مسألة تحريف الكتاب المقدس
تهمة التحريف
نفسها
ترد تهمة التحريف في خمسة مواضع :
1) ( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ
فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ
مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . البقرة 75.
قال الجلالان : أَفَتَطْمَعُونَ ايها المؤمنون ان يؤمن لكم
اليهود وقد كانت طائفة من أسلافهم يسمعون كلام الله في التوراة ثم يحرفونه أي
يغيرونه من بعد ما عقلوه ، وهم يعلمون .
قال البيضاوي : أَفَتَطْمَعُونَ ان يصدقونكم – يعني اليهود
– وقد
كانت طائفة من أسلافهم يسمعون كلام الله في التوراة ثم يحرفونه كنعت محمد . وآية
الرجم ، أو تأويله ويفسرونه بما يشتهون .
وقيل : هؤلاء من السبعين المختارين ( على زمن موسى) …. من بعد ما علقوه أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة .
ومعنى الآية ان أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة ، فما ظنك بسفلتهم
وجهالهم ، وانهم ان كفروا وحرفوا فيهم سابقة في ذلك ).
ما معنى (يلوون ألسنتهم بالكتاب ) ؟ قال البيضاوي : يفتلون ألسنتهم بقراءة الكتاب … او يعطفونها بشبه الكتاب ). قال الجلالان : يعطفونها بقراءته عن المنزل الى ما حرفوه من نعت
محمد ) . قال الزمخشري : يفتلون
ألسنتهم بقراءة الكتاب… ويجوز
ان يراد يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب ) .
فالكلمة لها معنيان : الأول فقل اللسان في التلاوة نفسها ؛
والثاني : تعقيب التلاوة بشبه عليها . فالمعنى الثاني تفسير لا يمس النص . والمعنى
الأول قراءة مغلوطة للنص نفسه ، فهي اذن لا تمس النص .
فالحديث هنا عن تحريف فريق من اليهود للتوراة على زمن موسى .
وهب انه يقصد تحريفهم على زمن محمد فالتحريف واقع من فريق ، لا يقرهم الفريق الآخر
عليه .
والفريق المنافق ، لا يغير النص نفسه بل يغير معناه أي ، كما
يقول البيضاوي : يؤولونه ويفسرونه كما يشتهون ) .
وأّنى لهم يغيروا النص والفريق الآخر لهم بالمرصاد ! .
تهمة التحريف أي التأويل تنحصر كلها ، بإجماع المفسرين ، في
أمرين : نعت محمد وآية الرجم. فمحمد
يرى صفة نبوته في الكتاب ، واليهود لا يرونها .
فالخلاف في التأويل لا في تغير النص . وقد فسر بعض اليهود رجم
الزاني والزانية بالتحريم والضرب ، بدل الرجم ، كما سنرى ، فالخلاف أيضا بين محمد
وفريق من اليهود في تأويل التوراة ، لا في تحريف نصها ، كما تدل القرينة في قوله :
(يحرفونه بعد ما عقلوه ، وهم يعلمون) أي من بعد ما فهموه حق فهمة .
فليس في ( التحريف) المذكور في آية البقرة من تحريف للحرف والنص
، وذلك بنص القران القاطع في الآية : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ ) . البقرة 121 .
قال الجلالان : (يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلَاوَتِهِ أي يقرؤونه كما انزل ) وهذا الآية (البقرة 121) تقطع قطعا مبرما
كل تهمة بتحريف . وعلى كل حال فالكلام في اليهود وتوراتهم ، لا في النصارى
وإنجيلهم.
2) في سورة النساء : ( مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) . النساء 46
.
أوجز البيضاوي
موقف المفسرين جميعا بقوله : مِنْ الَّذِينَ هَادُوا قوم ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَنْ مَوَاضِعِهِ) أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها واثبات
غيره فيها.
او يؤولونه على ما
يشتهون فيميلونه عما انزل الله فيه .
فالتحريف اذن إما
تغير النص ، وإما تأويله : فما هو
المقصود ؟
كل القرائن
القرآنية تدل على ان التحريف المقصود هو تأويل المعنى لا تغير النص : فالفاعلون بعضهم : ( مِنْ الَّذِينَ
هَادُوا قوم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَنْ مَوَاضِعِهِ) ؛ فالبعض الآخر لا يقرونهم في ذلك ، لأنهم ، بنص القران القاطع :
( يتلون الكتاب حق تلاوة ) أي كما
انزل .
ثم ان المفسرين
يترددون بين تغير النص ، أو تأويل المعنى ، فلا أحد يجزم بتغير حرف النص .
