الفصل الأول
السيد المسيح في التاريخ
في مناظرة نظمها طلاب إحدى جامعات الوسط الغربي في أمريكا، افتتحَتْ مُناظِرتي حديثها بالقول (وهي ماركسية): المؤرخون اليوم يرفضون أن السيد المسيح شخصية تاريخية . ولم أصدق أذنيَّ، ولكني كنت سعيداً لأن 2500 طالباً يحضرون المناظرة أدركوا أنها لم تدرس التاريخ. وكنت أحمل معي بعض الوثائق لأستخدمها في المناظرة، والأمر الثابت هو أن المؤرخين يؤكدون أن المسيح شخصية تاريخية، ولا يقولون إن المسيح شخصية أسطورية.
قال الأستاذ بروس من جامعة مانشستر: قد يلهو بعض الكتَّاب بالقول إن يسوع أسطوري، دون أن يعتمدوا على أدلة تاريخية، ذلك أن يسوع المسيح - عند المؤرِّخ المنصف - شخص تاريخي، كما أن يوليوس قيصر شخص تاريخي. إن المؤرخين لا ينكرون أبداً تاريخية المسيح (1).
(1) هذا الرقم هو رقم المرجع الذي أخذنا عنه هذا الاقتباس وتجد قائمة بمراجعنا في نهاية الكتاب.
أولاً - مراجع مسيحية لتاريخية المسيح:
هناك سبع وعشرون وثيقة تشهد لتاريخية المسيح، هي أسفار العهد الجديد. وتساءل جون مونتجمري: ماذا يعرف المؤرخ عن يسوع المسيح؟ ويجيب: يعرف أن أسفار العهد الجديد يمكن الاعتماد عليها لتقديم صورة صحيحة للمسيح. ويدرك المؤرخ أن هذه الصورة لا يمكن رفضها على أساس افتراضات فلسفية أو مناورات أدبية أو تفكيرات خيالية (2).
وقد كتب آباء الكنيسة عن المسيح كشخص تاريخي، من أمثال بوليكاربوس، ويوسابيوس وإيريناوس وأغناطيوس وأوريجانوس وجستن مارتر وغيرهم.
(راجع الفصل الرابع من كتاب ثقتي في التوراة والإنجيل للمؤلف لتجد الأدلة والاقتباسات).
ثانياً - مراجع من خارج الكتاب المقدس تشهد لتاريخية المسيح:
1 - كرنيليوس تاسيتوس: Cornelius Tacitus
وُلد ما بين عامي 52 و 53 م وهو مؤرخ روماني، كان حاكماً لآسيا عام 112 م، وهو زوج ابنة يوليوس أجريكولا حاكم بريطانيا من 80 - 84 م. وقد كتب تاسيتوس عن موت المسيح ووجود المسيحيين في روما خلال حكم نيرون، قال:
إن كل العون الذي يمكن أن يجيء من الإنسان، وكل الهبات التي يستطيع أن يمنحها أمير، وكل الكفارات التي يمكن أن تُقدَّم إلى الآلهة، لا يمكن أن تُعفي نيرون من جريمة إحراق روما. ولكن لكي يقضي على هذه الإشاعة اتَّهم الذين يُدْعون مسيحيين ، ظلماً بأنهم أحرقوا روما، وأوقع عليهم أشد العقوبات. وكان الأغلبية يكرهون المسيحيين. أما المسيح - مصدر هذا الاسم - فقط قُتل في عهد الوالي بيلاطس البنطي حاكم اليهودية في أثناء سلطنة طيباريوس. وقد أمكن السيطرة على خرافته بعض الوقت، لكنها عادت وانتشرت، لا في اليهودية فقط حيث نشأ هذا الشر، لكن في مدينة روما أيضاً .
ويشير تاسيتوس مرة أخرى للمسيحية عندما يتحدث عن إحراق هيكل أورشليم عام 70 م (كما ذكر سلبيوس سرفيوس في تاريخه في الكتاب الثاني).
2 - لوسيان: Lucian of Samosata
الكاتب الساخر في القرن الثاني الميلادي، تحدث باحتقار عن المسيحية والمسيحيين، وربطهم بمجامع فلسطين، وقال عن المسيح: الرجل الذي صُلب في فلسطين لأنه جاء بديانة جديدة إلى العالم.. وفوق ذلك فقد قال لأتباعه إنهم إخوة لبعضهم، بعد أن أخطأوا برفض آلهة اليونان وعبادة السوفسطائي المصلوب والحياة طبقاً لتعاليمه .
