4 بُنوّة المسيح في القرآن
يرى المتأمِّل في شخص المسيح، من خلال القرآن، أنّ موضوع بُنوّته يثير جدليّة القرآن وفيه خمس نظريّات :
1 الكفر : كقول القرآن : مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ سورة مريم 19 :35.
وَقَالُوا ا تَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْداً سورة مريم 19 :88-93.
جاء في كتاب التفسير الكبير للفخر الرازيّ : اعلم أنّه تعالى لمّا ردّ على عبدة الأوثان عاد إلى الردّ على من أثبت له ولد. وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقالت العرب الملائكة بنات الله. والكلّ داخلون في هذه الآية.
والكلمة جئتم شيئاً إدّاً تعني المُنكَر العظيم. لذلك عنى بانفطار السماء وانشقاق الأرض وخرور الجبال غضبه على مَن تفوّه بهذا القول اتّخذ الرحمَن ولداً.
2 ضمّ جزء من المخلوق إلى الخالق كقوله : وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أَمِ ا تَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بالبَنِينَ سورة الزخرف 43 : 15 و16.
ومن هنا انطلق السؤال : أيّة نسبة بين الخالق والمخلوق حتّى يضمّ جزءاً من المخلوق إلى خالقه؟ يستحيل ذلك فطرة وعقلاً. وأيضاً انطلقوا من القول إنْ كلّ ما في السموات والأرض إلاّ آتي الرحمن عبداً ليقولوا : لا يمكن للعبد أن يكون ربّاً. ومن القول بديع السموات والأرض قالوا : لا يمكن أن يكون المخلوق خالقاً.
ونحن كمسيحيّين نقرّ هذا أنّه لا يجوز أن يُضمّ جزء إلى الله من خلائقه ولكن في عقيدتنا لا ينطبق هذا على العلاقة القائمة بين الآب والابن. لأنّ الابن ذو جوهر واحد مع الآب, والقرآن يقول إنّ المسيح هو كلمة الله وروح منه. فضمُّ جزءٍ إلى الله من مخلوقاته ليس وارداً في شأن المسيح.
3 الابن لا يكون إلاّ بالولادة من ذكر وأنثى, هنا تكمن المشكلة، في مفهوم الإسلام للبنوّة إذ يقول القرآن : أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ؟ سورة الأنعام 6 :101.
وقد علّق البيضاوي على الآية بقوله إنّ المعقول من الولد هو ما يتولّد من ذكر وأنثى متجانسَين، والله تعالى منّزه عن التجانس.
هذه هي نظريّة الإسلام في استحالة الولد إلى الله، فإنّه لا صاحبة له. ولا يمكن أن تكون له صاحبة. وهذا هو سرّ استنكار أُبوّة الله للمسيح. لأنّه لا بُنوّة في الفكر القرآنيّ إلا البنوّة التناسليّة الجسديّة. وممّا يؤيّد ذلك ما جاء في كتاب جامع البيان للطبري، عن ابن وهب عن أبي زيد أنّه قال : الولد إنّما يكون من الذكر والأنثى، ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة، فيكون له ولد. وذلك أنّه هو الذي خلق كلّ شيء. فإذا كان لا شيء إلاّ الله خلقه، فأنّى يكون له ولد؟
ويرجّح ثقات الباحثين أنّ الآية نزلت في حقّ بعض أهل البدع من أصل وثنيّ، الذين التصقوا بالكنيسة، وكانت لهم محاولة ليُدخلوا فيها بدعة مفادها أنّ مريم العذراء إلهة. ولعلّهم استعاضوا بها عن الزهرة، التي كانوا يعبدونها قبلاً. وقد أشار إليهم العلاّمة الكبير أحمد المقريزي في كتابه القول الإبريزي صفحة 26. وذكرهم ابن حزم في كتابه الملل والأهواء والنحل صفحة 48. وبما أنّ بدعتهم تفترض اتّخاذ الله صاحبة وإنجاب ولد منها، فبديهيّ أن يشجبها القرآن.