والقران يقول عن (
مواضعه) ؛ ويسمي ذلك (ليا بالسان) ؛ ويعطي على ذلك ثلاثة أمثلة : ( سمعنا وعصينا ؛
واسمع غير مسمع ؛ وراعنا ) . من هذه الأمثلة نفهم ان التحريف لا يقع حرف التوراة
نفسه ، بل يقع في كلام اليهود أنفسهم في مخاطبة النبي : فهم يتلاعبون في كلامهم ما
بين لغتهم والعربية ، كقولهم في ( راعنا)
(رعنا) أي ( يا ارعن) في لغتهم . فالتحريف يقصد كلام اليهود مع النبي لا
كلام التوراة ، بدليل قوله : (طعنا في الدين) .
وهب ان التحريف
المقصود يقصد التوراة نفسها ، فالآية تفسر التحريف ، بقولها ( ليا بألسنتهم)
أي يقرؤون التوراة
، في المواضع المقصودة ، بقراءة غير صحيحة .
فالتحريف اذن يعني
القراءة غير الصحيحة ، والنص يبقى سالما بلا تغيير .
لذلك كله فتفسير
التحريف المقصود بأنه تغيير في النص ذاته تنفيه كل القرائن القرآنية القريبة
والبعيدة .
لذلك أيضا يرفض الرازي ، المفسر الكبير ،تفسير
التحريف بمعنى تغير النص ذاته : ( لان الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغير
اللفظ) الرازي في تفسير المائدة 44.
وهذا هو موقف صحيح
البخاري : ( يحرفون الكلام عن مواضعه أي يزيلونه وليس أحد يزيل لفظ كتاب من الله
تعالى ؛ ولكنهم يتأولونه على غير تأويله) – راجع ضحى الإسلام احمد امين ص 346
–358
– فليس من تحريف في التوراة ولا من يفرحون، أو
يحزنون . والنصارى وإنجيلهم براء من ذلك .
3) في سورة
المائدة : ( ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل … فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ
قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا
مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
المائدة 13 .
في آية (المائدة 14) نجد تعبير آية النساء 46 نفسه . فتعليقنا
عليه واحد .
ونلاحظ ان التهمة منسوبة إلى اليهود ، لا إلى النصارى وإنجيلهم
.
الرازي يفهمها مثل صحيح البخاري ، فيقول : ( إن المراد بالتحريف
إلقاء الشبه الباطلة ، والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معناه
الباطل ، بوجوه الحيل اللفظية ، كما يفعل أهل البدع في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم
. وهذا هو الأصح .
ولنا هنا قرينة على
صحة تفسير البخاري والرازي ، من
الآية (15) التي ليها في الخطاب نفسه
لليهود: ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا ، يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من
الكتاب ، ويعفو عن كثير ) . فالقران يقرن التحريف بالإخفاء ، إخفاء المعنى المقصود
، لان النص كان شائعا متواترا في العالمين ، قبل بعثة محمد . وهب حاول ذلك بعضهم في
الحجاز ، فهل ينطلي ذلك على اليهود كلهم في دولة الفرس وفي دولة الروم؟؟.
موضوع التحريف في آية المائدة (14) هو دائما صفة محمد في
التوراة.
قال الجلالان : ( يحرفون الكلم الذي في التوراة من نعت محمد.
فالنبي العربي يتهم اليهود ، أو بالحري فريق منهم بتأويل شهادة التوراة بحقه
تأويلا غير صحيحا . فالخلاف بين محمد
واليهود على تفسير النبي الموعود .
تقول التوراة (بالنبي الآتي) مثل موسى ؛ فقرأها محمد : (النبي
الأمي) فأنكروا ذلك عليه ، كما
أنكروه من قبل على عيسى ابن مريم .
وفي الحالين ، ان تفسير اليهود للآتي في التوراة لا يمس حرفها.
والنصارى في ذلك كله براء من التهمة ؛ فلا يعنيهم القران على
الإطلاق.
4) في سورة المائدة النص الأخير في التحريف المزعوم : ( وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ
وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) . المائدة 41
فالتحريف هنا
مقرون بقصة يشير اليها النص . فسره الزمخشري ، روى ان شريفا من خيبر زنى بشريفة ،
وهما محصنان ، وحدهما الرجم في التوراة .
فكرهوا رجمهما
لشرفهما . فبعثوا رهطا منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله . عن ذلك .