3 - فيلافيوس يوسيفوس: َFlavius Josephus
المؤرخ اليهودي الذي وُلد عام 37 م، وصار فريسياً في التاسعة عشرة من عمره. وفي سنة 66 م صار قائداً للقوات اليهودية في الجليل. وبعد وقوعه في الأسْر التحق بالقيادة الرومانية، وقال: في غضون هذا الوقت كان يسوع، الرجل الحكيم، إن كان يحلّ لي أن أدعوه رجلاً، لأنه عمل أعمالاً عجيبة، وعلَّم تعاليم قَبِلها أتباعه بسرور، فجذب لنفسه كثيرين من اليهود والأمم. إنه المسيح. وعندما حكم بيلاطس عليه بالصلب، بناءً على طلب قادة شعبنا، لم يتركه أتباعه، لأنه ظهر لهم حياً بعد اليوم الثالث، كما سبق للأنبياء القديسين أن تنبأوا عن هذا وعن عشرة آلاف من الأشياء العجيبة الأخرى عنه. أما الطائفة التي تبعته فهي طائفة المسيحيين الموجودين إلى يومنا هذا .
وقد وُجدت مخطوطة كتبها الأسقف أبابيوس في القرن العاشر الميلادي باللغة العربية عنوانها: كتاب العنوان المكلَّل بفضائل الحكمة المتّوَج بأنوار الفلسفة وحقائق المعرفة قال في مقدمة أحد أجزائها: وجدنا في كتب كثيرين من الفلاسفة إشارتهم إلى يوم صلب المسيح ثم أورد إقتباسنا من كتابات يوسيفوس المذكور أعلاه.
ويشير يوسيفوس أيضاً إلى يعقوب أخي يسوع، في وصفه لأعمال حنَّان رئيس الكهنة، فيقول: تسلَّم حنَّان رئاسة الكهنة، وكان شجاعاً جداً، واتَّبع طائفة الصدوقيين الذين كانوا سيفاً مسلطاً على اليهود، كما سبق أن أشرنا. وقد انتهز حنان فرصة موت فستوس، وفرصة أن الحاكم الجديد ألينوس لم يكن قد وصل بعد، وجمع مجلس قضاة، وجاء أمامه بيعقوب أخي يسوع الذي يُدعى المسيح، ومعه آخرين، ووجَّه لهم تهمة كسر الناموس وسلَّمهم للرجم (1).
4 - سيوتونيوس: )120 م) ِSuetonius
مؤرخ روماني كان أحد رجال بلاط الإمبراطور هادريان، قال: لما كان اليهود يسبّبون شغباً ضد ما قام به المسيح. فقد طردهم الإمبراطور من روما . وكتب أيضاً: أوقع نيرون العقوبات على المسيحيين، وهم جماعة من الناس يتبعون بدعة شريرة جديدة .
5 - بلني الصغير: Pilinius Secundus
(أو بلنيوس سكندس) حاكم بيثينية في آسيا الصغرى عام 112 م، كتب إلى الإمبراطور تراجان يطلب نصيحته في طريقة معاملة المسيحيين، وأوضح أنه كان يقتل الرجال والنساء والأولاد والبنات منهم. وكثُر عدد القتلى حتى أنه تساءل إن كان يستمر في قتل كل من يعتنق المسيحية، أو أن يكتفي بقتل البعض فقط. وقال إنه أجبر المسيحيين على السجود لتماثيل تراجان كما أنه جعلهم يلعنون المسيح، والمسيحي الحقيقي لا يمكن أن يفعل ذلك. وقال في نفس الخطاب عن الذين كان يحاكمهم: لقد أكَّدوا أن جُرْمهم الوحيد هو أنهم اعتادوا أن يجتمعوا في يوم خاص قبل بزوغ النهار، ويرنموا ترنيمة للمسيح على أنه اللّه، ويتعهَّدوا عهد الشرف ألاَّ يرتكبوا شراً أو كذباً أو سرقة أو زناً، وألاَّ يشهدوا بالزور أو ينكروا الأمانة .
