مسألة تحريف الكتاب المقدس

 

علاقة الحنيفية بالاسلام

 

تعتبر الحنيفية حركة مستقلة عما عداها ، ويميل العلامة " شيخو " في كتابه (النصرانية وآدابها في عرب الجاهلية 1: 119 ) إلى اعتبار الحنيفية شيعة نصرانية . ونحن لا نؤيده في ذلك رغم إيمان الحنفاء بالمسيح وأمه ، ولكن بسبب هذا الإيمان عينه ، وبسبب استقبال الحنفاء بيت المقدس في صلاتهم ، وبسبب اعتمادهم الكتاب والنبيين أكثر من الإنجيل ، يميل في هذا الشأن إلى حشرهم في زمرة اليهود - النصارى الذين يقبلون باستقلال النصرانية عن اليهودية كما كان يدعو الرسول بولس، بل أرادوا دمج النصرانية باليهودية والموافقة بينهما . ويوم خراب أورشليم سنة سبعين وبعدها رحلوا إلى ديار العرب والحجاز، واستوطنوا هناك ونموا في دائرة ضيقة . وكانوا يعتمدون إنجيلاً منحولاً للرسول متى ، من جعل يسوع أبن يوسف ، وهذه تهمة ينور عليها القرآن وينقضها في كل مواقفه ، وبتسميته على الدوام يسوع "

بابن مريم " يتحدى اعتقادهم الفاسد : ومن يتلو القرآن يجد قرابة صميمة قوية بين الإسلام و الحنيفية . ففيما نسمع القرآن يقول { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } . [ النحل 16:123] . ونسمعه يقول في موضع آخر على لسان نبيه :{ وأُمرت أن أكون من المسلمين }[ النمل 27: 91]، بل {أول المسلمين }[ الأنعام 6: 163] ، ثم ننتقل من مكة إلى المدينة، ومن حالة التردد والحيرة إلى حالة الركون والصراحة فنسمعه يعلن الوحدة التامة بين الحنيفية والإسلام ، فكلاهما ملة واحدة قائمة بنفسها تجاه اليهود والنصارى والمشركين :{ وما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن حنيفا مسلما وما كان من المشركين . ال عمران 67.

وللأستاذ " يوسف الدرة حداد " باب قيم في هذا المجال بــكتابه ( القرآن والكتاب ) يبحث فيه علاقة محمد بالحنيفية ، ولفائدته ننقله هنا

 

" .. ونشاهد تطور هذه العقيدة في خمس سور مكية ، وخمس سور مدنية ، تتعاقب ما بين هجرة محمد إلى الطائف وانتصار المسلمين في معركة بدر : بدأ محمد فبل بعثته حنيفاً مستقلاً ، ويظهر في القرآن المكي حنيفاً كتابياً .. إن أول إشارة إلى الحنيفية نجدها في سورة يونس ( 1. ) ترينا الوحدة القائمة بين الدعوات الكتابية والحنيفية والقرآنية : { قل : يا أيها الناس ، إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، لكن أعبد الله الذي يتوقاكم . وأُمرت أن أكون من المؤمنين ، وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين }[ 1.: 104- 105 ].فالدعوة إلى الله دون سواه هي الحنيفية ، والحنيفية هي إيمان المؤمنين الذين أمر أن يكون منهم

1: ومحمد لا يرى فرقاً بين الحنيفية والإسلام وتوحيد التوراة والإنجيل ، لأن الحنيف هو الذي لا

يشرك بالله :{ أنى وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أن من المشركين }[ الأنعام 6:79]. فلقد كانت اليهودية في مزاميرها خاصة تدعو إلى الصراط المستقيم أي دين الله ، والنصرانية تدعو إلى الدين القيم أي دين الله والمسيح ، والحنيفية إلى ملة إبراهيم ، أي الإسلام والتسليم لله وحده لا شريك له ، وحدها محمد في قوله:{هداني ربى إلى صراط مستقيم ، ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ) الأنعام 161.

 

2 . وهذا النص الآخر يجعل من الثلاثة الإسلام لله رب العالمين :{ قل : إن صلاتي ونسكي ومحياى ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين }[أنعام6: 162- 163]، أى من هذه الأمة ( الجلالان ) لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته ( البيضاوى) فالإسلام في هذه السورة هو توحيد الحنيفية والكتاب ن لاتمييز بينهما على الإطلاق ز وإذا قارنا الآية 161 من الأنعام بالآية 9. من السورة عينها ، رأينا أن الصراط المستقيم والدين القيم وملة إبراهيم الحنيف هي هدى الكتاب وأنبيائه :{أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة - فإن يكفر بها هؤلاء ( مشركو مكة ) فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين - أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}[ 89- 9. ] فإلى هدى أهل الكتاب أهتدي محمد ، وبه يؤمر ان يقتدى.

