خامساً - لو أن اللّه صار إنساناً

لكانت كلماته أعظم ما قيل

قال المسيح: اَلسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ تَزُولَانِ، وَل كِنَّ كَلَامِي لَا يَزُولُ (لوقا 21: 33) والناس الذين سمعوا كلامه بُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ، لِأَنَّ كَلَامَهُ كَانَ بِسُلْطَانٍ (لوقا 4: 32). ومن الضباط إلى الحراس نسمع: لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هكَذَا مِثْلَ هذَا الْإِنْسَانِ (يوحنا 7: 46).

وترجع عظمة تعاليم المسيح إلى أنها عالجت، بسلطان ووضوح، أكثر مشاكل الناس إرهاقاً، خصوصاً تلك التي تتصل بعلاقاتهم بالرب.

إن تعاليمه علامات على الطريق، لكل الأجناس والشعوب، لأنه نور العالم. ولنقارن بين المسيح وأفلاطون الذي كان سابقاً للمسيح بنحو 400 سنة، وكان متقدماً على المسيح في الفكر الفلسفي. لكن قارن بين كتاباته في المحاورات وبين الأناجيل. المحاورات مليئة بالأخطاء والسخف المنافي للعقل، وبعبارات لا أخلاقية، مع أنها رغم كل ذلك تعتبر أسمى ما وصل إليه العقل البشري في الروحانية التي لا تساندها الإعلانات السماوية (12).

وتقف عظمة شخصية المسيح خلف عظمة تعاليمه! لم يقتبس أو يعلن تعليم سواه، لكنه أعلن تعاليمه هو. لم يقل: هكذا قال الرب بل قال: الحق الحق أقول لكم وأما أنا فأقول .

ويقول جوزيف باركر: بعد قراءة أفكار أفلاطون وسقراط وأرسطو نرى الفرق بينها وبين تعاليم المسيح، كالفرق بين التساؤلات والوحي المعلَن (22).

ويقول برنارد رام: من جهة الإحصاءات تقف الأناجيل كأعظم ما كُتب، يقرأها أكبر عدد من الناس، ويقتبسها أكبر عدد من المؤلفين، وتُترجم إلى أكثر اللغات، ويصّور أفكارها معظم الفنانين والموسيقيين والرسامين. إنها تُقرأ وتُقتبس وتُترجم وتُحب وتحظى بإيمان الناس بها أكثر، لأنها أعظم الكلمات. وتكمن عظمتها في وضوحها وقدسيتها ودقتها وسلطانها في معالجة مشاكل البشر العظمى التي تجيش بها صدورهم. إنها تجيب على التساؤلات: من هو اللّه؟ هل يحبني؟ هل يهتم بي؟ ماذا أفعل لأرضيه؟ كيف ينظر لخطيتي؟ كيف أجد الغفران؟ إلى أين أذهب بعد الموت، كيف أعامل الآخرين؟ ولا يمكن أن كلمات إنسان آخر تشدّ انتباهنا أكثر من كلمات يسوع، لأنه لا يستطيع إنسان آخر أن يجيب على هذه الأسئلة الجوهرية كما أجاب عنها يسوع، فإجاباته هي الإجابات نفسها التي ننتظر صدورها من اللّه، وهكذا تستريح قلوبنا عليها (26).

لقد صارت تعاليم المسيح قوانين وعقائد èوأمثالاً، وصارت سبب عزاء للملايين دون أن تنتهي أو تزول. فأي معلم بشري ضَمِنَ أن تستمر كلماته للأبد؟ تظهر أنواع من كلام البشر، ثم تزول، وتقوم ممالك وإمبراطوريات ثم تسقط، أما يسوع فسيظل إلى الأبد هو الطريق والحق والحياة . ولم يحدث أن ثورة أثَّرت في أي مجتمع بقدر ما أثَّرت كلمات يسوع.

ولربما نسمع البعض يقولون إن ما قاله يسوع قد قِيل من قبل. ولنفرض أن هذا صحيح (مع أنه ليس صحيحاً).. فلا زالت تعاليم المسيح تجيء في القمة، ففي كل تعليم آخر هناك التوافه ممتزجة بالأشياء الهامة. أما يسوع فقد قدم التعاليم الباقية النافعة الخالدة فقط. وقد عاش كل كلمة قالها بسلوكه وآزرها بأفعاله. وكيف لهذا النجار الذي لم يتلقَّ تعليماً خاصاً، ولم يدرس الثقافة والعلوم الإغريقية، وعاش وسط شعب متزمّت ضيق الأفق... كيف له أن يجمع أعظم تعاليم العالم ويقدمها معاً بدون خطأ ولا عيب، وبدون تعديل أو تصحيح أو نسخ؟ كيف يقف عملاقاً معلماً للأجيال؟!

ويقول جرفث توماس: مع أن يسوع لم يتلقَّ تعليماً لاهوتياً رسمياً من رجال الدين اليهود، لكنه لم يُظهر أي تردّد أو خجل في إعلان ما رأى هو أنه حق! وبدون تفكير في نفسه أو في سامعيه خاطب الجمهور بدون خوف، وبدون حساب للعواقب على نفسه، فقد كان همُّه أن يوصّل رسالته. وقد شعر سامعوه بقوة كلامه (لوقا 4: 32) فأسر سامعيه بقوة شخصيته التي تجلَّت في قوة أقواله، حتى قالوا إنه لم يتكلم قط إنسان مثله (يوحنا 7: 46). لقد ترك عمق حديثه وروعته وبساطته وشموله ونفاذه أعمق الأثر في سامعيه، فأدركوا أنهم أمام معلم لم تَرَ البشرية له نظيراً من قبل، فيقول عنه بولس بعد سنوات عديدة: متذكّرين كلمات الرب يسوع (أعمال 20: 35) ولا يزال هذا هو الحال على مر الأجيال (29).

ويقول الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه حياة المسيح (كتاب الهلال يناير 1958).

الحق أن قدرة السيد المسيح على الردود السريعة والأجوبة المسكتة، لهي دليل آخر إلى جانب أدلة كثيرة على الشخصية التاريخية، والدعوة المتناسقة، لأنها قدرة من وراء طاقة التلاميذ والمستمعين، بل هم يروُونها ولا يفطنون إلى أهم البواعث عليها في سياسة الرسالة المسيحية، فإن هذه الرسالة قائمة على اجتناب التشريع واجتناب التعرُّض له بالإِبطال أو الإِبدال، ووجهتها على الدوام أنها لا تدَّعي سلطة من سلطات الدنيا والدين، وأن مملكة المسيح من غير هذا العالم وليست من ممالك الدو ل والحكومات. وكذلك قال لكُهَّان الهيكل، وكذلك قال لبيلاطس حاكم الرومان، وعلى ذلك جرى أسلوبه في كل أمر وفي كل موعظة. فهو أسلوب الآداب والمثُل العليا وليس بأسلوب النصوص والقوانين.

ويرجع الأمر إلى ضمير يحاسب صاحبه ولا يرجع إلى قاض يفقأ عيناً، أو يدخل في الصدور ليتتبع فيها بواعث الاشتهاء. ولو خلصت هذه المعاني إلى سامعيها جميعاً، كما عناها السيد المسيح، لما ثبتت له كما ثبتت من اختلاف الفهم والتأويل .

الصفحة الرئيسية