6 - ترتليان: Tertullian
في دفاع عن المسيحية (197 م) أمام الحكام الرومان في أفريقيا يذكر ما تبودل بين طيباريوس وبيلاطس البنطي، ويقول: بناءً على ما وصل طيباريوس من أن المسيحيين انتشروا في العالم، وما بلغه عن حقيقة لاهوت المسيح جمع طيباريوس مجلسه الحاكم وحكى لهم الأمر، وأعلن قراره في صف المسيح. ولما لم يكن المجلس هو الذي أعطى الموافقة، فقد رفض الفكرة. ولكن طيباريوس قيصر تمسك بفكرته وهدَّد بعقاب من يتَّهمون المسيحيين. ولكن بعض المؤرخين يشكّون في صحة هذه الحادثة التي ذكرها ترتليان.
7 - ثالوس المؤرخ السامري: Thallus
وهو من أوائل الكُتّاب الأمميين الذين ذكروا المسيح، عام 52 م، ولكن كتاباته ضاعت، ولا نعرف عنها إلا ما اقتبسه منها كتَّاب آخرون. وقد اقتبس كاتب مسيحي اسمه أفريكانوس (221 م) من كتابات ثالوس، قال: إن ما ذكره ثالوس في ثالث كتبه التاريخية من أن الظلمة كانت بسبب كسوف الشمس، ليس صحيحاً، لأن كسوف الشمس لا يحدث في وقت كمال القمر، وقد حدث صلب المسيح وقت الفصح، وهو وقت كمال القمر .
ومن هذا الاقتباس نرى أن إظلام الشمس وقت صلب المسيح كان حقيقة معروفة، احتاجت إلى تفسير من غير المسيحيين الذين شاهدوها (1).
8 - رسالة مارا بن سيرابيون: Mara Bar-Serapion
يقول ف. بروس: توجد في المتحف البريطاني مخطوطة تحوي رسالة ترجع إلى ما بعد سنة 73 م (لا ندري بالضبط متى) كتبها سوري اسمه مارا بن سيرابيون إلى ابنه سيرابيون. وكان الأب مسجوناً في ذلك الوقت، ولكنه كتب يشجّع ولده على طلب الحكمة ويقول له إن من اضطهدوا الحكماء أصابهم سوء الحظ، ويضرب مثلاً بموت سقراط وفيثاغورس والمسيح فيقول: أية فائدة جناها الأثينيون من قتل سقراط؟ لقد أصابهم الجوع والوبأ عقاباً على جريمتهم. أية فائدة جناها أهل ساموس من إحراق فيثاغورس؟ لقد تغطت بلادهم بالرمال فجأة. أية فائدة جناها اليهود من قتل ملكهم الحكيم؟ لقد زالت مملكتهم بعد ذلك. لقد انتقم اللّه بعدلٍ لهؤلاء الثلاثة. مات الأثينيون جوعاً، وطغى البحر على الساموسيين، وطُرد اليهود من بلادهم وعاشوا في الشتات. ولكن سقراط لم يمت إلى الأبد، فقد عاش في تعاليم أفلاطون، ولم يمت فيثاغورس للأبد فقد عاش في تمثال هيرا، ولم يمت الملك الحكيم للأبد فقد عاش في التعاليم التي أعطاها (1).
9 - جستن الشهيد: Justin Martyr
كتب حوالي عام 150 م دفاعاً عن المسيحية وجَّهه إلى الإمبراطور أنطونيوس بيوس، أشار فيه إلى تقرير بيلاطس، الذي افترض جستن أنه محفوظ في الأرشيف الإمبراطوري، قال: القول ثقبوا يديَّ ورجليَّ - وَصْفٌ للمسامير التي دُقَّت في يديه ورجليه على الصليب. وبعد صلبه اقترع صالبوه على ثيابه وقسموها بينهم. أما صدق ذلك كله فيمكن أن تجده في الأعمال التي سجلها بيلاطس البنطي . ثم يقول جستن بعد ذلك: لقد أجرى معجزات يمكن أن تقتنع بصحَّتها لو رجعْتَ إلى أعمال بيلاطس البنطي (1).