وفى سورة النحل ( 16 ) نجد إبراهيم أول حنيف ومحمد آخرهم :{ إن إبراهيم كان إماماً قانتاً لله، حنيفاً ولم يكن من المشركين ، شاكراً لأنعمه ، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ....ثم أوحينا إليك أنأن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } [ نحل 16: 12. - 123 ]. ولكن هذه الحنيفية هي الإيمان بالكتاب ، فإذا شك المكيين في ذلك فليسألوا أهل الكتاب :{ ... فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر. وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } [16: 43- 44 ] ، وإن إحالة السامعين على أهل الذكر ، العلماء بالتوراة والإنجيل ( الجلالان ) ، لتوحى بأن محمداً يتفق معهم بإيمان واحد في الذكر الكريم أي الكتاب ( البيضاوى ) وغاية القرآن أن يبين للعرب ما نزل للناس في الذكر الأول . ووحدة الاسم ( الذكر ) بين الكتاب والقرآن تدل أيضاً على وحدة الدعوة والإيمان بين الكتابيين ، المؤمنين الأولين والمسلمين :{قل : نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين}[ 16: 102 ]، فالقران إذن تثبيت للمؤمنين الاولين وهدى للمسلمين .

فى سورة إبراهيم ( 14 ) يصرح إبراهيم في دعائه إلى الله أن من تبعه فإنه منه ، لذك يدعو محمد أهل مكة إلى حنيفية إبراهيم الكتابية ليكونوا جديرين بجدهم خليل الله في الدين والقومية :{وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا البلد أمناً واجنبنى وبنى أن نعبد الأصنام . رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [14: 35- 36 ].إنها شهادة متوترة في القرآن بأن أكثرية أهل مكة على الشرك ، ولكن هناك من لم يزل على التوحيد الإبراهيمي ، فمن كان على هذا التوحيد فإنه " من إبراهيم 4.


وفى سورة الروم ( 3. ) يعلن محمد أن هذا التوحيد الذى يدعو إليه مع أهل الكتاب والذكر هو الدين القيم ، وهو الحنيفية التي فطر الناس عليها : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها - لا تبديل خلق الله - ذلك الدين القيم لكن أكثر الناس لا يعلمون } [ 3.: 3. ]
ففى جميع الآيات المكية يأتي ذكر الحنيفية مقروناً بالتوحيد الكتابي كأنه لا فرق بينهما .... ويختم محمد كرازته في مكة بإعلان الوحدة الدينية بين أتباعه والكتابيين :{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم - وقولوا : أمنا بالذي إلينا وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له لمسلمون . العنكبوت 46.

كانت الهجرة النبوية إلى المدينة انقلابا في الداعي وفى الدعوة وطريقتها
ففي الفترة التي سبقت الهجرة ، بعد رجوع محمد خائباً من الطائف ، أخذ يميل في توحيده إلى الاستقلال عن أهل الكتاب ، ويظهر ذلك في السور المكية الأخيرة (كالعنكبوت مثلاً).وهذا التوحيد هو الحنيفية التي أخذ محمد ، منذ سورة البقرة ، يحييها ويميزها عن اليهودية والنصرانية:{ وفالوا : كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ! بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين . البقرة 135.

ثم جعل محمد يفكر في تأسيس الحنيفية ، ملة توحيدية كتابية عربية مستقلة كملتى الكتاب .

{ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } [ البقرة 2: 143] . ويريد أن يجعل هذه الأمة الجديدة الموحدة (وسطاً)بين الكتابيين والأميين أى مشركى العرب الذين لا كتاب لهم ( الجلالان ) كما ستصرح به آية [ آل عمران 3: 2. ] { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين : أأسلمتم ؛ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما تولوا فإنما عليك البلاغ } . ولكن ، على ما تقوم هذه الأمة الوسط ؟ إنها تأخذ عقيدتها عن الكتابيين وتشترك مع أنبياء الكتاب في صحة التوحيد:{ قولوا : أمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق والأسباط وما أوتى موسى وعيسى ، وما اوتى النبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [ البقرة 2: 136 ]. وتأخذ شرائعها عن القومية العربية : ففى سورة النساء، يوضح القرآن أنه كان يهدى بسنن أهل الكتاب ثم عدل عنها إلى عادات قومه ليخفف عنهم :{ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ..... يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) النساء 26-27.

هذا الاستقلال العربي في التوحيد والتشريع عن اليهود والنصارى لا ضير فيه لأن التوحيد من إبراهيم قبل الإنجيل والتوراة ، فلا سبيل إلى الحجاج :{ قل : أتحاجونا في الله ، وهو ربنا وربكم ، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ، أم تقولون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى ؟ قل : أأنتم أعلم أم الله ؟ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ! ومالله بغافل عما تعلمون} البقرة 139.