لكنّ هذه الفكرة بعيدة كلّ البعد عن المسيحيّة، وليس ثمّة مسيحيّ واحد يؤمن بها. لأنّها إهانة موجَّهة إلى جلال الله القدّوس، المنزَّه عن كلّ خصائص الجسد.
والحقيقة أنّ الباحث في عقيدة المسيحيّين المبنيّة على الإنجيل، يرى أنّهم لا يقولون إطلاقاً بأنّ المسيح ابن الله على طريقة الاستيلاد من صاحبة، بل يؤمنون بأنّه ابن الله على طريقة الصدور منه في الوجود الإلهيّ، بصفة كونه الكلمة الذي كان في البدء عند الله وقد حُبِل به من الروح القُدُس.
وقد أشار الرسول العظيم بولس إلى هذه الحقيقة بقوله : بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْمَدْعُوُّ رَسُولاً، الْمُفْرَزُ لِإِنْجِيلِ اللّهِ، الَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ابْنَ اللّهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ، بِالْقِيَامَةِ مِنَ الْأَمْوَاتِ رومية 1 :1-4.
4 كان يأكل الطعام كقوله : مَا الْمَسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ سورة المائدة 5 :75.
ففكر الإسلام هنا يقول إنّ استحالة الألوهة على المسيح ظاهرة من بشريّته. فمَن يأكل الطعام كيف يكون إلهاً؟
ويقول الرازيّ في تفسير الآية :
أ إنّ كلّ مَن كان له أمّ فقد حدث، بعد أن لم يكن. وكلّ مَن كان كذلك كان مخلوقاً لا إلهاً.
ب إنّهما كانا محتاجَين إلى الطعام أشدّ الحاجة، والإله هو الذي يكون غنيّاً عن جميع الأشياء. فكيف إذاً يكون المسيح إلهاً.
ج قوله كانا يأكلان الطعام كناية عن الحدث. لأنّ مَن أكل الطعام لا بدّ وأن يحدث وهذا عندي ضعيف.
5 عجز المخلوق عن النفع والضرّ كقوله : قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ سورة المائدة 5 :76.
يتّخذ المفسّرون هذه الآية دليلاً على فساد قول النصارى وقد قالوا إنّه يحتمل أنواعاً من الحجّة :
أ إنّ اليهود كانوا يعادونه ويقصدونه بالسوء، فما قدر على الإضرار بهم. وكان أنصاره وصحابته يحبّونه، فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم. والعاجز عن الإضرار والنفع، كيف يُعقَل أن يكون إلهاً.
وتغطية لهذا التفسير، قال البيضاويّ : إنّ عيسى وإن ملك هذا الامتياز بتمليك الله إيّاه، لا يملكه من ذاته.
ونحن نقول : لو كان يسوع مجرّد عيسى القرآن، عيسى العبد لسلّمنا بأنّه لا يملك من ذاته ضرّاً ولا نفعاً. ولكنّ يسوع كما قال إشعياء النبيّ إلهاً قديراً. ونحن نشكره لأنّ رسالته لم تكن للضرر ولا للنفع المادّي. بل كانت رسالة خلاص، والقرآن نفسه قال إنّه جاء رحمةً للعالمين.
ب إنّ مذهب النصارى يقول إنّ اليهود صلبوه ومزّقوا أضلاعه. ولمّا عطش، وطلب الماء منهم، صبّوا الخلّ في منخريه. ومَن كان في الضعف هكذا، كيف يُعقَل أن يكون إلهاً؟
ج إنّ إله العالم يجب أن يكون غنيّاً عن كلّ ما سواه. ويكون كلّ ما سواه محتاجاً إليه، فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولاً بعبادة الله تعالى. لأنّ الإله لا يعبد شيئاً، إنّما العبد هو الذي يعبد الإله. ولمّا عُرف بالتواتر كونه كان مواظباً على الطاعات والعبادات، علمنا أنّه إنّما كان يفعلها لكونه محتاجاً في تحصيل المنافع، ودفع المضارّ إلى غيره. ومَن كان كذلك، كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد، ودفع المضارّ عنهم؟ وإذ كان كذلك كان عبداً كسائر العبيد.