وقالوا : ان أمركم
محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا . وان أمركم بالرجم ، فلا تقبلوا . وأرسلوا الزانيين
معهم . فأمرهم بالرجم . فأبوا ان يأخذوا به . فجعل بينه وبينهم حكما ابن صوريا ، من
فدك . فشهد بالرجم . وقالوا في ختام القصة ، ان النبي ، بعد شهادة الحبر اليهودي من
فدك ، أمر برجمهما
، فرجموهما عند باب المسجد، لإقامة حد التوراة عليهما .
وأسباب النزول
كلها ، والمحدثون ، والمفسرون كلهم يقرنون التحريف المذكور في سورة المائدة بقصة
الزانيين من خيبر . فالتهمة مقصورة على آية في التوراة ؛ والتحريف المقصود هو هو
تفسير الرجم بالجلد ، وليس تغير النص .
وهو من فريق ( من
الذين هادوا ) لا من جميعهم .
ولنا على معنى
التحريف المقصود قوله : ( الم تر الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، يدعون الى كتاب الله
ليحكم بينهم ، قم يتولى فريق منهم وهم معرضون ) العمران 23.
فلو كان في
التوراة نفسها تحريف لما سماها ( كتاب الله ) .
واستشهاد محمد
بتلاوة التوراة شاهد على انه يعتبرها ( كتاب الله) في زمانه .
والتحريف المقصود
هو في تأويل معرض لآية واحدة .
وهذه هي قصة
التحريف التي تملا القران من ( آل عمران ) إلى ( المائدة) .
فمن تأويل فريق من
اليهود لآية الرجم بالجلد - آية واحدة- أطلق القوم تهمة التحريف اللفظي على
التوراة كلها : فما اظلمهم بحق كتاب من كتب الله !
والخلاف الآخر في
موضوع التحريف ، هو قراءة نبؤة موسى
في (النبي الآتي ) الواردة بمعنى
(النبي الأمي) ، كما قرأها محمد ومن معه فأنكر اليهود ذلك .
وهكذا تنحصر تهمة
التحريف الوارد لفظها في القران ، بحق فريق من اليهود ، في لفظين من آيتين التوراة
: تأويل اليهود الرجم بالجلد ؛ وقراءة محمد ( النبي الأمي ) بدل ( النبي الآتي).
تلك هي التهمة
الضخمة تملا الكتب وصحف التفسير ، والتي بها يتشدقون .
انهم يعملون بحسب
المثل الدارج ، من زبيبة خمارة ! ومن الجبة قبة ! .
وفاتهم أسلوب
القران في البيان : التخصيص في مظهر التعميم. يذكر القران بعض آية من التوراة بلفظ التعميم : (يحرفون الكلم
عن مواضعه) او (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) .
وهو يقصد التخصيص
كما تدل القرائن كلها ؛ فأخذها القوم بمعنى التعميم . وهذا تفسير خاطئ مغرض لبيان القران .
فهو يقول مثلا : (
ام يحصدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) النساء 53 قال الجلالان : ( يحسدون الناس أي النبي.
(على ما آتاهم الله من فضله) من النبوة . فالتخصيص في معرض التعميم أسلوب قراني
فات القوم في تفسير القران .
وهذه الشهادة
القرآنية في ( الذين يتلون الكتاب حق تلاوة ) أي ( يقرؤونه كما انزل ) (الجلالان )
شهادة قاطعة على
نفي التحريف ، وعلى استحالته في (كتاب الله) كما يسميه في أيامه.
ان التوراة قد
طبقت مشارق الأرض ومغاربها ( قبل ظهور محمد والقران) ، ولا يعلم عدد نسخها فلا الله
، ومن الممتنع ان يقع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ ، بحيث لا
تبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة ، مغيرة ؛ والتغيير على منهاج واحد. وهذا ما يحيله
العقل ، ويشهد ببطلانه .
فالقول بتحريف
الكتاب أي التوراة والإنجيل ، استنادا الى متشابه القران في استخدام لفظ ( التحريف)
على التعميم في موضع التخصيص ، هو تحدٍ مفضوح للمنطق وللتاريخ وللقران نفسه .
وهذه هي النتيجة
الحاسمة التي نصل اليها بعد استقراء القران في التحريف المزعوم وتفسيره :
أولا : لا يقول
القران بتحريف لفظي في التوراة .
ثانيا على كل حال
تهمة التحريف السخيفة لا تقصد النصارى وإنجيلهم على الإطلاق.
وكما استفتحنا
البحث نختمه : إنا نتحدى أيا كان أن يرينا آية واحدة من القران تتهم المسيحيين تصريحا او تلميحا بتحريف
الإنجيل او بعضه .