وشعار الاستقلال في قبلة الصلاة . فقد كانت القبلة المحمدية في مكة إلى بيت المقدس مثل أهل الكتاب ، ولما إستقل عنهم في المدينة عاد إلى قبلة قومه نحو الكعبة ، ولم تطهر بعد :{ قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ؛ وحيث كنتم فولوا وجوهكم شطره }[ البقرة 2: 144 ]. وكانت وحدة التوحيد بين محمد وأهل الكتاب تظهر في مكة من خلال وحدة القبلة ، وإذاً الاستقلال، في المدينة ، يظهر في اختلاف القبلة ، شعار الملة . { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة }[ 2: 15. ] . فبدت هذه الظاهرة الجديدة " كبيرة " على بعض الكتابيين :{ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ ... وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } [142-143]

ويظهر لنا القرآن أن هذا التغبير والاستقلال والانقلاب كان لمصلحة محمد الشخصية:{ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبه }[ 2: 143] ؛ ولمصلحة أمته :{ ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون } [ 2: 15.] . لأن هذا الاستقلال في " الأمة الوسط " يعطيهم كياناً دينياً مستقلاً :{ كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ، ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } [ 2: 151 ] وهذا الاستقلال العربي في التوحيد لا يعنى انفصالا عن توحيد الكتاب ، فقد {آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا نفرق بين أحد من رسله } [2: 185]؛ والقبلة والتشريعات الثانوية لا تضير وجه التوحيد بينهم [ 2: 177] . وفى سورة البقرة حتى واقعة بدر ، أستقل محمد بالحنيفية العربية الإبراهيمية " أمة وسطاً" ، وبعد واقعة بدر وظهور سلطان المسلمين ، بدأ محمد يدعو إلى توحيد ملل التوحيد الكتابي تحت أسم التوحيد الجديد الذي أحتكره ، أي " الإسلام " . وكان في مكة يدعو إلى توحيد الآلهة فأمسى في المدينة يدعو إلى توحيد التوحيد الكتابي :{ قل : يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا أربابا من دون الله . فإن تولوا فقولوا: أشهدوا بأن مسلمون ( موحدون : الجلالان ) ال عمران 64.

فالإسلام من إبراهيم ، لا مراء في ذلك وهو الدين الحنيف :{ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ، ها أنتم حججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ، ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانيا ولكن كان حنيفاً مسلماً ، وما كان من المشركين }[ آل عمران 3: 66 - 67] . لاحظ ، لقد كان إبراهيم في مكة من المؤمنين ، فصار في

البقرة حنيفاً ( 125 ) ، وأمسى في آل عمران مسلماً (67) كانت ملة إبراهيم في مكة إسلام التوحيد الكتابي ، فصارت في المدينة ، بعد بدر طائفة مستقلة في ذاك التوحيد المنزل ، تنسب مباشرة إلى إبراهيم من فوق الإنجيل والتوراة . وصار عيسى وموسى وإبراهيم مسلمون . لذلك فالمسلمون العرب أولى بإبراهيم من اليهود والنصارى لأن الإسلام هو الحنيفية الكتابية الإبراهيمية :{ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ( الحنفاء ) وهذا النبي ( محمد ) والذين آمنوا ( المسلمون ) والله ولى المؤمنين }[ آل عمران 3: 68 ]. وإسلام الحنيفية أفضل أمم التوحيد :{ قل: صدق الله ، فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}[ 3: 95] والأمة التي على هذه الحنيفية هي خير الأمم :{ كنتم خير أمة أخرجت للناس }[ 3: 11.] . وهذا الإسلام الحنفي الذي لا يقبل الله ديناً غيره [ 3: 85]، هو هدى الكتاب مَن به الله على العرب المسلمين :{ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آبائه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }[ 3: 164] . وفى سورة النساء (4) يصر على التوحيد الكتابي ويدعو إليه أهل الكتاب والمسلمين أنفسهم :{ يا أيها الذين أمنوا ، أمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً}[ 4:136]. لأن الأصل هو التوحيد لا الملة :{ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سؤاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ،

 

ومن يعمل من الصالحات ، من ذكر أو أنثى - وهو المؤمن - فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً}[ 4: 123 124 ]. ومع ذلك فأفضل ملل التوحيد ملة إبراهيم ، الحنيفية أي الإسلام :{ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ، وأتبع ملة إبراهيم حنيفاً ، واتخذ الله إبراهيم خليلاً} [ 4: 125] .