وكتب موير عن جستن الشهيد يقول: فيلسوف وشهيد ومدافع عن المسيحية وُلد في فيلادلفيا نيابوليس، تعلم جيداً وكان له من الموارد ما استطاع معه أن يحيا حياة الدرس والسفر. ولما كان يفتش عن الحق بأمانة واجتهاد فقد طرق أبواب الرواقيين وأرسطو وفيثاغورس وأفلاطون، ولكنه كان يبغض الأبيقوريين. وفي بدء حياته العلمية تعرَّف على اليهودية ولكنها لم تعجبه. وقد أعجبته فلسفة أفلاطون جداً، وكاد يصل منها إلى هدف الفلسفة: رؤية اللّه، حتى جاء يوم كان يسير فيه وحيداً بقرب الشاطئ، وعندما التقى بمسيحي عجوز جذَّاب الملامح لطيف المعشر، تحدَّث معه فزعزع ثقته في الحكمة البشرية، ووجّهه إلى الأنبياء العبرانيين، الذين جاءوا قبل كل الفلاسفة المشهورين، والذين تنبأوا عن مجيء المسيح. وبعد هذه المحادثة أصبح الشاب الأفلاطوني الغيور مؤمناً بالمسيح. وكتب يقول: وجدت أن هذه الفلسفة هي الوحيدة الأمينة المفيدة . وقد كرس جستن كل جهوده بعد ذلك للدفاع عن المسيحية ونشر رسالتها (3).
10 - التلمود اليهودي:
يشير التلمود البابلي إلى المسيح بالقول: ... علَّقوه ليلة عيد الفصح .
ويدعوه التلمود اليهودي ابن بانديرا وهي استهزاء بكلمة بارثينوس اليونانية، التي تعني العذراء . فهم يدعونه ابن العذراء . ويقول الكاتب اليهودي يوسف كلاوسنر: كان الاعتقاد بميلاد المسيح غير الشرعي شائعاً بين اليهود .
وفي وصف ليلة الفصح يقول التلمود البابلي: وفي ليلة الفصح علَّقوا يسوع الناصري، وسار المنادي لمدة أربعين يوماً، يعلن كل يوم أنه سيُرجم لأنه مارس السِّحر وضلل إسرائيل. ودعا كل من يعرف دفاعاً عنه أن يهبَّ للدفاع. ولكنهم لم يجدوا من يدافع عنه، فعلَّقوه ليموت ليلة عيد الفصح! .
ويقول أولا أو علاء تلميذ الربي يوحانان الذي عاش في فلسطين قرب نهاية القرن الثالث: هل تظن أن يسوع الناصري كان مُحقّاً في دفاعه عن نفسه؟ لقد كان مخادعاً، وشريعة اللّه تنهى عن الرأفة بالمخادعين .
ومن هذا نرى أن السلطات اليهودية لم تنكر معجزات المسيح، ولكنهم عزوها إلى السحر والخداع (4).
وقد قال جوزيف كلاوسنر إن التلمود يقول إن يسوع عُلِّق، ولا يقول إنه صُلب، لأن هذه الميتة الرومانية الشنيعة لم تكن معروفة إلا للعلماء اليهود، لأنها طريقة قتل رومانية. ويقول بولس الرسول: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ (غلاطية 3: 13) إستشهاداً بما جاء في التثنية 21: 23 ، مشيراً بها إلى المسيح (4).
وقد قال الربي أليعازر عن يسوع: كنتُ أسير في السوق عندما التقيتُ بأحد تلاميذ يسوع الناصري، اسمه يعقوب. وسألني ماذا تفعل بأجر الزانية؟ هل نحفر به مرحاضاً لرئيس الكهنة؟ فلم أجاوبه. فمضى يقول إن يسوع الناصري (وفي نسخة توسفنا يقول: يسوع ابن بانديرا) علّمنا أن أجر الزانية جاء من مكان قذر، ويجب أن يُصرف في مكان قذر. وقد أعجبني هذا القول. لكني كنت مخطئاً، لأن الشريعة تنهى عن ذلك وتطالب بالابتعاد عن بيت الزانية .
ويعلق كلاوسنر على ذلك قائلاً: القول أحد تلاميذ يسوع الناصري والقول يسوع الناصري علَّمنا كتابة قديمة ولازمة لسياق الحديث، والقول يسوع ابن بانديرا أو يسوع الناصري لا يطعن في صحة تاريخية هذه الكتابة، فقد درج اليهود منذ البداية على القول إن بانديرا هو الأب المزعوم ليسوع الناصري ! (4).
11 - الموسوعة البريطانية:
في طبعتها الأخيرة كتَبتْ عشرين ألف كلمة عن المسيح، وهو أكثر مما كتبته عن أرسطو وشيشرون والاسكندر ويوليوس قيصر وبوذا وكونفوشيوس ونابليون بونابرت، ومحمد مجتمعين!