الحق الباطل) أي كما قال الجلالان : ( لا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم بالباطل
الذي تفترونه ) . فتلبيس الحق بالباطل هو أدق تحديد للتأويل الباطل .
فالقران اذن يشهد
هنا ان بني إسرائيل يتلون في الكتاب الحق المنزل ، وان فسروه على هواهم : فالكتاب
الذي مع بني إسرائيل هو الحق في زمن محمد .
ثم يقرن القران
تلبيس الحق بالباطل ، بكتمان الحق : والاثنان يفسر بعضهما بعضا .
يقول : ( ولا
تكتموا الحق وانتم تعلمون) أي لا تكتموا الحق الذي في الكتاب . فما هو هذا الحق
الذي يكتمون ؟ قال الجلالان : ( لا
تكتموا نعت محمد وانتم تعلمون انه الحق ) .
فقد كان محمد
يستشهد بالتوراة على صحة نبوته ، فينكر اليهود عليه ذلك.
فالخلاف في
التأويل ، لا في كتمان النص او تحريفه .
الجدل قائم بين
محمد واليهود على الهدى (135 –141 ) .
كان اليهود يشتقون
الهدى من اسمهم فيقولون : ( كُونُوا هُودًا تَهْتَدُوا (البقرة 135).
فرد عليهم القران
ان الهدى في الاسلام الذي يؤمن : ( بما) أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ ) 136.
فيردون عليه :
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا
هُودً (140)
فيرد عليهم ان
اليهودية من موسى ؛ لذلك فالآباء والأسباط لم يكونوا يهودا (بالمعنى الديني )
هذه هي شهادة
التوراة: ( ومن اظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ) 140.
فالقران يستشهد
بالتوراة التي معهم في زمن محمد ، ويتهم اليهود بكتمان شهادة التوراة ، كتمانا
لفظيا ، أو بالحري معنويا، بالتأويل المغلوط . واستشهاد القران بالتوراة دليل على
صحتها ، كما هي في أيديهم .
3) الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ
فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) البقرة 146.
الجدل مع اليهود
على نبوة محمد . قال الجلالان : ( أهل الكتاب يعرفون محمد كما يعرفون أبناءهم بنعته
في كتبهم . وان فريقا منهم ليكتمون
الحق اي نعت محمد ، وهم يعلمون.
فظاهر ان الكتمان المقصود هو التأويل الفاسد للتوراة التي تشهد لمحمد . وما
يكتمه فريقا، يفضحه الفريق الآخر :
فلا خوف على النص لا من الكتمان المادي ولا من الكتمان المعنوي أي التأويل .
فمناورة الكتمان ،
بالتأويل المغلوط ، هي من فريق فقط . فهي فاشلة ، ولا تمس التوراة في شيء.
4) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ
الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ . البقرة 159 .
ان القران يلعن
الفريق من اليهود الذي يكتم معنى الكتاب عن الناس . وهب انهم يكتمون النص نفسه ،
فلا خوف على تحريفه. فالفريق الآخر بالمرصاد .
5) ( إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا
قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا
يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ
بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ
بَعِيدٍ . البقرة 174 –
176 .
هنا يظهر شقاق الفريقين على اختلافهم في فهم الكتاب . ففريق
منهم بتأويلهم الفاسد اشتروا الضلالة بالهدى . والفريق الآخر بقي على الهدى في حفظ
الكتاب وتأويله .
وفي الآية شهادة مزدوجة على صحة الكتاب المتداول في الحجاز على
زمن محمد : ان فريقا منهم ( يكتمون ما انزل الله من الكتاب ) : فالقران يشهد بان الكتاب في زمنه منزل
من الله ؛ ويشهد أيضا ( بان الله انزل الكتاب بالحق ) كما وصل زمان محمد والقران .
وفي سورة ال عمران يظل الجدل قائما بين محمد واليهود على صحة
رسالته : يستشهد محمد بالكتاب فينكرون عليه صحة شهادته :
1) ( وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ
يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ
الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ . ال عمران
69 –71 .
قال الجلالان : ( لم تخلطون الحق بالباطل وتكتمون الحق أي نعت
محمد ، وانتم تعلمون انه الحق ). فالخطاب كله بحق اليهود ، وهم ينكرون تأويل محمد
لشهادة الكتاب له . فتهمة الكتمان تدور كلها حول صفة الكتاب .
2) ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ . ال
عمران 187 .
الآية في خطاب بحق اليهود أيضا : ان كتمان حقيقة الكتاب ، خصوصا
في صفة محمد النبوية ، هو ضد الميثاق الذي أخذه الله في التوراة على اليهود،
ان يظهروا الحقيقة ولا يكتمونها بتأويلهم. وهذه شهادة على صحة الكتاب .
وفي سورة النساء هذه الآية في خطاب اليهود أيضا : ( الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا . النساء 37
.
قال الجلالان : يكتمون ما آتاهم الله من فضله ، من العلم
والمال، وهم اليهود ). فاليهود يمنعون علمهم ومالهم عن محمد : تلك هي التهمة .
وفي سورة المائدة هذه الآية في نفاق اليهود : وَإِذَا
جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ) المائدة 6.
فقد اتخذوا دعوة محمد (هزوءا ولعبا) هم (الذين جعل منهم القردة
والخنازير). المائدة 60 –64.
تلك هي تهمة الكتمان في دعوة القران : انها تقتصر على خلاف محمد
واليهود في دلالة الكتاب على صحة نبوة محمد .
انها قضية تفسير وتأويل . فليس فيها ما يمس نصص الكتاب الذي
يعلن القران مرارا صحته في عهد القران .