فطلبوا منه البينة ( 98 ) على أفضلية توحيد ه على سائر ملل التوحيد الكتابي :{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب منفكين حتى تأتيهم البينه ، رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة }[ البينة 98: 1- 3 ] ، فيجيب :لقد جاءتهم هذه البينة في القرآن فهو صحف مطهرة فيها كتب قيمة تدعو إلى الحنيفية ، دين القيمة :{ وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ، حنفاء ويقيمون الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وذلك دين القيمة }[ 98: 5]؛ وإذ كان اليهود يدعون التوحيد التوراتى بالصراط المستقيم في زبورهم ، والنصارى يدعون التوحيد الإنجيلى بالدين القويم يقول القرآن بأن التوحيد الذي أمروا به في كتبهم المنزلة هو إسلام الحنيفية ، دين القيمة الذي ينشده المخلصون من اليهود والنصارى والعرب الحنفاء .

ولكنه في سورة الحج ( 22 ) وهى مبيعضة [ أي أن بعض آياتها مكي ، وبعضها مدني ] ، يميل إلى الاعتدال فيفوض أمر الملة الفضلى إلى الله:{ أن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا . إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد {[ 22: 17] لأن الأصل الذي لا غنى عنه في الدين هو الابتعاد عن الشرك والتحنف لله :{ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ، حنفاء غير مشركين به ، ومن يشرك بالله وما جعل عليكم في الدين من حرج ، ملة إبراهيم أبيكم .

وهو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا ليكون الرسول عليكم شهيداً وتكونوا شهداء على الناس }[ 22: 87] .

ويختم القرآن ، في العهد المدني على استقلال النبي في إسلام الحنيفية الكتابية ، نزل عرفة ، عام حجة الوداع ( الجلالان ) :{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}[ المائدة 5: 3] .

واستقلال المسلمين في شريعة قرآنهم لا يمس استقلال اليهود في شريعة توراتهم [ 5: 47] ولا استقلال النصارى في شريعة إنجيلهم ( 5: 5. ) لأنه { أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ... لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ؛ ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات } 5: 48. فقد كرس القرآن نهائياً استقلال الشرائع الثلاث التوحيدية ، ومساواتها في التوحيد مع أفضلية الحنيفية وهيمنة القرآن . وختم القرآن كما أفتتح في سورة البقرة 2: 62 بإعلان المساواة في عقيدة التوحيد بين أمم التوحيد المنزل كلها : { إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى ، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . مائدة 5:69. فالاستقلال بالشريعة ليس انفصالا في العقيدة لأن عقيدة التوحيد واحدة في الكتب المنزلة الثلاثة ، كما جمعها القرآن في آخر سورة نزلت منه خواتيمها :{ إن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة . وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن أوفى بعهده من الله ، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم }[ التوبة 9: 111.
وهكذا فإسلام القرآن هو الحنيفية العربية اهتدت في محمد إلى هدى الكتاب [ الأنعام 6: 9. ] . وهذه الحنيفية القرآنية هي " تعريب " التوحيد الكتابي في " أمة وسط " [ البقرة 2: 143] وتشريع وسط [ نساء 4: 25- 27.

وهذا يتفق و رأى الأستاذ / خليل عبد الكريم في كتابه " قريش من القبيلة .. ص 12. " الذي أورده كما ننقله هنا بنصه " وهناك رأى أن محمد مؤسس دولة القرشيين في يثرب كان قبل تبليغه رسالة من ( الأحناف ) [ .. يمكن الاستنتاج من رواية السهيلي إذا صحت أن الرسول في حياته الأولى ونشاطه الديني كان حنيفياً وعلى صلة بــ مسيلمة الكذاب وغيره من الأحناف ] ، ولعل ما يؤيده ما جاء في دواوين السنة النبوية .... أنه عرض عليه عمر بن الخطاب أنه يقرأ أشياء في التوراة تتفق مع ما جاء به الرسول غضب وقال :" أمتوكو ن يا بن الخطاب والله لقد جئتكم بــــ " الحنيفية " السمحة ، ولو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا إتباعى ، ولما ورد في مصحف عبد بن مسعود " إن الدين عند الله الحنيفية ( بدلاً) من " إن الدين عند الله الإسلام " [ آل عمران 3: 19 ] ، وكذلك أيضاً لما ورد في سيرة محمد من ترفع عن الدنايا والإنصاف بالأخلاق الحميدة والنفور من عبادة الأصنام ، والاعتكاف في غار حراء لــ " التحنث " في شهر رمضان . وحراء هو ذات الغار الذي كان يلجأ إليه " المتحنف " المجمع على تحنفه " زيد بن عمرو بن النفيل العدوى وأيضاً جده المباشر عبد المطلب زعيم الحنيفية .وكذا يذكر أبن هشام [ج1:ص235]كان رسول الله صلعم يجاور( يعتكف) في حراء من كل سنة شهراً ، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية .

عودة للصفحة الرئيسية